jeudi 19 mai 2011

انطونيو غرامشي - دفاتر السجن

«لقد كانت هذه الكراسات بؤرة حياتي الداخلية»

انطونيو غرامشي


القسم الأول

قضايا التاريخ والثقافة

1- المثقفون

الحجة الرئيسية التي طرحها غرامشي في مقاله عن المثقفين حجة بسيطة: إن تصور «المثقفين» كفئة اجتماعية متميزة ومستقلة عن الطبقة ليس إلا خرافة، فكل الناس يمكنهم أن يكونوا مثقفين، بمعنى أن لديهم ذكاء، وأنهم يستخدمونه. ولكنهم ليسوا جميعا مثقفين من حيث الوظيفة الاجتماعية. وينقسم المثقفون من الناحية الوظيفية إلى جماعتين: فهناك أولا المثقفون المحترفون «التقليديون» "traditional intelellectuals " كالأدباء، والعلماء، وغيرهم، الذين تحيط بهم هالة من الحياد بين الطبقات، تخفي وضعهم الحقيقي الناشئ في النهاية عن علاقاتهم الطبقية السابقة والراهنة، كما تخفي تعلقهم بالتكوينات الطبقية التاريخية المختلفة. وهناك ثنايا المثقفون «العضويون» "organic" " intelellectuals " ذلك العنصر المفكر والمنظم في طبقة اجتماعية أساسية معينة. ولا يتميز هؤلاء المثقفون العضويون بمهنهم، التي قد تكون أية وظيفة تتميز بها الطبقة التي ينتمون إليها، بقدر ما يتميزون بوظيفتهم في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها عضويا.

وتؤثر مضامين هذا التصور العام البالغ التفرد في كل جوانب فكر غرامشي. فهو من الناحية الفلسفية يرتبط بقول غرامشي أن «كل الناس فلاسفة». كما يتصل بكل مناقشته لقضية انتشار الإيديولوجية والأفكار الفلسفية في ثقافة معينة. وهي تتصل أيضا بأفكاره عن التعليم التي تؤكد على الطبيعة الديمقراطية للوظيفة الثقافيةfunction intelellectual، وعلى الطبيعة الطبقية لعملية تكوين المثقفين عن طريق المدرسة. كما يمكن هذا التصور خلف دراسة غرامشي للتاريخ، وبصفة خاصة دراسته «لحركة النهضة والوحدة الايطالية في القرن التاسع عشر» "Risorgemento". وهذا يتمثل في رؤيته للوظيفة الجوهرية للمثقفين بالمعنى الواسع، وظيفة الوسيط بين القوى البقية المتصارعة.

وقد يكون الأهم من هذا كله الدلالات التي ينطوي عليها هذا التصور العام بالنسبة للصراع السياسي. فقد كانت الاشتراكية الديمقراطية المثالية لكاوتسكي، تميل إلى النظر إلى العلاقة بين المثقفين والعمال في الحركة الاشتراكية نظرة ميكانيكية، حيث يقدم المثقفون (اللاجئون الفارون من الطبقة البرجوازية) النظرية والإيديولوجية (والقيادة في أغلب الأحيان) لقاعدة جماهيرية من غير المثقفين، للعمال. وقد وجد هذا التقسيم للعمل داخل الحركة معارضة شديدة من جانب لينين الذي أعلن في: ما العمل؟ أنه في الحزب الثوري ينبغي أن تمحى «كافة الفروق بين العمال والمثقفين». ويرتبط موقف لينين من قضية المثقفين ارتباطا وثيقا بنظريته في الحزب الطليعي. وعندما كتب عن الحاجة إلى نقل الفكر الاشتراكي إلى الطبقة العاملة من خارجها، كان يتطلع إلى القيام بهذه المهمة لا إلى الانتلجنتسيا التقليدية، وإنما إلى الحزب الثوري ذاته، الذي ينصهر فيه العمال والمثقفون المحترفون السابقون في وحدة واحدة متماسكة. وطوَّر غرامشي هذا التصور اللينيني المبسط بربطه بقضايا الطبقة العاملة ككل. فالطبقة العاملة شانها شأن البرجوازية قبلها، قادرة على أن تنمي من داخل صفوفها مثقفيها العضويين. ووظيفة الحزب السياسي، سواء كان طليعيا أم جماهيريا هي أن يكون قناة لنشاط هؤلاء المثقفين العضويين. وأن يكون همزة الوصل بين الطبقة العاملة وبعض قطاعات الانتلجنتسيا التقليدية. إن ما يحدد المثقفين العضويين للطبقة العاملة، هو دورهم في الإنتاج، وفي تنظيم العمل من جهة، ودورهم «القيادي» "directive" السياسي الذي يتركز في الحزب من جهة أخرى. فبهذا التصدي الواعي للمسؤولية الذي يستند إلى استيعاب الأفكار وإلى الكوادر التي تنتمي إلى أكثر شرائح مثقفي البرجوازية تقدما، هو السبيل إلى تخلص البروليتاريا من النزعة الطائفية الدفاعية "defensive corporatism"، ومن الانحراف الاقتصادي economism، والتقدم لتولي القيادة Hegemony.

*************

تكوين المثقفين

هل المثقفون جماعة اجتماعية متميزة ومستقلة، أم أن لكل جماعة اجتماعية فئة المثقفين المتخصصة الخاصة بها؟ إنها قضية معقدة، نظرا لتنوع الأشكال التي اتخذتها حتى الآن العملية التاريخية لتكوين مختلف فئات المثقفين، وأهمها شكلان:

1- إن كل جماعة اجتماعية تظهر إلى حيز الوجود في عالم الإنتاج الاقتصادي، حيث تؤدي وظيفتها الجوهرية، تخلق معها عضويا شريحة أو أكثر [29] Strata من المثقفين، تمنحها التجانس والوعي بوظيفتها، لا في الميدان الاقتصادي وحده، بل في الميدانين الاجتماعي والسياسي أيضا. فالمنظم الرأسمالي يخلق إلى جانبه الفني في الصناعة، والمتخصص في الاقتصاد السياسي، ومؤسسو الثقافة الجديدة، ومبدعو النظام القانوني الجديد، الخ.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المنظم ذاته يمثل مستوى أعلى من حيث التطور الاجتماعي. فهو يتميز بالفعل بمقدرة قيادية (dirigerte) ، وتكنيكية معينة (أي مقدرة فكرية intellectual ). فينبغي أن تكون لديه مقدرة تكنيكية خاصة، لا في مجال نشاطه ومبادرته المحدود فحسب، بل في ميادين أخرى أيضا، على الأقل تلك التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالإنتاج الاقتصادي. فيجب أن يكون قادرا على تنظيم جماهير الناس، وعلى خلق الثقة لدى المستثمرين في منشأته، ولدى الزبائن في منتجاته، الخ.

وإذا لم يكن لدى كل المنظمين enterpreneurs المقدرة على تنظيم المجتمع عامة، ابتداء من أجهزة الخدمات المعقدة حتى جهاز الدولة، فينبغي أن تتوفر هذه المقدرة التنظيمية، على الأقل في نخبة élite من بينهم [30]، ذلك لأن هناك حاجة إلى خلق أفضل الظروف لتوسع طبقتهم، وأن يكونوا قادرين على الأقل على اختيار من يمثلونهم (موظفون متخصصون) الذين يعهدون إليهم بالقيام بهذا النشاط المُنَظِّم للنسق العام للعلاقات القائمة خارج مجال الأعمال ذاتها. ويلاحظ أن المثقفين «العضويين» الذين تخلقهم أية طبقة جديدة إلى جانبها، وتصقلهم خلال تطورها، يمثلون في أغلب الأحوال «تخصصات» في بعض الجوانب الجزئية للنشاط الأصلي للنمط الاجتماعي الجديد الذي برز على أيدي الطبقة الجديدة. [31]

حتى اللوردات الإقطاعيين كانوا يملكون مقدرة فنية من نوع خاص، مقدرة عسكرية. وكان فقدان الارستقراطية لاحتكارها الفن العسكري إيذانا بأزمة النظام الإقطاعي. أما قضية تكوين المثقفين في العالم الإقطاعي وفي العالم القديم قبله، فينبغي أن تبحث على استقلال، وأن تدرس سبل ووسائل تكوينهم وتطورهم دراسة عينية. وتجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من أن كتلة الفلاحين تقوم بوظيفة أساسية في عالم الإنتاج، فإنها لم تخلق مثقفيها «العضويين»، ولم «تستوعب» أية شريحة من شرائح المثقفين «التقليديين» بالرغم من أن الفلاحين هم من تستمد منهم الجماعات الاجتماعية الأخرى معظم مثقفيها، فضلا عن أن نسبة عالية من المثقفين التقليديين من أصل فلاحي. [32]

2- ومن ناحية أخرى، فإن أية جماعة اجتماعية «أساسية» انبثقت تاريخيا عن البنية الاقتصادية السابقة، تجد كتعبير عن تطورها (على مر التاريخ كله وحتى الآن) فئات من المثقفين، يبدو لنا، أنها تمثل في الواقع استمرارية تاريخية، لم تقطعها حتى أعمق التغيرات في الأشكال السياسية والاجتماعية وأكثرها تعقيدا.

ورجال الدين هم النموذج الأمثل لهذه الفئات من المثقفين، التي ظلت تحتكر لفترة طويلة (طوال مرحلة تاريخية كاملة تميزت جزئيا بهذا الاحتكار) عددا من الخدمات الهامة: الإيديولوجية الدينية، أي فلسفة وعلم ذلك العصر، إلى جانب المدارس، والتعليم، والأخلاق، والقضاء، والأعمال الخيرية، الخ.

ويمكن اعتبار فئة رجال الدين فئة المثقفين المرتبطة عضويا بأرستقراطية ملاك الأرض. وهي تتمتع بمركز قانوني مساوٍ لها. فهي تشاركها في ممارسة حقوق الملكية الإقطاعية للأرض، وفي الاستفادة بامتيازات الدولة المرتبطة بهذه الملكية. [33]غير أن ممارسة رجال الدين لاحتكارهم في ميدان البنية الفوقية لم يخل من الصراع، ولم يكن بلا حدود. ومن هنا كان ميلاد فئات أخرى من المثقفين –اتخذت صورا مختلفة (ينبغي دراستها دراسة عينية عميقة)- شجعتها وساعدت على توسعها قوة السلطة المركزية المتنامية للملك، حتى قيام الحكم المطلق absulutism. وهكذا تكونت فئة من البرجوازيين الذين أصبحوا نبلاء noblesse de robe لها امتيازاتها الخاصة، تلك الشريحة من المديرين والعلماء والمنظرين والفلاسفة من غير رجال الدين وغيرهم...

وعندما اكتشفت هذه الفئات المختلفة من المثقفين التقليديين –بفضل «روح الفريق» " esprit de corps"- استمراريتها التاريخية، التي لم تنقطع، ومؤهلاتها الخاصة، طرحت نفسها كفئة متميزة ومستقلة عن الجماعة الاجتماعية المسيطرة. وكان لهذا التقييم الذاتي آثارا بعيدة المدى في الحقلين السياسي والإيديولوجي. ويمكن الربط بسهولة بين الفلسفة المثالية ككل، ووضع التركيبة الاجتماعية للمثقفين. ويمكن تعريف الفلسفة المثالية بأنها تعبير عن تلك اليوتوبيا الاجتماعية التي يتصور فيها المثقفون أنهم «مستقلون» ومتميزون، وأن لهم شخصيتهم الخاصة، الخ.

ومع ذلك، ينبغي أن نلاحظ أنه إذا كان البابا وكبار رجال الكنيسة يعتبرون ارتباطهم بالمسيح والرسل أقوى من ارتباطهم بالسناتور أنيللي Agnelli والسناتور بنيِّ Benni [34]. ، فإن هذا لا يصدق على جنتيلي Genteile وكروتشه Croce، فمثلا يشعر كروتشه بالذات بارتباطه الوثيق بأرسطو وأفلاطون، وإن كان من ناحية أخرى لا يخفي صلاته بالسناتورين أنيللي وبنيِّ. وهنا على وجه التحديد، يمكننا أن نتبين أهم ما يميز طابع فلسفة كروتشه.

ما هي الحدود «القصوى» للمعنى المتعارف عليه لكلمة «مثقف»؟

هل يمكننا التوصل إلى معيار واحد لتحديد الطابع المميز لكافة أنشطة المثقفين المتفرقة والمتنوعة، والتمييز في نفس الوقت، بصورة جوهرية، بينها وبين أنشطة التجمعات الاجتماعية الأخرى؟

يبدو لنا أن أكثر الأخطاء شيوعا، هو البحث عن معيار التمييز، في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين، بدلا من البحث في مجمل نسق العلاقات الذي تجري فيه هذه الأنشطة (وبالتالي جماعات المثقفين الذين يجسدونه) داخل المركب العام للعلاقات الاجتماعية. فالعامل أو البروليتاري مثلا، لا يتميز في الحقيقة بعمله اليدوي الآلي بالذات، وإنما بأدائه لهذا العمل في ظل ظروف معينة وعلاقات اجتماعية محددة (بصرف النظر عن أن العمل العضلي المحض لا وجود له. وحتى تعبير تيلور Taylor [35]

«الغوريللا المدرية» "trained gorilla" ليس إلا تعبيرا مجازيا، يبين الحد الذي يمكن أن يذهب إليه اتجاه معين: ففي أي عمل عضلي، حتى أكثر الأعمال تدنيا وآلية لابد أن يتوفر فيه حد أدنى من المؤهل الفني (أي الحد الأدنى للنشاط الفكري الخلاق). وكما سبق أن لاحظنا، لا بد أن يتمتع المنظم enterpreneur، بحكم وظيفته ذاتها، بقدر معين من المؤهلات التي لها طبيعة فكرية، وإن كان دوره في المجتمع لا يتوقف عليها، بل تحدده العلاقات الاجتماعية العامة التي تحدد على الأخص وضع المنظم في الصناعة.

يمكننا إذن، أن نقول أن كل الناس مثقفون، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع. [36] فعندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين non-intellectuals، فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة، أي تلك الفئة المهنية من المثقفين. أي أنه لا ينبغي أن يغيب عنا العنصر الغالب في نشاطهم المهني النوعي. الإبداع الفكري أم الجهد العضلي-العصبي muscualar-nervous effort. وهذا يعني أنه إذا كان بإمكاننا الحديث عن المثقفين، فإنه لا يمكننا الحديث عن غير المثقفين لأنه لا وجود لهم. بل أن نسبة الجهد العقلي إلى الجهد العضلي-العصبي في الإبداع الفكري ليست ثابتة. فهناك درجات متفاوتة من النشاط الفكري. ولا يوجد نشاط بشري خال من مساهمة شكل من أشكال النشاط الفكري، فلا يمكننا أن نفصل الإنسان الصانع Homo faber عن الإنسان كنوع homo sapiens . [37] وكل إنسان –في النهاية- يقوم –خارج نطاق نشاطه- المهني بشكل من أشكال النشاط الفكري، أي أنه «فيلسوف»، فنان، ذوّاق، يشارك الآخرين رؤيتهم الخاصة للعالم وله مسلكه الأخلاقي الواعي. وهو بهذا يساهم في المحافظة على رؤية معينة للعالم أو يشارك في تغييره. أي أنه يساهم بذلك في خلق طرائق جديدة في التفكير.

إن قضية خلق فئة جديدة من المثقفين هي إذن قضية التطوير النقدي critical elaberation للنشاط الفكري الذي يتمتع به كل الناس بدرجة أو بأخرى. وذلك بتغيير نسبته إلى النشاط العضلي-العصبي، لتحقيق توازن جديد بينهما ولضمان أن يصبح الجهد العضلي-العصبي ذاته –باعتباره أحد عناصر النشاط العملي العام، الذي يجدد باستمرار العالم والاجتماعي- لضمان أن يصبح أساسا لرؤية جديدة ومتكاملة للعالم.

إن النمط التقليدي الشائع للمثقف يتمثل في الأديب، والفيلسوف، والفنان. لذلك، فإن الصحفيين الذين يدعون أنهم أدباء وفلاسفة وفنانين يعتبرون أنفسهم أيضا المثقفين"الحقيقيين". لابد إذن، أن يشكل التعليم الفني ـ في العالم الحديث ـ المرتبط بالعمل الصناعي حتى في مستواه البدائي غير المؤهل، لابد أن يشكل أساس خلق مثقف من نوع جديد.

وعلى هذا الأساس عملت مجلة "أوردين نوفو" Ordine Nuovo [38] (8) الأسبوعية على تنمية أشكال جديدة من "العقلانية" "intellectualism" وتحديد مفاهيمها الجديدة. غير أن هذا لم يكن السبب الوحيد لنجاحها. فقد كانت هذه الرؤية تتفق مع الطموحات الكامنة، ومع تطور الأشكال الحقيقية للحياة. فلم يعد أسلوب المثقف الجديد يعتمد على البلاغة التي هي محرك خارجي مؤقت للمشاعر والعواطف، بل أصبح يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياة العملية كبانٍ ومنظم لها، "مهمته الدائمة الإقناع" لا أن يكون مجرد خطيب (ولكن فكره في نفس الوقت، أرقى من الفكر الرياضي المجرد). فمن التكتيك كعمل technique-as-work ينطلق الإنسان إلى التكنيك كعلم technique-as-science، والى المفهوم الإنساني للتاريخ، الذي بدونه يبقى الإنسان "متخصصا" "spechialised" دون أن يصبح "قائدا" "dirctive" [39] (متخصص وسياسي Specialised and political).

وهكذا تشكلت تاريخيا فئات متخصصة لممارسة الوظيفة الثقافية intellectual function. وقد ارتبطت هذه الفئات في نشأتها بكل الجماعات الاجتماعية، وعلى الأخص بأهمها. وارتبط تطورها الشامل والمعقد بالجماعة الاجتماعية المسيطرة. فأهم ما يميز أية جماعة تتجه إلى السيطرة، هو نضالها من أجل استيعاب المثقفين التقليديين، وإخضاعهم "إيديولوجيا". غير أن هذا يتحقق على نحو أسرع وأفعل إذا ما نجحت في نفس الوقت في إعداد مثقفيها العضويين.

إن النمو الهائل لنشاط التعليم بمعناه الواسع، وتطور تنظيمه في المجتمعات التي انبثقت عن العالم الإقطاعي، دليل على الأهمية التي اكتسبتها الوظائف الثقافية والفئات المثقفة في العالم الحديث. فإلى جانب محاولة تعميق وتوسيع "الجانب الفكري" "intellectuality" في كل فرد، كانت هناك أيضا محاولة للإكثار من التخصصات المختلفة، وتضييقها. وهذا يتجلى في المؤسسات التعليمية على كل المستويات، بما في ذلك الهيئات القائمة على تنمية ما يسمى "بالثقافة الرفيعة" في كافة ميادين العلم والتكنولوجيا.

والمدرسة هي الأداة التي تستخدم لخلق وتطوير المثقفين على اختلاف مستوياتهم. ويمكن ـ موضوعيا ـ قياس مدى تعقد الوظيفة الثقافية في الدول المختلفة بعدد ومستويات المدارس المتخصصة. فكلما اتسعت "مساحة التعليم" وزاد عدد مستوياته "الرأسية"، كلما زاد تعقد عالم الثقافة والحضارة في الدول المعنية. ويمكننا أن نجد شيئا مشابها لذلك في مجال التكنولوجيا الصناعية: فيمكننا أن نقيس مستوى تصنيع أي بلد بمستوى تجهيزه لإنتاج المعدات التي تنتج الآلات، ولصناعة أدوات أكثر دقة لإنتاج تلك الآلات وهلم جرا... والبلدان الأفضل تجهيزا في مجال صناعة أدوات معامل التجارب العلمية، وفي صناعة الأدوات اللازمة لاختبارها، هي البلدان الأكثر تعقيدا من الناحية التكنيكية ـ الصناعية، وتتمتع بأعلى مستوى حضاري.. الخ. وهذا ينطبق أيضا على إعداد المثقفين، وعلى المدارس المتخصصة في هذا الإعداد، مدارس ومعاهد الثقافة الرفيعة. وفي هذا المجال لا يمكن فصل الكم عن الكيف، فأرقى التخصصات الثقافية ـ التكنيكية لابد أن يقابله أوسع انتشار ممكن للتعليم الأولي، وبذا أقصى الجهد لتوسيع المستويات الوسطى middle grades عدديا بقدر الإمكان.

هذه الحاجة إلى توفير أوسع قاعدة لانتقاء وتطوير المؤهلات الراقية، هذه الحاجة لها بطبيعة الحال مثالبها: فهي تخلق إمكانية حدوث أزمة بطالة واسعة في صفوف الشريحة الوسطى من المثقفين. وهذا هو ما يحدث حاليا في المجتمعات الحديثة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن عملية تكوين فئات المثقفين intellectual strata المختلفة في الواقع الملموس لا تجرى على أرضية الديموقراطية المجردة، بل وفقا لعمليات تاريخية تقليدية محددة.

لقد نضجت الفئات التي "تنتج" عادة المثقفين، وهي تتطابق مع الفئات المتخصصة في "الادخار"، أي البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، من ملاك الأرض، وبعض شرائح البرجوازية الحضرية الصغيرة والمتوسطة.

إن تباين توزيع أنماط التعليم المختلفة (الكلاسيكية والمهنية) [40] على الساحة "الاقتصادية"، وتباين تطلعات الفئات المختلفة لهذه الشرائح، هو الذي يحدد أو يشكل إنتاج مختلف فروع التخصص الفكري. ففي إيطاليا مثلا، تنتج البرجوازية الريفية موظفي الدولة على الأخص، والمهنيين بينما تنتج البرجوازية الحضرية الفنيين اللازمين للصناعة. فشمال إيطاليا هو الذي ينتج معظم الفنيين بينما ينتج الجنوب الموظفين والمهنيين.

وليست علاقة المثقفين بعالم الإنتاج علاقة مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للجماعات الاجتماعية الأساسية، وإنما هي علاقة غير مباشرة، "يتوسطها" "mediated"، بدرجات متفاوتة، نسيج المجتمع كله، ومركب الأبنية الفوقية، التي يعتبر المثقفون بالتحديد «موظفوها» "functionaries". والمفروض أن يمكن قياس «الطبيعة العضوية» "organic quality" organicita لشرائح المثقفين المختلفة، ودرجة ارتباطها بجماعة اجتماعية أساسية، وتحديد تدرج gradation لوظائفها وللأبنية الفوقية من القاع إلى القمة (من قاعدة البناء إلى ذروته). وما يمكننا أن نفعله الآن، هو تحديد «مستوين» رئيسيين للأبنية الفوقية أحدهما هو ما يمكن أن نسميه «المجتمع المدني» "civil society" أي مجموعة الهيئات التي توصف عادة بأنها هيئات «خاصة» "private"، والمستوى الآخر هو «المجتمع السياسي» "Political Society" أو «الدولة». ويقابل هذين المستوين: وظيفة «الهيمنة»/«القيادة» "hegemony" التي تمارسها الجماعة الحاكمة في المجتمع كله من جهة، ووظيفة «السيطرة المباشرة» "direct domination" أو الأمر command التي تمارسها من خلال الدولة وحكم «القانون» government"Juridical" من جهة أخرى. وهي بالتحديد وظائف تنظيمية ورابطة connective. والمثقفون هم «نواب» "deputies" الجماعة الحاكمة، يمارسون وظائف ثانوية في الهيمنة الاجتماعية Social hegemony والحكم السياسي، وتشمل هذه الوظائف:

1- إن «قبول» "consent" الجماهير العريضة التلقائي للاتجاه العام الذي تفرضه الجماعة الأساسية الحاكمة على الحياة الاجتماعية، إنما يرجع تاريخيا إلى النفوذ (وبالتالي الثقة) التي تتمتع بها بحكم وضعها ووظيفتها في الإنتاج.

2- يفرض جهاز قوة الدولة الجبرية «قانونيا»، الانضباط على تلك الجماعات التي تقف موقف عدم «القبول» الايجابي أو السلبي. وإن كان الجهاز قد أنشئ لمواجهة المجتمع كله، تحسبا للحظات الأزمة التي تتعرض لها السيطرة Command والقيادة، إذا ما تعذر القبول التلقائي.

إن طرح المسألة على هذا النحو يؤدي إلى توسيع مفهوم المثقف إلى درجة كبيرة. غير أنه السبيل الوحيد للاقتراب من الواقع العيني لنتناوله بطريقة محددة. فضلا عن أن هذا التوسع في مفهوم المثقف يصطدم بالمفاهيم المسبقة عن الطائفة (الطبقة المغلقة) Cast.

وتقتضي وظيفة الهيمنة/القيادة الاجتماعية. وسيطرة الدولة –بلا شك- نوعا من تقسيم العمل، وبالتالي تدرجا هرميا للمؤهلات اللازمة لوظائف بعضها لا ينتسب في الظاهر إلى وظائف القيادة والتنظيم. وعلى سبيل المثال، يوجد في جهاز قيادة المجتمع والدولة مجموعة كاملة من الوظائف ذات الطابع اليدوي الآلي (العمل غير التنفيذي non executive work وهو أقرب إلى عمل العمال منه إلى عمل الموظفين [41]ن officials or functionaries . ومثل هذا التمييز ضروري.

والحق، أنه لابد من التمييز بين مستويات النشاط الفكري المختلفة، استنادا إلى خصائصها الجوهرية، حيث يظهر الاختلاف النوعي الحقيقي بينها في اللحظات التي تبلغ فيها المعارضة أقصاها exterme opposition: في أعلى المستويات، نجد مبدعو العلم والفلسفة والفن، الخ. وفي أدناها، نجد أقل «المديرين» شأنا، وناشري تراث الفكر التقليدي الموجود والمتراكم. [42]

لقد طرأ على فئة المثقفين –بهذا المعنى- في العالم الحديث توسع لم يسبق له مثيل. فقد ولّد النظام الديمقراطي –البيروقراطي عددا هائلا من الوظائف، التي لا تبررها ضرورات الإنتاج الاجتماعية، وإن كانت تبررها الضرورات السياسية للجماعة الأساسية الحاكمة dominant fundamental group. [43] Loria «للعامل» «غير المنتج» "worker" the unproductive (ولكن، غير منتج بالنسبة لمن؟ وبالنسبة لأي أسلوب إنتاجي؟) وقد يكونلهذا المفهوم ما يبرره، إذا أخذنا في الاعتبار استغلال تلك الأعداد الهائلة من الموظفين لوضعها، لتقطع لنفسها شريحة كبيرة من الدخل القومي. [44] لقد وحّدت عملية تشكيل الأفراد بالجملة mass formation نمطهم النفسي والمهني. وهذا هو ما فعلته أيضا بالجماهير الأخرى المنمطة standardised masses: تحتم المنافسة قيام منظمات للدفاع عن المهن، كما تحتمه البطالة وتكدس الطلبة في المدارس، والهجرة، الخ.

اختلاف وضع نمط مثقفي المدن عن وضع نمط مثقفي الريف
نما المثقفون الذين ينتمون إلى النمط الحضري مع نمو الصناعة وارتبطوا بمصيرها. ويمكن تشبيه وظيفتهم بوظيفة صغار الضباط في الجيش، فليس لهم حق المبادرة المستقلة في وضع خطط البناء. ومهمتهم هي تحقيق الترابط المحكم بين المنظم enterpreneur وكتلة العمل الآلي instrumental mass ويقومون بالتنفيذ المباشر لحظة الإنتاج التي تقررها قيادة الصناعة، ويشرفون على مراحل العمل الأولية. ويمكن القول بصفة عامة، أن مثقفي المدينة العاديون منمطون للغاية. أما كبار مثقفي المدينة فيتوحدون أكثر فأكثر مع قيادة الصناعة ذاتها.

أما مثقفو الريف فأغلبهم من النمط «التقليدي» "traditional"، فهم يرتبطون بالأغلبية الساحقة من أهل الريف، وبالبرجوازية الصغيرة في المدن (لاسيما المدن الصغيرة) التي لم يطورها ويحركها بعد النظام الرأسمالي. هذا النمط من المثقفين هو همزة الوصل بين جماهير الفلاحين والإدارة المحلية وإدارة الدولة (المحامون والمحضرون، الخ). وأصبحت لهم بسبب هذا النشاط وظيفة اجتماعية-سياسية هامة إذ يصعب فصل الوساطة المهنيةproffessinal mediation عن الوساطة السياسية political mediation. وعلاوة على ذلك: يتمتع المثقف في الريف (القس والمحامي والمحضر والمدرس والطبيب الخ) بمستوى معيشي أعلى، أو على الأقل مختلف عن مستوى معيشة الفلاح العادي، ولهذا فهو يمثل في نظره نموذجا اجتماعيا يتطلع إليه في طموحه لتحسين حالة أو للخلاص منها. فالفلاح يحلم دائما أن يصبح واحد على الأقل من أبنائه مثقفا (قسيسا على الأخص)، وبهذا يصبح سيدا، ويرفع من المستوى الاجتماعي لأسرته بتيسير حياتيها الاقتصادية، وذلك بفضل ما سوف يكون له من صلات بغيره من السادة.

وموقف الفلاح من المثقف موقف مزدوج ومتناقض. فهو يحترم المركز الاجتماعي الذي يتمتع به المثقفون وموظفو الدولة عامة، ولكنه يتظاهر أحيانا بازدرائهم، وهذا يعني أن إعجابه بهم يمتزج أحيانا بمشاعر غريزية، مشاعر الحقد والغضب المتقد. وما لم نأخذ في الاعتبار تبعية الفلاحين الفعلية للمثقفين، وندرسها دراسة عينية عميقة، فلن نفهم شيئا عن حياتهم الجماعية، وما يختمر داخلها، وبذور تطورها. فأي تطور أساسي لجماهير الفلاحين يرتبط إلى حد ما بحركات المثقفين ويعتمد عليها.

أما بالنسبة لمثقفي المدينة فالأمر يختلف. فالفنيون في المصنع لا يمارسون وظيفة سياسية بالنسبة للجماهير العاملة، أو على الأقل انتهت المرحلة التي كانوا يؤدون فيها هذه الوظيفة، بل أن العكس هو الذي يحدث أحيانا، عندما تمارس الجماهير العاملة –على الأقل من خلال مثقفيها العضويين- تأثيرا سياسيا في الفنيين.

تبقى النقطة الرئيسية في القضية، وهي التمييز بين المثقفين كفئة عضوية category organic في جماعة اجتماعية أساسية، والمثقفين كفئة تقليدية traditional category. ويترتب على هذا التمييز سلسلة من الإشكالات والقضايا التي يمكن أن تكون موضوعا للبحث التاريخي.

وأهم هذه القضايا –إذا ما درسنا من هذه الزاوية- هي تلك التي تتصل بالحزب السياسي الحديث، جذوره الحقيقية، وما يطرأ عليه من تطورات وما يتخذه من أشكال. ما هي طبيعة الحزب السياسي من حيث علاقته بقضية المثقفين؟ لا بد من التفرقة بين عدة أمور:

1- ليس الحزب السياسي بالنسبة لبعض الجماعات الاجتماعية إلا طريقتها الخاصة في تكوين وتطوير فئة مثقفيها العضويين في الحقل السياسي والفلسفي مباشرة، وليس في حقل تكنيك الإنتاج وحده. هكذا يتكون هؤلاء المثقفون، ولا يمكن أن يتكونوا بطريقة أخرى، مع أخذ الطابع العام للجماعة الاجتماعية، وشروط تكوينها، وحياتها وتطورها في الاعتبار. [45]

2- والحزب السياسي بالنسبة لكل الجماعات هو بالتحديد ذلك الجهاز الذي يقوم في المجتمع المدني بذات الوظائف التي تقوم بها الدولة على نحو أكثر تركيبا وأوسع نطاقا في المجتمع السياسي. إنه بعبارة أخرى مسؤول عن تحقيق التلاحم بين المثقفين العضويين لجماعة معينة –الجماعة الحاكمة- والمثقفين التقليديين. [46] ويخضع أداء الحزب لهذه الوظيفة خضوعا تاما لوظيفته الأساسية، وهي خلق الأجزاء المكونة له، أي تلك العناصر من الجماعة الاجتماعية التي ولدت وتطورت كجماعة «اقتصادية» " economic group " وتحويلها إلى مثقفين سياسيين مؤهلين، أي قادة dirigenti ومنظمين لكافة الأنشطة والوظائف اللصيقة بالتطور العضوي لمجتمع مدني وسياسي متكامل. ويمكن القول، أن الحزب السياسي يؤدي في مجاله وظيفته على نحو أكمل وأكثر عضوية مما تفعل الدولة في مجالها وهو كما هو معروف مجال أوسع كثيرا. والمثقف الذي ينضم إلى الحزب السياسي لجماعة اجتماعية معينة يندمج في جماعة المثقفين العضويين لهذه الجماعة ذاتها، ويرتبط بها ارتباطا وثيقا. وهذا قد يحدث إلى حد ما من خلال المشاركة في حياة الدولة، وقد لا يحدث قط. والحق أن كثيرا من المثقفين يعتقدون أنهم هو الدولة، ويترتب على هذا الاعتقاد نتائج هامة، نظرا لحجم لتلك الفئة، كما بسبب تعقيدات سيئة للجماعة الاقتصادية الأساسية the fundamental economic group، التي هي الدولة في واقع الأمر.

إن القول بأنه ينبغي اعتبار كل أعضاء الحزب مثقفين، قد يكون مدعاة للسخرية والتندر. ولكننا إذا أمعنا فيه النظر تبينا مبلغ دقته. بالطبع هناك مستويات لابد من التمييز بينها. وأي حزب لابد لان يكون له نصيب كبر أم صغر من المثقفين من أعضائه في المستويات العليا والدنيا. غير أن هذه ليست هي القضية، فما يعنينا هنا هو الوظيفة، سواء كانت قيادية أو تنظيمية أي تثقيفية educative، أي فكرية intellecual. فلا التاجر ينضم إلى حزب سياسي ليزاول الأعمال، ولا رجل الصناعة لينتج أكثر بتكلفة أقل، ولا الفلاح ليتعلم أساليب جديدة للفلاحة، حتى وإن وجدوا في الحزب ما يلبي بعض هذه الحاجات. [47]

ولتحقيق هذه الأغراض، تنشأ الجمعيات المهنية التي تعتبر الإطار الملائم للنهوض بالنشاط الاقتصادي-الطائفي economic-corporate للتاجر ورجل الصناعة والفلاح. وفي الحزب السياسي تتجاوز عناصر الجماعة الاقتصادية تلك اللحظة من تطورها التاريخي، وتصبح عناصر فاعلة في أنشطة أعم، ذات طابع قومي ودولي. وستصبح وظيفة الحزب السياسي هذه، أكثر وضوحا من خلال التحليل التاريخي العيني لفئتي المثقفين: العضويين والتقليديين معا في السياق التاريخي الوطني الذي يختلف من بلد إلى آخر، وفي سياق مختلف الجماعات الاجتماعية الرئيسية في كل أمة، لاسيما تلك الجماعات التي يغلب الطابع الآلي على نشاطها الاقتصادي.

إن نشأة المثقفين التقليديين هي المسألة الأهم من الناحية التاريخية. لقد ارتبطت نشأتهم –بلا شك- بنظام الرق في العالم القديم، وبمكانة المحرِّرين من أصل إغريقي أو شرقي في النظام الاجتماعي للامبريالية الرومانية.

ملحوظة
:

إن تغيير المكانة الاجتماعية للمثقفين في روما في الفترة ما بين العصرين الجمهوري والإمبراطوري (التحول من نظام ارستقراطي –طائفي إلى نظام ديمقراطي- بيروقراطي) يرجع إلى قيصر الذي منح المواطنة إلى الأطباء وكبار أساتذة العلوم العقلية liberal arts لتشجيعهم على الإقامة في روما، ولكي يغري الآخرين بالمجيء إليها.

("Omnesque médicinam Romae professos et liberalium artium doctores, quo libentius et ispi urbem incolerent et coeteri appeterent civitate donavit"). Suetonius, life of Caesar, XLII)

لذا اقترح قيصر: 1- أن يسمح للمفكرين الموجودين فعلا في روما بالإقامة فيها وبهذا خلق فئة مستقرة من المثقفين، طالما أنه يستحيل خلق تنظيم ثقافي بدون توفير الإقامة الدائمة لهم. و2- جذب أفضل المثقفين من كافة أرجاء الإمبراطورية الرومانية إلى روما، وبهذا يدعم المركزية على نطاق هائل. هكذا نشأت فئة مثقفي «الإمبراطورية»"imperial" intelectuals في روما، الذين يعتبر رجال الدين الكاثوليك امتدادا لهم، والذين تركوا بصماتهم على تاريخ المثقفين الايطاليين. مثال ذلك «النزعة الكوزموبوليتانية» " cosmopolitanism" التي يتميزون بها، والتي استمرت حتى القرن الثامن عشر.

هذا الانفصال بين جماهير المثقفين العريضة والطبقة الحاكمة الذي حدث في عهد الإمبراطورية –الرومانية- وهو ليس مجرد انفصال اجتماعي بل قومي وعرقي – وقد حدث مرة أخرى بعد سقوطها: انفصال المحاربين الجرمان عن المثقفين من أصل روماني مكتسب، خلفاء العبيد المحررين. وتشابكت هذه الظاهرة وتداخلت مع ميلاد وتطور الكاثوليكية Catholicism والتنظيم الكنسي eclisiatical organisation، الذي استحوز لقرون عديدة على الشطر الأعظم من الأنشطة الفكرية، ومارس احتكار توجيه الثقافة، وتوقيع العقوبات الجنائية على كل من يحاول معارضة هذا الاحتكار أو التحايل عليه. وفي إيطاليا، يمكننا ملاحظة الوظيفة الكوزوموبوليتانية cosmopolitan function لمثقفي شبه الجزيرة، والتي تختلف فاعليتها من فترة إلى أخرى. والآن، ننتقل إلى بيان أوجه الاختلاف –التي تظهر على الفور- في تطور المثقفين في عدد من أهم البلدان، على أن نتحقق من صحة هذه الملاحظات وان نتفحصها بعمق.

والحقيقة الأساسية، فيما يتعلق بايطاليا، هي بالتحديد الوظيفة الدولية أو الكوزوموبولولتانية للمثقفين، وهي سبب ونتيجة في آن واحد، لحالة التفكك التي بقيت عليها شبه الجزيرة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى عام 1870.

أما فرنسا، فتقدم لنا مثلا لشكل مكتمل ومتناغم لنمو طاقات الأمة، ولفئات المثقفين بصفة خاصة.

فالتجمع الاجتماعي الجديد الذي ظهر سياسيا على مسرح التاريخ عام 1789، كان مهيأ للقيام بكل وظائفه، ومن ثم كان قادرا على الكفاح من أجل بسط سيطرته الشاملة على الأمة. ولم يكن بحاجة إلى تقديم أي تنازلات جوهرية للطبقات القديمة. بل بالعكس استطاع أن يخضعها لأهدافه.

لقد ولد النمط الجدد من الخلايا الفكرية intellectual cels مع ميلاد الخلايا الاقتصادية الأولى التي تناظرها –حتى التنظيم الكنسي خضع لتأثيرها (الجاليكانية [48] galcanism، والصراع المبكر بين الكنيسة والدولة). ويبين لنا هذا البناء الثقافي الهائل الدور الذي لعبته الثقافة في فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهو الإشعاع الخارجي، الدولي والكوزوموبوليتاني، وتوسيع الهيمنة الامبريالية بصورة عضوية. إن تجربة فرنسا الثقافية تختلف اختلافا كبيرا عن تجربة ايطاليا التي قامت على هجرة أشخاص متفرقين، ولم يكن لها انعكاس على القاعدة الوطنية، بل العكس ساهمت في الحلول دون بناء قاعدة وطنية، صلبة.

ويختلف تطور المثقفين في انجلترا كثيرا عنه في فرنسا، فالتجمع الاجتماعي الجديد the new Social grouping الذي نما على أساس التنظيم الصناعي الحديث modern industrialism قد كشف عن تطور اقتصادي-نقابي economic corporate development غير عادي، وإن كان لا يزال يتلمس طريقة للتقدم في الميدان السياسي-الثقافي. لقد كانت هناك فئة عريضة من المثقفين العضويين، نشأت مع الجماعة الاقتصادية على ذات الأرضية، أرضية الصناعة. أما في المستويات العليا، فنجد أن طبقة ملاك الأرض القديمة تحتفظ بموقعها، باحتكارها الفعلي. لقد فقدت تفوقها الاقتصادي، ومع ذلك حافظت لفترة طويلة على تفوقها السياسي-الثقافي. ثم تم استيعابهم «كمثقفين تقليديين»، وكجماعة قائدة dirigente directive في الجماعة الجديدة الحاكمة. لقد كانت ارستقراطية ملاك الأرض القديمة ترتبط ارتباطا وثيقا برجال الصناعة. هذا النوع من الارتباط هو الذي وحد المثقفين التقليديين والطبقات السائدة الجديدة في البلدان الأخرى.

وعرفت ألمانيا أيضا الظاهرة الانجليزية، وإن كانت أكثر منها تعقيدا، بما تضمنته من عناصر تاريخية وتراثية. لقد كانت ألمانيا قبل ايطاليا مركزا لمؤسسة إيديولوجية عالمية تتجاوز الحدود القومية، هي الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، وفرت بعض الكوادر personel للكوزموبوليس Cosmopolis [49] مما أفقر طاقتها المحلية، وأثار المعارك التي ألهتها عن مشاكل التنظيم الوطني، وأبقى على التفتت الإقليمي الذي تميزت به العصور الوسطى.

وجرى تطور الصناعة داخل غلاف شبه إقطاعي بقي حتى نوفمبر 1918. وحافظ اليونكرز Junkers على تفوقهم الثقافي-السياسي، وفاقوا في هذا المضمار نظرائهم في انجلترا.

كان هؤلاء هم المثقفون التقليديون لرجال الصناعة الألمان، ولكنهم، كانوا يحتفظون ببعض الامتيازات الخاصة. وكان وعيهم قويا باستقلالهم كجماعة اجتماعية، استنادا إلى حيازتهم لقدر معتبر من القوة الاقتصادية التي تتمثل في الأرض التي كانت في ألمانيا أكثر خصوبة منها في انجلترا. [50]

كان اليونكرز البروسيون أشبه بطبقة عسكرية-كهنوتية مغلقة caste priestly-military تتمتع باحتكار فعلي للوظائف القيادية-التنظيمية في المجتمع السياسي. وفي نفس الوقت كانت لهم قاعدتهم الاقتصادية الخاصة، ومن ثم لم يكونوا يعتمدون على أريحية الجماعة الاقتصادية السائدة. وعلاوة على ذلك، كان اليونكرز –على خلاف الارستقراطية الانجليزية المالكة للأرض- يشكلون طبقة الضباط في جيش دائم كبير، مما وفر لهم الكوادر التنظيمية، وساعد على المحافظة على روح الفريق، وعلى احتكارهم السياسي. [51]

وفي روسيا تتابين الملامح: فالنورمان (فارانجيانز Varangians) [52] هم الذين خلقوا التنظيم السياسي-الاقتصادي-التجاري. والإغريق البيزنطيون هم الذين أنشأوا التنظيم الديني. وفي فترة لاحقة نقل الألمان والفرنسيون التجربة الأوربية إلى روسيا. وأنشأوا أول هيكل متماسك للبنية الحية للتاريخ الروسي. فقد كانت القوى الوطنية خاملة وسلبية، ومتلقية. غير أن هذا قد يكون بالتحديد السبب في استيعابها وتمثلها الكامل للمؤثرات الأجنبية، وللأجانب أنفسهم وروسنتهم.

ونجد الظاهرة العكسية في مرحلة تاريخية أحدث. ظاهرة هجرة نخبة من أنشط أعضاء المجتمع وأكثرهم فاعلية وإقداما إلى الخارج. وتمثلهم لثقافة أكثر بلاد الغرب تقدما ولخبراتها التاريخية، دون أن تفقد مع ذلك أهم الخصائص الجوهرية لأمتها. أي دون أن تفصم عرى ارتباطها العاطفي والتاريخي بشعبها. وقد عادت إلى بلادها، بعد أن أنهت مرحلة تلمذتها الفكرية، وفرضت الصحوة على الشعب الروسي فرضا، متخطية في هذه العملية مراحل تاريخية بأكملها. ويتمثل الفرق بين النخبة، والنخبة التي استوردها (بطرس الأكبر مثلا) من ألمانيا، يتمثل في طابعها الوطني-الشعبي المميز. ولم يكن ممكنا أن تستوعبها سلبية الشعب الروسي الخامل، لأنها كانت تمثل رد فعل روسيا الايجابي على قصورها التاريخي.

وعلى أرضية أخرى، وبالرغم من اختلاف الظروف اختلافا كاملا زمانا ومكانا، يمكننا مقارنة الظاهرة الروسية بميلاد الأمة الأمريكية (في الولايات المتحدة). فالمهاجرون الانجلوسكسون أنفسهم، نخبة فكرية، بل وعلى الأخص، نخبة أخلاقية moral elite. إننا نتحدث بالطبع عن المهاجرين الأوائل، عن الرواد، أبطال المعارك السياسية والدينية في انجلترا الذين هزموا وإن لم يذلّوا أو يستسلموا في بلدهم الأصلي. لقد جلبوا معهم إلى أمريكا، بالإضافة إلى الطاقة المعنوية وقوة الإرادة، مستوى معينا من الحضارة، أي مرحلة معينة من التطور التاريخي الأوربي، ظلت تنمى القوى الكامنة في طبيعة أمريكا، في تربيتها البكر، عندما استزرعها هؤلاء الرجال، وذلك بإيقاع أسرع بما لا يقارن بما حدث في أوروبا القديمة، حيث توجد سلسلة من الكوابح (المعنوية والفكرية والسياسية والاقتصادية، التي تتجسد في قطاعات معينة من السكان وبقايا النظم السابقة، التي ترفض أن تموت) التي تولد مقاومة الإسراع بخطى التقدم، وترفض الرقابة على أية مبادرة، فتتبدد في الزمان والمكان.

وفي حالة الولايات المتحدة، يلاحظ افتقارها إلى المثقفين التقليديين إلى حد كبير، ولهذا كان هناك توازنا مختلفا بين المثقفين عامة. وكان هناك تطورا لمختلف أنواع الأبنية الفوقية الحديثة يستند إلى قاعدة الصناعة. ولم تكن الحاجة إلى اندماج المثقفين العضويين والمثقفين التقليديين، وهي التي أملت ضرورة تحقيق التوازن. وإنما أملته الحاجة إلى صهر أشكال الثقافة المختلفة التي جلبها المهاجرون ذوي الأصول القومية المختلفة في بوتقة الثقافة القومية الواحدة.

والافتقار إلى طبقة واسعة –تكونت على مر الزمن- من المثقفين التقليديين، كتلك التي نجدها في بلاد الحضارات القديمة، يفسر لنا –جزئيا على الأقل- وجود حزبين سياسيين كبيرين فقط (قارن هذا بالحال في فرنسا، ليس فقط في فترة ما بعد الحرب، عندما أصبح تكاثر الأحزاب ظاهرة عامة) كما يفسر أيضا الظاهرة المناقضة لها تماما، ظاهرة الانتشار الهائل للطوائف الدينية. [53]

وثمة ظاهرة أخرى في الولايات المتحدة تستحق الدراسة، هي نشأ، عدد مذهل من المثقفين الزنوج الذين استوعبوا الثقافة والتكنلوجيا الأمريكية. وينبغي ألا ننسى ما قد يكون لهؤلاء المثقفين الزنوج من تأثير غير مباشر على الجماهير المتخلفة في أفريقيا. ويمكن اعتباره تأثيرا مباشرا إذا ثبت صحة أي من هذين الفرضين:

1-أن تستخدم النزعة التوسعية الأمريكية american expansionim زنوج أمريكيين كوكلاء لها في فتح السوق الأفريقية، وفي نشر الحضارة الأمريكية (حدث شيء من ذلك وإن كنا نعرف إلى أي مدى).

2- أن يشتد النضال من اجل توحيد الشعب الأمريكي على نحو يدفع الزنوج إلى الهجرة، وعودة أكثر العناصر المثقفة استقلالا ونشاطا إلى أفريقيا، أي تلك العناصر الأقل استعدادا للاذعان لأي تشريع قد يصدر في المستقبل ويكون أكثر إذلالا لهم من الأعراف الاجتماعية الشائعة الراهنة. ويترتب على هذا التصور نتيجتان:

1-نتيجة لغوية: هل يمكن أن تصبح اللغة الانجليزية لغة الثقافة والمثقفين educated language في أفريقيا، فتحل وحدة اللغة ذلك الحشد من اللهجات الموجودة؟

2-هل يمكن أن يكون لهذه الشريحة من المثقفين قدرة على الاستيعاب والتنظيم كافية لإضفاء طابع «وطني» على شعور الزنوج البدائي الحالي بكونهم جنسا محتقرا. فتصبح للقارة الأمريكية وظيفة أسطورية، تصبح الوطن المشترك لكل الشعوب الزنجية؟

يبدو لنا حاليا أن روح الزنوج القومية والعنصرية، سلبية أكثر منها ايجابية. وهي نتاج لصراع البيض لعزل الزنوج وكبتهم. ولكن، ألم تكن هذه هي حال اليهود حتى القرن الثامن عشر وطواله؟ إن ليبيريا التي تأمركت، وأضحت الانجليزية لغتها، يمكن أن تصبح قبلة الزنوج الأمريكيين، وأن تجعل من نفسها بيدمونت Piedmont أفريقية . [54]

ينبغي في اعتقادنا أن نضع في الاعتبار بعض الظروف الجوهرية عند النظر في مسألة المثقفين في أمريكا الوسطى والجنوبية، فلا يوجد فيها فئة واسعة من المثقفين التقليديين. غير أن هذا لا يعني أن المسألة تطرح نفسها هنا كما تطرح في الولايات المتحدة. فجذور تطور تلك البلدان يرجع في الحقيقة إلى أنماط الحضارة الأسبانية والبرتغالية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، التي تتميز بتأثرها بحركة الإصلاح المضاد counter reformation وبالعسكرية الطفيلية military parasitism. وتتمثل العناصر المتبلورة المقاومة للتغيير، والتي لا تزال باقية حتى الآن، في رجال الدين والطبقة العسكرية المغلقة military، وهما فئتان من المثقفين التقليديين تحجرتا وبقيتا على صورتهما الموروثة عن البلد الأوروبي الأم. لقد كانت القاعدة الصناعية محدودة للغاية فلم تسمح بتطور أبنية فوقية معقدة، فغالبية المثقفين من النمط الريفي. ولما كان كبار ملاك الأرض latifundium هم الطبقة المسيطرة، وكانت الكنيسة تستحوز على أملاك واسعة، فقد ارتبط هؤلاء المثقفين برجال الدين وكبار الملاك. والتركيب القومي للسكان مختل للغاية، حتى بين السكان البيض. وزادت تعقيدا وجود جماهير غفيرة، من الهنود الذين يشكلون في بعض البلدان أغلبية السكان.

ويمكننا أن نقول، أنه لا يزال يوجد في تلك المناطق من القارة الأمريكية، وضع مماثل للوضع الذي شهد الكفاح الثقافي Kultur Kumpf [55] ، ومحاكمة دريفوس Drifus trial، حيث لم يكن العنصر العلماني البرجوازي قد بلغ بعد المرحلة التي يكون فيها قادرا على إخضاع نفوذ ومصالح رجال الدين والعسكريين للسياسة العلمانية للدولة الحديثة. ومن هنا كان التأثير الكبير لحركة المارسونيين الأحرار Free Masonry، وأشكال التنظيم الثقافي الأخرى، «كالكنيسة الوضعية» " positivist Church " في معارضة النزعة الجزويتية Jesuitism. وتثبت الأحداث الأخيرة (نوفمبر 1930) دقة هذه الملاحظات، ابتداء من كفاح كولز الثقافي Calls Kulturkampf قي المكسيك [56]، حتى الانتفاضة العسكرية الشعبية في الأرجنتين والبرازيل وبيرو وشيلي وبوليفيا.

وفي الهند والصين واليابان، نجد أنماطا أخرى لتكوين فئات المثقفين، ولعلاقاتهم بالقوى الوطنية. ففي اليابان نجد تكوينا للمثقفين من الطراز الانجليزي والألماني، أي حضارة صناعية تنمو داخل غلاف إقطاعي –بيروقراطي- له سماته الخاصة التي لا تخطئها العين.

وفي الصين نجد ظاهرة النص المكتوب the Script، وهي تعبير عن انفصال المثقفين عن الشعب. والفجوة الهائلة التي تفصل بينهما، في الصين والهند، تتجلى أيضا في الحقل الديني.

إن قضية تباين فئات المجتمع المختلفة، واختلاف طرائق فهمها وممارستها لنفس الدين، وخاصة بين رجال الدين والمثقفين والشعب، هي قضية تحتاج للدراسة عامة، لاسيما أن هذا الاختلاف موجود بدرجة أو بأخرى في كل مكان، ونجد أقصى أشكاله تطرفا في بلدان شرق آسيا. وهو طفيف نسبيا في البلاد البروتستانتية. (حيث يرتبط انتشار الطوائف بالحاجة إلى تحقيق التلاحم الكامل بين المثقفين والشعب، والذي يؤدي إلى إعادة إنتاج التصورات الفعلية للجماهير الشعبية بكل ما فيها من فجاجة في مجال المستويات التنظيمية العليا) وهو اختلاف جدير بالملاحظة في البلدان الكاثوليكية، وإن تفاوت مداه من بلد إلى آخر. فهو ملحوظ بدرجة أقل في الأجزاء الكاثوليكية من ألمانيا، وفي فرنسا، وبدرجة أكبر في ايطاليا، وخاصة في الجنوب وفي الجزر. وهو في الحقيقة كبير جدا في شبه جزيرة أيبريا وفي بلدان أمريكا اللاتينية. ويتسع نطاق هذه الظاهرة في البلاد الأرثوذكسية. وهنا لابد من التسليم بوجود ثلاث مراتب degrees في الدين الواحدة كبار رجال الدين والرهبان، ورجال الدين العلمانيون، والشعب.

ويصل هذا الاختلاف في شرق آسيا إلى حد لا يصدقه عقل، حيث لا علاقة البتة لدين الشعب بدين الكتب، وإن حملا ذات الاسم.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire