lundi 28 mai 2012

اهم مقالات سلامة كيلة



فواحش النظم الاصولية

سلامة كيلة


محافظة بغداد، تغلق البارات وتمنع المشروبات، وتعمم التشدد «الديني». وفي السودان يقوم النظام بجلد النساء اللاتي يلبسن اللباس «غير المحتشم». وفي غزة تلاحق محلات المشروبات ويمنع النشاط الشبابي، ويضيق على الممارسات العامة. كل ذلك تحت يافطة تطبيق «الأحكام الإسلامية».
في المقابل، في العراق احتلال. وفي غزة احتلال. والسودان ذاهب للتقسيم والتفكك.
ربما هذا ما يوضح «وعي» القوى الأصولية التي تحكم في هذه البلدان والمناطق. إنها تجري خلف ما تعتبر أنه المهم والأساسي، والذي يفرضه عليها شرع الله. والوضع الذي تحكم فيه يغرق وينهار، ويتدمر لمصلحة السيطرة الإمبريالية. بمعنى أن ما يستحكم في وعي هذه القوى هو أضيق كثيراً مما يتطلبه الواقع. وعي قروسطي، هو المعبّر عن تخلف وسطحية و«أمية» تلك القرون، يريد أن يحكم، ويطبق الأحكام العتيقة، على وضع عالمي ومحلي مختلف جذرياً، ويحمل وعياً جديداً. فالملاحظ لـ «وعي» الحركات الأصولية عموماً يلمس أنه لم ينبن إلا على قراءة نصوص تدور في حقل الماضي السحيق، وتحاكم المسائل انطلاقاً من آليات تبلورت آنئذ. فالمنطق يقوم على «عكس الشاهد على الغائب»، حيث يجري قياس الحادثة الواقعية على «حكم» فقهي، صدر ربما قبل ألف عام أو خمسمئة عام. لأن فقيهاً محدَّداً قد أصدر فتوى بموضوع شبيه أو قريب، أو يمكن تقريبه. ومهمة «العقل» هي هذه الوصلة. وهو لا يستطيع أكثر من ذلك. وبالتالي حين لا يكون هناك «غائب» (أي فتوى) يتيه العقل الأصولي. ولأن القضايا التي حملها الفقه هي قضايا «ذاتية»، أو تتعلق بالمعاملات والأخلاق، فإن الزاد «الفكري» الأصولي هو هذه. لهذا سنجد كل الأصوليين يرددون ويكررون قصص وحكايا وشواهد قيلت في العصور السحيقة تلك.
لهذا حين تصبح في الحكم سوف تمارس ما تعرف.
لقد حكم البشير السودان (ومن خلف الستار حسن الترابي في المرحلة الأولى) منذ سنة 1989، وطبّق «الشريعة»، لكن الدولة والمجتمع لم يحتملا سلطته. فقد انهارت الدولة نتيجة هذا الشكل من الحكم الأصولي، ونهب المجتمع نتيجة شره الفئات «المشربة» بالدين، وهَزَلت سلطتها، إلى الحد الذي قاد إلى أن يقف السودان على عتبة التفكك إلى دول. وربما يتناسى كل الذين يدعون إلى «دولة إسلامية»، ويعلنون أن «الإسلام هو الحل» أن السودان خضع إلى سلطة «إسلامية» فككته بعد أن نهبته، ولا زالت تتلهى في «تطبيق الشريعة» على فتاة تلمس البنطال، أو رجل يشرب الخمر هرباً من الوضع الذي أوصلته السلطة إليه.
وفي غزة، أصبحت مهمة شرطة حماس متابعة الاختلاط بين الجنسين، أو إغلاق محلات بيع الخمور، أو متابعة ذهاب الأعضاء إلى الجامع وفرض الحجاب. وبالتالي تأسيس مجتمع أصولي قروسطي لا يتسع إلا لقلة من «المحاسيب». والمأساة أن ذلك يحدث في ظل الاحتلال الذي يحاصر القطاع ويخنق الناس. بالتالي كيف يمكن لهذا المجتمع أن يقاوم الاحتلال؟ إنه يدمّر الأرض التي يجب أن تقوم عليها المقاومة، حيث يفكك المجتمع، ويوصل قطاعات واسعة من الشعب إلى حدّ الكفر بسلطة كهذه، وبالتالي بـ«مقاومة» كهذه.
ولا شك في أن القوى الأصولية هي التي تحكم في العراق منذ الاحتلال، حيث صمّمت الولايات المتحدة السلطة على هذا الأساس، وقسمتها بين الطوائف. وإذا كانت قوى طائفية (من الشيعة والسنة) تمارس القتل بدعم أميركي، وتحقق الفرز الطائفي الضروري لتحقيق التقسيم، فإنها تتلهى كذلك بملاحقة ما هو حضاري، وكان جزءاً أصيلاً من تاريخ العراق. وتوهم بأن العراق تحرر أو يتحرر بعد «إكمال الانسحاب الأميركي»، كأن بقاء خمسين ألف جندي، و أكثر من مئة ألف مرتزق يعمل تحت اسم الشركات الأمنية، ليس وجوداً احتلالياً. ولا يفرض هو السياسة التي يجب أن تمارسها الحكومات. ولهذا دعم عودة المالكي حاكماً، وفرض تحالف «الكتل السياسية» معه.
وهنا نجد أن «بدوياً» يحكم في عصر الذرة، ولهذا فلا يجد سوى الفكر الوهابي أيديولوجية يعممها من أجل الحفاظ على سلطته، وتهديم كل ممكنات التطور الذي يمكن أن يطيحه. وسنجد أن تحالفاً ضم الوهابية وجماعة الإخوان المسلمين (وتفرعاتها) تشكل منذ زمن طويل لمواجهة الفكر الحداثي، مرة تحت شعار العودة إلى الأصول، وأخرى تحت عنوان الأصالة، ولكنه يهدف إلى تكريس البنى التقليدية المهيمنة آنئذ. والآن من أجل إعادة تلك البنى أو تكريس ما بقي منها.
وتدمير الحداثة الآن لا يعني محاربة أفكار فقط، بل بات يعني تدمير تكوين مجتمعي، تدمير بنى تشكلت في الواقع، وتدمير ممارسات مجتمعية، ووعي مجتمعي. ولهذا ليس من طريق سوى القتل والفرض العنيف، وتحويل الاختلاف الديني والطائفي إلى تناقضات، وبالتالي حروب طائفية. ومن ثم تشكيل سلطة حين استلامها ضيقة بضيق «الوعي الأصولي»، تعمم التناقض مع كل طبقات المجتمع، سواء نتيجة الاختلاف الديني أو الطائفي، أو سواء نتيجة تناقض التخلف والحداثة (الصراع ضد العلمانية واليسار). في الوقت الذي تستأثر فيه بنهب المجتمع، وتكريس نمط اقتصادي «أحادي» (وهنا تجاري)، يعمق التبعية للمراكز الإمبريالية.
إنها عملية نهب وحشي وسلطة متوحشة باسم الدين. لا تقود سوى إلى الدمار المحلي والسيطرة الإمبريالية. بغض النظر عن كل الشعارات التي ترفعها، أو الأوهام التي تطلقها.



سلامة كيلة
عن الأفق الاشتراكي

تطور الوضع التونسي إلى اللحظة التي فرضت هرب الرئيس زين العابدين بن علي، ولم يفد التهديد الذي مارسه الرئيس السابق، ولا فادت الوعود التي أطلقها في لحظاته الأخيرة، ولن يفيد الحل الذي أخرج به الهرب، ويجري فيه نقل السلطة إلى رئيس الوزراء.

وربما لن ينجح الحل "الدستوري" الذي أتى برئيس البرلمان كرئيس مؤقت يعمل على التحضير لانتخاب رئيس جديد خلال مدة لا تتجاوز الستين يوماً.

ما يجري العمل على أساسه هو إعادة إنتاج السلطة من خلال إبعاد الرئيس وتحميله كل وزر الماضي، واستقطاب بعض أحزاب المعارضة، وبالتالي إبقاء السيطرة الطبقية للفئات ذاتها. فالخطوات أخذت على أساس الدستور الذي صاغه زين العابدين بن علي، والذي يحدد شكل الصيغة "الديمقراطية" التي كانت تمارس، والتي تبقي الحزب الدستوري هو المحدِّد لشخص الرئيس القادم من خلال البرلمان الحالي الذي يهيمن عليه. ولتبقى أجهزة السلطة ذاتها، البوليس والبيروقراطية اللذين حكما طيلة ربع قرن في عهد بن علي، هي المقررة لنتائج الانتخابات التي ستجري.

وبالتالي يجري التركيز على الدمقرطة وحرية الأحزاب والصحافة، وإشراك المعارضة في السلطة، بينما تبقى البنية الاقتصادية كما هي، وتظل الطبقة الرأسمالية المافياوية هي ذاتها، ربما مع إبعاد مافيا العائلة، وربما لمصلحة مافيا عائلة جديدة.

هذا ما أوضحته التجربة حينما يجري "التغيير" على أرضية السلطة ذاتها، ووفق القوانين ذاتها، والأهم وفق البوليس والبيروقراطية ذاتها. ليكون هناك مرحلة انفراج ديمقراطي، وحرية سياسية، لكن دون لمس المشكلة الأساس التي قادت إلى تفجُّر الانتفاضة، وهي مشكلة النمط الاقتصادي الذي تشكل خلال العقود السابقة، والذي أفضى إلى الإفقار الشامل من جهة، والبطالة الواسعة من جهة أخرى. بالتالي تتراجع نخبة السلطة قليلاً من خلال تحقيق الانفراج "الديمقراطي"، واشراك بعض المعارضة في السلطة، وإعطاء الوعود بتحقيق كثير من المطالب، وتستغل "نخبة" من السياسيين "المعارضين" كل هذا الانفجار الاجتماعي الذي يعبّر عن مشكلات عميقة تفضي إلى الانتحار أو الموت جوعاً، من أجل القفز إلى السلطة، وإن كان ذلك يتحقق من موقع الهامش والملحق لأن البيروقراطية الحزبية القديمة (الحزب الدستوري) ستبقى هي الممسكة بمقاليد السلطة. وهي "اللعبة" التي يراد لها أن تمتص الأزمة، وترحلها إلى أمد أبعد.

إن كل هذا الانفجار الاجتماعي، ولكي يحقق أهدافه، لا بد له من أن يفضي إلى أن يتجاوز ليس الرئيس، بل كل بنية السلطة التي شكلها، بما في ذلك وأساساً الحزب الذي حُكم باسمه، والبوليس والأجهزة الأمنية اللذين تدربا لكي يخدما مصالح مافياوية لتلك الطبقة التي تحكم تونس منذ عقود، وتوثق ارتباطه بالطغم الإمبريالية. وهي التي، وانطلاقاً من هذا الارتباط، فرضت الإفقار الشامل والبطالة المفرطة، إضافة إلى الاستبداد الشامل الذي هو ضرورة، ليس من أجل ذاته بل من أجل تحقيق السيطرة الطبقية التي تسمح بالنهب وبصياغة النمط الاقتصادي. لهذا فإن تقدم الانتفاضة وانتصارها ليس ممكناً إلا من خلال فكفكة أجهزة الدولة البوليسية، وتجاوز الدستور الذي فرضته المافيا، وكذلك تجاوز كل بنية السلطة القائمة، فهذه يجب أن تنتهي، أن تهزم، وأن يجري تشكيل حكومة من القوى الأساسية التي لعبت دوراً مهماً في الانتفاضة، أي النقابات والاتحادات والأحزاب، من اتحاد العمال إلى المحامين وأحزاب اليسار التي كان لها دور بارز، إلى الهيئات واللجان التي تشكلت خلال الانتفاضة. حكومة مؤقتة تعد لانتخابات لمجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً يقر الحريات، ويضع سياسة اقتصادية مختلفة تخدم الطبقات الشعبية.

وهنا لا بد من أن نلحظ بأن المسألة لا تتعلق فقط بتشكيل نظام ديمقراطي، يعتمد الانتخابات والتعددية وحرية الصحافة، فهذه لا تحل مشكلات الطبقات الشعبية وستفضي إلى أزمة بعد حين تفرض انتفاضة جديدة. ولاشك في أن لعب الطبقة الرأسمالية المافياوية كان يجري على هذه المسألة، حيث يجري التنازل في المجال "الديمقراطي" وغض النظر عن كل ما يتعلق بما يتعلق بالنمط الاقتصادي وبالفروق الطبقية، وخصوصاً بوضع الطبقات المفقرة، التي هي أساس كل انتفاضة. ولسوء الحظ تقبل بعض قطاعات المعارضة بهذه اللعبة، فتنقاد خلف السلطة، وتتجاهل الوضع الطبقي الذي كانت تعتبر أنها تعبّر عنه. ويصبح همها هو "اللعبة الديمقراطية"، في وضع غير متكافئ لا يسمح لقوى تطرح بديلاً اقتصادياً أن يحقق ما يجعله يفرض برنامج يمثل الطبقات الشعبية.

وتونس تقف الآن في هذه اللحظة، هل تقبل المعارضة، واليسارية خصوصاً السير مع الحل الذي طرحه أفراد نظام بن علي (أو نظام المافيات)؟ أو تقول بأنها تسعى إلى تحسينه، لكنها تقبل في الأخير؟ أو تشكل سلطة بديلة، وتفتح الطريق لانتصار حقيقي للانتفاضة؟ فالحل من خلال آليات السلطة ذاتها سوف يوجد متنفساً مؤقتاً في المستوى السياسي، لكنه لن يحل مشكلات الفقر والبطالة، لأنه لن يغيّر من النمط الاقتصادي القائم، الذي هو كما أشرنا نمط رأسمالي مافياوي. وبالتالي سوف يعيد الصراع إلى نقطة الصفر. وهو حل يجب أن يرفض نهائياً. ومن ثم ليس غير البديل الذي يقوم على أنقاض النظام القائم، حتى لو لم ينجح الآن، لكن يجب أن يكون واضحاً بأن الأزمة العميقة التي تعيشها الطبقات الشعبية لن يحل عبر الحل السلطوي، وبالتالي حتى فيما إذا توقفت الانتفاضة الآن فإنها سوف تعود في فترة قريبة بعد أن يتوضح للعاطلين عن العمل والمفقرين بأن شيئاً لم يتحقق. وهنا يكون طرح البديل الآن من قبل اليسار هو الأفق الذي سيحكم الانتفاضة القادمة.

المسألة إذن لا تتعلق بشكل السلطة فقط، بل أساساً في طبيعة التكوين الاقتصادي الذي صيغت فيه تونس خلال العقود الماضية. ومن استطاع أن يعرف السبب الذي جعل الطبقات الشعبية تنتفض بهذه القوة عليه أن يعرف بأنه لم يعد من الممكن أن يتحقق حل شكلي تمويهي كما تريد المافيات، وأن الأمور سوف تندفع نحو تصاعد الصراع الطبقي، حتى وإن كان قد هدأ الآن. لهذا سوف يموت اليسار إذا وافق على لعبة المافيا المطروحة من خلال بيروقراطية السلطة القديمة، وبالتالي عليه أن يتبلور كبديل واضح، وأن يدفع الطبقات الشعبية لإكمال الانتفاضة لكي تنتصر حقاً.


تحوّل نوعي في الصراع الطبقي



خلال أول يوم غضب مصري (عمرو عبد الله دلش ــ رويترز)



سلامة كيلة


ما جرى يوم 25 يناير / كانون الثاني وما تلاه في مصر، أظهر أنّ تحوّلاً نوعياً قد حصل في حركة الاحتجاج التي بدأت قبل خمس سنوات تقريباً. ولا شك في أنّه سوف ينعكس بنحو كبير على مجريات الصراع في المرحلة المقبلة. فرغم بعض حالات التذمر، التي كانت بادية على قطاعات واسعة منذ سيطرة نمط مافياوي على الاقتصاد، وهيمنة «رجال الأعمال» (الذين هم مافيا بكل معنى الكلمة) على مفاصل السلطة، ظل الاحتجاج محصوراً في بعض النخب والأحزاب المعارضة، وهي احتجاجات لم تكن تتجاوز «الكلام» والكتابة في صحافة توزّع بنحو محدود.
لكن منذ نهاية سنة 2004، تحققت «نقلة» تمثلت في تكوين حركة «كفاية»، من طيف متعدّد الاتجاهات. قررت هذه الحركة أن تطرح مسألة الاعتراض على توريث الحكم والتمديد لرئيس يحكم منذ سنة 1981، فقامت بأنواع من الاحتجاج السياسي، لكنّها كانت محصورة في «نخبة»، لم تتسع بعد ذلك، غير أنها كسرت حاجز الخوف من مواجهة السلطة، وربما هذه هي قيمتها الحقيقية.
وكانت السلطة قد أقرّت سنة 1997 قانوناً يفرض إعادة الأرض المصادرة زمن ثورة يوليو / تموز الى «أصحابها الأصليين»، لكنّ تطبيقه تصاعد في السنوات الأولى من القرن الجديد. أثار ذلك حركات احتجاج كبيرة من الفلاحين، وكان تضامن جزئي معهم من «النخب» من دون أن يتحقق أمر مهمّ، الأمر الذي أوجد حالة احتقان كبيرة في الريف، كانت تعبّر عن ذاتها في بعض الأوقات، لكنّها لم تصبح حركة فاعلة.
ومنذ 2006، بدأت حركات احتجاج طبقية، كان أساسها العمال خصوصاً (عمال المحلة)، لكنّها بدأت تتسع لتتضمن مختلف أنواع الاحتجاج، النوعي والمناطقي، وظلت متفرقة وبأهداف محدودة جزئية، ودون تنسيق أو تطوير حقيقي في أدائها. ظلت، في الغالب، عفوية ومطلبية، رغم تصاعدها في 2009 حين شملت قطاعات عمالية متعددة، وضمت عدداً كبيراً من المشاركين.
لكنّها انعكست على قطاع اجتماعي جديد هو قطاع الشباب، الشغوف بالإنترنت. قطاع بدأ التفاعل مع حركات الاحتجاج العمالية عبر التضامن معها يوم 6 إبريل / نيسان 2009، من خلال الدعوة الى إضراب عام، نجح الى حدٍّ ما. ودفع نجاحه هذا الى توهم أنّ موقع الفايسبوك قادر على تحريك الشارع، لهذا شاعت الدعوات الى الإضراب العام، من دون أن تلاقي نجاحاً. لكن ما تحقق هنا هو بدء تفاعل قطاعات من الشباب كانت تتسع، مع مشكلات الطبقات الشعبية، ومع الدعوة إلى التغيير. ومهما قيل في خبرة هؤلاء السياسية، فإنّ ميلهم هذا كان يعبّر عن عمق الأزمة المجتمعية، إذ إنهم أبناء فئات اجتماعية متوسطة أو مفقرة. وكان الانقطاع عن السياسة عندهم ناتجاً من «سوء» الأحزاب القائمة، وعجزها، وطرحها لأهداف لا تمس المشكلات المجتمعية، ومراوغة العديد منها للسلطة. وبالتالي، كانت الأجيال الشابة تشعر باغتراب عما تطرحه، وتبدو أنّها في عالم آخر.
أما الأحزاب و«النخب» فقد أصبحت مسألة الديموقراطية هي هاجسها، إلى الحدّ الذي كان يقود أحياناً إلى «شخصنة» الصراع. حصل ذلك من خلال تحويل الصراع ضد حسني مبارك وابنه، في مواجهة الميل السلطوي لاستمرار الرئيس «مدى الحياة»، ثم توريث السلطة لابنه. ولهذا ظلت نخب قليلة العدد تقوم بعمل «روتيني» هو الاحتجاج في مناطق معينة بعيداً عن الطبقات الشعبية. وكان يبدو أنّها تتجاهل كل مطالب هذه الطبقات، أو لا توليها أهمية كافية. ولقد كانت الأحزاب الشرعية المعارضة تتهمش، خصوصاً تلك التي تدّعي تمثيل اليسار، نتيجة مواقفها الكلامية أو المهادنة للسلطة، أو المحصورة في إطارها الضيّق المشار إليه. كذلك فرض تصاعد الحراك الاجتماعي تراجع دور جماعة الإخوان المسلمين. هذه الجماعة التي لا تولي القضايا المعيشية أهمية، وتركز على «الأخلاق» و«القيم»، وهو أمر طبيعي ناتج من تموضعها الطبقي، الذي دفعها إلى التوافق مع السلطة على قانون إعادة الأرض للإقطاع، وخصخصة القطاع العام.
وبالتالي، كانت الصراعات الطبقية تتصاعد في كل أرجاء مصر، لكن في تشتت واضح، ودون استراتيجية تجمعها، ولم يكن يمرّ يوم دون أن تشهد أكثر من حراك لقطاع من قطاعات المجتمع، يطرح قضايا مطلبية محدَّدة تخصه. وظلت المعارضة السياسية تركز على الشعار ذاته: يسقط حسني مبارك، لا للتوريث. وشباب الفايسبوك (الذين منهم شباب 6 أبريل) يدعون بين الحين والآخر إلى إضراب من دون أن يلقى تجاوباً يذكر. ولهذا، حين بادروا بالدعوة إلى إضراب يوم 25 يناير / كانون الثاني، كانت الأحزاب المعارضة متشككة في إمكانية النجاح، رغم قرار بعضها المشاركة (عدا التجمع وبعض الناصريين)، وكانت التظاهرة تبدو كسابقاتها. ذلك، رغم أنّ الأجواء بعد انتفاضة تونس كانت تشجع على المشاركة والأمل في حصول أمر مختلف. ولقد حصل هذا الأمر المختلف، إذ أفضت الدعوة الى انتفاضة حقيقية، شملت الأحياء الشعبية وامتدّت الى العديد من المحافظات، لأول مرة ربما منذ انتفاضة 18 / 19 يناير / كانون الثاني 1977، وبمشاركة قطاعات شعبية هذه المرة، خصوصاً من الشباب. فقد عاد الشباب إلى الشارع، وهذه هي السمة الأساسية الأولى التي يمكن تلمسها مما جرى.
إذن، لقد دخل الشباب الصراع، وانتقل الاحتجاج الى الفئات الشعبية، وبالتالي لم تعد المسألة مسألة دعوات على الفايسبوك، أو وقفات اعتصام أو تظاهر لنخب وأحزاب ضعيفة، وإن كانت لم تصل بعد الى الطبقات المفقرة كلها. هذه هي النقلة التي تحققت، وهي نقلة مهمة في سياق تطور الصراع الطبقي. وستكون كلّ أشكال الاحتجاج التالية مترابطة، وسوف يدفع نجاح الانتفاضة الى مشاركة أوسع من الطبقات الشعبية، وهو الأمر الذي يوضح أنّ الأزمة التي تعيشها هذه الطبقات عميقة، الى الحدّ الذي يدفعها للانفجار.
نحن في وضع محلي مأزوم على الصعيد الاقتصادي، وفي وضع عالمي يعيش أزمة اقتصادية طاحنة، ثم لم يعد من الممكن للرأسماليات المسيطرة التحكم في صيرورة تطور الصراع الطبقي.

hassan ibrahim
02-05-2011, 07:25 PM
النظم العربية كلها... فلترحل









سلامة كيلة

هـذه ليــست مرحلة استقرار النـظم، بل مرحـلة رحيــلها. فقد حكمت اكثر مما يجب، وقامت بكل ما يدمر المجتمع ويفقر الطبقات الشعبية. ومارست التبعية المفرطة للامبريالية الأميركية، بحيث أسهمت في تكريس الهيمنة الامبريالية الصهيونية، وفي نهب الاحتكارات الامـبريالية لهذه المجتمعات، وفي تفكيك المجتمعات وتدمـير التعليم والــقوى المنتجة، لتــؤســس اقتصــاداً لا يخـدم سـوى الطغـم الامــبريالية. هذه الطغم التي أصبحت معنيـة بتصـدير السلــع الى أقصى مدى نتيجة فيض الإنــتاج لديهــا، الذي يســبب لها أزمة عميقــة ومستــمرة، وتشغيل المــال المضــارب في كــل ما يؤدي الى تدمــير الاقتصــاد المحـلي، من خلال النشاط في القطاع المالي والعقـاري والســياحي فقط. وهــو الأمـر الذي أدى الى نشوء ظاهرة البطالة الواسعة، والإفقار الشديد والتهميش.
لهذا لم تعد المسألة هي مســألة شــكل نظام الحكم، أو من يحكم من في هذه الطبقة المافياوية الطــابع، أو كيف تبقى السيـاســة ملحقة بالمشروع الامــبريالي الصهــيوني فــحسب. لا، لقد اصبحت المسألة تتعلق بتغيير هذه الطبقة وتدمير حكمها. فالطبــقات الشعــبية لم تعد قادرة على أن يستمر الوضع على ما هو عليه، لأنها وصــلت الى مرحلة لا تستطيــع العيــش فيها. فليس هــناك شغل، ومن يعمل لا يكفِه الأجر الذي يتحــصل عليه حتى لسداد رمق العــيش. بينما تعيش قلة ضئيلة بترف لا مثيل له، جراء النهب الذي تمارسه لمقدرات البلاد. هذه القلة هي التي تحكم، وتخضع كل شيء لما يحقق مصالحها، بدون اعتبار لأي شيء، أو حساب لأي ظرف.
المسألة باتت تتعلق، بالتالي، بتغيير نمط اقتصادي جرت صياغته خلال العقود الأربعة الماضــية، وأفــضى الى نشوء تمايز طبقي واســع من جــهة، لكنــه كذلك أفضى الى عدم مقدرة كتلة أساسية من الطبــقات الشعــبية على العيش نتيجة البطالة أو تدنــي الأجور في وضع كان ارتفــاع الأسعار في تصاعد متسارع من جــهة أخــرى. وهو نمــط صيغ بالتبعية للطغم الامبريالية، وبالتالي باستتباع سياساتها المعادية لكل الشعوب، وللطبقات الشعبية خصوصاً. ولهذا لم يعد قابلاً للاستمرار في أي شكل، ولم يعد ممكناً استمراره، خصوصاً أن النمط الرأسمالي ذاته يعــيش أزمة عمــيقة لا تجعله قادراً على الضبـط، على العكس تدفــعه هــذه الأزمة الى نقلها الى الأطــراف من خــلال زيادة نهــبها باشكال مختلفة، وخصوصاً أيضاً أن أزمة المال المتراكــم التي تفـرض الميل الشديد الى المضاربة، تفرض ارتفاعاً مستمراً، وكبيراً، في اسعار السلع الأساسية، والنفط، وهو الأمر الذي يزيد من أزمة العيش في الأطراف بشكل جنوني، وهو بذلك يزيد من فرص الثورة، ومن استمرارها الى حين تحقيق التغيير العميق في النمط الاقتصادي.
هذا الوضع هو الذي جعل الطبقات الشعبية بهذه القوة والجسارة، والاصرار على التغيير، كما ظهر في تونس ومصر، ويتزايد في اليمن والأردن، وسيشمل كل الوطن العربي، الذي خضع للسياسات الاقتصادية ذاتها المفروضة من قبل الطغم الامبريالية وبالتبعية لها.
إن الأزمة أعمــق من أن تحل من خــلال هذه النظــم، وباستمرار سيطرة الطبقة المافياوية، فهي تحتاج الى نمط اقتصادي بديل، الى إعادة بناء القوى المنــتجة، الى زيـادة الأجور وضبط الأسعار، ومن ثم ضــبط العلاقة مع السوق العالمية، أي قطع العلاقة مع النمط الرأســمالي لتجاوز آثاره المدمرة على الاقتصاد المحلي. وهــو الأمر الذي يعــني بناء سياسة مختلـفة مناهضــة للرأسمالية ولمشــاريعها الامبريالية، وفي صراع مع الدولة الصهيونية، وتهدف الى التحرر والوحدة.
إن جوهر الأمر يتمثل في طبيعة النــمط الاقتصــادي الذي يجب أن يجري بناؤه من أجل استقرار الوضع. فهو أساس الانتفاضــات التي جــرت وستجري، والذي سيبـقيها قائمة ما دام لم يتغير. فدون حل أزمات الفــقر والبطالة والتهميش والسكن والتعليم والصحة، لن يكون ممكناً تحــقيق الاستــقرار، أو أن يحكم أيّ كان. هنا المفصل، حيث يجب حل أزمة المجتــمع من أجل الاستقرار، واي قفز عن ذلك سوف يبقي الصــراع مفتوحاً.
ان هذه النظم يجب أن ترحل، وإن هذه الطــبقة المافياوية يجب أن تصادر أموالها وأن تحــاسب على كل النهــب والتــخريب الذي مارسته، وأن يجــري العمل على انتصار بديل جذري يحمل مشروع الطبقات الشعبية، ويعــمل على تحقيق مصالحها. وهو لذلك سيكون في تناقض عميق مع النمط الرأسمالي، ومع السياسات الإمبريالية، فهو يفترض تجاوز هذا النمط والصراع ضد تلك السياسات لكي يتحقق، ويتجسد فعلياً، وينتصر.
مــع انتــفاضة تونــس ثــم مصر، ودخــول اليــمن والجزائر والأردن على خط الحراك الشعبي، نحن في مرحلة جديــدة ولا شــك، ســوف تنقــلب فيهــا كل الــجمل الفــارغة التي جرى حشــوها طيلة العــقدين الماضــيين، لكننا بالأساس في مرحلة التغيير العميق لمصلحة الطبقات الشعبية.


حول الموقف الأميركي والأوروبي
من التغيير في تونس ومصر، وربما من التغيير العربي في المرحلة القادمة
سلامة كيلة
في تونس دافعت الحكومة الفرنسية عن نظامها في تونس حتى آخر لحظة، واتسم الموقف الأميركي بقدر من التريث والانتباه الى أن الوضع قلق، لهذا دفعت الى الصيغة التي تقوم على التخلي عن بن علي ولكنها تمسكت بأن يبقى رجال بن علي في السلطة لقيادة المرحلة الانتقالية، مع إدخال بعض أحزاب المعارضة التي كان معترفاً بها، اي حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقاً9 والحزب الديمقراطي التقدمي (الحزب الاشتراكي التقدمي سابقاً).
ورغم أن أحزاباً مهمة قد لعبت دوراً في الانتفاضة (حزب العمال الشيوعي، والحزب الديمقراطي التقدمي)، وكان هناك طيف واسع من الكادر الماركسي المشتت نشط في قواعد الاتحاد العام التونسي للشغل، وفي اللجان التي تشكلت كتعبير عن "التنظيم الذاتي للانتفاضة"، فإن تشتت القوى الماركسية، والحساسيات التي تحكم العلاقة فيما بينها نتيجة تناقض التكتيكات في المرحلة السابقة من الصراع ضد نظام بن علي، فسح المجال للقوى المساومة لأن تقبل القسمة الجديدة بحماس شديد. فحركة التجديد لم تشارك في الانتفاضة وكانت مواقفها مهادنة الى أبعد الحدود (مع وجود قوى قاعدية فيها اتخذت موقفاً آخر)، وبالتالي كان طبيعياً أن تقفز الى السلطة حين طُرح عليها ذلك، فهي لا تؤمن بطاقات الطبقات الشعبية، ولم تكن تعرفها أصلاً، وتعتقد بأن مشاركتها في الحكومة سوف يغيّر من طبيعة السلطة أو يحسّن من طبيعة الطبقة المسيطرة (البرجوازية المافياوية). وأحمد نجيب الشابي كان ينتظر منذ زمن اللحظة التي يصبح فيها شريكاً في السلطة، على أمل أن يحقق تغييراً عميقاً في المستوى الديمقراطي، وهو لا يطرح مسألة تجاوز الرأسمالية أصلاً منذ أن حوّل الحزب الى حزب ديمقراطي. ولقد قاد الحزب في هذا الاتجاه معللاً ذلك بالتغيير من "الداخل" ربما كما يفعل كل من يطمح الى المشاركة بالسلطة بغض النظر عن طابعها. وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل كانت معينة من قبل بن علي، أو على الأقل ليست في تناقض معه، ولقد همّشت دور الاتحاد، ووضعته في سياق سلطوي، وبالتالي ونتيجة ضغط القاعدة حاولت تعميق التغيير، وأفلحت من حيث الشكل، لكنها لم تطرح مطالب العمال الذين يعبّر عنهم.
لهذا نجح الحل المطروح أميركياً، وما تحقق هو انفراج ديمقراطي أوسع مؤقتاً (وهذه المؤقتاً مهمة لأن الطبقة المسيطرة سوف تقضم ما تحقق في المرحلة القادمة)، لكن الأهم هو ثقة الطبقات الشعبية بذاتها، وبدورها، ومن ثم سيكون لذلك نتائج لاحقة في سياق تطور الصراع. فالحل الأميركي يعتمد على إيجاد شكل ديمقراطي ينفّس أزمة المجتمع من خلال "الكلام"، لكن هذه روشيتة الثمانينات والتسعينات، وخصوصاً الروشيتة الناجحة في بلدان أوروبا الشرقية وروسيا، حيث الوضع مختلف جذرياً عما هو في بلدان مثل تونس ومصر وكل الأطراف. وبالتالي فإن الحل "الشكلي" لن يطعم خبزاً أو يوفر فرصة عمل لطبقات جائعة.
في مصر وقفت بالبلدان الأوروبية مع تغيير حسني مبارك منذ البدء، وظلت أميركا تدافع عن النظام، وتؤكد على قوته الى أسبوع بعد انتفاضة 25 يناير. ولقد أظهرت كل ما يفيد بأنها تدعم سلطة الرئيس حسني مبارك، وترفض التغيير. لكنها توصلت الى أن الأمور في تفاقم، والوضع يسير نحو انفلات السيطرة، وأن الشارع يفرض بديله بعيداً عن دورها وحساباتها. لهذا اندفعت بشكل جنوني نحو فرض التغيير، انطلاقاً من رحيل مبارك أو اختفاءه، وتسلم عمر سليمان السلطة، وحل مجلس النواب، والحكومة، وتشكيل حكومة مؤقتة أو مجلس رئاسي، تشارك فيها "المعارضة"، و"ممثلي الشباب"، من أجل انتخابات جديدة وانفراج ديمقراطي.
فالولايات المتحدة واضحة في دعمها للطبقة المسيطرة ولكل السياسات التي مارستها في العقود الماضية، وهي معنية بأن تبقى في السلطة، وأن لا يصل إليها إلا من يتوافق معها. وهو الأمر الذي دفعها الى التأكيد على أن أي تغيير يجب أن يلتزم الموافقة على كل الاتفاقات الموقعة، من اتفاق كامب ديفيد الى الاتفاقات العسكرية، الى التوافق السياسي مع سياستها العالمية. هذا الوضع الذي يحكم الموقف الأميركي، والذي فرض التسارع لتحقيق تغيير مضبوط كما جرى في تونس. حيث تستفيد من كل النشاط "الأيديولوجي" والدعائي السابق، ومن موجة الدمقرطة التي أطلقتها من أجل حصر المسألة في "الرئيس"، المستبد، والذي بقي طويلاً في السلطة. أما السياسة الاقتصادية التي ترسمها الشركات الإمبريالية، والسياسات الإقليمية والدولية التي تتبع ذلك، فيجب أن تكون خارج البحث، ويجب أن يجري استباق تصاعد الصراع لإيجاد حل يحافظ عليها.
بالتالي جاء التدخل الأميركي من أجل ذلك وليس حباً بالشعب المصري، أو أملاً في تحقيق نظام ديمقراطي بعد دعم طويل لنظام فاسد وبوليسي. ولن تتورع من أن يعيد الكرة بعد أن يهدأ الوضع وتستكين الطبقات الشعبية، حيث أن النهب المفرط يفترض شكلاً من أشكال الدكتاتوريات وليس النظم الديمقراطية.
الآن، ستكون المراهنة على دور الجيش، والصيغة التي يمكن أن تخرج الصراع من مأزمه القائم الآن، نتيجة أن الطبقات الشعبية صمدت ولازالت صامدة، لكن ليس لديها خطة للتقدم من أجل فرض التغيير، وما يجري هو انتظار حل "مقبول" يطرحه الجيش أو من يعبّر عنه. وهو حل يفترض إما مشاركة قوى معارضة في حكومة تقوم بعد رحيل مبارك (أو تغيبه باسناد صلاحياته لنائبه)، أو تشكيل حكومة انتقالية من أطراف في السلطة مدعومة من الجيش وأطراف معارضة (مثل الأحزاب الشرعية، الوفد والتجمع وحزب الجبهة. أو نصف الشرعية مثل حزب الغد. وأيضاً الجمعية الوطنية للتغيير التي يرأسها البرادعي. وبعض هيئات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة). تشرف على مرحلة انتقالية يجري فيها إعداد دستور جديد، ومن ثم تجري انتخابات جديدة.
هذا هو الحل الأقوى ربما، وما يجري من ضغوط من قبل السلطة تهدف الى تحقيق أقل قدر ممكن من التنازلات. لهذا جرى حصر المسألة في رحيل حسني مبارك، واعتقال بعض رموز المرحلة الماضية، وربما تهميش الحزب الوطني. وما يمكن أن يعدل من ذلك هو استمرار تماسك قوى الانتفاضة، وأقصد الطبقات الشعبية بالتحديد التي أظهرت قوة هائلة وصموداً بطولياً. رغم غياب القوى الجذرية تماماً هنا، ومن شارك فقد بدا كنشاط فردي، وليس بتحضير حزبي، أو رؤية واضحة. فقد كان الشك هو الحاكم لهؤلاء لإمكانية نجاح انتفاضة الآن. والأسوأ هو الموقف المخزي لقيادة حزب التجمع، برغم مشاركة أفراد منه في الانتفاضة منذ البدء، وساهمت في الدعوة إليها. وأظن بأن الزمن قد تجاوز هذا الحزب، ويجب أن يصبح من الماضي. أما القوى الماركسية الأخرى فقد اسهم بعضها في الدعوة للإضراب يوم 25 يناير وشارك فيها، لكن دون استراتيجية أو فاعلية، أو حتى الاستفادة في الدعاية لأهداف ورؤى، أو محاولة تعميق الجانب الذي يهم معظم هذه الجموع الهائلة، أي من خلال التركيز على طرح المطالب التي تتعلق بالأجور والبطالة والفساد ونهب الطبقة المسيطرة، وبالدعوة لنمط اقتصادي جديد. وهو الأمر الذي بات يحصر المطالب في المطلب الديمقراطي وفي رحيل مبارك فقط، رغم أن انتفاضة الطبقات الشعبية انطلقت مما هو اقتصادي: البطالة والفقر والأرض والصحة والتعليم والتدمير الذي تحدثه الطبقة المسيطرة في كل مناحي الحياة.
إذن، الانتفاضة شعبية شاملة، والإخراج سيكون أميركياً ولن يقود الى تحقيق أي من أهداف الطبقات الشعبية. فقط متنفس ديمقراطي.


الماركسية اليوم أو الماركسية بعد كل تلك الانهيارات لكن بالأساس: الماركسية
الكاتب سلامة كيلة
الأحد, 27 فبراير 2011 01:00
كارل ماركس
ربما لن يكون هذا الموضوع ذو طابع نظري رغم ما يوحي به العنوان، أشير إلى ذلك لأن الفهم الذي ساد في السابق أقام فاصلاً هائل الاتساع بين النظري والسياسي، طبعاً لمصلحة السياسي الذي بدا أنه يتعلق بما هو "يومي"، "حدثي"، أي عابر. لكن سيكون الموضوع المطروح هنا نظري بما هو سياسي، لأنه طبقي.لهذا سوف نشير إلى التاريخ في سياق البحث في وضع الماركسية اليوم، كما سنشير إلى الماركسية ذاتها لتوضيح ماهيتها، ومن ثم دورها الراهن، والأسس التي يجب أن تقوم عليها على ضوء الوضع العالمي الراهن.

1-إذا تتبعنا سياق الموقف من الماركسية خلال العقدين اللذين تليا انهيار النظم الاشتراكية سوف نلمس ميلين:
ميل نشأ مع الانهيار، حيث جرى وضع الماركسية في كيسه، وبالتالي باتت من الماضي، ومن الماضي المرذول. وأصبحت في أساس الفشل الذي ضرب الاشتراكية. ولهذا القيت "الكراسات الحمراء" في سلة المهملات، وبات كل قارئ لها متحجر، لم يستطع الخروج من "القرون الوسطى"
وميل معاكس نشأ مع انكشاف أزمة الرأسمالية، منذ تفجر الأزمة المالية في سبتمبر سنة 2008، حيث عادت صورة ماركس تظلل صحفاً عالمية، وعاد "الرأسمال" لكي يصبح، ربما، الكتاب الأكثر قراءة. إذن، عاد "شبح الشيوعية" الذي تحدث عنه كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشوعي.

2-المشكلة في الميل الأول لم يكن في "الهجوم الإعلامي الرأسمالي" المركّز، فهذا وضع طبيعي لطبقة اكتشفت بأنه يمكن إلغاء الملكية الخاصة، وأن إلغاؤها يقود بالحتم إلى تحقيق تطور هائل، كما لمست في وضع الاتحاد السوفيتي ومجمل البلدان الاشتراكية.
لهذا سوف تهلل للانهيار، حيث ستعمل على الإثبات بأن التاريخ لا يحتمل إلغاء الملكية الخاصة التي هي عنصر جوهري في "تكوين" البشر، لهذا سوف يثأر لذاته عبر تدمير كل المحاولات التي تجرأت على ذلك.
لكن الملكية الخاصة ألغيت، وهذا ما سيتثير الرعب لديها، لأن ذلك يؤكد على أنها ليست من تكوين البشر، وأن التاريخ يتقدم بدونها، وربما يكون من الضروري إلغاؤها من أجل أن يتقدم. لقد انتقلت روسيا من بلد قروسطي إلى الحداثة بكل معانيها في سرعة فائقة بعد أن باتت الملكية الخاصة من الماضي، وهذا ما يثير الرعب لأنه يعطي المثال على التطور الممكن لشعوب لازالت تعيش الماضي، وتفتقد قوى الإنتاج الحديثة، وهي الصناعة، التي يجب التوقف عندها، وتأمل تأثيرها في إعادة صياغة كلية التكوين العالمي، وإخراجه من العصر الزراعي في عملية تطور متسارعة. إذن، يمكن تجاوز القرون الوسطى بدون الرأسمالية، هل هناك أكثر خطورة من ذلك بالنسبة لطبقة تعتقد بأنها هي وحدها القادرة على رسم مسار التطور؟
هذه المسألة ربما هي في جوهر كل "الحرب الأيديولوجية" ضد الماركسية، كانت، لكن الانهيار أعطاها "القوة" التي تريدها الرأسمالية، لأنه الاثبات المؤكد على "نهاية التاريخ". وبالتالي كان من الضروري لها أن تستغل هذا الانهيار إلى مداه الأقصى لكي تفرض وعياً زائفاً، وهو ما انزلق إليه قطاع كبير من اليسار الذي كان شديد العداء لكل انتقاد للاشتراكية القائمة بالفعل، حيث أصبح شديد العداء، وليس النقد فقط، للماركسية ذاتها.
وهذه هي المشكلة في الميل الأول الذي نشير إليه، وهي مشكلة الانحدار الليبرالي الذي طاول قطاع كبير من الشيوعيين (وأقول المسفيتين)، ومن "الماركسيين" الذين اعتقدوا بأنهم تمردوا على الماركسية السوفيتية، لكنهم فهموا الماركسية كنصوص مطلقة الصحة، كقوانين، وربما نقول كـ "آيات قرآنية"، وتاهوا في قياس الشاهد (الواقع القائم) على الغائب (نصوص لماركس أو لينين). ولقد شكّل ذلك انقلاباً في الرؤية، وانتقالاً من شط إلى آخر، ومن موقع إلى موقع معاكس.
لماذا هذا الانقلاب؟ من تقديس الماركسية والاشتراكية والسوفيت إلى الهجوم الشنيع عليها؟ من اعتبار الاشتراكية هي المثال غاية التفوق والمساواة، والرأسمالية هي "الشيطان الأكبر"، إلى أن تصبح الاشتراكية هي ذاك الشيطان والرأسمالية هي الطموح والمثال؟
ربما كان نقد التجربة الاشتراكية ضرورياً (وهو بالفعل كذلك)، وكان البحث في الطابع الاستبدادي للنظم مبرراً، وحتى العودة إلى الماركسية لفحصها هو ضرورة أيضاً، لكن أن تلخص الماركسية بهذه، فهذا هو الأمر الذي يطرح الأسئلة.
هل كان هؤلاء ماركسيين؟ إذن، لماذا مجدوا النظم الاشتراكية ورفضوا غنتقادها؟ ثم لماذا انقلب الموقف إلى رفض الاشتراكية والماركسية من أساسهما؟
هذا الانحدار يطرح السؤال حول "ماركسية" هؤلاء، هل كانوا ماركسيين؟ هل يسمح الوعي الماركسي بتحقيق هذا الانقلاب من طرف إلى نقيضه بكل هذه البساطة؟ أطرح هذا السؤال لأن الماركسية لا تمتلك هذه البهلوانية في الانقلاب، فرغم أنها نقدية وتقوم على الجدل، إلا أنها لا تسمح باتخاذ موقف ثم الانقلاب عليه دون أسس منهجية، والجدل كما نعرف لا يتوقف عند النفي بل يوصل إلى التركيب أو نفي النفي، وما يوقف عند النفي فقط هو المنطق الصوري الذي يلخص العالم في ثنائيات لا تقبل التركيب، على العكس تتأسس على التضاد المطلق. وبالتالي فهذا الانقلاب هو من سمات المنطق الصوري بالتحديد، وربما أقول بأن تلك "الماركسية" كانت لا تعبّر سوى عن منطق صوري، وهو ما سوف أشير إليه تالياً.
لهذا أسست "ماركسيتها" على التقديس المطلق للتجربة الاشتراكية (أو للاتحاد السوفيتي) ورفضت نقدها معتبرة بأنه فعل إمبريالي وفوضوي (وتروتسكاوي)، وهو ما وسم الحركة الشيوعية كلها التي وحّدت الماركسية والاشتراكية بالتجربة السوفيتية، وجعلت نقد التجربة هو تدمير للاشتراكية والماركسية، ثم بفعل الانهيار (وهنا يجب لحظ هذه الحادثة لأنها أساس فهم وعيها و"ماركسيتها") تتحول إلى شيطان رجيم، وهذا ما وسم الهجوم على التجربة بعد انهيارها من قبل هؤلاء "الرفاق". هذا التوصيف، وبالتالي هذا الانقلاب، هو من سمات المنطق الصوري كما أشرنا، الذي لا يرى العالم سوى عبر قسمه إلى خير مطلق وشر مطلق (مع/ضد، إما/ أو)، أو ايجاب/ سلب (وكما أشرنا دون تركيب الذي هو الاضافة الأهم التي بلورها هيغل في الجدل، وما تضمنته الماركسية في الجدل المادي، حيث الفريضة والسلب ثم التركيب).
هذا المنطق هو الذي صوّر الاشتراكية كخير مطلق، ورسمتها في نقاء شامل، وتمسكت بأنه المثال الوحيد الذي يجب الدفاع عنه. كما صوّر الرأسمالية في صيغة مرعبة من الظلم والاضطهاد والفشل، وأن ديمقراطيتها شكلية وتخدم الطبقة المسيطرة، وحقوقها كلها متخلفة، وأنها باتت من الماضي وليس من الممكن أن تكون مثالاً للتطور، كل ما فيها سوداوي. وهذه صورة شكلية و"نمطية"، لهذا لا تلمس الصيرورة والتاريخ، ولا التكوين كتكوين متناقض ومركب، ولا تعرف ما قدمت وما لم تستطع تحقيقه. وبالتالي أصبحت هي "المنهجية" التي تحدد الموقف من كل من الاشتراكية والرأسمالية، قبل الانهيار وبعده. لقد كانت الاشتراكية هي الخير المطلق هذا، ولهذا وسم كل ناقد لها بأنه شيطان رجيم، من تروتسكي والتروتسكيين، إلى بوخارين وزينوفيف وكامينيف، إلى لوكاش، إلى كل ماركسي آخر لم يقبل بهذه المهزلة، ومال إلى الفهم، ووعي مشكلات التجربة ونقد مساراتها من أجل تطويرها خشية الانهيار. لكن أصبحت الاشتراكية هذه كلها هي الشيطان الرجيم بعيد الانهيار، وباتت الرأسمالية التي كانت "العدو"، والشر المطلق، هي هذا الخير المطلق، وأصبح نقدها تعبير عن عقلية دوغمائية، وستالينية.
حيث أن العقل الصوري ذاك لا يتسع إلا إلى خير مطلق وشر مطلق، ولا يستطيع وعي الطابع المركب لكل ظاهرة، فقد ملأ "الفراغ الأول" (الخير المطلق) أولاً بالاشتراكية وهو مناضل متحمس، ويريد تغيير العالم، ويحصل على امتيازات الاشتراكية كذلك، وحينما كان يتلمس المعاناة من الرأسمالية والاستعمار. ولهذا صبّ جام غضبه على الرأسمالية وأنشد في وصف مساوئها (رغم أنه كان بحلم بأن تتحقق في واقعنا، وكان لا يفعل سوى دعم البرجوازية لكي تنتصر، وهذه مفارقة لا تخرج عن صورية المنطق، وصورية فهم التطور التاريخي، وأيضاً صورية الوعي ذاته الذي خضع كما سنشير إلى تكتيك المركز السوفيتي، فهذه الصورية كانت تقود إلى التبعية بالحتم).
ثم، حين انهارت الاشتراكية (ولم يجد فيها نتيجة المنطق الصوري سوى الفشل) قلب المعادلة، فملأ الفراغ الأخير بالاشتراكية كونها "فشلت"، فباتت الاشتراكية هي الشر المطلق (حيث بدأ كشف القمع والاستبداد والاغتراب، وجرى تلمس الشمولية وتغييب الديمقراطية، وهذه كلها باتت تنقل عن نقد قديم بدأ مع انتصار الاشتراكية، وتوسع بعد إذ، وهو نقد صحيح، لكن الأساس هنا هو أنه بات قديماً ويحتاج إلى بحث أعمق لم يستطع المنطق الصوري فعله)، وبالتالي ،ميكانيكياً، أصبحت الرأسمالية هي الحلم، خصوصاً أن ما جرى تلمسه هو المستوى السياسي فقط (وهذه سمة المنطق الصوري)، وأصبحت المسألة هي مسألة الديمقراطية، وجودها أو غيابها. ودون تلمس لكلية البنية، والتطور في الاقتصاد والمجتمع. وفي هذه المقارنة، التي كانت غائبة في السابق حيث كان يجري التركيز على الاقتصاد، سوف تكون الرأسمالية هي "المثال" حتماً، لكن هذا ما ينتجه المنطق الصوري وحده، رغم أنه صحيح وفق حينما يوضع في سياق وعي عميق ينطلق من وعي كلية البنية على أساس الجدل المادي.
الوعي الماركسي، إذن، كان في مكان آخر وليس في عقول هؤلاء. ونقصد هنا معنى مزدوجاً: أن الوعي الذي حكم الحركة الماركسية عموماً لم يستند إلى كنه الماركسية، لم يُصَغ انطلاقاً من فهم حقيقي للجدل المادي، ووعي بماهية الماركسية، وبالتالي ظل ينحكم لمنهجية سابقة على الماركسية (وعلى الهيغلية كذلك، وربما على كل الفكر الأوروبي الحديث)، هي بالتحديد المنطق الصوري الذي عبّر عن القرون الوسطى التي شهدت سيادة النمط الزراعي. ثم أن هذا الوعي اتكأ على مفاهيم مستمدة مما بات يسمى الماركسية السوفيتية، أو الماركسية كما صيغت في الاتحاد السوفيتي كأيديولوجية للدولة ومعبر عن مصالحها، وهذه المفاهيم قامت على أساس المنطق الصوري وأسس لرؤية تنطلق من مصالح الدولة السوفيتية وتكتيكاتها. وهو ما جعل الحركة الشيوعية جزءاً من سياسات الدولة السوفيتية وتخضع لهذه التكتيكات.
وهذا الوعي "السطحي" كان يتبلور في كل سياسة الحركة الشيوعية وأيضاً لدى اليسار الجديد الذي تشكل في سبعينات القرن العشرين كتجاوز لتلك الحركة. وربما يكون مفيداً الاشارة إلى موقف يوضح هذه "التبعية" (التي هي نتاج تبعية الوعي)، وهو الموقف من قرار تقسيم فلسطين سنة 1947، حيث تمثلت السياسة العامة للحركة الشيوعية (وللاتحاد السوفيتي أصلاً) في رفض الصهيونية، ورفض الاحتلال البريطاني لفلسطين، وبالتالي الدعوة إلى قيام "دولة ديمقراطية" على ضوء طرد الاحتلال وهزيمة المشروع الصهيوني. وظل هذا الموقف متماسكاً على هذا الأساس إلى اللحظة التي أيد فيها السوفيت قرار التقسيم، لينقلب الموقف ويجري "قبول الأمر الواقع" الجديد، وهي السياسة التي ظلت إلى اليوم. هذا الانقلاب السريع في الموقف يعبّر عن خفة في وعي الواقع، وفي التمسك بالأهداف، وأساساً بالإرتباط بالواقع. لهذا كان يكفي أن يغيّر الاتحاد السوفيتي تكتيكه لكي يتغير تكتيك الحركة الشيوعية. وهو ما كان يعني بأن الارتباط بالمركز السوفيتي هو أوثق من الارتباط بالواقع، وأن الحركة كانت تلتزم بتكتيك الدولة السوفيتية بغض النظر عن واقعها.
بالتالي فإن الانحدار الليبرالي نشأ عن وعي صوري كان يردد مصطلحات ومفهومات ماركسية، ويحمل شحنة من التحرر و"العدالة الاجتماعية"، ويطمح إلى التطور في إطار المثال العالمي الذي هو الرأسمالية. وكانت الاشتراكية بالنسبة له المتكأ الذي يدعم نشاطه، وربما يضغط من أجل تحقيق حلمه الرأسمالي (ولا ننسى بأن البرجوازية الصغيرة الفلاحية حملت حلم الاشتراكية مصاغاً في حدود مصالها، واتكأت على الاتحاد السوفيتي). وأساساً بدا هذا الانحدار كتعبير عن طبيعة الفئات التي حملت "الماركسية"، والتي كانت من الفئات الوسطى التي تتلوّن وفق الاتجاهات المسيطرة في الغالب (وسنلمس بأن بعض هؤلاء، والذي ظل "مقاوماً للاستعمار"، مال إلى التكيف مع الأصولية الإسلامية التي أصبحت تياراً مهيمناً بعد انهيار الحركة القومية، وتلاشي اليسار).
كل ذلك يفرض أن ندقق في الماركسية وفي الوعي الماركسي، أي أنه حينما نتناول الماركسية اليوم يجب أن نلحظ هذه الوضعية من أجل فهم المعنى الذي نريده للماركسية اليوم.

3-نعود إلى الميل الثاني، وهو الذي تمثل في "العودة إلى ماركس" كما يتعمم في الإعلام. ولاشك في أن انهيار الاشتراكية كان يؤخذ كمدخل للقول بالانتصار النهائي للرأسمالية، وبالتالي بدت هذه هي الشكل النهائي للعالم، أو على الأقل إلى أمد بعيد، حيث بدأ اليسار المتحدر ليبرالياً يكيّف كل تصوراته مع هذا الوضع "طويل الأمد". أي بدأ يفكر في حدود الرأسمالية. وأكرر هنا بأن الحركة الشيوعية لم تفكر خارج هذه الحدود، ولكن الفارق هذه المرة هو أن "سمة العصر" لم تعد هي "الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية"، بل لم يعد هناك انتقال أصلاً، ولم يعد هناك سند ؤسس وجوده لـ "النضال من أجل الاستقلال والتحرر" مما فرض التكيف مع الرأسمالية القائمة بالفعل.
الأزمة المالية العالمية أظهرت بأن الرأسمالية تعيش تناقضات عميقة، وبالتالي فيمكن أن تنهار، وأنها لا تصلح لأن تكون مثالاً للتطور. وربما تصور البعض بأنها على شفير الانهيار النهائي، وجل هؤلاء هم من الماركسيين المتلبرلين. لكن بغض النظر عن الرأي في الأزمة المالية، وفي حدودها، وهل هي أزمة مالية فقط أو أنها أزمة الرأسمالية ذاتها؟ فإن المهم هنا هو أنها طرحت السؤال حول "قيمة" الماركسية، وحول علميتها، ودقة تحليلها للرأسمالية، وبالتالي فهمها للأسباب التي تدفعها إلى الأزمة. ولاشك في أن الأزمة أظهرت بأن الرأسمالية ليست "نهاية التاريخ"، وليست البديل الممكن، وأنها تعيش وضعاً صعباً، كما أن الأزمة أفضت، ولازالت، إلى افقار قطاعات واسعة ليس في الأطراف فقط، بل في المراكز كذلك، وبالتالي بدأت مرحلة الرخاء في التكسر والتلاشي.
وبالتالي فدأت الماركسية تبدو كبديل، أو بشكل أدق: البديل. بمعنى أن الأزمة أظهرت ضيق أفق كل الحركات التي بدت في السنوات الماضية وكأنها البديل، من التيار الذي انحدر ليبرالياً إلى الحركات الأصولية، وصولاً إلى حركات مناهضة العولمة، رغم الفارق بينها. حيث أسقطت الأزمة كل ادعاءات "الخطاب الليبرالي" الذي حمله اليسار الليبرالي، وأظهرت بأن الرأسمالية ليست بديلاً ممكناً. كما أوضحت الأزمة بأن الحل الأصولي ليس خياراً على الصعيد الاقتصادي الطبقي لأنه يقوم على اللبرلة، رغم أن "شعبيته" نتجت عن دوره "الوطني" أو المعارض للنظم. وكان الوضع العالمي قد أوضح منذ أمد قصور الخطاب المناهض للعولمة، وانحساره في الاحتجاج دون بديل حقيقي لأنه انطلق من رفض "الليبرالية المتوحشة" فقط، وليس رفض الرأسمالية من الأساس.
لقد عادت الماركسية إلى الواجهة من جديد إذن، ولم يستطع الإعلام الرأسمالي سوى أن يظهر هذا الميل. لكن ماذا تعني "عودة الماركسية"؟ وفي وضع كوضعنا؟
هنا تصبح المسألة جدية إلى أبعد الحدود، وتحتاج إلى تفكير عميق. فقد فشلت الماركسية، وانهارت الاشتراكية. طبعاً، والماركسية ظلت فاشلة عندنا، وتهمشت مع صعود الحركة القومية العربية (حركة الفئات الوسطى، والفلاحين خصوصاً)، ثم مع صعود الحركة الأصولية .... لكننا إزاء كونها البديل من جديد.
هل نكرر تجربة الحركة الشيوعية والحركات الماركسية الأخرى (اليسار الجديد)؟ أم نقف لحظة للتأمل من أجل رسم سياسة جديدة؟ وأساساً من أجل إعادة قراءة الماركسية من منظور جديد من أجل تمثل منهجيتها؟
أشرت إلى الوعي الماركسي لدى هذه الحركة، وهذه مسألة تحتاج إلى وقفة، حيث أن الماركسية ليست عواطف وانفعالات، بل عقل لأنها فكر. وأبعد من ذلك، إنها تقدم آليات تفكير جديدة جداً، مختلفة عما نتوارثه (المنطق الصوري). ولكي يمكن إعادة صياغة آليات التفكير نحتاج إلى وعي عميق، إلى دراسة عميقة، وربما هنا نشير إلى مقولة إنجلز، حيث منذ أن أضحت الثورة علماً بات علينا أن نتقن هذا العلم، أي أن ندرسه بعمق. وهذا هو وضع الماركسية التي هي طريق الثورة.
هذه مسألة فشل فيها الماركسيون خلال العقود السبعين الماضية، ومن نجح أقصي من الأحزاب، حيث كان "المركز الفكري" هو موسكو، ولم يبرز شعور هنا بأننا نحتاج إلى وعي عميق، لأننا ننفذ فقط السياسات والتكتيكات التي ترسم من قبل "العقل الأيديولوجي" في موسكو. إن مهمتنا هي تنفيذ السياسات وليس التفكير في الواقع ورسم السياسات التي تفرضها. ولهذا كان النشاط عفوياً من جهة لأنه لم ينبني على وعي الصيرورة الواقعية وتحديد دوره فيها، لكنه كان مقاداً من جهة أخرى لأنه خضع لسياسات محددة في المركز التي كان يحدد سياساته انطلاقاً من كونه دولة لها مصالح، لكن لها ممكنات كذلك. ولها تكتيك يتأسس على رؤية عالمية وأولويات قومية.

4-الأزمة إذن تعيد طرح الماركسية كخيار أو كبديل، لكن أية ماركسية؟
فالماركسية تشتت في القرن العشرين إلى ماركسيات، الماركسية السوفيتية التي فرضت هيمنتها من خلال سطوة الدولة السوفيتية، التروتسكية التي ظلت تلعب دور المعارضة لكن على صعيد عالمي، الماوية التي تواشجت مع السوفيت لكنها انبنت كماركسية مستقلة بعيداً على الماركسية السوفيتية، لكنها عادت وتبلورت في "نكهة خاصة" تتشابه مع الماركسيات الأخرى. وأصلاً ماركسية الأممية الثانية. أو الجيفارية، أوالماركسية الفوضوية. وكل منها صيغ في "نظرية متكاملة"، في "نص مقدس"، عبر "تلخيص" نصوص ماركس وإنجلز ولينين في منظومة وفق ميول لهذا أو ذاك، أو كانعكاس لميول طبقية، وبدت كلها –في تبلوراتها النهائية- كتعبير عن الفئات الوسطى، بحلقيتها وتناحرها، وحرْفيتها، ولكن أيضاً في عدم مقدرتها على مغادرة المنطق الصوري.
لكن أين ماركس من كل ذلك؟
لاشك في أن الكثير من أفكار ماركس وإنجلز ولينين تبدو صحيحة، ثابتة، لكن أيضاً هناك الكثير من الأفكار التي بدت خاطئة، أو أنها "شاخت" كما قال كل من ماركس وإنجلز عن بعض فقرات البيات الشيوعي بعد ربع قرن على كتابته. لكن ما الذي يجعلنا نشير إلى صحة أو خطأ فكرة ما؟ في الماركسية هناك العلاقة المتوترة بين آليات التفكير في الواقع والواقع ذاته، الواقع المتغير، المتحول. وبالتالي فإن الصحة والخطأ ينطلقان من هذا وذاك: أي من المنهجية ومن الواقع معاً. فربما لم تسعف المنهجية في لحظةٍ الوصول إلى نتائج علمية، كما ربما تكون النتيجة الصحيحة قد تقادم عهدها لأن الواقع ذاته قد تغير. ولهذا لا نستطيع أن نصيغ "نظرية" أو "ماركسية" دون أن نأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار، أو أن نجعلها أساس تناولنا للماركسية. واي خطأ في هذه العلاقة سوف يفرض اختلالاً في التصور الماركسي، أو حرفاً للماركسية عن تعبيرها الطبقي، عن الطبقة العاملة، إلى التعبير عن الفئات الوسطى. لأن تعبيرها عن الطبقة العاملة مرتبط بوعيها الواقع علمياً، وتأسيسها الرؤية التي تصبح هي الرؤية التي تؤسس وعي الطبقة العاملة الذي يتيح لها التغيير.
يجري الميل عادة إلى اعتبار أن الماركسية أيديولوجية الطبقة العاملة أو نظرية الثورة الاشتراكية، لكن هذا التحديد سيكون هو الأساس الذي قاد إلى تحويل الماركسية إلى "بنية مغلقة" أو "نص مقدس"، حيث تؤخذ أفكار وتصورات وقوانين من تراث ماركس، إنجلز ولينين (وأيضاً تروتسكي وماو تسي تونغ) لكي تصاغ في "نظرية" أو "أيديولوجية". وفي الغالب تكون المنهجية بعيدة عن كل ذلك، أو لا تدخل في هذه البنية، أو يستأنس بها في "المستوى الفلسفي" دون أن يكون لها دور أو فاعلية في بناء الأيديولوجية أو النظرية. وهنا –انطلاقاً من ذلك- يتوحد العام والخاص، النسبي والمطلق، لأنه تجري صياغتها في نظرية أو أيديولوجية دون التدقيق فيما يمكن أن يتحول إلى عام، وما هو خاص، أو ما يمكن أن يصبح مطلقاً وما هو نسبي، لهذا بات من الماضي في سياق الصيرورة التي تفرض تحولات وتغييرات عميقة.
الماركسية ليست أيديولوجية الطبقة العاملة، وليست نظرية الثورة الاشتراكية. فليس هناك أيديولوجية للطبقة العاملة على العموم، أو نظرية الثورة الاشتراكية على العموم، هناك أفكار عامة عن الطبقة العاملة وعن الثورة الاشتراكية، لكن هذه العمومية لا تسمح بأن تتحول إلى أيديولوجية أو إلى نظرية، لأن الأيديولوجية لا تتأسس إلا على ملموس، أي ما يخص طبقة عاملة محددة، ملموسة. والنظرية لا تكون إلا لوضع معين، ملموس. هناك أفكار عامة موحدة أو متقاربة، لكن هذه الأفكار لا تشكل لا أيديولوجية ولا نظرية. لكنها يمكن أن تصبح حزءاً من أيديولوجية الطبقة العاملة، أو من نظرية للثورة فقط حينما تنحكم لعلاقة المنهجية/ الواقع. أي حينما يجري تحليل الواقع انطلاقاً من الجدل المادي، ويتأسس تصور لوضع الطبقة العاملة ولمصالحها ولرؤيتها ولبديلها، ولتتحدد "نظريتها" في تحقيق الثورة. هنا يمكن أن يدخل تراكم الأفكار التي يستوعبها الواقع في منظومة يمكن أن تسمى أيديولوجية الطبقة العاملة المحدَّدة في المكان والزمان، ونظرية الثورة الاشتراكية المعينة في بلد وزمن.
بمعنى أن الأيديولوجية والنظرية تتشكلان عبر البحث في الواقع المحدَّد، لأنهما يخصان هذا الواقع المحدَّد ولا يمكن أن يطرحا في إطار عام، وإلا عادت الماركسية رؤية مجردة تحكم الواقع، وبالتالي تعود رؤية مثالية (إضافة إلى أنها غير جدلية)، رؤية تنطلق من تصور مسبق تبلور عبر اختيار "عشوائي" من تراث ماركس وإنجلز ولينين (أو تروتسكي أو ماو)، وليصبح هو "الهادي" في الممارسة الواقعية، التي تخضع لظرف معين وواقع محدَّد. وهذه الآلية هي جزء من طبيعة المنطق الصوري، حيث تصبح الفكرة هي الأساس والواقع هو وسيلة التطبيق. إن الأيديولوجية التي تعبّر عن الطبقة العاملة هي نتاج واقع هذه الطبقة المحدَّد، وبلورتها تقوم على تحليل الواقع المعين من خلال المنهجية الماركسية: أي الجدل المادي.
إذن، لا يجب استسهال تبني بعض الأفكار، أو بعض الاتجاهات، "الماركسية"، بل يجب تمثل منهجية الماركسية بالأساس لكي يصبح ممكناً أن يكون المرء ماركسياً. هنا تبنى الماركسية على أساس تحقيق نقلة في الوعي، وأخصص أن هذه النقلة تتحقق في "طريقة التفكير"، الأسس التي يعالج "العقل" فيها الأحداث والأفكار، وبالتالي الواقع. هذه هي النقلة الحاسمة في تشكل الماركسي، ودون ذلك سوف يبقى يعالج الأحداق والواقع انطلاقاً من منهجية متوارثة هي بالضبط: المنطق الصوري، الذي هو جزء من وعي تقليدي متوارث، وتعمم "عفو الخاطر"، كما عبر المدرسة والعلاقات المجتمعية. إن الماركسية هي ليست الأفكار والتصورات التي كتبها مؤسسوا الماركسية، ولا تحليلهم للأحداث ونقدهم للأفكار، وفهمهم للواقع الذي عاشوا فيه، فهذه كلها هي نتاج "طريقة في التفكير" جديدة. لقد عالجوا كل ذلك انطلاقاً من منهجية جديدة بالأساس، هذه المنهجية التي كانت قد تبلورت مع هيغل والتي أوقفها ماركس على قدميها بتحويلها من منهجية جدلية تنطلق من أن الواقع هو "ظلال" الفكر، انعكاس الفكر، إلى أن الفكر هو نتاج الواقع، وبالتالي فإن الوجود هو الأساس المادي الذي يؤسس لنشوء الأفكار (رغم أهمية الأفكار في تطوير الواقع، وهذا ما يعطيها استقلالية نسبية)، ولكن هذا الواقع هو في صيرورة، أي في عملية تحول ةتغير مستمرة وفق "آلية" جدلية. وعلى ضوء ذلك زرع ماركس جدل هيغل في مسامات الواقع، في كل تفاصيل الوجود، ومنه توصل إلى استنتاجات وأفكار، وأيضاً قوانين باتت جزءاً من الماركسية، لكنها خاضعة لعلاقتها بالمنهجية ذاتها ولا يمكن أن يجري التعامل معها مستقلة عنها.
الماركسية اليوم، بالتالي، يجب أن تنطلق من تمثل الجدل المادي وليس من أي شعار أو هدف أو فكرة أو قانون. وكل ذلك سوف يوضح في سياق محدَّد تأسيساً على المنهجية ذاتها، حيث سيصبح بعضاً منه جزءاً من التراث لأنه عبّر عن تحليل أو رؤية لظرف معين بات من الماضي. وبعض آخر سوف يصبح جزءاً من منظومة تتأسس على ضوء المنهجية، وسيتوضح بأن بعضها كان خاطئاً ولم يتأسس على تحليل منهجي، وستكون كلها جزءاً من التراث الماركسي الذي سيساعد على تمثل المنهجية.
إن قيمة كل هذا التراث الأساسية هي اكتساب المنهجية، وليس حفظ الأفكار أو تكرار الشعارات. وعملية الدراسة هذه هي التي يجب أن تفضي إلى تجاوز المنطق الصوري المرسّخ في الوعي (أو في العقل)، وتمثل الجدل المادي. وانطلاقاً من ذلك يمكن أن تتأسس ماركسية جديدة، تعبّر عن مصالح الطبقة العاملة وتحدد صيغة التطور الذي يفضي إلى الاشتراكية.
ما الجدل المادي؟
أنها منهجية لا تركن إلى ما هو ظاهر بل تدخل إلى عمق الظواهر، حيث أنها تنطلق من أن لكل ظاهرة شكل ومضمون، وأن المضمون هي مركزها. وإذا كان الشكل هو ما يبدو أمامنا، ما نسمعه أو نلاحظه ونشاهده، وهو ما يمكن أن يحدده المنطق الصوري، فإن الجدل المادي يفرض الغوص إلى المضمون، إلى جوهر الظاهرة، حيث الشكل هو ما تظهر فيه في لحظة معينة بينما المضمون هو المعبّر عن ماهيتها.
وهي تتجاوز المنطق الحسي (الذي هو جزء من المنطق الصوري) حيث لا يوجد سوى "المحسوس"، ولهذا تربط المحسوس بالمجرّد الذي يتبلور في الفكر. إن قهم الواقع يفترض التجريد الذي يسمح في صوغ الواقع في رموز ومنظومات لكي يجري النفاذ من الشكل إلى المضمون. والعملية هنا تبدو كصيرورة من الشكل إلى المضمون رغم أن المسألة تبدو انتقال من الواقع "المحسوس" إلى الأفكار المجردة. إن تجاوز المنطق الحسي يفرض الانتقال إلى التجريد، وهي العملية التي تاهت فيها الفلسفة لكنها وصلت إلى منتهاها حين بلورها هيغل في منظومته الجدلية. وبالتالي تفرض هذه المنهجية الانتقال من المحسوس إلى المجرد لكي يمكن فهم الواقع ذاته بما هو شكل ومضمون.
كما أنها ترى أن الواقع يتطور في صيرورة لها قوانينها، التي لخصها إنجلز في ثلاث قوانين تنطلق من أن كل ظاهرة يخترقها التناقض، وينحكم تطورها على تراكم كمي يفضي في لحظة إلى تحقيق تغيّر نوعي، وأن كل هذه العملية تجري في إطار وجود أساس (أو فريضة) يقود إلى النفي، ليتشكل نفي النفي الذي يتضمن الأساس والسلب معاً في تركيب جديد.
لكن هذه العملية تتحقق في تكوين متعدد، وبالتالي فإن التناقضات متعددة، لهذا فإن الواقع يتطور في صيرورة مركبة، هي كلها التي تفضي إلى تحقق نفي النفي. كما أنها تتححق في إطار العلاقة بين الشكل والمضمون، والمشخص والمجرد، وبالتالي تتضمن تناقضات متعددة، وتداخلات ستكون أعقد من تناولنا لها في شكل مبسط، وأحادي. وإذا كانت هذه المسألة تبدة، في المستوى الفلسفي، معقدة، وربما مرهقة، فإن وضعها في سياق الجدل المادي، أي عبر الانطلاق من الواقع سوف يجعلها أكثر بساطة. لكنها تفرض البحث في مستويات أخرى، منها المستوى الاقتصادي، والمستوى المجتمعي، والمستوى السياسي، والمستوى الأيديولوجي. وهذه أيضاً مترابطة ومتداخلة، ولها شكل ومضمون، ومجرد ومشخص.
لن نشرح هنا هذه القضايا لأنها تحتاج إلى تفصيل، وتناول قضايا كثيرة و"علوم" مختلفة، لكن يجب أن يكون واضحاً أنها المدخل لتشكل ماركسي. وهي تحتاج إلى الدراسة العلمية والقراءة المعمقة، وليس إلى الاكتفاء بمبسطات لا تفيد سوى أنها أوليات توضح بعض المفاهيم، أو تعود على نمط من المصطلحات. إنها تحتاج إلى بحث فلسفي واقتصادي واجتماعي وسياسي وفكري شامل.
طبعاً يمكن أن يشار إلى أن هذا يؤسس مثقفاً ماركسياً وليس حزباً نضالياً ماركسياً. وهذا صحيح، لكنه ضروري، ليس لأن كل أعضاء الحزب يجب أن يكونوا "علماء"، بل أن الانطلاق من الصراع الطبقي يجعل هذا الصراع هو أساس نشوء الحزب تأسيساً على مصالح الطبقة العاملة، وسعياً إلى انتصارها. لكن نشاط الطبقة في إطار الصراع الطبقي لا يخرج عن كونه "نضال مطلبي"، حيث يجب كسر الوعي الذي يؤسس لحدود هذا الصراع. وهنا أشارت الماركسية إلى مستويين، الأول: أن الطبقة تناضل انطلاقاً من حسها السليم، حيث أنها هي التي تعاني من الاستغلال والاضطهاد، من الفقر والبطالة. وهي هنا تعرف مستغلها، وتتمرد على شروطه، لكن وعيها لا يسمح لها أن تقدّم بديلاً لنمط آخر، هو ضروري لكي تطور وضعها وتحقق مصالحها، وهي عبر ذلك تغير وضع المجتمع ككل.
الطبقة هنا هي في صراع واضح (رغم بعض الميول التي تفرض على البعض تحقيق الحل الفردي)، ويظهر لتناقض لا حل له سوى عبر نفي الرأسمالية، لكن وعي الطبقة لا يجعلها قادرة على تحديد الشكل البديل، وآليات تحقيق النفي، وبالتالي بلورة نمط بديل.
هذا ما أضافته الماركسية، حيث أن علميتها تسمح لماركيها بوعي الواقع، ووعي آليات تغييره، وتحديد شكل البديل الممكن. وهذا مرتبط بـ "مثقفين" هم غالباً من الفئات الوسطى (أو حتى من الرأسمالية)، وهم الذين يجب أن يتمكنوا من تمثل الماركسية في الصيغة التي أشرنا إليها للتو. والتمثل هنا ضروري لأن هذه الفئات دون أن تحقق الانتقالة في الوعي سوف تعبّر عن مصالح الفئات الوسطى التي هي منها، وإن بشكل ملتبس أو ملتوٍ (وهذا هو الأخطر). وبالتالي فإن مقدرتها على القراءة والبحث والدراسة الجادة هي التي تجعلها قادرة على تمثل الماركسية، لكنها بحاجة إلى "صهر أيديولوجي" لكي تحقق الانتقالة التي تجعلها قادرة على تجاوز مصالحها الطبقية الضيقة، كونها من الفئات الوسطى، ومن ثم تصبح قادرة على الاندغام بالطبقة العاملة، ورؤية الواقع من منظور مصالحها الطبقية، وفي الوقت ذاته بلورة الرؤية التي تعبّر عن هذه الطبقة، وصياغة بديلها، وتحديد تكتيكاتها التي توصل إلى تحقيق هذا البديل.
ورغم أن الحزب يلعب دوراً في تطوير وعي الطبقة، ويحرص على أن ترتقي في فهمها للواقع، وأن تؤسس رؤيتها، وأن تتمثله كذلك، فإن "المثقف" من الفئات الوسطى هو الذي يقع على عاتقه عبء تمثل الماركسية بكليتها. وهو الذي ينتج الوعي الذي يُعمم على الطبقة من خلال التفاعل معها، وفي إطار الصراع ضمنها. فالحزب هو الفراد من الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء الذين ينتظمون من أجل تحقيق مصالح مجمل الطبقة. و"المثقف" الماركسي هو المناضل الذي يندمج بالطبقة ويخوض الصراع معها، لكنه يقدم لها الوعي والتنظيم. وفي النهاية فإن الطبقة هي التي تنتصر وليس الحزب لأن الصراع هو صراع طبقي، وما الحزب هو مفعّل لنشاطها، ومنظم لفاعليتها، ومحدد لأهداف وتكتيكات تجعلها تتحول إلى قوة فاعلة.
"التشديد النظري" إذن هو ذاك الذي يتعلق بـ "المثقفين" من الفئات الوسطى، حيث دون صهر أيديولوجي عبر تمثل عميق للماركسية لن يكون بامكانهم الاندماج بالطبقة والتعبير عن مصالحها. رغم أن المطلوب تطوير وعي الطبقة عبر أشكال متعددة يقوم بها الحزب الماركسي. إن الحزب هو اندماج فئة مثقفة بالعمال والفلاحين الفقراء تأسيساً على مصالح هؤلاء، والتزاماً بها، بهدف قيادتهم النضال لتحقيق المهمات الديمقراطية في صيرورة الوصول إلى الاشتراكية. وبالتالي فإن وعي الماركسية هو أساس تحويل فئات وسطى (محدودة) إلى صف العمال والفلاحين الفقراء، لكي تصاغ الرؤية انطلاقاً من الماركسية وبالترابط مع "الحس السليم" لهؤلاء.
ولقد توضح، كما أشرنا قبلاً، بأن عدم تمثّل الماركسية والاكتفاء بـ "أيديولوجية" رثة (هي الماركسية السوفيتية)، أو الاعتماد على حفظ النصوص الماركسية، قد أفضى إلى أن تهيمن الفئات الوسطى بمصالحها وأوهامها على الحركة الشيوعية، وكا التيارات الماركسية التي نشأت. وبدل أن تعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء جرت هؤلاء إلى رؤى الفئات الوسطى وأوهامها.
المطلوب بالتالي ماركسية تندمج بصراع العمال والفلاحين الفقراء من أجل التغيير الثوري، ولتكون وعيهم الحقيقي، و"العقل" الذي يرشدهم في الرؤية العامة وفي التكتيك، كما في الممارسة.

5-بعد كل ذلك يجب أن يكون للماركسية اليوم رؤية أخرى، ربما هي نقيض تلك التي راجت في الوطن العربي خلال معظم القرن العشرين، وربما هي استعادة للتلمسات الأولى التي حاولت أن تتبلور فيها خلال عقد من نشوئها. وأيضاً ربما حملت بعض اندفاع وجرأة وتلمسات الموجة الثانية التي نشأت بعد هزيمة سنة 1967. لكنها تحمل كل الجدة التي يفرضها تغير العالم، وتتضمن كل الخبرات التي تراكمت، وتؤسس انطلاقاً من طبيعة التناقضات التي تحكم العالم اليوم، وتطرح الرؤى التي تعبّر عن حلم العمال والفلاحين الفقراء في التغيير وتحقيق المهمات الديمقراطية كخطوة لا بد منها على طريق انتصار الاشتراكية.
الماركسية اليوم ضرورة، بل ضرورة حاسمة، لكن ليست تلك التي انتشرت في الوطن العربي، ولا تلك التي انبنت على أفكار "العلماء" السوفيت، فهذه ليست ماركسية بل أيديولوجية فئة حاكمة كيّفت الماركسية مع مصالحها، وعممتها عالمياً كونها "الماركسية الشرعية"، ولقد نبعت شرعيتها من قوة الدولة السوفيتية، ومن الأمل الذي كانت تنشره في كل أسقاع العالم.
والماركسية التي هي ضرورة يجب أن تنطلق من أن ما أضافه ماركس، وربما الأهم فيما قدّم، هو طريقة التفكير، أي الجدل المادي الذي هو طريقة التفكير الأرقى من المنطق الصوري بالحتم (رغم تضمنه لهذا المنطق كتحديد أولي)، والتي على ضوء تملكها يمكن صياغة رؤية العمال والفلاحين الفقراء، وتحديد بديلها القومي والعالمي.
في هذا السياق يجب تفكيك أيديولوجية الحركة الشيوعية من جهة، ولكن الأهم، من جهة أخرى، هو تأسيس تصورات مطابقة للواقع لأنها تنبني على وعي الواقع تأسيساً على الجدل المادي.
وإذا كانت الحركة الشيوعية في الماضي هي جزء "تابع" في المنظومة الاشتراكية، ومخضعة لمركز القرار السوفيتي، يجب أن تتأسس حركة شيوعية تعي ذاتها، متمحورة على الذات إذا أردنا استعارة مصطلحات مدرسة التبعية. ثم بالتالي يجب أن تعي بأن التطور والتغيير في بلادنا ليس ممكناً إلا عبر فعلها. وهنا يجب اسقاط المراهنات على برجوازية لم تعد موجودة إلا في الأوهام، أي برجوازية تحقق التطور عبر انجاز المهمات الديمقراطية، فالتطور الصناعي والزراعي، والاقتصاد عموماً، وكذلك التطور المجتمعي وتطور الوعي، هو فقط منوط بانتصار العمال والفلاحين الفقراء كطبقة، وبالماركسية كرؤية وكحزب مندمج فيها.
لا مراهنات على التطور الرأسمالي، بل أن الأساس هو أن يحقق الشيوعيين المهمات الديمقراطية في سياق الانتقال إلى الاشتراكية.
وكل ذلك يعني واقعياً أن تقود الصراع ضد الإمبريالية التي لازالت تتوسع وتهيمن وتنهب وتدمر، وتفقر الشعوب. ومع الطغم المالية التي تتوسع في نهبها، وفي تدمير المجتمعات والبيئة واشعال الحروب. كما ضد الرأسماليات الكومبرادورية التابعة التي تحكم وتهيء للسيطرة الإمبريالية. هذا هو التناقض الأساسي بغض النظر عن تجليه في كل منطقة. هذه هي مهمة الشيوعيين سواء في البلدان المحتلة أو في البلدان التابعة، وعلى صعيد عالمي.
إن الصراع مع المشروع الصهيوني هو صراع طبقي، لأن الوجود الصهيوني يقوم على أساس كون الدولة الصهيونية هي مرتكز عسكري (وإن اتخذ شكل مجتمع ودولة) لفرض السيطرة الإمبريالية. وبالتالي هو جزء أساسي في آليات فرض التجزئة والتخلف، وكبح كل مكونات التطور، وبالتالي فهو جزء من القوى التي تشكل التناقض الأساسي في كل بلد عربي، وعلى المستوى العربي العام.
والماركسية التي تحدد أشكال الصراع انطلاقاً من طبيعة التناقضات تفرض أن تكون المقاومة، وأساسها المقاومة المسلحة، هي أساس حل التناقض مع القوى المحتلة، وأن أي شكل آخر للحل لا يعبّر عن رؤية صائبة. ولهذا يجب أن تكون قوة قتال في فلسطين والعراق وكل منطقة خاضعة للاحتلال. هذا هو شكل صراعها الأول والأساس، وهو الشكل الوحيد القادر على تحقيق الاستقلال كما أوضحت تجارب الماركسية في آسيا في أميركا اللاتينية ومناطق أخرى طيلة القرن العشرين.
وهي معنية بتطوير الصراع الطبقي ضد الرأسمالية الكومبرادورية الحاكمة من أجل استلام السلطة. وسيكون النضال الطبقي هو شكل الصراع، الذي يتمظهر في الإضرابات ومختلف أشكال الاحتجاج، وصولاً إلى الانتفاضة أو الثورة أو الإضراب العام كما تقتضي الظروف الواقعية. لكن يجب أن يكون واضحاً بأن المطلوب هو تطوير الصراع وتعميق التناقض، من أجل التغيير الثوري.
إذن، الماركسي هو من يفكر في تطوير الصراع القومي ، والطبقي، وليس من يفكر في المساومات، والسقوف المنخفضة، والتواجد في الرقعة السياسية، والتكيف مع الاحتلال أو مع الكومبرادور المسيطر. الماركسي هو من يخوض الصراع وليس من تخمده. رغم ضرورة المساومة في لحظة ما، وضرورة الدعوة إلى الإصلاح كمسار تكتيكي من أجل تحشيد الطبقة ودفعها إلى النضال الثوري.
الماركسية اليوم هي بالتالي تملُّك الوعي، وفهم عميق للواقع. والماركسية اليوم هي نظرية صراع الطبقات وليس مبرر مساومة.


يساريّو تونس ومصر: سقوط مدوٍّ
سلامة كيلة
دافعت الحكومة الفرنسية عن النظام في تونس حتى آخر لحظة، واتّسم الموقف الأميركي بقدر من التريث والانتباه إلى أنّ الوضع مقلق. لهذا دفعت واشنطن الى الصيغة التي تقوم على التخلّي عن بن علي، لكنّها تمسكت بأن يبقى رجاله في السلطة لقيادة المرحلة الانتقالية، مع إدخال بعض أحزاب المعارضة التي كان معترفاً بها، أي حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقاً) والحزب الديموقراطي التقدمي (الحزب الاشتراكي التقدمي سابقاً) وحزب لبرالي آخر.
أدّت أحزاب دوراً في الانتفاضة (حزب العمال الشيوعي، وقواعد الحزب الديموقراطي التقدمي)، وكان هناك طيف واسع من الكادر الماركسي المشتّت نشط في فروع الاتحاد العام التونسي للشغل، وفي اللجان التي تألّفت تعبيراً عن «التنظيم الذاتي للانتفاضة». لكن تشتّت القوى الماركسية، والحساسيات التي تحكم العلاقة في ما بينها نتيجة تناقض التكتيكات في المرحلة السابقة من الصراع ضد نظام بن علي، أفسح المجال للقوى المساومة لأن تقبل القسمة الجديدة بحماسة شديدة. فحركة التجديد لم تشارك في الانتفاضة، وكانت مواقفها مهادنة الى أبعد الحدود (مع وجود قوى قاعدية فيها اتخذت موقفاً آخر). وبالتالي كان طبيعياً أن تقفز الى السلطة حين طُرح عليها ذلك. فهي لا تؤمن بطاقات الطبقات الشعبية، ولم تكن تعرفها أصلاً، وتعتقد بأنّ مشاركتها في الحكومة ستغيّر من طبيعة السلطة أو تحسّن من طبيعة الطبقة المسيطرة (البرجوازية المافياوية). وهي، أي الحركة، وافقت على إصلاحات بن علي ذاته ولم تطرح رحيله.
أما أحمد نجيب الشابي، فقد كان ينتظر، منذ زمن، اللحظة التي يصبح فيها شريكاً في السلطة، على أمل أن يحقق تغييراً عميقاً في المستوى الديموقراطي. هو لا يطرح مسألة تجاوز الرأسمالية أصلاً، منذ أن حوّل الحزب الى حزب ديموقراطي. ولقد قاد الحزب في هذا الاتجاه، معلّلاً ذلك بالتغيير من «الداخل»، ربما كما يفعل كلّ من يطمح الى المشاركة بالسلطة، بغضّ النظر عن طابعها. وهو أيضاً وافق على إصلاحات بن علي.
في المقابل، كانت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل معيّنة من بن علي، أو على الأقل ليست في تناقض معه. وهي همّشت دور الاتحاد، ووضعته في سياق سلطوي، وبالتالي، ونتيجة ضغط القاعدة، حاولت تعميق التغيير، وأفلحت من حيث الشكل، لكنّها لم تطرح مطالب العمال الذين تعبّر عنهم.
لذلك، نجح الحلّ المطروح أميركياً، وما تحقق هو انفراج ديموقراطي أوسع، مؤقتاً (وهذه «المؤقتاً» مهمّة لأنّ الطبقة المسيطرة ستقضم ما تحقّق في المرحلة المقبلة). لكن الأهم هو ثقة الطبقات الشعبية بذاتها، وبدورها، ثم ستكون لذلك نتائج لاحقة في سياق تطور الصراع. فالحلّ الأميركي يعتمد على إيجاد شكل ديموقراطي ينفّس أزمة المجتمع من خلال «الكلام». لكن هذه وصفة الثمانينيات والتسعينيات، الناجحة في بلدان أوروبا الشرقية وروسيا، حيث الوضع مختلف جذرياً عما هو في بلدان مثل تونس ومصر وكلّ الأطراف. وبالتالي فإنّ الحل «الشكلي» لن يطعم خبزاً، أو يوفر فرصة عمل لطبقات جائعة. في مصر، وقفت البلدان الأوروبية مع تغيير حسني مبارك منذ البدء، وظلّت أميركا تدافع عن النظام، وتؤكد قوّته إلى ما بعد أسبوع على بدء انتفاضة «25 يناير». كذلك أظهرت واشنطن كلّ ما يفيد بأنّها تدعم سلطة مبارك، وترفض التغيير. لكنّها توصّلت الى أنّ الأمور في تفاقم، والوضع يسير نحو انفلات السيطرة، وأنّ الشارع يفرض بديله بعيداً عن دورها وحساباتها. لذلك، اندفعت بنحو جنوني نحو فرض التغيير، انطلاقاً من رحيل مبارك أو اختفائه، وتسلّم عمر سليمان السلطة، وحلّ مجلسَي الشعب والشورى، والحكومة، وتأليف حكومة مؤقتة، تشارك فيها «المعارضة»، و«ممثلو الشباب»، من أجل انتخابات جديدة وانفراج ديموقراطي.
فالولايات المتحدة واضحة في دعمها للطبقة المسيطرة، ولكلّ السياسات التي مارستها في العقود الماضية، وهي معنيّة بأن تبقى في السلطة، وألّا يصل إليها إلا من يتوافق معها. الأمر الذي دفعها الى التأكيد أنّ أيّ تغيير يجب أن يلتزم الموافقة على كلّ الاتفاقات الموقّعة، من اتفاق كامب دايفيد الى الاتفاقات العسكرية، الى التوافق السياسي مع سياستها العالمية. هذا الوضع الذي يحكم الموقف الأميركي، فرض التسارع في تحقيق تغيير مضبوط، كما جرى في تونس، إذ تستفيد واشنطن من كلّ النشاط «الأيديولوجي» والدعائي السابق، ومن موجة الدمقرطة التي أطلقتها من أجل حصر المسألة في «الرئيس»، المستبد، الذي بقي طويلاً في السلطة. أما السياسة الاقتصادية التي ترسمها الشركات الإمبريالية، والسياسات الإقليمية والدولية التي تتبع ذلك، فيجب أن تكون خارج البحث، ويجب استباق تصاعد الصراع لإيجاد حل يحافظ عليها.
بالتالي، جاء التدخل الأميركي من أجل ذلك، وليس حباً بالشعب المصري، أو أملاً في تحقيق نظام ديموقراطي، بعد دعم طويل لنظام فاسد وبوليسي. ولن تتورع من أن تعيد الكرّة، بعد أن يهدأ الوضع وتستكين الطبقات الشعبية، إذ إنّ النهب المفرط يفترض شكلاً من أشكال الدكتاتوريات، لا النظم الديموقراطية. ولهذا تراجعت مواقف باراك أوباما الصارمة بضرورة رحيل مبارك بعد أيام من طرحها. بدأ التراجع حينما شعر بأنّ مبارك استطاع أن يحجّم الانتفاضة ويحصرها في ميدان التحرير، قبل أن تتوسع إلى حركة إضرابات عمالية واسعة، تبعتها حركة إضرابات طالت موظفي الدولة. لكنّه عاد وضغط من أجل رحيله، خوفاً من سيطرة شعبية شاملة على الوضع، وبالتالي انضمام الجيش إلى الشعب.
لذلك، كانت المراهنة على دور الجيش، والصيغة التي يمكن أن تُخرج الصراع من مأزقه، نتيجة أنّ الطبقات الشعبية صمدت ولا تزال صامدة، لكن ليس لديها خطة للتقدم من أجل فرض التغيير. وما كان يجري هو انتظار حلّ «مقبول» يطرحه الجيش أو من يعبّر عنه. حلّ يفترض إما مشاركة قوى معارضة في حكومة تقوم بعد رحيل مبارك، أو تأليف حكومة انتقالية من أطراف في السلطة مدعومة من الجيش وأطراف معارضة (مثل الأحزاب الشرعية، الوفد والتجمع وحزب الجبهة، أو نصف الشرعية مثل حزب الغد، وأيضاً الجمعية الوطنية للتغيير التي يرأسها البرادعي، وبعض هيئات المجتمع المدني والشخصيات المستقلّة). حكومة تشرف على مرحلة انتقالية يُعدّ فيها دستور جديد، ثم تجرى انتخابات جديدة.
ولقد فرض الحلّ الذي جعل الجيش هو المتحكم بالمرحلة الانتقالية من دون تغيير حكومة أحمد شفيق التي عيّنها مبارك، الذي عمل على تحقيق أقلّ قدر ممكن من التنازلات (حتى استقال شفيق). هكذا حُصرت المسألة في رحيل حسني مبارك، واعتقال بعض رموز المرحلة الماضية، وتهميش الحزب الوطني، لكن مع إبقاء رموزه في الحكومة. فتحققت، لفترة، الخطة التي وضعها حسني مبارك، والقائمة على تعديل بعض مواد الدستور التي تتعلق بانتخاب الرئيس لا بصلاحياته، وحلّ مجلسي الشعب والشورى، وبالتالي الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية ف ي فترة ستة أشهر. ولا بد من ملاحظة أنّ هذه الفترة القصيرة لن تمكّن قوى الانتفاضة من أن تتنظم لكي تكون مهيّأة لانتخابات حرّة، وبالتالي ستكون النتيجة هي نجاح القوى المنظّمة أصلاً (الإخوان المسلمين) وبقايا الحزب الوطني، وبعض اللبراليين الذين برزوا في الإعلام، خلال السنوات الماضية. وعلى صعيد الرئيس، يبدو عمرو موسى هو الأوفر حظاً، وهو من صلب سلطة مبارك.
ما يمكن أن يعدّل في ذلك هو استمرار تماسك قوى الانتفاضة، وأقصد الطبقات الشعبية بالتحديد التي أظهرت قوّة هائلة وصموداً بطولياً، ودفعها إلى إسقاط هذه الخطة، وتأليف الحكومة الجديدة (برئاسة عصام شرف) قد يدخل في هذا الإطار. رغم غياب القوى الجذرية تماماً هنا، بدت المشاركة نشاطاً فردياً، لا بإعداد حزبي، أو رؤية واضحة. فقد كان الشك هو حاكم هؤلاء لإمكانية نجاح انتفاضة في هذا الوقت بالذات. والأسوأ هو الموقف المخزي لقيادة حزب التجمّع، برغم مشاركة أفراد منه في الانتفاضة منذ البدء، ومساهمتها في الدعوة إليها. وأظن أنّ الزمن قد تجاوز هذا الحزب، ويجب أن يصبح من الماضي. أما القوى الماركسية الأخرى، فقد اسهم بعضها في الدعوة إلى الإضراب يوم 25 يناير/كانون الثاني. كذلك شاركت فيها، لكن دون استراتيجية أو فاعلية، أو حتى الاستفادة في الدعاية لأهداف ورؤيات، أو محاولة تعميق الجانب الذي يهمّ معظم هذه الجموع الهائلة، أي من خلال التركيز على طرح المطالب التي تتعلق بالأجور والبطالة والفساد ونهب الطبقة المسيطرة، وبالدعوة إلى نمط اقتصادي جديد. وهو الأمر الذي بات يحصر المطالب في المطلب الديموقراطي، رغم أنّ انتفاضة الطبقات الشعبية انطلقت مما هو اقتصادي: البطالة والفقر والأرض والصحة والتعليم والتدمير الذي تحدثه الطبقة المسيطرة في كل مناحي الحياة.
إذن، الانتفاضة شعبية شاملة، والإخراج سيكون أميركياً ولن يقود الى تحقيق أي من أهداف الطبقات الشعبية. فقط متنفّس ديموقراطي، وهو متنفس قد يكون أقلّ كثيراً ممّا أراد الشعب.
الاثنين ١٤ آذار ٢٠١١


ردّاً على عصام العريان: ماذا يطلب الإخوان؟


سلامة كيلة




مشجعو فريق الزمالك لكرة القدم يتذكرون شهداء الثورة المصرية (عمرو عبد الله دلش ــ رويترز)


أشار عصام العريان في مقاله «يوميات الثورة» إلى دور الإخوان المسلمين وموقفهم في ثورة 25 يناير/ كانون الثاني المصرية («الأخبار»، 24 شباط 2011، العدد 1347). وتحدث العريان عن مشاركة الإخوان في هذه الثورة من دون أن يوضح بأنّ القرار الذي اتُّخذ قبل أيّام من إضراب 25 يناير/ كانون الثاني كان عدم المشاركة، وأنّ قرار المشاركة في يوم الغضب (28/1/2011) اتخذ بعد نجاح اليوم الأول من الإضراب وتحوّله إلى انتفاضة. ولا شك في أنّ شباباً من الإخوان قد شاركوا في اليوم الأول، وكذلك بعض الشخصيات القيادية بصفتها الشخصية. لكن، لا بد من التأكيد أنّ تحوّل الرفض إلى مشاركة جاء نتيجة إحساس القيادات الإخوانية بأنّ الشباب قد نجحوا «في كسر حاجز الخوف من جديد»، وأنّ «لعبة الفايسبوك» و«شباب المقاهي والنت» قد فجّروا ثورة لا يمكن تجاهلها.
أشير إلى هذه النقطة من أجل فهم التكتيك الذي اتبعته قيادة الإخوان خلال الثورة، وتتبعه الآن. فقد ترددت في البدء، ثم حاولت الاستفادة من الحدث، للحصول على اعتراف النظام بها حين دعاها عمر سليمان، بعدما أصبح نائباً للرئيس، إلى الحوار. كما حاولت الوصول إلى تفاهمات، بعدما كانت قد قدّمت مطالب عشرة في بيان لها صدر يوم 19/1/2011 إثر الاجتماع الذي اتُّخِذ فيه قرار عدم المشاركة في الإضراب يوم 25 يناير/ كانون الثاني، والتي يشير الأستاذ عصام إلى «تحقق ما هو أعظم منها وأكبر». ولهذا يرى أنّه «بدأ تحقق معظم هذه الأهداف على أرض الواقع»، رغم أنّ الشعارات، التي طرحها الشباب والقوى التي قادت الثورة يوم الانتصار في 18/2/2011 ويوم الجمعة في 25/2/2011، قالت إنّ ما تحقق هو جزئي وهامشي. ولهذا بدأ الإخوان النسج على منوال المجلس العسكري في رفض الإضرابات العمالية والمطلبية، واعتبار أنّها تضرّ بالثورة ونتائجها. وذلك رغم أنّ هذه المطالب هي الأساس في دفع كل هؤلاء البشر إلى تحدي سلطة غاشمة والتظاهر في عز الرعب الذي كان يمثّله الأمن المركزي.
بالتالي، فإنّ ما يظهر هو الميل إلى التوافق مع الحل الذي طرحه المجلس العسكري، والذي يتقاطع بما قام به مع المطالب العشرة التي أشار إليها العريان. مطالب يرفضها الشعب.
ولا شك في أنّ شباب الإخوان شاركوا بفعالية رغم أنّ حجمهم لم يكن كبيراً في هذا الفيض الهائل من البشر، وتنبّهوا لتكتيك القيادة بعدما حاورت النظام الذي عملوا على أن يكون بائداً، فـ«الشعب يريد إسقاط النظام» لا رحيل حسني مبارك فقط. وآمل أن يظل هؤلاء مع الشعب في مطالبه وليس القبول بحلّ «وسط»، أو حلّ التفافي يمكن أن يجري الآن، وخصوصاً أنّ الولايات المتحدة رفعت الفيتو على مشاركة الإخوان المسلمين في السلطة، وهو ما رحّب به هؤلاء. أما بخصوص المطالب العشرة، فهي أقلّ ممّا طرحته الثورة طبعاً. فلم يطرح الإخوان إسقاط النظام، وطالبوا بما هو توافقت عليه كلّ القوى والطبقات التي شاركت في الثورة، وبعضها لم تطرحه أطراف في اليسار، مثل الإصلاح الاقتصادي الحقيقي الذي يقوم على الاستفادة من الفوائض المالية في الصناديق الخاصة، وتعديل أسعار الأرض التي بيعت بأبخس الأثمان والغاز المصدَّر إلى الدولة الصهيونية، وما إلى ذلك، وكذلك الإشارة إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية. الجماعة لا تزال تتمسّك بالدستور الحالي، ولم تتعدَّ مطالبتها بالتعديل ما طرحه حسني مبارك أو اللجنة التي ألّفت لهذا الغرض.
فالإخوان في تصريحاتهم، ومنهم عصام العريان، لا يزالون يتمسّكون بالتعديل الدستوري رغم أنّ مطالب الشعب تتمثّل في كتابة دستور جديد. ولا شك في أنّ الهيكل العام للدستور الحالي، الذي يكرّس السلطة المطلقة بيد الرئيس، لا يتعارض مع المنطق العام الذي يحكم الجماعة، ولهذا لم يطرحوا غير التعديل. ثم إنّ الجماعة مصممة على بقاء المادة الثانية من الدستور التي ترى أنّ الإسلام هو مصدر التشريع، وقال العريان في مقابلة معه إنّ هذه المادة فوق الدساتير، ولا يجوز المساس بها. فهي المدخل إلى «الأسلمة»، ولقد كانت السند القانوني لمحاكمة نصر حامد أبو زيد، وإعطاء طابع ديني للسلطة القائمة. يحدث ذلك في الوقت الذي يطرح فيه الشعب (والشباب الذي أسهم بفعالية في الثورة) هدف بناء «الدولة المدنية». طبعاً، هناك مطالب عدّة طرحتها الثورة ولم تتضمّنها مطالب الإخوان العشرة، مثل حق العمل والحد الأدنى للأجور. وأيضاً، هناك مطالب لا تطرحها الجماعة مثل إعادة الأرض للفلاحين بعدما صادرها النظام منهم بقانون صدر سنة 1997، لأنّ الإخوان أيدوا موقف الحكومة، آنذاك. وكذلك لا يطالب الإخوان بإعادة تأميم الشركات والمصانع التي بيعت بثمن بخس وكانت مجال إثراء المافيات الحاكمة، فهذه مناقضة لمنطقهم، ولقد أيدوا البيع كذلك. وهذه المسائل هي التي جعلت الثورة ممكنة أكثر من أي شيء آخر، رغم أهمية المطلب الديموقراطي وتأسيس دولة مدنية. لهذا، سيكون الصراع قوياً بين منطق الجماعة والطبقات الشعبية من جهة، وكلّ الفئات التي تعمل على تأسيس دولة مدنية من جهة أخرى. وهو الصراع الذي سوف يعيد ترتيب وضع القوى واصطفافاتها، بما في ذلك مع أو ضد المجلس العسكري، والدولة التي لا تزال دولة حسني مبارك.
النقطة الأخيرة التي تفتح على تلمّس إمكانات الاصطفافات الجديدة، هي إشارة العريان إلى أنّه قد بدأ تحقق معظم الأهداف التي طرحتها الجماعة، أي الأهداف العشرة، رغم أنّ ما تحقق منها هما البندان الثاني (حلّ مجلس الشعب) والثالث (التعديلات الدستورية)، والتوافق على إنهاء حالة الطوارئ بعد ستة أشهر. ربما تكون الصيرورة التي اختارها المجلس العسكري مناسبة للجماعة، ولهذا رأى العريان أنّه بدأ تحقق معظم الأهداف، وخصوصاً أنّ لجنة تعديل الدستور ضمت شخصاً من الإخوان.
كلّ ما أشرت إليه يهدف إلى طرح السؤال الآتي: ماذا يريد الإخوان الآن؟ هل الإكمال مع الشعب أم التوافق مع المجلس العسكري الذي بات يمثل السلطة ذاتها التي صاغها حسني مبارك، مع تعديلات ضرورية يجريها من أجل امتصاص نتائج الثورة؟
ظنّي بأنّ الأمور تشير إلى تحالف جديد بين الجماعة والمجلس العسكري. ولا شك في أنّ استعجال الانتخابات سوف يساعد على أن تحصل الجماعة على عدد كبير من المقاعد وأن تشارك في الحكومة التي تلي الانتخابات. عندها، ستسقط كل مطالب الثورة وكلّ «أحلام» الشباب، حتى شباب الإخوان. فالجماعة لا تختلف مع النظام في النمط الاقتصادي الذي يجب أن يسود، لأنّها تنشط في المجالات ذاتها التي تنشط فيها الرأسمالية المسيطرة، أي التجارة والخدمات والعقارات. وبالتالي، فهي ليست معنية بتغيير هذا النمط، وكان يبدو من خلال الصراع المرير في الماضي أنّها تبحث عن موقع لها، وعن حصة لمصالحها.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire