mardi 26 novembre 2013

لينينية انطونيو جرامشي // سامي ملوكي




لينينية جرامشي
سامي ملوكي



هل كان جرامشي مخلصاً لأفكار "لينين"؟ ترى ما هو الشيء المميز في أفكار جرامشي؟ وهل لينينية جرامشي مفيدة للاشتراكيين اليوم؟ نجيب في هذا المقال على كل هذه الأسئلة وأكثر.


إن إرث "أنطونيو جرامشي" من أكثر القضايا خلافية في التراث الماركسي. ولقد زعمت مدارس فكرية كثيرة انتمائها لأفكار "جرامشي"، بعضها ينتمي للماركسية والبعض الآخر من خارجها. وقلما نجد علم من العلوم الاجتماعية لم يدمج المفاهيم الرئيسية المميزة لفكر "جرامشي" في أدبياته. غالباً ما كان ينظر لهذا الإيطالي بصفته ماركسي "مقبول"، ولم يلق أحد بالاً إلى أنه ربما يكون مفكراً وناشطاً سياسياً لا يقل تميزاً عن "لينين". وفي تاريخ الماركسية الغربية، ربما يكون الجدل الرئيسي طيلة الخمسين عاماً الأخيرة حول ما إذا كانت سياسات "جرامشي" استمراراً للتراث اللينيني، أم خرقاً له وخروجاً عليه.


كانت المهمة الرئيسية لجرامشي أثناء كتابته "كراسات السجن" هي البدء في وضع استراتيجية ثورية جديدة للاشتراكيين في ظل الرأسمالية الغربية المتقدمة، حيث تختلف الأوضاع اختلافاً جوهرياً عن تلك التي كانت في روسيا القيصرية. ومجرد الاشتباك مع موضوع كهذا كافي، لدى البعض، للتمييز بين أفكار كل من "لينين" وجرامشي" النظرية. ولكن، هذا استنتاج ضحل للغاية، فما من أحدٍ منذ بداية العشرينيات كان على دراية بضرورة وجود استراتيجية ثورية مختلفة خاصة بالغرب مثلما كان "لينين".


في السبعينيات، ظهرت موجة نظرية جديدة اعتمدت بشكل كبير على قراءة خاطئة لأفكار جرامشي من داخل الأحزاب الشيوعية في أوروبا. هذا التنوع الفضفاض في وجهات النظر أصبح يُعرف بشكل جمعي بإسم الشيوعية الأوروبية والتي تمحورت حول فكرة أن مفهوم "حرب المواقع" لجرامشي هو إقرار لسلك الطريق الإصلاحي للاشتراكية. وبالتالي فإن الأحزاب الشيوعية التي التزمت بوجهة النظر الجديدة تلك، بدأت في النظر إلى العمل الانتخابي باعتباره أولوية سياسية، وسرعان ما بدأوا في التخلي عن قدر كبير من التراث اللينيني.


في بريطانيا، دافعت دورية "الماركسية اليوم" عن الشيوعية الأوروبية، والتي كان يترأس تحريرها كتّـاب مثل "مارتن جاك" و"ستيوارت هول"، وأشخاص مثلهما كان لديهم من الأسباب ما يكفي للفصل ما بين "جرامشي" والتراث اللينيني. لقد أرادوا أن يميزوا نظرياً وبوضوح شديد بينهم وبين "عبادة لينين" في الاتحاد السوفيتي الستاليني. لقد كانوا متشائمين للغاية إثر عقود من هزائم متتالية منيّ بها اليسار الثوري، وهدفوا إلى صياغة استراتيجية اشتراكية جديدة يمكنها التخلص من الثوابت القديمة للماركسية اللينينية الستالينية الفاشلة، مثل "ديكياتورية البروليتاريا". وظنوا أن "جرامشي" هو مبررهم للقيام بمراجعة جذرية كتلك، كما أنهم تعمدوا النأي بأفكاره بعيداً عن أفكار "لينين"، هؤلاء كانوا، بالطبع، رجالاً ذوي دوافع سياسية. ولم تكن استنتاجاتهم الخاصة موضوعوية أومحايدة، ولا دقيقة علمية، بل أمليت وفقاً لبرنامجهم الخاص بإعادة توجيه وتجديد جناح اليسار الراديكالي، في وقت أزمة اليسار العميقة.


من الضروري هنا توضيح بعض النقاط الحاسمة، التي دائماً ما يتم تجاهلها رغم أهميتها: أولاً، مفهوم "الهيمنة" الذي أصبح مرادفاًً لأفكار جرامشي، لم يكن له بالأساس، لكنه أخذه عن "لينين"، كما أنه كان واسع الاستخدام من قبل كبار منظري الأممية الثانية والثالثة على حدٍ سواء. والحقيقة أن استخدام "جرامشي" لهذا المفهموم لم يكن بشكل تحريفياً عن، أو متناقضاً لاستخدامه في روسيا، ولكن حقيقة الأمر أنه كان استمراراً وتطويراً للمفهوم نفسه. ثانياً، رغم أنه كان شائعاً لعقود توصيف مفهموم "الهيمنة" لجرامشي على أنه استراتيجية بديلة لمفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" القديم. لكن، لم يكن هذا مقصد "جرامشي" أبداً، الواقع أن المفهومين كانا، بالنسبة للعقلية الإيطالية، مكملان لبعضهما البعض. وفي الحقيقة، إن "كراسات السجن" لجرامشي كانت محاولة لمواصلة العمل بالنهج اللينيني بعد وفاته.


لينين والغرب


كما سبق وذكرنا، كان "لينين" متيقناً، من حاجة الغرب إلى استراتيجية ثورية مختلفة. وفي عام 1921، بيّن خصيصاً للشيوعيين الروس أهمية وجود استراتجية خاصة بالعمال الغربيين بحيث تلائم أوضاعهم وظروفهم الخاصة. وتأسف تحديداً على أن البرنامج المنصوص عليه في المؤتمر الثالث، كان بالكاد مفهوم بالنسبة للعقلية الغير روسية، حيث قال:


"اتخذ المؤتمر الثالث، عام 1921، قراراً بشأن الهيكل التنظيمي للأحزاب الشيوعية وأساليبها ومحتوى أنشطتها. لقد كان قراراً ممتازاً، لكنه كان روسياً للغاية، وهذا يعني، أن كل مايتعلق بهذا القرار كان مستنداً على طبيعة الأوضاع في روسيا. وهذا تحديداً مكمن تميزه، ولكن هنا أيضاً كان مكمن النقص. وأقول أن القرار به نقيصة لأنني واثق من أنه يصعب على الأجانب قرائته.. ثانياً، حتى وإن قرأوه، فلن يستطيعوا فهمه لأنه روسي ومغرق في المحلية. بالطبع، ليس فقط لأنه كتب باللغة الروسية – فقد تمت ترجمته بإتقان لكل اللغات – ولكن لأنه مشبعاً جداً بالروح الر+_=وسية. ثالثاُ حتى وإن حدث بشكل اسثنائي وتمكن أحد الأجانب من فهمه، فلن يتمكن من تطبيقه على أرض الواقع".

(لينين: خمس سنوات من الثورة الروسية وآفاق الثورة العالمية: تقرير المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية. معركة لينين الأخيرة: 1922-23، ص 111).

لقد كانت قوة هذا القرار تكمن في تفاصيله، في خصوصيته وقدرته على التركيز على تفصيلات المسائل التنظيمية. ولكن، نقطة ضعفه كانت تمكن في إستثنائية الظروف الاجتماعية والاقتصادية الروسية، وبالتالي اغترابها بشكل حاد عن العامل الغربي. والأسوأ في واقع الأمر، أنه حتى بعد دراسة متخصصة للظروف الروسية والتي من شأنها المساعدة في فهم دور المنظمة الثورية وممارسة الشيوعيين الروس، أقول إن هذه المعرفة ممكن أن تصبح قيداً للثورية الغربية في حال أن اتبعت بشكل دوجمائي، خاصة وأن طريقهم للثورة العمالية يختلف جذرياً عن طريق البلاشفة. مما حدا بلينين للاعتذار قائلاً: "نحن لم نتعلم كيفية تقديم خبرتنا الروسية إلى الأجانب". ومن أجل تدارك هذا السهو من المجلس السابق، أكد لأبناء وطنه قائلاً: "علينا نحن الروس أيضاً إيجاد السبل والوسائل لشرح مبادئ هذا القرار للأجانب. ما لم نقم بهذا، سيكون من المستحيل تماماً عليهم تطبيقه وممارسته".


كانت المهمة الرئيسية للأممية الشيوعية في هذه المرحلة هي "ترجمة" التجربة الروسية إلى العديد من اللهجات العامية الدارجة بين العمال الأوروبيين. لكن، لا توجد دولتين متطابقتين في نفس الظروف، وتحديداً الحالة الروسية كانت بعيدة كل البعد عن الأوضاع في أوروبا في ظل رأسمالية أكثر تقدماً.


حرب المواقع وحرب المناورات


واحدة من أعظم إسهامات "جرامشي" في الماركسية الثورية هي صياغته للاستراتيجية المزدوجة المعروفة بإسم حرب المناورات وحرب المواقع. سابقاً، في عام 1917 حين طبقها لينين والبلاشفة، كانت قد صممت كاستراتيجية مناسبة للاشتراكيين داخل مجتمعات لا تزال الرأسمالية فيها متخلفة وغير متطورة. لقد انطوت على شكل متقدم من أشكال التمرد على الدولة وهو أمر ممكن فقط عندما تحافظ الطبقة الحاكمة داخل المجتمع على تفوقها على الطبقات التابعة باستخدام القوة المطلقة، مع تقبل جماهيري ضئيل أو ربما معدوم لهذه السيطرة. وفي هذه الحالة، ترفض الطبقات التابعة أن تقودهم الطبقة البرجوازية، لكنهم يجبرون على الرضوخ والإذعان بالاستخدام المفرط للعنف من خلال أجهزة الدولة القمعية، مثل "تشكيلات خاصة من الرجال المسلحين، السجون، وما إلى ذلك" مثلما أوضح "لينين" في كتابه "الدولة والثورة".


من ناحية أخرى، فإن حرب المواقع، هي استراتيجية طويلة الأمد تحتاج إلى مزيد من الصبر. فهي ليست هجوم على معاقل السلطة، لكنها فترة طويلة من البناء وصولاً إلى تلك اللحظة التي تصبح فيها التحالفات الطبقية متقدمة وتسعى لزعامة الطبقات التابعة. ولقد شرح "جرامشي" الظروف المختلفة التي تتطلب استراتيجية خاصة لكل ظرف على حدا:


"في الشرق، كانت الدولة هي كل شيء، وكان المجتمع المدني هلامياً وبدائياً. بينما في الغرب، هناك علاقة صحيحة وقوية بين الدولة والمجتمع المدني، وفي الأوقات التي تترنح فيها الدولة، سرعان ما يكُشف عن هيكل قوي للمجتمع المدني. فالدولة في الغرب ما هي إلا حصن أمامي تصطف خلفه سلسلة من الحصون القوية والمناطق المنيعة. وغني عن القول، أن بناء الدولة يختلف من دولة إلى أخرى، وهذا تحديداً هو السبب وراء الحاجة إلى استكشاف وطني دقيق. (أنطونيو جرامشي، كراسات السجن، المجلد الثالث، ص169).


وفي هذا المقطع تحديداً يعرّف "جرامشي" الدولة بالقلعة التي تحيط بالمجتمع المدني وتحميه. وفي مواضع أخرى كان يعرض العكس، أي أن المجتمع المدني هو من يحمي الدولة. وفي نهاية المطاف، لا توجد حقيقة مطلقة حول الصياغة المتعلقة بالدول الرأسمالية المتقدمة، لأنه وكما ذكرنا "تكوين الدولة يختلف من دولة إلى أخرى". لكن النقطة الرئيسية التي يجب علينا ملاحظتها هي أن، في الغرب هناك علاقة أكثر نضجاً بين الدولة والمجتمع المدني. فالدولة في المجتمع الغربي الرأسمالي المتقدم، تضمن استمرار هيمنة الطبقة الرأسمالية من خلال وسائل للحكم أكثر تعقيداً من القهر الغاشم الذي تلجأ إليه الدول الشرقية المتخلفة. فهناك تنتشر وبفاعلية كبيرة مزيج من الإكراه والموافقة. وكلما تقدمت الدول الرأسمالية أكثر، قل لجوئها لاستخدام القوة أكثر فأكثر، واعتمدت بشكل متزايد على كسب الرضا الجماهيري من أجل الحفاظ على الوضع الهرمي الراهن.


ومن المهم أن نلاحظ في هذه النقطة أن الجماهير على كل الأحوال قد خدعت بمثل هذه التسوية. إن أيديولوجية الطبقة الحاكمة تتعمد استهداف احتياجات محددة، ورغبات أو مخاوف منتشرة بالفعل بين الطبقات التابعة. تلك المستهدفات تتحدد وفقاً لقضايا مختلفة في مراحل تاريخية مختلفة وتمليها ظروف معينة وفقاً لكل مجتمع على حدا. إنها ممكن أن تكون أي شيء مثل: استعادة القانون والنظام (الأمن الداخلي)، والأمن القومي، المخاوف حول حجم جهاز الدولة، الغضب من تفشي "ثقافة المنفعة"، والمطالبة بالعدالة. على سبيل المثال، انطوى البرنامج السياسي لـ "مارجريت تاتشر" على مثل كل هذه الأمور. وأثيرت كل هذه المخاوف من قبل تاتشر وحلفائها، واعتمدوا بالأساس على دور وسائل الإعلام في الترويج لهم بإخلاص شديد، مع تخصيص وقتاً قصيراً لصوت المعارضة، أو ربما ينعدم تماماً.


عندما يصبح فكر الطبقة الحاكمة مقبولاً على نطاق واسع للدرجة التي تجعل الطبقات المضطهدة على استعداد للمشاركة فيه، حين تنعدم البدائل، أو ربما تكون موجودة بالفعل لكنها عاجزة عن اجتذاب الجماهير، ذلك هو الوقت الذي يصبح فيه فكر الطبقة الحاكمة، كما أطلق عليه "جرامشي"، أمراً منطقياً سليماً. حينها يصبح التحول الفكري في المجتمع مستقراً جداً حتى أن الإدارات السياسية اللاحقة تضطر لمواصلته وتأييده، وعندئذ يصبح المشروع السياسي مهيمناً حقاً. هذا تحديداً ما تم تحقيقه من خلال مشروع تاتشر الجذري، حتى أن حكومة حزب العمال اللاحقة لفترة تاتشر، احتضنت تماماً، وواصلت مشروعها نحو الليبرالية الجديدة.


الدولة المتكاملة


في الثنائية الماركسية التقليدية للدولة والمجتمع المدني، تعتبرالأجهزة الأيديولوجية مثل الإعلام، المدارس، الجامعات، والأسرة، إلخ، هي مؤسسات المجتمع المدني. أدرك "جرامشي" أن في المجتمع الرأسمالي المتقدم مثل هذا الوصف ليس دقيقاً تماماً. فالمجتمع المدني والدولة ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بحيث وجب التصدي لهما معاً بشكل متزامن. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قدرة بعض الشخصيات في المجتمع على التأثير على الدولة والعكس بالعكس، سواء كانوا من الأثرياء المتبرعين للأحزاب السياسية التى لها رأي في السياسة العامة أو صنع القرار، أو أباطرة الإعلام بقدرتهم الهائلة على التأثير جماهيرياً حتى أنهم يلعبون دوراً حاسماً في تحديد الشخص المنتخب للرئاسة. وهكذا، من الواضح أن السلطة في المجتمع ليست في أيدي السلطة السياسية وحدها.


هذا هو السبب وراء صياغة "جرامشي" لمفهوم "الدولة المتكاملة". في هذه الصيغة، الدولة والمجتمع المدني لا يعدا كيانان مستقلان ومختلفان، بل هما عنصران مكونان لنظام واحد. إنها علاقة جدلية بينهما، بحيث تبقى قدرة الدولة على الفعل معتمدة دائماً على توازن القوى الطبقية والاجتماعية، وعلى دور الجهات الفاعلة داخل المجتمع المدني.


هناك إساءة فهم شائعة لمفهوم حرب المواقع لـ "جرامشي"، بحيث فُهم أن حرب المواقع هو نضال داخل المجتمع المدني، وحينما يتم ضمان الهيمنة، ستقع الدولة دون مقاومة في أيدي العمال ليبسطوا سيطرتهم عليها. وحين نعّي مفهوم "الدولة المتكاملة" بشكل جيد، يصبح من الواضح أن هذا التفسير غير صحيح.


الدولة المتكاملة هي كل شيء، وحدة واحدة، هي "الدولة" التي تضم المجتمع المدني والسياسي على حدٍ سواء. حيث يستند ويدعم كل من الدولة والمجتمع المدني بعضهما البعض من خلال علاقة تكافلية. لذا يجب على حركة عمالية ثورية مهاجمة كلاهما معاً في نفس الوقت، ولذا يجب أن تكون استراتيجية الجبهة المتحدة حاضرة دائماً. على المضطهدين تنظيم أنفسهم كي يقودوا نضال متنامي ومتواصل ضد الدولة والطبقة الحاكمة. وهذا الشكل التنظيمي يجب أن يكون على هيئة مؤسسات عمالية جديدة وعلى الثوريين بذل كل ما في وسعهم لنشر العمل السياسي داخل تلك الأشكال التنظيمية، مع رفع الوعي بشكل مستمر، وتنظيم النضال من خلال التفاعل الجدلي.


علينا أن نعي أنه من غير الممكن فهم واستيعاب مفهوم "الهيمنة" لجرامشي بمعزل عن غيره من الأبحاث الهامة التي انجزها خلال سنوات السجن، لذا ها نحن نعرض لتلك المعادلة: "الهيمنة المدنية = حرب المواقع = الجبهة المتحدة". الجبهة المتحدة هي استراتيجية يتم تنفيذها من أجل توحيد صفوف الطبقات التابعة لخوض معركة ضد الدولة، أما الهيمنة المدنية (نقطة انطلاق، ودائماً ما تسعى نحو الهيمنة السياسية) فهي قيادة الطبقات المضطهدة في نطاق المجتمع المدني. أما حرب المواقع فهي، تقدم مطرد وتدريجي نحو تحالف للمضطهدين بقيادة البروليتاريا لإخضاع الهيمنة الغالبة، وعندما يصبح هذا ممكناً، يناور لإحكام السيطرة على أجهزة الدولة. وكل جزء من مكونات هذه الصيغة أساسي لوحدة الاستراتيجية بأكملها.


إذا تم التغاضي عن أيِ من أجزاء تلك المعادلة، الاستراتيجية المقدمة ستكون غير مفهومة، وبالتأكيد غير قابلة للتطبيق. يمكن التأسيس للقيادة (الهيمنة) داخل المجتمع المدني فقط عندما تصيغ شتى الطبقات المضطهدة على تعددها تحالفاً (عبر الجبهة المتحدة) مع طليعة البروليتاريا التي ستقود النضال ضد الطبقة الحاكمة في كل مجالات المجتمع المدني والسياسي على حدٍ سواء. وأنا أزعم، وأسعى لإثبات ذلك من خلال تحليل دقيق للنصوص، أن كل جزء من مكونات هذه المعادلة يدين بقدر كبير لتأثير "لينين".


مفهوم الهيمنة لدى لينين (القيادة)


كما أشرنا سابقاً، فقد أخذ "جرامشي" مفهمومه للهيمنة من "لينين". وينبغي علينا أن نتذكر في هذه المرحلة أن مفهموم الهيمنة لدى "جرامشي" في فترة ما قبل أي ثورة مفترضة، يعني ببساطة قيادة الطبقات التابعة، وجمعها معاً في وحدة نضالية عن طريق استراتيجية الجبهة المتحدة. ولأن "لينين" في أغلب الأحيان لم يستخدم كلمة هيمنة، فإن هذا فسر على سبيل الخطأ على أنه غياب أو عدم اعتداد بمفهوم الهيمنة في أعماله. وكما ذكرت "كريستين جلوكسمان":


"يحرص غالبية المعلقين على لفت الانتباه إلى إسهامات "جرامشي" الفاصلة، أو بشكل أدق، التأكيد على مخالفة "جرامشي" لـ "لينين"، بالاستهانة بمكانة الهيمنة في أعمال "لينين"، في ظل صمت شبه مطبق من قبل الأممية الثالثة". (كريستين جلوكسمان – جرامشي والدولة – ص 174).


بيد أنه ليس من الصعب العثور على أمثلة لمفهوم الهيمنة في كتابات "لينين" قبل عام 1917 بوقت طويل، دعونا ننظر في المقاطع التالية من كتيب "خطتا الاشتراكية الديمقراطية"، والذي كتبه عام 1905:


"إن العمل المعتاد، المنتظم والراهن لكل المنظمات والمجموعات الخاصة بحزبنا، وكذا أعمال الدعاية، والتحريض، والتنظيم، جميعها موجهة نحو تعزيز وتوسيع العلاقات مع الجماهير".


"وباختصار، لتجنب أن تجد نفسها مكبلة اليدين في نضالها ضد الديمقراطية البرجوازية المتناقضة، على البروليتاريا أن تكون طبقة واعية، وقوية بما يكفي كي تحرض الفلاحين نحو الوعي الثوري، وأن توجه هجومها، وهكذا تسير باستقلال على خطى الديمقراطية البروليتارية الواثقة". (لينين: خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية، المختارات – الجزء الأول).


في بواكير عام 1905، أدرك "لينين" أن التحالف الطبقي يجب أن يكون فيما بين الطبقات التابعة بهدف الانخراط في نضال ثوري فعّال. وهذا صحيح، لا سيما في الدول التي لا تكون البروليتاريا فيها الطبقة الأكبر عدداً. إضافة إلى إقامة تحالف المضطهدين هذا، يجب على البروليتاريا توطيد وترسيخ ثقة وولاء الطبقات الأخرى المكونة للتحالف، وأن تقودهم وتملي عليهم شكل الأنشطة الثورية أيضاً (تماماً كما في صياغات جرامشي).


في هذه الحالة، عرّف "لينين" الجبهة المتحدة بأنها تاكتيك، مناسب لفترة محددة، بدلاً من كونها استراتيجية. لذا، يمكن القول بسهولة أنها كانت مناسبة تماماً لروسيا في عام 1905، ولكن لم تكن مناسبة تماماً لظروف عمل "جرامشي" في إيطاليا. ومع ذلك، فقد أسست الجبهة المتحدة في نهاية المطاف لدور أكثر ديمومة في فكر لينين. وفي وقت ليس بعد ذلك بكثير، تحديداً مع بداية الأممية الثالثة، كانت تعرف الجبهة المتحدة بوصفها استراتجية مناسبة للعصر، بدلاً من كونها مجرد مناورة محددة فحسب. وسوف أعود لمعالجة هذه النقطة فيما بعد، عند تناول النظرية والممارسة لدى "لينين" وأهميتها لـ "جرامشي".


لقد تأكدت نظرية "لينين" العامة للثورة البروليتارية بوضوح في أكتوبر 1917. وبعد ثورة أكتوبر، أصبح مفهموم الهيمنة – قيادة الطبقات المضطهدة – يتكرر كثيراً في كتابات "لينين"، كما كان يأخذ شكلاً أكثر تطوراً. وفي عام 1918، في كتاب "الدولة والثورة"، قرأنا:


"البروليتاريا وحدها - بحكم الدور الاقتصادي الذي تقوم به في الإنتاج الكبير هي القادرة على قيادة كافة الكادحين والمستغَلين، هؤلاء الذين تستغِلهم البرجوازية وتضطهدهم وتسحقهم بشكل لا يقل – إن لم يزد – عما تفعله بالبروليتاريا، ولكنهم غير أهل للقيام بنضال مستقل من أجل تحررهم". (لينين: الدولة والثورة، المختارات – المجلد الثاني، الجزء الأول، ص 398).


لا توجد طبقة أخرى بخلاف الطبقة العاملة تم إعدادها عبر موقعها في نمط الإنتاج للاضطلاع بهذا الدور. لا توجد طبقة أخرى منظمة من خلال العمل في مثل هذه التجمعات الكبيرة، وتلك الظروف الاجتماعية. لا توجد طبقة أخرى لديها المهارات اللازمة لمواصلة الانتاج، وإرساء أسس المجتمع الاشتراكي الجديد مع احتمالية الإطاحة بالبرجوازية.


ديكتاتورية البروليتاريا (الهيمنة)


في هذه المرحلة، بعد عزل الثوريين للطبقة الرأسمالية، يكتسب مفهوم "الهيمنة" لـ "لينين" جانب آخر شديد الأهمية إلى جانب معناه الشامل، والذي نجده في كتابات "جرامشي". الآن نحن نرى أن الهيمنة ضرورية ليس فقط من أجل قيادة الطبقات المضطهدة في عملية الإطاحة بالبرجوازية، لكنها أساسية وضرورية للبروليتاريا من أجل الحفاظ على سيطرتها الطبقية وإخماد "المقاومة البرجوازية اليائسة". هذه الفترة التي تتولى البروليتاريا فيها وظيفة الطبقة الحاكمة لا تعني على الإطلاق إنجاز أو إكتمال الثورة العمالية. إنها ببساطة، الفترة الانتقالية لديكتاتورية البروليتاريا. تكتمل الثورة العمالية وتنجز فقط عندما تنعدم الطبقات من المجتمع.


يتضح الآن، أن الفرق، الذي سيق بشكل تحريفي من قبل الشيوعية الأوروبية والاصلاحيين من شتى الأطياف، لمفهوم "جرامشي" للهيمنة، وفهم "لينين" لديكتاتورية البروليتاريا وأنه مكشوف للجميع أنه غير دقيق كلياً. الأمر ببساطة، أن ديكتاتورية البروليتاريا هي تعبئة "قوة قمعية خاصة" تمكّن البروليتاريا من قمع البرجوازية.


في كتابات كل من "لينين" و"جرامشي"، ظلت قيادة البروليتاريا للتحالف الثوري للطبقات المضطهدة أمراً ضرورياً وأساسياً قبل وأثناء وبعد الإطاحة بالبرجوازية. وأقترنت قيادة الطبقة العاملة تلك مع هيمنة الطبقة العاملة في فترة ما بعد التمرد، ومع قمع الطبقة الرأسمالية المعزولة وقوى الثورة المضادة التي ربما تحتشد في محاولة يائسة لاستعادة تفوقها المفقود. في الكراسة الأولى من "كراسات السجن" كتب "جرامشي" ما يلي:


"تصبح الطبقة مهيمنة بطريقتين، أي أنها "قائدة" و"مسيطرة". فهي تقود الطبقات المتحالفة، كما أنها تسيطر على الطبقات المعارضة. ولذلك، يمكن للطبقة (بل ويجب) أن "تقود" حتى قبل توليها السلطة، وعندما تتولى السلطة تصبح مهيمنة، وفي نفس الوقت تواصل "القيادة". (أنطونيو جرامشي، كراسات السجن، المجلد الأول ص136).


بمقارنة هذا مع ما ملخص لينين حول الضرورات الاستراتيجية للعملية الثورية، والذي كتبه عام 1918:


"أما المهمة الرئيسية التي يترتب على البروليتاريا والفلاحين الفقراء الذين تقودهم، أن يؤدوها في كل ثورة اشتراكية، وبالتالي في الثورة الاشتراكية التي بدأناها في روسيا في 25 أكتوبر 1917، فهي، على العكس، عمل إيجابي، أو انشائي قوامه تنظيم شبكة في غاية التعقيد والدقة من علاقات تنظيمية جديدة تشمل إنتاج وتوزيع المنتجات الضرورية لمعيشة عشرات الملايين من الناس، إنتاجها وتوزيعها بصورة منهاجية. إن ثورة كهذه لا يمكن تحقيقها بنجاح إلا إذا قامت أغلبية السكان وبالدرجة الأولى أغلبية الشغيلة، بعمل إبداعي تاريخي مستقل. ولن يكون انتصار الثورة الاشتراكية مضموناً إلا إذا وجدت البروليتاريا والفلاحون الفقراء في نفوسهم ما يكفي من الإدراك، والإخلاص الفكري، والتفاني، والصلابة". (لينين: المهام المباشرة أمام السلطة السوفيتية، مختارات لينين – الجزء الثالث، ص 94 و95).


"إن إسقاط البرجوازية لا يعلن عن ميلاد مجتمع اشتراكي جديد، إنها مجرد مرحلة إنتقالية من ديكتاتورية البروليتاريا. الثورة الاشتراكية تكتمل فقط عندما يتم القضاء على الطبقية من المجتمع، وبالتالي الدولة، التي غاية وجودها هو قمع الطبقات التابعة لضمان ومواصلة السيادة والهيمنة. تكتمل الثورة الاشتراكية فقط عندما يأتي إلى حيز الوجود نموذج جديد غير مسبوق على الإطلاق للدولة وهي: دولة العمال، "والتي لم تعد في دولة في الواقع." (لينين: الدولة والثورة، المختارات – المجلد الثاني، الجزء الأول، ص 429).


يجب الحفاظ على التحالفات المصاغة قبل حركة التمرد وكما يجب أن تستمر تحت القيادة العمالية بغية بناء الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة للاشتراكية والسماح للعملية الثورية بأن تتقدم لما هو أبعد من تلك اللحظة الآنية لديكتاتورية البروليتاريا. في عام 1919، كتب "لينين":


"إن الطبقات ما تزال باقية، ولكن مظهر كل منها قد تغير في عهد ديكتاتورية البروليتاريا؛ كذلك تغيرت العلاقة بين الطبقات. إن النضال الطبقي لا يزول في عهد ديكتاتورية البروليتاريا، بل يرتدي أشكالاً أخرى". (لينين: الاقتصاد والسياسة في عهد ديكتاتورية البروليتاريا، مختارات لينين – الجزء الثالث، ص 266).


وبرغم أن اللغة التي استخدمها كل من "لينين" و"جرامشي" كانت مختلفة، إلا أنه من الواضح أنهما وصفا الممارسة التنظيمة الثورية ذاتها. ومثلما أن الغياب اللفظي النسبي لكلمة "هيمنة" في كتابات "لينين" لا يعني إغفال المفهموم، فإن ندرة استخدام "جرامشي" لعبارة "ديكتاتورية البروليتاريا" في "كراسات السجن" ليست دلالة على غيابها من أفكاره.


توصية "لينين" الأخيرة


المواضيع الأكثر أهمية في كتابات "جرامشي": الهيمنة، حرب المواقع، والجبهة المتحدة، كما رأينا آنفاً، أُخذت كلها مباشرة من "لينين". ولكاتب سيرة جرامشي الذاتية، "الستير ديفيدسون" الملاحظة التالية: " ترتبط اللينينية في نقطة إنتهائها إرتباطاً وثيقاً مع بدايات الجرامشية." (الستير ديفيدسون، جرامشي ولينين: 1917-1922، السجل الاشتراكي، 1974، ص146).


إن كراسات السجن لجرامشي حملت مسئولية نشر النظرية اللينينة بعد وفاته. سعى "جرامشي" بكتابته "كراسات السجن" إلى توضيح الأفكار الاستراتيجية اللينينة النهائية في الفترة التي كانت فيها اللينينية مشوهة بصورة فجة، وتأججت فيها الصراعات حول التراث اللينيني الحقيقي بشراسة، إذا لم يكن بشكل علني دائماً، فداخل الشيوعية الدولية (الكومنترن) على الأقل. لقد صاغ "جرامشي" أفكاره في نفس الوقت الذي كان الكومنترن ملتزماً فيه باستراتجية الحمقاء للفترة الثالثة أي التخلي عن الجبهة المتحدة. في سنوات "لينين" الأخيرة، كان قد أدرك أن الجبهة المتحدة لم تعد مجرد مناورة عابرة، لكنها في الواقع الاستراتيجية الوحيدة المناسبة لهذه المرحلة. لقد أتخذ "جرامشي" موقف الأقلية بسبب وفاءه لهذا الاستنتاج اللينيني. كتب "بيتر توماس":


"إن النضال من أجل "الهيمنة المدنية والسياسية"، محاولة بناء الأجهزة البروليتارية المهيمنة، كانت هي محاولة "جرامشي" للبقاء مخلصاً لمشيئة وتوصية لينين الأخيرة، ولنشر التقدم النوعي المتطور في مفهوم الهيمنة وفقاً للظروف الغربية. بعيداً من أن يكون توجيهاً منحرفاً عن الأطروحة الكلاسيكية لديكتاتورية البروليتاريا، فإن نظرية "جرامشي" حول هيمنة البروليتاريا تطرح نفسها بوصفها "مكمل" ضروري لنظرية "لينين". إن حرب المواقع الآن ليست فقط "الاستراتيجية الوحيدة الممكنة في الغرب"، كتطبيق لسياسة الجبهة المتحدة المبنية على أساس طبقي، بل إنها قد أصبحت حجر الزاوية الذي لا غنى عنه لأي سياسة ثورية ترغب في إنتاج سياسية "من نوع مختلف جداً" على نطاق أممي. (بيتر توماس، فلسفة الهيمنة والماركسية، ص 239).


في ضوء الأدلة، لا يمكن أن يكون هناك شكاً مطلقاً حول ما إذا كان "جرامشي" لينينياً أم لا. إن لينينيته كانت أكثر ثراءاً وأكثر فاعلية من كل البدائل التي طرحها معاصروه. وفرقوا بصورة فجة للغاية بين جرامشي والتراث اللينيني، حيث قدمت الشيوعية الأوروبية ليس فقط صورة غير دقيقة تاريخياً عن جرامشي ونظريته، بل وبكل انتهازية كانت صورة منقوصة. واجبنا هو تخليص تراث جرامشي من الإساءة التي لحقت به على المستوى السياسي كما على مستوى كل فروع العلوم الاجتماعية الأخرى.


في القرن الحادي والعشرين، بينما تخلى كثير من اليساريين عن "لينين" كونه أصبح عتيقاً وعفا عليه الزمن، علينا أن نتجه لـ "جرامشي" من أجل توضيح ما تعنيه اللينينة الآن وصلتها بالنضال الثوري في عصرنا الحالي. إن اليسار اللينيني لا يزال يعيد قراءة "الدولة والثورة" و"ما العمل؟"، كما لو كان هناك حلاً – لكثير من الأزمات التي تواجهنا اليوم – سيتجسد أمامنا بشكل سحري من بين طيات الكتب، بالطبع سوف توفر القراءة قدراً من البصيرة فيما يخص التساؤلات والمهام الحالية في ظل رأسمالية متقدمة ومتحولة (وتعصف بها أزمة متزايدة) كالموجودة اليوم. لكن، تبقى الدوجمائية هي عدونا الداخلي، لذا فإن ماركسية جرامشي الفعّالة يمكن أن تساعدنا في تقويض العقيدة التي تعوقنا وتؤخرنا في صمت. إن اليسار الثوري بحاجة لجرامشي، الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.



Photo : ‎الماركسية بين لينين وجرامشي




هل كان جرامشي مخلصاً لأفكار "لينين"؟ ترى ما هو الشيء المميز في أفكار جرامشي؟ وهل لينينية جرامشي مفيدة للاشتراكيين اليوم؟ يجاوبنا "كريس والش" في هذا المقال على كل هذه الأسئلة وأكثر.

إن إرث "أنطونيو جرامشي" من أكثر القضايا خلافية في التراث الماركسي. ولقد زعمت مدارس فكرية كثيرة انتمائها لأفكار "جرامشي"، بعضها ينتمي للماركسية والبعض الآخر من خارجها. وقلما نجد علم من العلوم الاجتماعية لم يدمج المفاهيم الرئيسية المميزة لفكر "جرامشي" في أدبياته. غالباً ما كان ينظر لهذا الإيطالي بصفته ماركسي "مقبول"، ولم يلق أحد بالاً إلى أنه ربما يكون مفكراً وناشطاً سياسياً لا يقل تميزاً عن "لينين". وفي تاريخ الماركسية الغربية، ربما يكون الجدل الرئيسي طيلة الخمسين عاماً الأخيرة حول ما إذا كانت سياسات "جرامشي" استمراراً للتراث اللينيني، أم خرقاً له وخروجاً عليه.

كانت المهمة الرئيسية لجرامشي أثناء كتابته "كراسات السجن" هي البدء في وضع استراتيجية ثورية جديدة للاشتراكيين في ظل الرأسمالية الغربية المتقدمة، حيث تختلف الأوضاع اختلافاً جوهرياً عن تلك التي كانت في روسيا القيصرية. ومجرد الاشتباك مع موضوع كهذا كافي، لدى البعض، للتمييز بين أفكار كل من "لينين" وجرامشي" النظرية. ولكن، هذا استنتاج ضحل للغاية، فما من أحدٍ منذ بداية العشرينيات كان على دراية بضرورة وجود استراتيجية ثورية مختلفة خاصة بالغرب مثلما كان "لينين".

في السبعينيات، ظهرت موجة نظرية جديدة اعتمدت بشكل كبير على قراءة خاطئة لأفكار جرامشي من داخل الأحزاب الشيوعية في أوروبا. هذا التنوع الفضفاض في وجهات النظر أصبح يُعرف بشكل جمعي بإسم الشيوعية الأوروبية والتي تمحورت حول فكرة أن مفهوم "حرب المواقع" لجرامشي هو إقرار لسلك الطريق الإصلاحي للاشتراكية. وبالتالي فإن الأحزاب الشيوعية التي التزمت بوجهة النظر الجديدة تلك، بدأت في النظر إلى العمل الانتخابي باعتباره أولوية سياسية، وسرعان ما بدأوا في التخلي عن قدر كبير من التراث اللينيني.

في بريطانيا، دافعت دورية "الماركسية اليوم" عن الشيوعية الأوروبية، والتي كان يترأس تحريرها كتّـاب مثل "مارتن جاك" و"ستيوارت هول"، وأشخاص مثلهما كان لديهم من الأسباب ما يكفي للفصل ما بين "جرامشي" والتراث اللينيني. لقد أرادوا أن يميزوا نظرياً وبوضوح شديد بينهم وبين "عبادة لينين" في الاتحاد السوفيتي الستاليني. لقد كانوا متشائمين للغاية إثر عقود من هزائم متتالية منيّ بها اليسار الثوري، وهدفوا إلى صياغة استراتيجية اشتراكية جديدة يمكنها التخلص من الثوابت القديمة للماركسية اللينينية الستالينية الفاشلة، مثل "ديكياتورية البروليتاريا". وظنوا أن "جرامشي" هو مبررهم للقيام بمراجعة جذرية كتلك، كما أنهم تعمدوا النأي بأفكاره بعيداً عن أفكار "لينين"، هؤلاء كانوا، بالطبع، رجالاً ذوي دوافع سياسية. ولم تكن استنتاجاتهم الخاصة موضوعوية أومحايدة، ولا دقيقة علمية، بل أمليت وفقاً لبرنامجهم الخاص بإعادة توجيه وتجديد جناح اليسار الراديكالي، في وقت أزمة اليسار العميقة.

من الضروري هنا توضيح بعض النقاط الحاسمة، التي دائماً ما يتم تجاهلها رغم أهميتها: أولاً، مفهوم "الهيمنة" الذي أصبح مرادفاًً لأفكار جرامشي، لم يكن له بالأساس، لكنه أخذه عن "لينين"، كما أنه كان واسع الاستخدام من قبل كبار منظري الأممية الثانية والثالثة على حدٍ سواء. والحقيقة أن استخدام "جرامشي" لهذا المفهموم لم يكن بشكل تحريفياً عن، أو متناقضاً لاستخدامه في روسيا، ولكن حقيقة الأمر أنه كان استمراراً وتطويراً للمفهوم نفسه. ثانياً، رغم أنه كان شائعاً لعقود توصيف مفهموم "الهيمنة" لجرامشي على أنه استراتيجية بديلة لمفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" القديم. لكن، لم يكن هذا مقصد "جرامشي" أبداً، الواقع أن المفهومين كانا، بالنسبة للعقلية الإيطالية، مكملان لبعضهما البعض. وفي الحقيقة، إن "كراسات السجن" لجرامشي كانت محاولة لمواصلة العمل بالنهج اللينيني بعد وفاته.

لينين والغرب

كما سبق وذكرنا، كان "لينين" متيقناً، من حاجة الغرب إلى استراتيجية ثورية مختلفة. وفي عام 1921، بيّن خصيصاً للشيوعيين الروس أهمية وجود استراتجية خاصة بالعمال الغربيين بحيث تلائم أوضاعهم وظروفهم الخاصة. وتأسف تحديداً على أن البرنامج المنصوص عليه في المؤتمر الثالث، كان بالكاد مفهوم بالنسبة للعقلية الغير روسية، حيث قال:

"اتخذ المؤتمر الثالث، عام 1921، قراراً بشأن الهيكل التنظيمي للأحزاب الشيوعية وأساليبها ومحتوى أنشطتها. لقد كان قراراً ممتازاً، لكنه كان روسياً للغاية، وهذا يعني، أن كل مايتعلق بهذا القرار كان مستنداً على طبيعة الأوضاع في روسيا. وهذا تحديداً مكمن تميزه، ولكن هنا أيضاً كان مكمن النقص. وأقول أن القرار به نقيصة لأنني واثق من أنه يصعب على الأجانب قرائته.. ثانياً، حتى وإن قرأوه، فلن يستطيعوا فهمه لأنه روسي ومغرق في المحلية. بالطبع، ليس فقط لأنه كتب باللغة الروسية – فقد تمت ترجمته بإتقان لكل اللغات – ولكن لأنه مشبعاً جداً بالروح الر+_=وسية. ثالثاُ حتى وإن حدث بشكل اسثنائي وتمكن أحد الأجانب من فهمه، فلن يتمكن من تطبيقه على أرض الواقع". 
(لينين: خمس سنوات من الثورة الروسية وآفاق الثورة العالمية: تقرير المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية. معركة لينين الأخيرة: 1922-23، ص 111).

لقد كانت قوة هذا القرار تكمن في تفاصيله، في خصوصيته وقدرته على التركيز على تفصيلات المسائل التنظيمية. ولكن، نقطة ضعفه كانت تمكن في إستثنائية الظروف الاجتماعية والاقتصادية الروسية، وبالتالي اغترابها بشكل حاد عن العامل الغربي. والأسوأ في واقع الأمر، أنه حتى بعد دراسة متخصصة للظروف الروسية والتي من شأنها المساعدة في فهم دور المنظمة الثورية وممارسة الشيوعيين الروس، أقول إن هذه المعرفة ممكن أن تصبح قيداً للثورية الغربية في حال أن اتبعت بشكل دوجمائي، خاصة وأن طريقهم للثورة العمالية يختلف جذرياً عن طريق البلاشفة. مما حدا بلينين للاعتذار قائلاً: "نحن لم نتعلم كيفية تقديم خبرتنا الروسية إلى الأجانب". ومن أجل تدارك هذا السهو من المجلس السابق، أكد لأبناء وطنه قائلاً: "علينا نحن الروس أيضاً إيجاد السبل والوسائل لشرح مبادئ هذا القرار للأجانب. ما لم نقم بهذا، سيكون من المستحيل تماماً عليهم تطبيقه وممارسته".

كانت المهمة الرئيسية للأممية الشيوعية في هذه المرحلة هي "ترجمة" التجربة الروسية إلى العديد من اللهجات العامية الدارجة بين العمال الأوروبيين. لكن، لا توجد دولتين متطابقتين في نفس الظروف، وتحديداً الحالة الروسية كانت بعيدة كل البعد عن الأوضاع في أوروبا في ظل رأسمالية أكثر تقدماً.

حرب المواقع وحرب المناورات

واحدة من أعظم إسهامات "جرامشي" في الماركسية الثورية هي صياغته للاستراتيجية المزدوجة المعروفة بإسم حرب المناورات وحرب المواقع. سابقاً، في عام 1917 حين طبقها لينين والبلاشفة، كانت قد صممت كاستراتيجية مناسبة للاشتراكيين داخل مجتمعات لا تزال الرأسمالية فيها متخلفة وغير متطورة. لقد انطوت على شكل متقدم من أشكال التمرد على الدولة وهو أمر ممكن فقط عندما تحافظ الطبقة الحاكمة داخل المجتمع على تفوقها على الطبقات التابعة باستخدام القوة المطلقة، مع تقبل جماهيري ضئيل أو ربما معدوم لهذه السيطرة. وفي هذه الحالة، ترفض الطبقات التابعة أن تقودهم الطبقة البرجوازية، لكنهم يجبرون على الرضوخ والإذعان بالاستخدام المفرط للعنف من خلال أجهزة الدولة القمعية، مثل "تشكيلات خاصة من الرجال المسلحين، السجون، وما إلى ذلك" مثلما أوضح "لينين" في كتابه "الدولة والثورة".

من ناحية أخرى، فإن حرب المواقع، هي استراتيجية طويلة الأمد تحتاج إلى مزيد من الصبر. فهي ليست هجوم على معاقل السلطة، لكنها فترة طويلة من البناء وصولاً إلى تلك اللحظة التي تصبح فيها التحالفات الطبقية متقدمة وتسعى لزعامة الطبقات التابعة. ولقد شرح "جرامشي" الظروف المختلفة التي تتطلب استراتيجية خاصة لكل ظرف على حدا:

"في الشرق، كانت الدولة هي كل شيء، وكان المجتمع المدني هلامياً وبدائياً. بينما في الغرب، هناك علاقة صحيحة وقوية بين الدولة والمجتمع المدني، وفي الأوقات التي تترنح فيها الدولة، سرعان ما يكُشف عن هيكل قوي للمجتمع المدني. فالدولة في الغرب ما هي إلا حصن أمامي تصطف خلفه سلسلة من الحصون القوية والمناطق المنيعة. وغني عن القول، أن بناء الدولة يختلف من دولة إلى أخرى، وهذا تحديداً هو السبب وراء الحاجة إلى استكشاف وطني دقيق. (أنطونيو جرامشي، كراسات السجن، المجلد الثالث، ص169).

وفي هذا المقطع تحديداً يعرّف "جرامشي" الدولة بالقلعة التي تحيط بالمجتمع المدني وتحميه. وفي مواضع أخرى كان يعرض العكس، أي أن المجتمع المدني هو من يحمي الدولة. وفي نهاية المطاف، لا توجد حقيقة مطلقة حول الصياغة المتعلقة بالدول الرأسمالية المتقدمة، لأنه وكما ذكرنا "تكوين الدولة يختلف من دولة إلى أخرى". لكن النقطة الرئيسية التي يجب علينا ملاحظتها هي أن، في الغرب هناك علاقة أكثر نضجاً بين الدولة والمجتمع المدني. فالدولة في المجتمع الغربي الرأسمالي المتقدم، تضمن استمرار هيمنة الطبقة الرأسمالية من خلال وسائل للحكم أكثر تعقيداً من القهر الغاشم الذي تلجأ إليه الدول الشرقية المتخلفة. فهناك تنتشر وبفاعلية كبيرة مزيج من الإكراه والموافقة. وكلما تقدمت الدول الرأسمالية أكثر، قل لجوئها لاستخدام القوة أكثر فأكثر، واعتمدت بشكل متزايد على كسب الرضا الجماهيري من أجل الحفاظ على الوضع الهرمي الراهن.

ومن المهم أن نلاحظ في هذه النقطة أن الجماهير على كل الأحوال قد خدعت بمثل هذه التسوية. إن أيديولوجية الطبقة الحاكمة تتعمد استهداف احتياجات محددة، ورغبات أو مخاوف منتشرة بالفعل بين الطبقات التابعة. تلك المستهدفات تتحدد وفقاً لقضايا مختلفة في مراحل تاريخية مختلفة وتمليها ظروف معينة وفقاً لكل مجتمع على حدا. إنها ممكن أن تكون أي شيء مثل: استعادة القانون والنظام (الأمن الداخلي)، والأمن القومي، المخاوف حول حجم جهاز الدولة، الغضب من تفشي "ثقافة المنفعة"، والمطالبة بالعدالة. على سبيل المثال، انطوى البرنامج السياسي لـ "مارجريت تاتشر" على مثل كل هذه الأمور. وأثيرت كل هذه المخاوف من قبل تاتشر وحلفائها، واعتمدوا بالأساس على دور وسائل الإعلام في الترويج لهم بإخلاص شديد، مع تخصيص وقتاً قصيراً لصوت المعارضة، أو ربما ينعدم تماماً.

عندما يصبح فكر الطبقة الحاكمة مقبولاً على نطاق واسع للدرجة التي تجعل الطبقات المضطهدة على استعداد للمشاركة فيه، حين تنعدم البدائل، أو ربما تكون موجودة بالفعل لكنها عاجزة عن اجتذاب الجماهير، ذلك هو الوقت الذي يصبح فيه فكر الطبقة الحاكمة، كما أطلق عليه "جرامشي"، أمراً منطقياً سليماً. حينها يصبح التحول الفكري في المجتمع مستقراً جداً حتى أن الإدارات السياسية اللاحقة تضطر لمواصلته وتأييده، وعندئذ يصبح المشروع السياسي مهيمناً حقاً. هذا تحديداً ما تم تحقيقه من خلال مشروع تاتشر الجذري، حتى أن حكومة حزب العمال اللاحقة لفترة تاتشر، احتضنت تماماً، وواصلت مشروعها نحو الليبرالية الجديدة.

الدولة المتكاملة

في الثنائية الماركسية التقليدية للدولة والمجتمع المدني، تعتبرالأجهزة الأيديولوجية مثل الإعلام، المدارس، الجامعات، والأسرة، إلخ، هي مؤسسات المجتمع المدني. أدرك "جرامشي" أن في المجتمع الرأسمالي المتقدم مثل هذا الوصف ليس دقيقاً تماماً. فالمجتمع المدني والدولة ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بحيث وجب التصدي لهما معاً بشكل متزامن. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قدرة بعض الشخصيات في المجتمع على التأثير على الدولة والعكس بالعكس، سواء كانوا من الأثرياء المتبرعين للأحزاب السياسية التى لها رأي في السياسة العامة أو صنع القرار، أو أباطرة الإعلام بقدرتهم الهائلة على التأثير جماهيرياً حتى أنهم يلعبون دوراً حاسماً في تحديد الشخص المنتخب للرئاسة. وهكذا، من الواضح أن السلطة في المجتمع ليست في أيدي السلطة السياسية وحدها.

هذا هو السبب وراء صياغة "جرامشي" لمفهوم "الدولة المتكاملة". في هذه الصيغة، الدولة والمجتمع المدني لا يعدا كيانان مستقلان ومختلفان، بل هما عنصران مكونان لنظام واحد. إنها علاقة جدلية بينهما، بحيث تبقى قدرة الدولة على الفعل معتمدة دائماً على توازن القوى الطبقية والاجتماعية، وعلى دور الجهات الفاعلة داخل المجتمع المدني.

هناك إساءة فهم شائعة لمفهوم حرب المواقع لـ "جرامشي"، بحيث فُهم أن حرب المواقع هو نضال داخل المجتمع المدني، وحينما يتم ضمان الهيمنة، ستقع الدولة دون مقاومة في أيدي العمال ليبسطوا سيطرتهم عليها. وحين نعّي مفهوم "الدولة المتكاملة" بشكل جيد، يصبح من الواضح أن هذا التفسير غير صحيح.

الدولة المتكاملة هي كل شيء، وحدة واحدة، هي "الدولة" التي تضم المجتمع المدني والسياسي على حدٍ سواء. حيث يستند ويدعم كل من الدولة والمجتمع المدني بعضهما البعض من خلال علاقة تكافلية. لذا يجب على حركة عمالية ثورية مهاجمة كلاهما معاً في نفس الوقت، ولذا يجب أن تكون استراتيجية الجبهة المتحدة حاضرة دائماً. على المضطهدين تنظيم أنفسهم كي يقودوا نضال متنامي ومتواصل ضد الدولة والطبقة الحاكمة. وهذا الشكل التنظيمي يجب أن يكون على هيئة مؤسسات عمالية جديدة وعلى الثوريين بذل كل ما في وسعهم لنشر العمل السياسي داخل تلك الأشكال التنظيمية، مع رفع الوعي بشكل مستمر، وتنظيم النضال من خلال التفاعل الجدلي.

علينا أن نعي أنه من غير الممكن فهم واستيعاب مفهوم "الهيمنة" لجرامشي بمعزل عن غيره من الأبحاث الهامة التي انجزها خلال سنوات السجن، لذا ها نحن نعرض لتلك المعادلة: "الهيمنة المدنية = حرب المواقع = الجبهة المتحدة". الجبهة المتحدة هي استراتيجية يتم تنفيذها من أجل توحيد صفوف الطبقات التابعة لخوض معركة ضد الدولة، أما الهيمنة المدنية (نقطة انطلاق، ودائماً ما تسعى نحو الهيمنة السياسية) فهي قيادة الطبقات المضطهدة في نطاق المجتمع المدني. أما حرب المواقع فهي، تقدم مطرد وتدريجي نحو تحالف للمضطهدين بقيادة البروليتاريا لإخضاع الهيمنة الغالبة، وعندما يصبح هذا ممكناً، يناور لإحكام السيطرة على أجهزة الدولة. وكل جزء من مكونات هذه الصيغة أساسي لوحدة الاستراتيجية بأكملها.

إذا تم التغاضي عن أيِ من أجزاء تلك المعادلة، الاستراتيجية المقدمة ستكون غير مفهومة، وبالتأكيد غير قابلة للتطبيق. يمكن التأسيس للقيادة (الهيمنة) داخل المجتمع المدني فقط عندما تصيغ شتى الطبقات المضطهدة على تعددها تحالفاً (عبر الجبهة المتحدة) مع طليعة البروليتاريا التي ستقود النضال ضد الطبقة الحاكمة في كل مجالات المجتمع المدني والسياسي على حدٍ سواء. وأنا أزعم، وأسعى لإثبات ذلك من خلال تحليل دقيق للنصوص، أن كل جزء من مكونات هذه المعادلة يدين بقدر كبير لتأثير "لينين".

مفهوم الهيمنة لدى لينين (القيادة)

كما أشرنا سابقاً، فقد أخذ "جرامشي" مفهمومه للهيمنة من "لينين". وينبغي علينا أن نتذكر في هذه المرحلة أن مفهموم الهيمنة لدى "جرامشي" في فترة ما قبل أي ثورة مفترضة، يعني ببساطة قيادة الطبقات التابعة، وجمعها معاً في وحدة نضالية عن طريق استراتيجية الجبهة المتحدة. ولأن "لينين" في أغلب الأحيان لم يستخدم كلمة هيمنة، فإن هذا فسر على سبيل الخطأ على أنه غياب أو عدم اعتداد بمفهوم الهيمنة في أعماله. وكما ذكرت "كريستين جلوكسمان":

"يحرص غالبية المعلقين على لفت الانتباه إلى إسهامات "جرامشي" الفاصلة، أو بشكل أدق، التأكيد على مخالفة "جرامشي" لـ "لينين"، بالاستهانة بمكانة الهيمنة في أعمال "لينين"، في ظل صمت شبه مطبق من قبل الأممية الثالثة". (كريستين جلوكسمان – جرامشي والدولة – ص 174).

بيد أنه ليس من الصعب العثور على أمثلة لمفهوم الهيمنة في كتابات "لينين" قبل عام 1917 بوقت طويل، دعونا ننظر في المقاطع التالية من كتيب "خطتا الاشتراكية الديمقراطية"، والذي كتبه عام 1905:

"إن العمل المعتاد، المنتظم والراهن لكل المنظمات والمجموعات الخاصة بحزبنا، وكذا أعمال الدعاية، والتحريض، والتنظيم، جميعها موجهة نحو تعزيز وتوسيع العلاقات مع الجماهير". 

"وباختصار، لتجنب أن تجد نفسها مكبلة اليدين في نضالها ضد الديمقراطية البرجوازية المتناقضة، على البروليتاريا أن تكون طبقة واعية، وقوية بما يكفي كي تحرض الفلاحين نحو الوعي الثوري، وأن توجه هجومها، وهكذا تسير باستقلال على خطى الديمقراطية البروليتارية الواثقة". (لينين: خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية، المختارات – الجزء الأول).

في بواكير عام 1905، أدرك "لينين" أن التحالف الطبقي يجب أن يكون فيما بين الطبقات التابعة بهدف الانخراط في نضال ثوري فعّال. وهذا صحيح، لا سيما في الدول التي لا تكون البروليتاريا فيها الطبقة الأكبر عدداً. إضافة إلى إقامة تحالف المضطهدين هذا، يجب على البروليتاريا توطيد وترسيخ ثقة وولاء الطبقات الأخرى المكونة للتحالف، وأن تقودهم وتملي عليهم شكل الأنشطة الثورية أيضاً (تماماً كما في صياغات جرامشي).

في هذه الحالة، عرّف "لينين" الجبهة المتحدة بأنها تاكتيك، مناسب لفترة محددة، بدلاً من كونها استراتيجية. لذا، يمكن القول بسهولة أنها كانت مناسبة تماماً لروسيا في عام 1905، ولكن لم تكن مناسبة تماماً لظروف عمل "جرامشي" في إيطاليا. ومع ذلك، فقد أسست الجبهة المتحدة في نهاية المطاف لدور أكثر ديمومة في فكر لينين. وفي وقت ليس بعد ذلك بكثير، تحديداً مع بداية الأممية الثالثة، كانت تعرف الجبهة المتحدة بوصفها استراتجية مناسبة للعصر، بدلاً من كونها مجرد مناورة محددة فحسب. وسوف أعود لمعالجة هذه النقطة فيما بعد، عند تناول النظرية والممارسة لدى "لينين" وأهميتها لـ "جرامشي".

لقد تأكدت نظرية "لينين" العامة للثورة البروليتارية بوضوح في أكتوبر 1917. وبعد ثورة أكتوبر، أصبح مفهموم الهيمنة – قيادة الطبقات المضطهدة – يتكرر كثيراً في كتابات "لينين"، كما كان يأخذ شكلاً أكثر تطوراً. وفي عام 1918، في كتاب "الدولة والثورة"، قرأنا:

"البروليتاريا وحدها - بحكم الدور الاقتصادي الذي تقوم به في الإنتاج الكبير هي القادرة على قيادة كافة الكادحين والمستغَلين، هؤلاء الذين تستغِلهم البرجوازية وتضطهدهم وتسحقهم بشكل لا يقل – إن لم يزد – عما تفعله بالبروليتاريا، ولكنهم غير أهل للقيام بنضال مستقل من أجل تحررهم". (لينين: الدولة والثورة، المختارات – المجلد الثاني، الجزء الأول، ص 398).

لا توجد طبقة أخرى بخلاف الطبقة العاملة تم إعدادها عبر موقعها في نمط الإنتاج للاضطلاع بهذا الدور. لا توجد طبقة أخرى منظمة من خلال العمل في مثل هذه التجمعات الكبيرة، وتلك الظروف الاجتماعية. لا توجد طبقة أخرى لديها المهارات اللازمة لمواصلة الانتاج، وإرساء أسس المجتمع الاشتراكي الجديد مع احتمالية الإطاحة بالبرجوازية.

ديكتاتورية البروليتاريا (الهيمنة)

في هذه المرحلة، بعد عزل الثوريين للطبقة الرأسمالية، يكتسب مفهوم "الهيمنة" لـ "لينين" جانب آخر شديد الأهمية إلى جانب معناه الشامل، والذي نجده في كتابات "جرامشي". الآن نحن نرى أن الهيمنة ضرورية ليس فقط من أجل قيادة الطبقات المضطهدة في عملية الإطاحة بالبرجوازية، لكنها أساسية وضرورية للبروليتاريا من أجل الحفاظ على سيطرتها الطبقية وإخماد "المقاومة البرجوازية اليائسة". هذه الفترة التي تتولى البروليتاريا فيها وظيفة الطبقة الحاكمة لا تعني على الإطلاق إنجاز أو إكتمال الثورة العمالية. إنها ببساطة، الفترة الانتقالية لديكتاتورية البروليتاريا. تكتمل الثورة العمالية وتنجز فقط عندما تنعدم الطبقات من المجتمع.

يتضح الآن، أن الفرق، الذي سيق بشكل تحريفي من قبل الشيوعية الأوروبية والاصلاحيين من شتى الأطياف، لمفهوم "جرامشي" للهيمنة، وفهم "لينين" لديكتاتورية البروليتاريا وأنه مكشوف للجميع أنه غير دقيق كلياً. الأمر ببساطة، أن ديكتاتورية البروليتاريا هي تعبئة "قوة قمعية خاصة" تمكّن البروليتاريا من قمع البرجوازية.

في كتابات كل من "لينين" و"جرامشي"، ظلت قيادة البروليتاريا للتحالف الثوري للطبقات المضطهدة أمراً ضرورياً وأساسياً قبل وأثناء وبعد الإطاحة بالبرجوازية. وأقترنت قيادة الطبقة العاملة تلك مع هيمنة الطبقة العاملة في فترة ما بعد التمرد، ومع قمع الطبقة الرأسمالية المعزولة وقوى الثورة المضادة التي ربما تحتشد في محاولة يائسة لاستعادة تفوقها المفقود. في الكراسة الأولى من "كراسات السجن" كتب "جرامشي" ما يلي:

"تصبح الطبقة مهيمنة بطريقتين، أي أنها "قائدة" و"مسيطرة". فهي تقود الطبقات المتحالفة، كما أنها تسيطر على الطبقات المعارضة. ولذلك، يمكن للطبقة (بل ويجب) أن "تقود" حتى قبل توليها السلطة، وعندما تتولى السلطة تصبح مهيمنة، وفي نفس الوقت تواصل "القيادة". (أنطونيو جرامشي، كراسات السجن، المجلد الأول ص136).

بمقارنة هذا مع ما ملخص لينين حول الضرورات الاستراتيجية للعملية الثورية، والذي كتبه عام 1918:

"أما المهمة الرئيسية التي يترتب على البروليتاريا والفلاحين الفقراء الذين تقودهم، أن يؤدوها في كل ثورة اشتراكية، وبالتالي في الثورة الاشتراكية التي بدأناها في روسيا في 25 أكتوبر 1917، فهي، على العكس، عمل إيجابي، أو انشائي قوامه تنظيم شبكة في غاية التعقيد والدقة من علاقات تنظيمية جديدة تشمل إنتاج وتوزيع المنتجات الضرورية لمعيشة عشرات الملايين من الناس، إنتاجها وتوزيعها بصورة منهاجية. إن ثورة كهذه لا يمكن تحقيقها بنجاح إلا إذا قامت أغلبية السكان وبالدرجة الأولى أغلبية الشغيلة، بعمل إبداعي تاريخي مستقل. ولن يكون انتصار الثورة الاشتراكية مضموناً إلا إذا وجدت البروليتاريا والفلاحون الفقراء في نفوسهم ما يكفي من الإدراك، والإخلاص الفكري، والتفاني، والصلابة". (لينين: المهام المباشرة أمام السلطة السوفيتية، مختارات لينين – الجزء الثالث، ص 94 و95).

"إن إسقاط البرجوازية لا يعلن عن ميلاد مجتمع اشتراكي جديد، إنها مجرد مرحلة إنتقالية من ديكتاتورية البروليتاريا. الثورة الاشتراكية تكتمل فقط عندما يتم القضاء على الطبقية من المجتمع، وبالتالي الدولة، التي غاية وجودها هو قمع الطبقات التابعة لضمان ومواصلة السيادة والهيمنة. تكتمل الثورة الاشتراكية فقط عندما يأتي إلى حيز الوجود نموذج جديد غير مسبوق على الإطلاق للدولة وهي: دولة العمال، "والتي لم تعد في دولة في الواقع." (لينين: الدولة والثورة، المختارات – المجلد الثاني، الجزء الأول، ص 429).

يجب الحفاظ على التحالفات المصاغة قبل حركة التمرد وكما يجب أن تستمر تحت القيادة العمالية بغية بناء الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة للاشتراكية والسماح للعملية الثورية بأن تتقدم لما هو أبعد من تلك اللحظة الآنية لديكتاتورية البروليتاريا. في عام 1919، كتب "لينين":

"إن الطبقات ما تزال باقية، ولكن مظهر كل منها قد تغير في عهد ديكتاتورية البروليتاريا؛ كذلك تغيرت العلاقة بين الطبقات. إن النضال الطبقي لا يزول في عهد ديكتاتورية البروليتاريا، بل يرتدي أشكالاً أخرى". (لينين: الاقتصاد والسياسة في عهد ديكتاتورية البروليتاريا، مختارات لينين – الجزء الثالث، ص 266).

وبرغم أن اللغة التي استخدمها كل من "لينين" و"جرامشي" كانت مختلفة، إلا أنه من الواضح أنهما وصفا الممارسة التنظيمة الثورية ذاتها. ومثلما أن الغياب اللفظي النسبي لكلمة "هيمنة" في كتابات "لينين" لا يعني إغفال المفهموم، فإن ندرة استخدام "جرامشي" لعبارة "ديكتاتورية البروليتاريا" في "كراسات السجن" ليست دلالة على غيابها من أفكاره.

توصية "لينين" الأخيرة

المواضيع الأكثر أهمية في كتابات "جرامشي": الهيمنة، حرب المواقع، والجبهة المتحدة، كما رأينا آنفاً، أُخذت كلها مباشرة من "لينين". ولكاتب سيرة جرامشي الذاتية، "الستير ديفيدسون" الملاحظة التالية: " ترتبط اللينينية في نقطة إنتهائها إرتباطاً وثيقاً مع بدايات الجرامشية." (الستير ديفيدسون، جرامشي ولينين: 1917-1922، السجل الاشتراكي، 1974، ص146).

إن كراسات السجن لجرامشي حملت مسئولية نشر النظرية اللينينة بعد وفاته. سعى "جرامشي" بكتابته "كراسات السجن" إلى توضيح الأفكار الاستراتيجية اللينينة النهائية في الفترة التي كانت فيها اللينينية مشوهة بصورة فجة، وتأججت فيها الصراعات حول التراث اللينيني الحقيقي بشراسة، إذا لم يكن بشكل علني دائماً، فداخل الشيوعية الدولية (الكومنترن) على الأقل. لقد صاغ "جرامشي" أفكاره في نفس الوقت الذي كان الكومنترن ملتزماً فيه باستراتجية الحمقاء للفترة الثالثة أي التخلي عن الجبهة المتحدة. في سنوات "لينين" الأخيرة، كان قد أدرك أن الجبهة المتحدة لم تعد مجرد مناورة عابرة، لكنها في الواقع الاستراتيجية الوحيدة المناسبة لهذه المرحلة. لقد أتخذ "جرامشي" موقف الأقلية بسبب وفاءه لهذا الاستنتاج اللينيني. كتب "بيتر توماس":

"إن النضال من أجل "الهيمنة المدنية والسياسية"، محاولة بناء الأجهزة البروليتارية المهيمنة، كانت هي محاولة "جرامشي" للبقاء مخلصاً لمشيئة وتوصية لينين الأخيرة، ولنشر التقدم النوعي المتطور في مفهوم الهيمنة وفقاً للظروف الغربية. بعيداً من أن يكون توجيهاً منحرفاً عن الأطروحة الكلاسيكية لديكتاتورية البروليتاريا، فإن نظرية "جرامشي" حول هيمنة البروليتاريا تطرح نفسها بوصفها "مكمل" ضروري لنظرية "لينين". إن حرب المواقع الآن ليست فقط "الاستراتيجية الوحيدة الممكنة في الغرب"، كتطبيق لسياسة الجبهة المتحدة المبنية على أساس طبقي، بل إنها قد أصبحت حجر الزاوية الذي لا غنى عنه لأي سياسة ثورية ترغب في إنتاج سياسية "من نوع مختلف جداً" على نطاق أممي. (بيتر توماس، فلسفة الهيمنة والماركسية، ص 239).

في ضوء الأدلة، لا يمكن أن يكون هناك شكاً مطلقاً حول ما إذا كان "جرامشي" لينينياً أم لا. إن لينينيته كانت أكثر ثراءاً وأكثر فاعلية من كل البدائل التي طرحها معاصروه. وفرقوا بصورة فجة للغاية بين جرامشي والتراث اللينيني، حيث قدمت الشيوعية الأوروبية ليس فقط صورة غير دقيقة تاريخياً عن جرامشي ونظريته، بل وبكل انتهازية كانت صورة منقوصة. واجبنا هو تخليص تراث جرامشي من الإساءة التي لحقت به على المستوى السياسي كما على مستوى كل فروع العلوم الاجتماعية الأخرى.

في القرن الحادي والعشرين، بينما تخلى كثير من اليساريين عن "لينين" كونه أصبح عتيقاً وعفا عليه الزمن، علينا أن نتجه لـ "جرامشي" من أجل توضيح ما تعنيه اللينينة الآن وصلتها بالنضال الثوري في عصرنا الحالي. إن اليسار اللينيني لا يزال يعيد قراءة "الدولة والثورة" و"ما العمل؟"، كما لو كان هناك حلاً – لكثير من الأزمات التي تواجهنا اليوم – سيتجسد أمامنا بشكل سحري من بين طيات الكتب، بالطبع سوف توفر القراءة قدراً من البصيرة فيما يخص التساؤلات والمهام الحالية في ظل رأسمالية متقدمة ومتحولة (وتعصف بها أزمة متزايدة) كالموجودة اليوم. لكن، تبقى الدوجمائية هي عدونا الداخلي، لذا فإن ماركسية جرامشي الفعّالة يمكن أن تساعدنا في تقويض العقيدة التي تعوقنا وتؤخرنا في صمت. إن اليسار الثوري بحاجة لجرامشي، الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.‎

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire