مرحلة جديدة للرأسمالية أم دورة تجميل لرأسمالية مترهلة؟
سمير أمين
(1) إن الرأسمالية نظام ذو تحولات مستمرة وسريعة نسبيا بالمقارنة مع الأنظمة السابقة التى كانت تبدو مستقرة، بالتالى فمن الضرورى معاينة كل المستجدات على ساحتها بهدف تحليلها والتصدى لها بفعالية. لكن بالرغم من جدية هذه التحولات إلا أنها تظل حبيسة المنطق الخاص بالرأسمالية، ويجب التذكير بهذه الحقيقة.
فالخطاب الإيديولوجى للرأسمالية الخيالية Le Capitalisme imaginaire يعزو للاختراعات التكنولوجية التقدم والرقى، ويكلف تنافسات رأس المال على مستوى الأسواق بترجمة ذلك على أرض الواقع. فتستفيد من هذا التقدم مختلف الطبقات الاجتماعية مكرسة بذلك الديمقراطية والسلم، كما أن تعميم ونشر هذا النظام يعود بالفائدة علي لكافة الشعوب التى ستتمتع بالفوز النهائى للعقلانية ("نهاية التاريخ"). ويضيف الخطاب الرأسمالى أنه ليس هناك من بديل (معقول) ويجب إخضاع كل جوانب الحياة الاجتماعية لمتطلبات المنطق الأحادى لرأس المال.
لكن تاريخ الرأسمالية القائمة بالفعل Le Capitalisme reellement existant يكذب هذه الصورة التى لا ترتكز على أى أساس علمى. إنه تاريخ صراع مستمر بين منطق التراكم الرأسمالى ومنطق المصالح الاجتماعية والوطنية المتناقضة معه. وفى نفس الوقت فهو يبين لنا مدى ارتباط البعد الهدّام لمنطق الرأسمالية الأحادى بالبعد الخلاق والإبداعى للمنطق نفسه. (انظر الأبعاد الهدامة للتراكم الرأسمالى). فالمجتمعات الحقيقية تواجه باستمرار العديد من البدائل ويُفرض عليها الخيار فيما بينها، ويحدد توازن القوى فى كل مرحلة النمط الذى يجرى اختياره.
وهى الآن بصدد مواجهة جديدة تتطلب منها إعادة النظر فى النظام القائم وتصور نظام آخر قادر على تحريرها من الدمار والخراب الذى يؤدى إليه توسع الرأسمالية فى الأوضاع الحالية، فيجب وضع هذا الجديد الناتج من تطور الحقبة المذكورة فى الإطار التحليلى النقدى المناسب.
(2) لقد تكون العالم الحديث حول نظام جديد، حددته الرأسمالية ابتداءً من العام 1500- وخلال الفترة المركانتيلية التى دامت ثلاثة قرون 1500-1800. أخذت أوروبا الأطلنطية مبادرة وضع نظام جديد عَوّض التحكم فى الطرق البرية (المعروفة بطرق الحرير) بإنشاء طرق الملاحة عبر المحيط. هكذا تم تأسيس قاعدة النظام الرأسمالى للقرن العشرين، ووَلّد هذا النظام ظاهرة جديدة لم يحدث للتاريخ أن عرفها من قبل ألا وهى ظاهرة الاستقطاب على المستوى العالمى. (انظر الاستقطاب) وتصاعدت الفجوة الإنمائية بين المراكز المصنعة والتخوم غير المصنعة بقدر لم يسبق له مثيل.
لقد تميز القرن العشرون بثورته ضد النظام الاقتصادى القائم. فهاجمته هذه الثورة على صعيدين: الأول متعلق بجوهرعلاقات الرأسمالية التى يرتكز عليها والتى ناهضتها الثورات الاشتراكية، والثانى متعلق بالاستقطاب الناتج عنه والذى حاربته الحركات التحررية الوطنية فى آسيا وأفريقيا. وتتالت خلال هذا العصر أنظمة رأسمالية مختلفة.
شهدت نهاية القرن التاسع عشر. منذ 1880 حتى 1945 تكوين رأسمالية الاحتكارات. وبإمكاننا الحديث هنا عن "ليبرالية قومية للاحتكارات". ومفهوم الليبرالية هنا يعنى إثباتاً مزدوجاً للدور الهام الذى تلعبه الأسواق الاحتكارية (الأوليغوبوليستية marches oligopolistiques فى إدارة وتنظيم الاقتصاد ضمن إطار سياسات الدولة من جهة وفى ممارسة الديمقراطية السياسية البرجوازية من جهة ثانية.
إن القومية Le nationalisme تقوم بتعديلات فى النموذج الليبرالى وتمنح الشرعية لسياسات الدولة التى تساند التنافس فى النظام العالمى. وتتمفصل هذه الأخيرة حول تكتلات محلية مهيمنة تعزز قدرات احتكارات رؤوس الأموال بإقامتها تحالفات مع الطبقات الوسطى و/ أو الأرستقراطية عازلة بذلك الطبقة العاملة الصناعية. (ذات الميول "الاشتراكية")
ومع انفجار الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 ظهرت أول أزمة للنظام الليبرالى القومى للاحتكارات. مبرهنة على فشل هذا النظام فى خلق ظروف "عولمة سلمية".
ولكن بالرغم من ذلك تمكنت الأنظمة الرأسمالية المهيمنة من فرض وصفاتها الليبرالية. مما أدّى إلى الانحراف الفاشى والتخلى عن الجانب السياسى والديمقراطى للنظام. لكنه لم يتخل عن القومية (بل على العكس زاد من حدتها) ولا عن التحالفات الاجتماعية الداخلية التى تعزز من قدرات الاحتكارات. فالنظام الفاشى جزء لا يتجزأ من النظام المهيمن الوحيد الذى يميز هذه الحقبة من تاريخ الرأسمالية، حتى وإن كان من أقبح وجوهها.
ابتداءً من 1945 , وحتى 1980 يظهر على الساحة العالمية نظام رأسمالى جديد يعوض الليبرالية القومية، فقد استطاعت الحرب العالمية الثانية وبفضل هزيمة الفاشية أن تغير من موازين القوى لصالح الطبقات العمالية فى الغرب المتطور (تمكنت هذه الطبقات من اكتساب شرعية ووضعية اجتماعية لم تعرفها من قبل) وتحررت الشعوب من الاستعمار وتجلت الاشتراكية فى الاشتراكية القائمة بالفعل (أى النمط السوفيتى). كانت العلاقات الجديدة هذه وراء الأنماط الثلاثة التالية: دولة الرفاهية، والدولة التنموية فى العالم الثالث، والدولة الاشتراكية المخططة. وتميز النظام الاقتصادى لتلك الفترة 1945-1980 بالقومية والاجتماعية وبالسير ضمن عولمة مقننة هى الاخرى.
وكانت السياسات المتخذة آنذاك اجتماعية وقومية متجاوبة مع أهداف الساعة. وتُرجم التضامن باستقرار ملحوظ فى توزيع الدخل، وفى التوظيف الكامل، وفى زيادة النفقات الاجتماعية. وصُممت هذه السياسة على المستوى القومى بتدخل مستمر للدولة.
لم تكن هناك مبالغة فى وطنية النموذج إذ كان يندرج ضمن جو عام من الأقلمة (بناء التجمع الأوروبى) وسياسة الانفتاح العالمية (خطة مارشال، انتشار الشركات المتعدية الجنسيات، الـ الأونكتاد، الـ جات ... إلخ) المقبول بها وفى نفس الوقت المتحكم فيها.
فالتناظر فى الأهداف الأساسية بين دولة الرفاهية من جهة وأهداف التحديث فى بلدان العالم الثالث بعد تحررها (مشروع باندونغ فى آسيا وأفريقيا بالتوازى مع الـ desarollismo . بأمريكا اللاتينية) من جهة أخرى يسمح لنا بوصف هذا النظام بوصفه مهيمناً عالميا باستثناء المنطقة السوفيتية. وكان على بلدان العالم الثالث "اللحاق" بالركب بدخولها بفعالية وانضباط فى النظام العالمى المنتشر.
أما النظام الاقتصادى والسياسى البديل الذى وضع عام 1917 المعروف بالاشتراكية القائمة بالفعل Le socialisme reellement existant فقد نصب لنفسه هدفين: الأول هو اللحاق وإلغاء التأخر، والثانى "إنشاء البديل" بالتخطيط المركزى المنفصل عن النظام العالمى. غير أنه انحرف لكونه ابتعد عن التسيير الديمقراطى فى بناء الاشتراكية مما أدى إلى انهياره (حالة أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتى سابقا وانزلاق الصين نحو الرأسمالية).
وأدى فشل النظام السوفييتى، وكذلك والشعبوية القومية فى العالم الثالث برأس المال السائد إلى إعادة بناء نظام جديد سمى بالليبرالية المعولمة الجديدة.
لكن فى الواقع هناك تناقض صارخ بين الخيارات الاجتماعية المعلنة فى الخطاب النيوليبرالى المعولم والذى يطرح نفسه بوصفه نظاماً جديداً، وبين الممارسات والتطبيقات على أرض الواقع التى يمارسها هذا النظام.
فالعولمة فى واقع أمرها ملتبسة: إذ يخفى الخطاب السائد والمتستر خلف مزايا المنافسة التى تتغنى بها، ممارساته الهادفة إلى الحفاظ على مصالح الاحتكارات. فى نفس الوقت فهو يرفع شعار حماية البيئة بيد أنه يفضل الأرباح القصيرة المدى عن السياسات الاقتصادية طويلة المدى. أخيرا وبالرغم من إعلانها عن مبادئ مضادة لنهوض القوميات فغالبا ما تتصرف القوى العظمى وخاصة الولايات المتحدة مظهرة ومتباهية بعضلاتها فى شتى الميادين العسكرية والاقتصادية.
إن جميع نماذج النظام الرأسمالى ارتكزت على نظرة إمبريالية للعالم بالتوافق مع انتشار الرأسمالية التى تحمل فى طياتها عدم التكافؤ والاستقطاب على المستوى العالمى.
فى مرحلتها الليبرالية القومية للاحتكارات 1880-1945 تميزت الإمبريالية بالصراعات ما بين مختلف القوى الإمبريالية، أما المرحلة الاجتماعية القومية لما بعد الحرب 1945- 1980 فقد تم خلالها تلاؤم استراتيجيات الإمبرياليات القومية تحت قيادة وهيمنة الولايات المتحدة من جهة ومن جهة أخرى اضطرت الإمبريالية إلى التراجع والانسحاب من مناطق الاشتراكية (الاتحاد السوفييتى، وأوروبا الشرقية، والصين) كما أنها فاوضت علي وجودها لدى حركات التحرر فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لكن بانهيار الاشتراكية "القائمة بالفعل"، والنظم الشعبوية الراديكالية فى العالم الثالث، استرجعت الإمبريالية قواها وهجماتها من جديد. فالعولمة التى يُعبر عنها بكل وقاحة فى الإيديولوجية الحالية ما هى إلا الشكل الجديد للنظام الرأسمالى الحالى.
من هذا المنظور بإمكاننا القول إن مصطلح العولمة مرادف لمصطلح الإمبريالية (انظر العولمة والإمبريالية).
(3) إن الجو الذى شهدته نهاية القرن العشرين يشبه كثيرا الجو الذى بدأ به. "والفترة الجميلة" La belle epoque كانت بالفعل جميلة لرأس المال. وبرجوازيات الثالوث (أوروبا، الولايات المتحدة، اليابان) أصبحت تنعم بفوزها وانتصارها. ولم يعد ينظر إلى الطبقات العاملة فى بلدان المركز وكأنها الطبقات الخطيرة كما كانت عليه خلال القرن التاسع عشر. وأما بقية شعوب العالم فما عليها إلا أن تنتظر "التحضير" الذى يأتى به الغربيون.
فوز بلدان المراكز الرأسمالية المعولمة أدى إلى انفجار ديمغرافى نقل نسبة السكان ذوى الأصل الأوروبى من 23% فى العام 1800 إلى 36% فى العام 1900 من مجموع سكان الأرض.
إن تركز الثورة الصناعية فى بلدان الثالوث أنتج استقطابا فى الثروات وصل إلى مستويات لم تعرفها الإنسانية طوال تاريخها.
فالعولمة الأولى لم تؤد إلى تسارع فى التراكم بل عكس ذلك تماما فهى أدت إلى أزمة بنيوية من 1873 إلى 1896 كالتى عرفناها بعد قرن من هذا التاريخ. مع أن هذه الأزمة اصطحبتها ثورة صناعية جديدة (الكهرباء والبترول والسيارة والطائرة) وكان متوقعاً لها أن تحول الجنس البشرى كما يقال اليوم عن الثورة الالكترونية. بالموازاة تشكلت الأوليغوبولية oligopoles الأولى الصناعية والمالية (ما يعادل الشركات المتعدية الجنسية). وهكذا ترسخت العولمة المالية على قاعدة الذهب - الاسترليني. وبدأ الحديث بحماس شديد عن تدويل التبادلات البورصية الجديدة كما يدور الحديث اليوم عن العولمة المالية.
كان الكاتب الشهير جول فيرن Jules Verne يجعل بطله (الإنجليزى طبعا) يدور حول العالم فى ثمانين يوماً: وهكذا كانت بداية "القرية العالمية".
ان انتصار "الفترة الجميلة" لم يدم أكثر من عشريتين. وقد تنبأ لهذا الانهيار بعض الديناصورات مثل لينين (كان شابا آنذاك) ولكن لم ينصت إليهم أحد.
فالليبرالية لم تقلص من حدة التناقضات الخاصة بالنظام بل على العكس ضاعفت من شدتها.
وقد شهدت ثلاثة أرباع القرن العشرين مشاريع اللحاق وتحولات متفاوتة الجذرية فى بلدان التخوم أصبحت ممكنة بسبب تفكك العولمة الليبرالية الطوباوية للفترة المعروفة "بالفترة الجميلة".
وأخذ الأمر ما لا يقل عن ثلاثين عاما 1945-1914 وحربين عالميتين وأزمة الثلاثينات وثورتين عظميين (روسيا والصين) ونهوض كل من آسيا وأفريقيا من أجل تغيير موازين القوى لصالح الطبقات العاملة والشعوب وذلك إثر انتصار الديمقراطية على الفاشية والتحرر الوطنى من الاستعمار.
يعنى ذلك أن موازين القوى الحالية والتى هى فى صالح رأس المال سوف لن تتغير بسهولة. فالتحديات التى تواجه الحركات الاجتماعية الرافضة لهذه الوضعية كبيرة جداً ويجب وضع ذلك فى الحسبان.
لقد تميز النصف الأوسط من القرن العشرين بموازين قوى اجتماعية ودولية أجبرت رأس المال على التكيف مع منطق مصالح الطبقات العاملة والشعوب فرجحت الكفة لصالح هؤلاء، والأزمة التى تبعت (1968 - 1975) كانت أزمة انجراف ثم انهيار الأنظمة التأسيسية للتطور السابق. والفترة التى لم ننته منها بعد ليست فترة إقامة نظام عالمى جديد كما يحلو للبعض القول، بل هى فترة إقامة فوضى من الصعب التحكم فيها. والسياسات الموضوعة فى هذه الظروف لا تشكل إجابة لاستراتيجيات توسع رأس المال بل تكتفى بتسيير الأزمة لا غير. ولكنها لن تتوصل إلى ذلك لأن المشروع "العشوائى" الناجم عن السيطرة المباشرة لرأس المال، سيفشل لأنه مشروع طوبوى، وطوباوية تسيير أمور الدنيا بقوانين السوق والمصالح المهيمنة لرأس المال لن تؤدى إلى أى نتيجة بغياب الأطر التى تفرضها القوى الاجتماعية الفاعلة والمنظمة.
هكذا هو التاريخ الحديث: تتلو مراحل إعادة الإنتاج للأنظمة التراكمية فترات من الفوضى.
وفى أولى هذه المراحل - ما بعد الحرب- كان سير الأحداث رتيبا لأن موازين القوى الاجتماعية والدولية كانت مستقرة.
ويتم إعادة إنتاج هذه العلاقات بفضل الدينامية الخاصة بالنظام، ويبرز خلال هذه المراحل فاعلون تاريخيون معينون (طبقات اجتماعية فاعلة، دول، أحزاب سياسية، ومنظمات اجتماعية قوية) ذوو ممارسات ثابتة وردود فعل متوقعة وأيديولوجيات تتمتع بالشرعية اللازمة. قد تتغير الظروف فى هذه الفترات لكن البنى تبقى مستقرة. وذلك يسهل من عملية الاستشراف.
لكن الخطر يأتى عندما تمتد هذه التوقعات وكأنها بنىً دائمة إلى الأبد ومعلنة "نهاية التاريخ".
وعوضا عن تحليل التناقضات التى تمس بنى النظام يعرض البعض نظرة خطية تقودها "قوة الأشياء" "وقوانين التاريخ" حيث وصفها، عن حق، مفكرو ما بعد الحداثة بـ "السرد الأكبر" Les grandes narrations.
وهكذا يختفى فاعلوا التاريخ وراء المنطق البنيوى المزعوم للموضوعية.
لكن التناقضات هذه لا تعمل باطنيا ولابد لها من الانفجار يوماً، ما فتنهار فجأة البنى التى كانت تبدو مستقرة ويدخل التاريخ فى مرحلة توصف بالانتقالية. غير أن هذه المرحلة تعاش وكأنها اتجاه نحو المجهول. وخلالها يتبلور فاعلون تاريخيون جدد يبحثون عن ممارسات جديدة محاولين اضفاء صيغة أيديولوجية جديدة تكون غامضة فى البداية. لكن الأشياء تتبلور شيئا فشيئاً وتظهر علاقات جديدة محددة.
(4) فتطوى صفحة المشاريع التنموية التى ميزت القرن العشرين، وتنهار النماذج الثلاثة للتراكم المقيد الذى عرفته فترة ما بعد الحرب والذى أدى إلى أزمة بنيوية للنظام من 1968 إلى 1971 تذكرنا بأزمة نهاية القرن التاسع عشر. وتهبط معدلات الاستثمار والنمو إلى نصف ما كانت عليه فترتفع البطالة وينتشر الفقر واللامساواة على جميع الأصعدة الوطنية والدولية.
وتفسر الأزمة بكون الأرباح التى يولدها الاستغلال لا تجد منافذ كافية تستغل فى استثمارات إنتاجية.
ويحاول إيجاد حلول لإدارة الأزمة بخلق منافذ جديدة للفائض من رؤوس الأموال العائمة وتجنب إنقاصها المفاجئ. أما الحل الجدى للأزمة فيكمن فى تغيير القواعد الاجتماعية المتحكمة فى توزيع الدخل والاستهلاك والاستثمار أو بعبارة أخرى إنشاء مشروع اجتماعى جديد منسجم ومختلف عن المشروع الحالى الذى يرتكز على قاعدة المردودية لا غير.
إن هذه الطريقة فى إدارة الأزمة كانت سيئة بالنسبة للطبقات العاملة ولشعوب بلدان التخوم، (وكذلك المركز) غير أنها كانت مجدية ومفيدة للغاية لطبقات رأس المال المهيمن، فالفوارق شاسعة فى توزيع الدخل بين طبقات المجتمع وإذا كانت قد خلّفت الفقر والهشاسة والتهميش للبعض، فقد صنعت من ناحية أخرى أصحاب المليارات الذين يتباهون بدون حياء "بالعولمة السعيدة".
الأزمة البنيوية هذه كالتى سبقتها عرفت ثورة تكنولوجية ثالثة أثرت بعنف فى الأنماط التنظيمية للعمل فأضعفت فعالية ثم شرعية الأشكال النضالية السابقة للعمال والشعوب، وتشرذمت الحركات الاجتماعية ولم تستطع إلى الآن الإجابة بفعالية على التحديات التى تواجهها. غير أنها قد بدأت باقتحامات فى ميادين واتجاهات عديدة. فدخلت الحركات النسائية فى الحياة الاجتماعية وانتشر الوعى بمدى الدمار الذى مس البيئة على مستوى القارة إذ أصبح يهدد المعمورة بأسرها. فى سنوات قليلة تعززت قوى النضال الاجتماعى وأصبحت تظاهرات سياتل وبورتو أليغرى تخيف أقوياء الساعة.
كان هذا القلق وراء الهجمة الأخيرة لبلدان مجموعة السبعة. فبين عشية وضحاها غيرت هذه البلدان من لهجتها مستعملة مصطلح التقنين الذى كان محظورا سابقا: ونسمع الآن وجوب التقنين فى التحركات المالية الدولية، وعرض اقتصادي البنك العالمى ستيغلينز Stiglizl اقتراح حوار يحدد معالم توافق ما بعد واشنطن Post washington consensus الجديدة وأما الداعية Georges Soros فنشر كتابا تحت عنوان "أزمة الرأسمالية العالمية- أصولية الأسواق" الذى يعتبر محاولة لإنقاذ الرأسمالية من النيوليبرالية. لكن علينا أن لا نغفل أنها استراتيجية تصبو إلى نفس الأهداف وهى السماح لرأس مال الشركات المتعدية الجنسيات بالتحكم فى زمام الأمور، فيجب علينا أن لا نقلل من أهمية ردة الفعل الجديدة. والكثير من السُذّج وقعوا وسوف يقعون فى المصيدة.
لقد بدأ البنك العالمى منذ سنوات بتوظيف المنظمات غير الحكومية فى خدمة خطابه المعروف بمكافحة الفقر.
وفى هذا الظرف الفوضوى استرجعت الولايات المتحدة هجومها لإعادة هيمنتها الشمولية التى تمكنها من ترتيب النظام العالمى فى أبعاده السياسية الاقتصادية والعسكرية.
(5) إن المرحلة الحالية من انتشار الرأسمالية تلح على حدوث "شئ جديد" على ساحتها والمطلوب الآن من الحركات الاجتماعية أن تضع نصب أعينها "الواقع الجديد"، وأن تقترح بدائل مضادة لرأس المال السياسى تتيح توظيف هذا "الجديد" لصالحها.
وفى خضم الواقع المعقد الراهن ليس من السهل فرز الجديد الخاضع للاتجاهات العريضة والطويلة المدى، من "الجديد الظرفى" المتعلق بإدارة الأزمة الحالية. صحيح أن لكل ظاهرة من المجموعتين واقعها الخاص غير أن الظاهرة الثانية خاصة بالأزمة وإدارتها الحالية بينما تتعلق الأولى "بتحولات فى عمق النظام".
إن أهمية الثورة العلمية والتكنولوجية الحالية وانعكاساتها على تنظيم العمل وعلى العلاقات الاجتماعية وعلى ثقافة مجتمعات الغد تشكل النواة الصلبة "للجديد الصحيح".
الثورة المعاصرة وخاصة المعلوماتية تشكل قوة كبيرة فى إعادة هيكلة النسق الإنتاجية (بخاصة فى التشتت الجغرافى للأجزاء المتحكم فيها عن بعد)، بالتالى فإن سيرورة العمل بصدد عملية تغير عميقة. إذ تٌعَوَّض نماذج العمل التسلسلى travail a la chaine (التايلورية) بأشكال جديدة تؤثر بعمق فى بنية الطبقات الاجتماعية وإداراتها بالمشاكل المتعلقة بتجزئة أسواق العمل. يتعلق الأمر هنا بتغيير على المدى البعيد.
قد يؤدى التطور فى هذا الميدان "إلى تلاشى قانون القيمة" مما يعنى أيضا أن الرأسمالية يجب تجاوزها. وقد يكون ذلك بطرائق مختلفة: بطريق الاشتراكية- الرد الإنسانى الوحيد للتحدى المفروض- أو بوضع نظام تفرقة معمم لا يرتكز من خلاله التمييز الاجتماعى على المشاركة فى خلق القيمة (حتى لو أدت هذه المشاركة إلى استغلال) بل على معايير أخرى شبه سياسية وثقافية.
على كل حال يصح القول بأن كل ثورة تكنولوجية تحول البنى التنظيمية للعمل. وإذا كان المجتمع طبقيا فلن تزول هذه الطبقات بفعل التحول المذكور بل ستغير من شكلها إلى درجة توهم باختفائها كما هو الحال عليه الآن، بالتالى فإن أشكال التنظيم الاجتماعى والأشكال التى تتخذها مختلف المشاريع شديدة التأثر بالثورة التكنولوجية. هنالك تعايش للأحسن وللأسوأ.
إن الأدبيات السائدة المتعلقة بالتحولات فى تنظيم العمل إضافة إلى انتشار الثورة التكنولوجية الحالية تزعم أن هناك نموذج جديد للمجتمع يرتكز على تنظيم شبكى عوضا عن التنظيم السلمى وعلى تفاعل المشاريع عوضا عن الوحدة التى كانت تمثلها المؤسسة. كما أنها تزعم أن المجتمع الشبكى الجديد سيفتح آفاقاً أمام الاستقلالية الخلاقة والإبداعية للأفراد إلخ ويتكون هذا المجتمع تحت أعيننا.
فما هى يا ترى النتائج الاجتماعية الحقيقية المترتبة عليه؟ التزايد السريع والاستثنائى فى حصص عوائد رأس المال والملكية على حساب عوائد العمل، التهميش والفقر والإقصاء لأجزاء كبيرة من الشعوب. إن هذه الوقائع تبطل ما يزعمه الخطاب السائد عن كون الفرد أصبح صانعا للتاريخ، وأن الطبقات والأمم أصبحت مفاهيم بالية. كما أن مثالية الاتصال الذى سيحل مشاكل الإنسانية مزيلا الصراعات تنتمى إلى نفس الخطاب. بينما يبقى الفرد كائنا اجتماعيا حبيس القهر والاستغلال الذى يقوم عليه مجتمعنا المعاصر.
من ناحية أخرى فإن تطور القوى الإنتاجية التى هى فى نفس الوقت قوى مدمرة، وصل إلى درجة تحول نوعى يجعلنا نطرح على أنفسنا أسئلة جديدة.
إن ترسانة الأسلحة النووية من شأنها أن تضع حدًا لكل حى على وجه المعمورة، وبالتالى تتطلب هذه الظاهرة الجديدة فى التاريخ العدول عن استعمالها وتفكيكها بأكملها. أما الحلف الأطلسى فقد اتخذ موقفا معاكسا تماما بحيث استعمل الحرب لحل النزاعات السياسية. وهناك ميادين أخرى مثل البيو وراثية التى توصلت فيها المعلومات العلمية إلى درجة عالية جداً ولكن قد تكون ضارة للإنسانية إذا لم يتم التحكم فيها وتسييرها اجتماعيا. فى هذا الميدان تظل مراعاة القيم الأخلاقية والقواعد السبيل الوحيد لضمان سيرورة الإنسانية.
غير أن النظام القائم حاليا يتصرف عكس ذلك تماما بلجوئه إلى الخصخصة. وتطور القوى الإنتاجية فى شكلها الحالى لن يؤدى من الآن فصاعدا إلى التطور الاجتماعى بل إلى تدميره، وبالتالى يستوجب تجاوزها. (انظر البعد الهدام لدى الرأسمالية).
وإن مسألة البيئة هنا مطروحة بحدة حيث إن الإنسانية تعيش لأول مرة فى تاريخها خطرا حقيقيا يهدد الحياة على وجه الأرض. فهل من الممكن إذن تصور أى مشروع للمجتمع لا يأخذ فى الحسبان هذا الواقع.
لقد تم إثبات فشل الرأسمالية أياً كان شكلها فى إيجاد حلول للتحديات المطروحة. ذلك لأن الرأسمالية مبنية على الحسابات القصيرة المدى (بضعة سنوات على أقصى حد) وتبرهن على ذلك نظرتها السلبية والناقصة للمستقبل. بيد أننا نعلم أن المسألة المطروحة الآن تتطلب وضع سياسة عقلانية طويلة المدى (إلى الأبد)، وظهور مشكلة البيئة دليل على كون الرأسمالية بوصفها حضارة أصبحت عاجزة عن التقدم ومن الضرورى تجاوزها لكن للأسف "الخضر فى غالبيتهم لا يتفهمون ذلك.
-إن قراءة جيدة للعديد من الظواهر التى تبدو بديهية تسمح لنا بالتعرف على الشكل الظرفى وغير الدائم لها. فى هذا المجال بإمكاننا ذكر "تراجع الدولة" "effacement de L`Etat" وأميلة "financiarisation" رأس المال. (أى تغلب البعد المالي علي الأبعاد الإنتاجية فى القرار الاقتصادى)
والخطاب السائد هنا يزعم أن الشركة الكبيرة حصلت على استقلاليتها تجاه الدولة وأصبحت الفاعل المهيمن والمنفرد فى المرحلة الجديدة المستديمة للرأسمالية. ويأخذ المنظرون الإيديولوجيون بالتباهى والتفاخر فى خطاباتهم المعلنة "ضد الدولة".
لكن فى الواقع تظل الشركات المتعدية الجنسيات الكبرى وطنية (خاصة بتملكها وتحكمها فى رأس المال) وتتعدى أنشطتها حدود بلدها الأصلى كما أن انتشارها فى حاجة إلى مساندة جدية من الدولة. لكنها فى نفس الوقت اكتسبت من القوة ما يمكنها من تطوير وانتشار استراتيجيتها خارج (وأحيانا ضد) سياسة دولتها. فهى ترغب فى إخضاع منطق هذه الأخيرة إلى استراتيجيتها ومنطقها. والخطاب النيوليبرالى يخفى أهدافه هذه لإضفاء الشرعية لمنطقه الحصرى الذى يدافع عن المصالح الخاصة بالشركات هذه. إن "الحرية" المنادى بها ليست للجميع بل تقتصر على مصالح الشركات على حساب الآخرين. بهذا المعنى يُعتبر الخطاب النيوليبرالى أيديولوجيا ومخادعا فى الوقت نفسه. ووضعية العلاقة التى تربط رأس المال المحتكر (الأوليغوبولى) الخاص بالدولة علاقة مبهمة وغامضة. لكن لا أحد يستطيع الجزم بأن المتغلب فى هذه الساعة سيظل متغلبا ومكتسبا الدور الأهم على المدى البعيد. فالعابر هنا قد يصبح مستديما بدون رجعة.
من ناحية أخرى، فالحديث عن رأس مال متعدى الجنسيات (بالتالى عن برجوازية متعدية الجنسيات) يعوض دور رؤوس الأموال الوطنية ذات المدي العالمى، يبدو سابقا لأوانه الآن. إن التضامن بين أعضاء الثالوث له جذور أخرى.
إن الاميلة financiarisation La ظاهرة ظرفية ناتجة عن الأزمة. فالفائض من الرساميل الذى لا يجد توظيفاً فى انتشار النظم الإنتاجية يشكل خطرا حقيقيا بإنقاص فالأسئلة قيمة رأس المال للطبقات الحاكمة. وتتطلب إدارة الأزمة إيجاد أسواق مالية لتجنب الكارثة. غير أن ذلك لا يعد سوى هروب إلى الأمام لا يسمح بخروج فعلى من الأزمة. بالعكس فالأميلة تحبس الأزمة داخل دوامة ركود لأنها تضاعف من عدم التكافؤ فى توزيع الدخل وتجبر الشركات الكبرى على لعب دور الممول.
نحن لا نعرف أى شكل ستتخذه الأزمة الكبرى "الآتية" (انهيار البورصات؟). كما أننا لا نعرف ما هى الردود السياسية التى ستأتى بها الحركات الاجتماعية للنتائج الفوضوية الناجمة عن الأزمة. هل ستكون نيو شعبوية رجعية أم يسارية راديكالية؟ إن بنى النظام المستقبلى متوقفة على الأجوبة التى تأتى بها هذه الحركات.
لقد عملت حركة الأميلة خلال العشرين سنة الماضية على تركيز قوى لرؤوس الأموال بحيث تضاعف سبع مرات حجم الإدماجات وأصبح مستحيلا الآن الرجوع إلى الوراء. والتساؤل المطروح حاليا عن مدى شرعية تركيز القوى الخاصة- بالتالى الممارسات غير الشفافة اللاديمقراطية التى تميزها- التى تأخذ مكان السلطات العامة الكفيلة وحدها بضمان الشفافية.
إن الإدارة الاقتصادية للأزمة تهدف إلى "عدم التقنين" والتقليص من المواقف الصارمة "للنقابات وتفكيكها إن أمكن ذلك وتحرير الأسعار والأجور وخفض المصاريف العمومية (خاصة الإعانات والخدمات الاجتماعية) والخصخصة وفتح علاقات مع الخارج إلخ.
من ناحية أخرى فإن مصطلح "عدم التقنين" مصطلح مخادع أصلا. لأنه لا توجد أسواق غير مقننة ما عدا فى ذهن الاقتصادى "البحت". فكل الأسواق مقننة وتعمل وفق التقنين. والسؤال هو معرفة كيف ومن يقننها. من خلف عبارة عدم يتستر واقع غير معلن عنه: واقع التقنين الأحادى المسير من طرف رأس المال المهيمن.
بالطبع، فى الوقت الذى تسجن فيه الليبرالية الاقتصاد فى دوامة ركود من الصعب التحكم فيها على المستوى العالمى، وتتزايد الصراعات التى يصعب حلها، يظل الخطاب الليبرالى يردد وعوده بتنمية "سليمة".
إن العولمة الرأسمالية تتطلب إدارة للأزمة على هذا المستوى لإيجاد حل للفائض الكبير من الرساميل العائمة. capitaux flottants. فمن الضرورى التصدى للفائض الهائل من الرساميل العائمة التى تخضع الاقتصاد إلى معيار واحد ووحيد: الأرباح المالية.
وفتح المجال أمام التنقلات الدولية لرؤوس الأموال والتعامل بمبدأ الصرف العائم وأسعار الفائدة المرتفعة والعجز فى ميزانية الدفع الأمريكية والديون الخارجية لبلدان العالم الثالث وسياسات الخصخصة كل هذه العناصر - تكون وحدة سياسية عقلانية تسمح لرؤوس الأموال العائمة بمخرج، معتمدة بذلك على المضاربة المالية لتجنب خطر الإنقاص الشديد devalorisation massive من قيمة الفائض فى رؤوس الأموال.
وقد سببت سياسة التحركات غير المستقرة flux instables خسائر كبيرة ظهرت إثر الأزمة الآسيوية عام 1997 إذ كانت المنطقة تعرف حالة ادخار شديد ولم تكن بحاجة إلى رؤوس أموال خارجية عائمة. وكان هؤلاء يعلمون جيدا أنهم يمولون تضخما اصطناعيا للعقار والأوراق المالية جلب لهم أرباحا فورية عظيمة لكنهم تركوا خلفهم الدمار الاقتصادى والاجتماعى. فيما يخص هذا الموضوع تم تقديم عدة اقتراحات بشأن فرض ضريبة على التحركات المضاربة. (taxe Tobin) والإجراءات الواجب اتخاذها لمحاربة "الجنات الضرائبية" fiscaux Paradis.
ليست الأميلة من الصفات المستديمة للرأسمالية الجديدة كما يعتقد بعض المحللين الذين يرونها بوصفها خصوصية للرأسمالية "الأنجلوساكسونية" بالمقارنة مع خصوصية رأسمالية "ألمانيا واليابان". وليس بإمكان الدوائر المالية أن تتنامى بمعزل عن الاقتصاد الحقيقى. أما الخطاب السائد حول الأميلة فهو يلح على نوعية أخرى من المشاكل المتعلقة بكبر سن سكان الثالوث وانفجار صناديق المعاشات Fonds de pension. هناك بعض التحليلات تشير إلى وجود كتلة من الدائنين creanciers تشكل قوة اجتماعية واعية بمصالحها. ويتعلق الأمر بمجموع المتقاعدين ومن ورائهم مجموع الأجراء "المستقرين" المتضامنين مع مسيرى "الأرصدة التقاعدية" Fonds de pension بحيث يكون همهم الوحيد إبعاد خطر التضخم لأنهم يستفيدون من أسعار الفائدة المرتفعة ومن الرسملة المالية لأرصدتهم.
وتتعارض هذه الكتلة فى رأيهم مع كتلة المُبعدين والعاطلين عن العمل والعمال غير المستقرين فالقطيعة الاجتماعية لم تعد تظهر فى معارضة رأس المال مع العمل بل فى كتلة الدائنين (التى تجمع رأس المال والعمل) مقابل المُبعدين.
إن المسألة تستحق التفكير لأن الرسملة الخاصة بالأرصدة (الشكل الأمريكى) تتعارض مع تقاليد بعض البلدان الأوروبية والقوى اليسارية عامة التى تفضل نظام التوزيع. لكن فى الحقيقة النظم الأوروبية النموذج الأمريكى. ليست هذه الاستراتيجية المتبناة بهدف خلق كتلة الدائنين غير الموجودة فى الواقع (إلى الآن) كما أنها ليست ناتجا حتميا "للتطور" بل هى تشكل ورقة رابحة للقوى الرأسمالية المهيمنة فى عمليتها المدمرة لجبهة العمل.
-فهل العولمة قفزة نوعية؟ سؤال يستدعى البحث والتفكير.
نلاحظ الآن اتجاها واضحا يتلخص فى تعويض الاقتصاد الدولى الذى ميز المراحل السابقة من الرأسمالية باقتصاد عالمى. غير أن تفكك النظم الإنتاجية المركزية الوطنية مازال جزئيا ونسبيا. إضافة إلى ذلك لم يبرز منطق نظام إنتاجى معولم يعوض النظام السابق كما أن غياب سلطة سياسية قادرة على إدارة النظام المعولم ذى البناء الفوضوى ومتمتعة بشرعية تضاهى شرعية الدولة القومية، يشكل تناقضا صارخا للفترة التى نعيشها. هذا الغياب يؤدى حاليا إلى الخضوع المؤقت لهيمنة الولايات المتحدة.
تبدو العولمة وكأنها أرخبيل داخل المحيط وكثافة توزيع جزر هذا الأرخبيل متفاوتة: فهى قوية فى المناطق المركزية حيث تتركز الشركات المتعدية الجنسيات ومتوسطة فى المناطق ذات التصنيع المتوسط وضعيفة فى التخوم (العالم الرابع).
ومن الأكيد أن أنظمة الدول تتآكل من الأعلى ومن الأسفل من طرف مجموعات محلية تتصرف وكأنها مجموعة فاعلين مستقلين داخل العولمة. يبقى أن هذه المجموعات الفرعية المعولمة غير منسجمة، من ناحية أخرى فإن ما خلفته المرحلة السابقة أى مرحلة ما بعد الحرب (1945 - 1990) أدى إلى تفجير العالم غير المصنع. (1880 - 1950) إلى ثلاثة طبقات متباينة:
-الطبقة الأولى: البلدان الاشتراكية سابقا: الصين، كوريا، ومعها تايوان، الهند، البرازيل، المكسيك، حيث تمكنت هذه البلدان من بناء نظم إنتاجية وطنية قادرة على المنافسة.
الطبقة الثانية: البلدان التى دخلت فى التصنيع لكنها لم تستطع انشاء نظم إنتاجية وطنية: البلدان العربية، أفريقيا الجنوبية، إيران، تركيا، أمريكا اللاتينية، جنوب شرق آسيا. ونجد فى بعض الحالات منشآت صناعية "تنافسية" تتوفر فيها اليد العاملة الرخيصة ولكنها تفتقد الإدارة التنافسية.
الطبقة الثالثة: البلدان التى لم تدخل فى التصنيع (خاصة البلدان الأفريقية) فهى ليست تنافسية فيما عدا المجالات التى تتميز بها من حيث الموارد الطبيعية، المناجم، البترول والمواد الزراعية.
ليس بمقدور العولمة أن تلحق بلدان الطبقة الأولى ببلدان "المراكز الجديدة" أى أن تصبح بلداناً متطورة بالمفهوم الرأسمالى للكلمة. فما بالك بالطبقات الأخرى. وحتى فى المناطق التى عرفت تصنيعاً متطوراً تظل التخوم تشكل "احتياطى" تستعمل فيها قوة العمل فى أنشطة ذات إنتاجية ضعيفة. والسبب يعود إلى كون سياسات التحديث. أى محاولات "اللحاق" تفرض خيارات تكنولوجية حديثة وباهظة الكلفة من حيث استغلال رؤوس الأموال واليد العاملة الماهرة ويتفاقم هذا التوتر كلما تزامنت الحداثة مع توزيع غير متكافىء للدخل.
وضمن هذه الظروف يستحيل للأنشطة الإنتاجية الحديثة أن تستوعب الاحتياطى الهائل من اليد العاملة فالتخوم الديناميكية، بالرغم من ديناميكيتها تظل تخوماً. يعنى مجتمعات تعيش التناقضات الكبرى الناتجة عن تماس أجزاء تم تحديثها (وإن كان تحديثاً نسبياً) بمحيط ضعيف الحداثة، من جهة أخرى تساهم هذه التناقضات فى إبقائها فى وضعية متدنية خاضعة للاحتكارات الخمسة لبلدان المراكز. (انظر الاستقطاب). إن الأطروحة القائلة بالاشتراكية هى الحل الوحيد لمشاكل المجتمعات ما دمنا لا ننظر إليها بوصفها وصفة كاملة ونهائية بل بوصفها حركة تضامنية أسست بفضل استراتيجيات شعبية تؤمن النقل التدريجى والمنظم من الاحتياطى نحو الأجزاء الحديثة بطرق متحضرة. ذلك يتطلب فك ارتباط أى إخضاع العلاقات الخارجية إلى منطق المرحلة الوطنية الشعبية الانتقالية الطويلة.
فماذا عن المناطق المهمشة؟ هل الأمر ظاهرة بدون سابقة تاريخية أم أنها تترجم ميلا مستمراً للانتشار الرأسمالى الذى ميزته علاقة لم تكن سلبية تماما تجاه التخوم فى فترة ما بعد الحرب.
إن هذا الوضع الاستثنائى كان أساس "التضامن" فى العالم الثالث (فى نضاله ضد الاستعمار ومطالبه بخصوص المواد الأولية وإرادته السياسية فى التحديث والتصنيع الذى طالما حاول الغرب مقاومته).
كل ذلك تم رغم الاختلافات بين دول العالم الثالث. ولكن كون النجاح الذى تحقق على مختلف الجبهات كان غير متساوٍ، قد أدى إلى فشل التناسق والتضامن فى العالم الثالث.
كُتب الكثير عن المعجزة الآسيوية. آسيا، المحيط الهادىء مركز المستقبل آسيا التى تتصدر مكانة أمريكا وأوروبا فى التحكم فى العالم، الصين، القوة العظمى للمستقبل كتب الكثير عن ذلك. غير أن بعض التحاليل والكتابات جديرة بالانتباه والنقاش. منها من رأى فى الحالة الآسيوية إعادة النظر فى نظرية الاستقطاب الخاصة بالانتشار الرأسمالى العالمى وإعادة النظر فى استراتيجيات فك الارتباط بوصفه ردًا على تحدى الاستقطاب. هكذا أصبحت نظرية "اللحاق" ممكنة وخاصة مع اندماج فاعل فى حركة العولمة بدلاً من فك ارتباط وهمى يكون مسؤلاً فى أعينهم عن الكارثة السوفيتية.
ويعود نجاح آسيا حسب البعض إلى عوامل داخلية من بينها العامل الثقافى الذى سمح لبعض البلدان الآسيوية بفرض أنفسها والدخول الفاعل فى مجال العولمة بينما فشل البعض الآخر وهُمش وأصبح "منفكاً" دون إرادته.
هذا هو تعريف فك الارتباط الذى ينظر إليه بعض المحللين المتسرعين فى تحليلاتهم بوصفه اكتفاء ذاتياً autarcie لكن الأزمة التى لحقت ببلدان جنوب شرق آسيا قد خفضت من حدة هذا الخطاب. ويبقى أن مسألة دخول الصين وكوريا فى الاقتصاد المعولم مطروحة.
بصفة عامة يتميز الاقتصاد المعولم الجديد بمعدلات نمو متفاوتة السرعة. ونحن نتساءل إن كان ذلك جديداً؟
ألم تشكل طريقة النمو المتفاوت هذه قاعدة تاريخية للرأسمالية. إن فترة ما بعد الحرب 1945-1980 مثلت فترة استثنائية فى تاريخ الرأسمالية بحيث سمحت العلاقات الاجتماعية آنذاك بتدخلات الدولة (دولة الرفاهية)، الدولة السوفيتية، والدولة القومية فى باندونغ والعالم الثالث. وكان ذلك استجابة لمتطلبات النمو وتحديث القوى الإنتاجية بتنظيم التحولات الاقليمية والقطاعية المسيرة لها.
هناك جوانب عديدة من الأزمة التى يعيشها العالم المعاصر تدل على أننا نعانى من أزمة حضارة، وأن الرأسمالية أصبحت نظاماً بالياً غير قادر على الاستجابة لتحديات ومشاكل الأنماء، وبالتالى يتوجب تجاوزه، فعلى الحركات الاجتماعية أن تفكر فى ذلك.
واللبرالية المعولمة الأميلة التى تنتج عنها ما هى إلا منشطات تستعملها الرأسمالية المترهلة. إنها الفياجرا لهذا الجسم الهرم.
سمير أمين
(1) إن الرأسمالية نظام ذو تحولات مستمرة وسريعة نسبيا بالمقارنة مع الأنظمة السابقة التى كانت تبدو مستقرة، بالتالى فمن الضرورى معاينة كل المستجدات على ساحتها بهدف تحليلها والتصدى لها بفعالية. لكن بالرغم من جدية هذه التحولات إلا أنها تظل حبيسة المنطق الخاص بالرأسمالية، ويجب التذكير بهذه الحقيقة.
فالخطاب الإيديولوجى للرأسمالية الخيالية Le Capitalisme imaginaire يعزو للاختراعات التكنولوجية التقدم والرقى، ويكلف تنافسات رأس المال على مستوى الأسواق بترجمة ذلك على أرض الواقع. فتستفيد من هذا التقدم مختلف الطبقات الاجتماعية مكرسة بذلك الديمقراطية والسلم، كما أن تعميم ونشر هذا النظام يعود بالفائدة علي لكافة الشعوب التى ستتمتع بالفوز النهائى للعقلانية ("نهاية التاريخ"). ويضيف الخطاب الرأسمالى أنه ليس هناك من بديل (معقول) ويجب إخضاع كل جوانب الحياة الاجتماعية لمتطلبات المنطق الأحادى لرأس المال.
لكن تاريخ الرأسمالية القائمة بالفعل Le Capitalisme reellement existant يكذب هذه الصورة التى لا ترتكز على أى أساس علمى. إنه تاريخ صراع مستمر بين منطق التراكم الرأسمالى ومنطق المصالح الاجتماعية والوطنية المتناقضة معه. وفى نفس الوقت فهو يبين لنا مدى ارتباط البعد الهدّام لمنطق الرأسمالية الأحادى بالبعد الخلاق والإبداعى للمنطق نفسه. (انظر الأبعاد الهدامة للتراكم الرأسمالى). فالمجتمعات الحقيقية تواجه باستمرار العديد من البدائل ويُفرض عليها الخيار فيما بينها، ويحدد توازن القوى فى كل مرحلة النمط الذى يجرى اختياره.
وهى الآن بصدد مواجهة جديدة تتطلب منها إعادة النظر فى النظام القائم وتصور نظام آخر قادر على تحريرها من الدمار والخراب الذى يؤدى إليه توسع الرأسمالية فى الأوضاع الحالية، فيجب وضع هذا الجديد الناتج من تطور الحقبة المذكورة فى الإطار التحليلى النقدى المناسب.
(2) لقد تكون العالم الحديث حول نظام جديد، حددته الرأسمالية ابتداءً من العام 1500- وخلال الفترة المركانتيلية التى دامت ثلاثة قرون 1500-1800. أخذت أوروبا الأطلنطية مبادرة وضع نظام جديد عَوّض التحكم فى الطرق البرية (المعروفة بطرق الحرير) بإنشاء طرق الملاحة عبر المحيط. هكذا تم تأسيس قاعدة النظام الرأسمالى للقرن العشرين، ووَلّد هذا النظام ظاهرة جديدة لم يحدث للتاريخ أن عرفها من قبل ألا وهى ظاهرة الاستقطاب على المستوى العالمى. (انظر الاستقطاب) وتصاعدت الفجوة الإنمائية بين المراكز المصنعة والتخوم غير المصنعة بقدر لم يسبق له مثيل.
لقد تميز القرن العشرون بثورته ضد النظام الاقتصادى القائم. فهاجمته هذه الثورة على صعيدين: الأول متعلق بجوهرعلاقات الرأسمالية التى يرتكز عليها والتى ناهضتها الثورات الاشتراكية، والثانى متعلق بالاستقطاب الناتج عنه والذى حاربته الحركات التحررية الوطنية فى آسيا وأفريقيا. وتتالت خلال هذا العصر أنظمة رأسمالية مختلفة.
شهدت نهاية القرن التاسع عشر. منذ 1880 حتى 1945 تكوين رأسمالية الاحتكارات. وبإمكاننا الحديث هنا عن "ليبرالية قومية للاحتكارات". ومفهوم الليبرالية هنا يعنى إثباتاً مزدوجاً للدور الهام الذى تلعبه الأسواق الاحتكارية (الأوليغوبوليستية marches oligopolistiques فى إدارة وتنظيم الاقتصاد ضمن إطار سياسات الدولة من جهة وفى ممارسة الديمقراطية السياسية البرجوازية من جهة ثانية.
إن القومية Le nationalisme تقوم بتعديلات فى النموذج الليبرالى وتمنح الشرعية لسياسات الدولة التى تساند التنافس فى النظام العالمى. وتتمفصل هذه الأخيرة حول تكتلات محلية مهيمنة تعزز قدرات احتكارات رؤوس الأموال بإقامتها تحالفات مع الطبقات الوسطى و/ أو الأرستقراطية عازلة بذلك الطبقة العاملة الصناعية. (ذات الميول "الاشتراكية")
ومع انفجار الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 ظهرت أول أزمة للنظام الليبرالى القومى للاحتكارات. مبرهنة على فشل هذا النظام فى خلق ظروف "عولمة سلمية".
ولكن بالرغم من ذلك تمكنت الأنظمة الرأسمالية المهيمنة من فرض وصفاتها الليبرالية. مما أدّى إلى الانحراف الفاشى والتخلى عن الجانب السياسى والديمقراطى للنظام. لكنه لم يتخل عن القومية (بل على العكس زاد من حدتها) ولا عن التحالفات الاجتماعية الداخلية التى تعزز من قدرات الاحتكارات. فالنظام الفاشى جزء لا يتجزأ من النظام المهيمن الوحيد الذى يميز هذه الحقبة من تاريخ الرأسمالية، حتى وإن كان من أقبح وجوهها.
ابتداءً من 1945 , وحتى 1980 يظهر على الساحة العالمية نظام رأسمالى جديد يعوض الليبرالية القومية، فقد استطاعت الحرب العالمية الثانية وبفضل هزيمة الفاشية أن تغير من موازين القوى لصالح الطبقات العمالية فى الغرب المتطور (تمكنت هذه الطبقات من اكتساب شرعية ووضعية اجتماعية لم تعرفها من قبل) وتحررت الشعوب من الاستعمار وتجلت الاشتراكية فى الاشتراكية القائمة بالفعل (أى النمط السوفيتى). كانت العلاقات الجديدة هذه وراء الأنماط الثلاثة التالية: دولة الرفاهية، والدولة التنموية فى العالم الثالث، والدولة الاشتراكية المخططة. وتميز النظام الاقتصادى لتلك الفترة 1945-1980 بالقومية والاجتماعية وبالسير ضمن عولمة مقننة هى الاخرى.
وكانت السياسات المتخذة آنذاك اجتماعية وقومية متجاوبة مع أهداف الساعة. وتُرجم التضامن باستقرار ملحوظ فى توزيع الدخل، وفى التوظيف الكامل، وفى زيادة النفقات الاجتماعية. وصُممت هذه السياسة على المستوى القومى بتدخل مستمر للدولة.
لم تكن هناك مبالغة فى وطنية النموذج إذ كان يندرج ضمن جو عام من الأقلمة (بناء التجمع الأوروبى) وسياسة الانفتاح العالمية (خطة مارشال، انتشار الشركات المتعدية الجنسيات، الـ الأونكتاد، الـ جات ... إلخ) المقبول بها وفى نفس الوقت المتحكم فيها.
فالتناظر فى الأهداف الأساسية بين دولة الرفاهية من جهة وأهداف التحديث فى بلدان العالم الثالث بعد تحررها (مشروع باندونغ فى آسيا وأفريقيا بالتوازى مع الـ desarollismo . بأمريكا اللاتينية) من جهة أخرى يسمح لنا بوصف هذا النظام بوصفه مهيمناً عالميا باستثناء المنطقة السوفيتية. وكان على بلدان العالم الثالث "اللحاق" بالركب بدخولها بفعالية وانضباط فى النظام العالمى المنتشر.
أما النظام الاقتصادى والسياسى البديل الذى وضع عام 1917 المعروف بالاشتراكية القائمة بالفعل Le socialisme reellement existant فقد نصب لنفسه هدفين: الأول هو اللحاق وإلغاء التأخر، والثانى "إنشاء البديل" بالتخطيط المركزى المنفصل عن النظام العالمى. غير أنه انحرف لكونه ابتعد عن التسيير الديمقراطى فى بناء الاشتراكية مما أدى إلى انهياره (حالة أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتى سابقا وانزلاق الصين نحو الرأسمالية).
وأدى فشل النظام السوفييتى، وكذلك والشعبوية القومية فى العالم الثالث برأس المال السائد إلى إعادة بناء نظام جديد سمى بالليبرالية المعولمة الجديدة.
لكن فى الواقع هناك تناقض صارخ بين الخيارات الاجتماعية المعلنة فى الخطاب النيوليبرالى المعولم والذى يطرح نفسه بوصفه نظاماً جديداً، وبين الممارسات والتطبيقات على أرض الواقع التى يمارسها هذا النظام.
فالعولمة فى واقع أمرها ملتبسة: إذ يخفى الخطاب السائد والمتستر خلف مزايا المنافسة التى تتغنى بها، ممارساته الهادفة إلى الحفاظ على مصالح الاحتكارات. فى نفس الوقت فهو يرفع شعار حماية البيئة بيد أنه يفضل الأرباح القصيرة المدى عن السياسات الاقتصادية طويلة المدى. أخيرا وبالرغم من إعلانها عن مبادئ مضادة لنهوض القوميات فغالبا ما تتصرف القوى العظمى وخاصة الولايات المتحدة مظهرة ومتباهية بعضلاتها فى شتى الميادين العسكرية والاقتصادية.
إن جميع نماذج النظام الرأسمالى ارتكزت على نظرة إمبريالية للعالم بالتوافق مع انتشار الرأسمالية التى تحمل فى طياتها عدم التكافؤ والاستقطاب على المستوى العالمى.
فى مرحلتها الليبرالية القومية للاحتكارات 1880-1945 تميزت الإمبريالية بالصراعات ما بين مختلف القوى الإمبريالية، أما المرحلة الاجتماعية القومية لما بعد الحرب 1945- 1980 فقد تم خلالها تلاؤم استراتيجيات الإمبرياليات القومية تحت قيادة وهيمنة الولايات المتحدة من جهة ومن جهة أخرى اضطرت الإمبريالية إلى التراجع والانسحاب من مناطق الاشتراكية (الاتحاد السوفييتى، وأوروبا الشرقية، والصين) كما أنها فاوضت علي وجودها لدى حركات التحرر فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لكن بانهيار الاشتراكية "القائمة بالفعل"، والنظم الشعبوية الراديكالية فى العالم الثالث، استرجعت الإمبريالية قواها وهجماتها من جديد. فالعولمة التى يُعبر عنها بكل وقاحة فى الإيديولوجية الحالية ما هى إلا الشكل الجديد للنظام الرأسمالى الحالى.
من هذا المنظور بإمكاننا القول إن مصطلح العولمة مرادف لمصطلح الإمبريالية (انظر العولمة والإمبريالية).
(3) إن الجو الذى شهدته نهاية القرن العشرين يشبه كثيرا الجو الذى بدأ به. "والفترة الجميلة" La belle epoque كانت بالفعل جميلة لرأس المال. وبرجوازيات الثالوث (أوروبا، الولايات المتحدة، اليابان) أصبحت تنعم بفوزها وانتصارها. ولم يعد ينظر إلى الطبقات العاملة فى بلدان المركز وكأنها الطبقات الخطيرة كما كانت عليه خلال القرن التاسع عشر. وأما بقية شعوب العالم فما عليها إلا أن تنتظر "التحضير" الذى يأتى به الغربيون.
فوز بلدان المراكز الرأسمالية المعولمة أدى إلى انفجار ديمغرافى نقل نسبة السكان ذوى الأصل الأوروبى من 23% فى العام 1800 إلى 36% فى العام 1900 من مجموع سكان الأرض.
إن تركز الثورة الصناعية فى بلدان الثالوث أنتج استقطابا فى الثروات وصل إلى مستويات لم تعرفها الإنسانية طوال تاريخها.
فالعولمة الأولى لم تؤد إلى تسارع فى التراكم بل عكس ذلك تماما فهى أدت إلى أزمة بنيوية من 1873 إلى 1896 كالتى عرفناها بعد قرن من هذا التاريخ. مع أن هذه الأزمة اصطحبتها ثورة صناعية جديدة (الكهرباء والبترول والسيارة والطائرة) وكان متوقعاً لها أن تحول الجنس البشرى كما يقال اليوم عن الثورة الالكترونية. بالموازاة تشكلت الأوليغوبولية oligopoles الأولى الصناعية والمالية (ما يعادل الشركات المتعدية الجنسية). وهكذا ترسخت العولمة المالية على قاعدة الذهب - الاسترليني. وبدأ الحديث بحماس شديد عن تدويل التبادلات البورصية الجديدة كما يدور الحديث اليوم عن العولمة المالية.
كان الكاتب الشهير جول فيرن Jules Verne يجعل بطله (الإنجليزى طبعا) يدور حول العالم فى ثمانين يوماً: وهكذا كانت بداية "القرية العالمية".
ان انتصار "الفترة الجميلة" لم يدم أكثر من عشريتين. وقد تنبأ لهذا الانهيار بعض الديناصورات مثل لينين (كان شابا آنذاك) ولكن لم ينصت إليهم أحد.
فالليبرالية لم تقلص من حدة التناقضات الخاصة بالنظام بل على العكس ضاعفت من شدتها.
وقد شهدت ثلاثة أرباع القرن العشرين مشاريع اللحاق وتحولات متفاوتة الجذرية فى بلدان التخوم أصبحت ممكنة بسبب تفكك العولمة الليبرالية الطوباوية للفترة المعروفة "بالفترة الجميلة".
وأخذ الأمر ما لا يقل عن ثلاثين عاما 1945-1914 وحربين عالميتين وأزمة الثلاثينات وثورتين عظميين (روسيا والصين) ونهوض كل من آسيا وأفريقيا من أجل تغيير موازين القوى لصالح الطبقات العاملة والشعوب وذلك إثر انتصار الديمقراطية على الفاشية والتحرر الوطنى من الاستعمار.
يعنى ذلك أن موازين القوى الحالية والتى هى فى صالح رأس المال سوف لن تتغير بسهولة. فالتحديات التى تواجه الحركات الاجتماعية الرافضة لهذه الوضعية كبيرة جداً ويجب وضع ذلك فى الحسبان.
لقد تميز النصف الأوسط من القرن العشرين بموازين قوى اجتماعية ودولية أجبرت رأس المال على التكيف مع منطق مصالح الطبقات العاملة والشعوب فرجحت الكفة لصالح هؤلاء، والأزمة التى تبعت (1968 - 1975) كانت أزمة انجراف ثم انهيار الأنظمة التأسيسية للتطور السابق. والفترة التى لم ننته منها بعد ليست فترة إقامة نظام عالمى جديد كما يحلو للبعض القول، بل هى فترة إقامة فوضى من الصعب التحكم فيها. والسياسات الموضوعة فى هذه الظروف لا تشكل إجابة لاستراتيجيات توسع رأس المال بل تكتفى بتسيير الأزمة لا غير. ولكنها لن تتوصل إلى ذلك لأن المشروع "العشوائى" الناجم عن السيطرة المباشرة لرأس المال، سيفشل لأنه مشروع طوبوى، وطوباوية تسيير أمور الدنيا بقوانين السوق والمصالح المهيمنة لرأس المال لن تؤدى إلى أى نتيجة بغياب الأطر التى تفرضها القوى الاجتماعية الفاعلة والمنظمة.
هكذا هو التاريخ الحديث: تتلو مراحل إعادة الإنتاج للأنظمة التراكمية فترات من الفوضى.
وفى أولى هذه المراحل - ما بعد الحرب- كان سير الأحداث رتيبا لأن موازين القوى الاجتماعية والدولية كانت مستقرة.
ويتم إعادة إنتاج هذه العلاقات بفضل الدينامية الخاصة بالنظام، ويبرز خلال هذه المراحل فاعلون تاريخيون معينون (طبقات اجتماعية فاعلة، دول، أحزاب سياسية، ومنظمات اجتماعية قوية) ذوو ممارسات ثابتة وردود فعل متوقعة وأيديولوجيات تتمتع بالشرعية اللازمة. قد تتغير الظروف فى هذه الفترات لكن البنى تبقى مستقرة. وذلك يسهل من عملية الاستشراف.
لكن الخطر يأتى عندما تمتد هذه التوقعات وكأنها بنىً دائمة إلى الأبد ومعلنة "نهاية التاريخ".
وعوضا عن تحليل التناقضات التى تمس بنى النظام يعرض البعض نظرة خطية تقودها "قوة الأشياء" "وقوانين التاريخ" حيث وصفها، عن حق، مفكرو ما بعد الحداثة بـ "السرد الأكبر" Les grandes narrations.
وهكذا يختفى فاعلوا التاريخ وراء المنطق البنيوى المزعوم للموضوعية.
لكن التناقضات هذه لا تعمل باطنيا ولابد لها من الانفجار يوماً، ما فتنهار فجأة البنى التى كانت تبدو مستقرة ويدخل التاريخ فى مرحلة توصف بالانتقالية. غير أن هذه المرحلة تعاش وكأنها اتجاه نحو المجهول. وخلالها يتبلور فاعلون تاريخيون جدد يبحثون عن ممارسات جديدة محاولين اضفاء صيغة أيديولوجية جديدة تكون غامضة فى البداية. لكن الأشياء تتبلور شيئا فشيئاً وتظهر علاقات جديدة محددة.
(4) فتطوى صفحة المشاريع التنموية التى ميزت القرن العشرين، وتنهار النماذج الثلاثة للتراكم المقيد الذى عرفته فترة ما بعد الحرب والذى أدى إلى أزمة بنيوية للنظام من 1968 إلى 1971 تذكرنا بأزمة نهاية القرن التاسع عشر. وتهبط معدلات الاستثمار والنمو إلى نصف ما كانت عليه فترتفع البطالة وينتشر الفقر واللامساواة على جميع الأصعدة الوطنية والدولية.
وتفسر الأزمة بكون الأرباح التى يولدها الاستغلال لا تجد منافذ كافية تستغل فى استثمارات إنتاجية.
ويحاول إيجاد حلول لإدارة الأزمة بخلق منافذ جديدة للفائض من رؤوس الأموال العائمة وتجنب إنقاصها المفاجئ. أما الحل الجدى للأزمة فيكمن فى تغيير القواعد الاجتماعية المتحكمة فى توزيع الدخل والاستهلاك والاستثمار أو بعبارة أخرى إنشاء مشروع اجتماعى جديد منسجم ومختلف عن المشروع الحالى الذى يرتكز على قاعدة المردودية لا غير.
إن هذه الطريقة فى إدارة الأزمة كانت سيئة بالنسبة للطبقات العاملة ولشعوب بلدان التخوم، (وكذلك المركز) غير أنها كانت مجدية ومفيدة للغاية لطبقات رأس المال المهيمن، فالفوارق شاسعة فى توزيع الدخل بين طبقات المجتمع وإذا كانت قد خلّفت الفقر والهشاسة والتهميش للبعض، فقد صنعت من ناحية أخرى أصحاب المليارات الذين يتباهون بدون حياء "بالعولمة السعيدة".
الأزمة البنيوية هذه كالتى سبقتها عرفت ثورة تكنولوجية ثالثة أثرت بعنف فى الأنماط التنظيمية للعمل فأضعفت فعالية ثم شرعية الأشكال النضالية السابقة للعمال والشعوب، وتشرذمت الحركات الاجتماعية ولم تستطع إلى الآن الإجابة بفعالية على التحديات التى تواجهها. غير أنها قد بدأت باقتحامات فى ميادين واتجاهات عديدة. فدخلت الحركات النسائية فى الحياة الاجتماعية وانتشر الوعى بمدى الدمار الذى مس البيئة على مستوى القارة إذ أصبح يهدد المعمورة بأسرها. فى سنوات قليلة تعززت قوى النضال الاجتماعى وأصبحت تظاهرات سياتل وبورتو أليغرى تخيف أقوياء الساعة.
كان هذا القلق وراء الهجمة الأخيرة لبلدان مجموعة السبعة. فبين عشية وضحاها غيرت هذه البلدان من لهجتها مستعملة مصطلح التقنين الذى كان محظورا سابقا: ونسمع الآن وجوب التقنين فى التحركات المالية الدولية، وعرض اقتصادي البنك العالمى ستيغلينز Stiglizl اقتراح حوار يحدد معالم توافق ما بعد واشنطن Post washington consensus الجديدة وأما الداعية Georges Soros فنشر كتابا تحت عنوان "أزمة الرأسمالية العالمية- أصولية الأسواق" الذى يعتبر محاولة لإنقاذ الرأسمالية من النيوليبرالية. لكن علينا أن لا نغفل أنها استراتيجية تصبو إلى نفس الأهداف وهى السماح لرأس مال الشركات المتعدية الجنسيات بالتحكم فى زمام الأمور، فيجب علينا أن لا نقلل من أهمية ردة الفعل الجديدة. والكثير من السُذّج وقعوا وسوف يقعون فى المصيدة.
لقد بدأ البنك العالمى منذ سنوات بتوظيف المنظمات غير الحكومية فى خدمة خطابه المعروف بمكافحة الفقر.
وفى هذا الظرف الفوضوى استرجعت الولايات المتحدة هجومها لإعادة هيمنتها الشمولية التى تمكنها من ترتيب النظام العالمى فى أبعاده السياسية الاقتصادية والعسكرية.
(5) إن المرحلة الحالية من انتشار الرأسمالية تلح على حدوث "شئ جديد" على ساحتها والمطلوب الآن من الحركات الاجتماعية أن تضع نصب أعينها "الواقع الجديد"، وأن تقترح بدائل مضادة لرأس المال السياسى تتيح توظيف هذا "الجديد" لصالحها.
وفى خضم الواقع المعقد الراهن ليس من السهل فرز الجديد الخاضع للاتجاهات العريضة والطويلة المدى، من "الجديد الظرفى" المتعلق بإدارة الأزمة الحالية. صحيح أن لكل ظاهرة من المجموعتين واقعها الخاص غير أن الظاهرة الثانية خاصة بالأزمة وإدارتها الحالية بينما تتعلق الأولى "بتحولات فى عمق النظام".
إن أهمية الثورة العلمية والتكنولوجية الحالية وانعكاساتها على تنظيم العمل وعلى العلاقات الاجتماعية وعلى ثقافة مجتمعات الغد تشكل النواة الصلبة "للجديد الصحيح".
الثورة المعاصرة وخاصة المعلوماتية تشكل قوة كبيرة فى إعادة هيكلة النسق الإنتاجية (بخاصة فى التشتت الجغرافى للأجزاء المتحكم فيها عن بعد)، بالتالى فإن سيرورة العمل بصدد عملية تغير عميقة. إذ تٌعَوَّض نماذج العمل التسلسلى travail a la chaine (التايلورية) بأشكال جديدة تؤثر بعمق فى بنية الطبقات الاجتماعية وإداراتها بالمشاكل المتعلقة بتجزئة أسواق العمل. يتعلق الأمر هنا بتغيير على المدى البعيد.
قد يؤدى التطور فى هذا الميدان "إلى تلاشى قانون القيمة" مما يعنى أيضا أن الرأسمالية يجب تجاوزها. وقد يكون ذلك بطرائق مختلفة: بطريق الاشتراكية- الرد الإنسانى الوحيد للتحدى المفروض- أو بوضع نظام تفرقة معمم لا يرتكز من خلاله التمييز الاجتماعى على المشاركة فى خلق القيمة (حتى لو أدت هذه المشاركة إلى استغلال) بل على معايير أخرى شبه سياسية وثقافية.
على كل حال يصح القول بأن كل ثورة تكنولوجية تحول البنى التنظيمية للعمل. وإذا كان المجتمع طبقيا فلن تزول هذه الطبقات بفعل التحول المذكور بل ستغير من شكلها إلى درجة توهم باختفائها كما هو الحال عليه الآن، بالتالى فإن أشكال التنظيم الاجتماعى والأشكال التى تتخذها مختلف المشاريع شديدة التأثر بالثورة التكنولوجية. هنالك تعايش للأحسن وللأسوأ.
إن الأدبيات السائدة المتعلقة بالتحولات فى تنظيم العمل إضافة إلى انتشار الثورة التكنولوجية الحالية تزعم أن هناك نموذج جديد للمجتمع يرتكز على تنظيم شبكى عوضا عن التنظيم السلمى وعلى تفاعل المشاريع عوضا عن الوحدة التى كانت تمثلها المؤسسة. كما أنها تزعم أن المجتمع الشبكى الجديد سيفتح آفاقاً أمام الاستقلالية الخلاقة والإبداعية للأفراد إلخ ويتكون هذا المجتمع تحت أعيننا.
فما هى يا ترى النتائج الاجتماعية الحقيقية المترتبة عليه؟ التزايد السريع والاستثنائى فى حصص عوائد رأس المال والملكية على حساب عوائد العمل، التهميش والفقر والإقصاء لأجزاء كبيرة من الشعوب. إن هذه الوقائع تبطل ما يزعمه الخطاب السائد عن كون الفرد أصبح صانعا للتاريخ، وأن الطبقات والأمم أصبحت مفاهيم بالية. كما أن مثالية الاتصال الذى سيحل مشاكل الإنسانية مزيلا الصراعات تنتمى إلى نفس الخطاب. بينما يبقى الفرد كائنا اجتماعيا حبيس القهر والاستغلال الذى يقوم عليه مجتمعنا المعاصر.
من ناحية أخرى فإن تطور القوى الإنتاجية التى هى فى نفس الوقت قوى مدمرة، وصل إلى درجة تحول نوعى يجعلنا نطرح على أنفسنا أسئلة جديدة.
إن ترسانة الأسلحة النووية من شأنها أن تضع حدًا لكل حى على وجه المعمورة، وبالتالى تتطلب هذه الظاهرة الجديدة فى التاريخ العدول عن استعمالها وتفكيكها بأكملها. أما الحلف الأطلسى فقد اتخذ موقفا معاكسا تماما بحيث استعمل الحرب لحل النزاعات السياسية. وهناك ميادين أخرى مثل البيو وراثية التى توصلت فيها المعلومات العلمية إلى درجة عالية جداً ولكن قد تكون ضارة للإنسانية إذا لم يتم التحكم فيها وتسييرها اجتماعيا. فى هذا الميدان تظل مراعاة القيم الأخلاقية والقواعد السبيل الوحيد لضمان سيرورة الإنسانية.
غير أن النظام القائم حاليا يتصرف عكس ذلك تماما بلجوئه إلى الخصخصة. وتطور القوى الإنتاجية فى شكلها الحالى لن يؤدى من الآن فصاعدا إلى التطور الاجتماعى بل إلى تدميره، وبالتالى يستوجب تجاوزها. (انظر البعد الهدام لدى الرأسمالية).
وإن مسألة البيئة هنا مطروحة بحدة حيث إن الإنسانية تعيش لأول مرة فى تاريخها خطرا حقيقيا يهدد الحياة على وجه الأرض. فهل من الممكن إذن تصور أى مشروع للمجتمع لا يأخذ فى الحسبان هذا الواقع.
لقد تم إثبات فشل الرأسمالية أياً كان شكلها فى إيجاد حلول للتحديات المطروحة. ذلك لأن الرأسمالية مبنية على الحسابات القصيرة المدى (بضعة سنوات على أقصى حد) وتبرهن على ذلك نظرتها السلبية والناقصة للمستقبل. بيد أننا نعلم أن المسألة المطروحة الآن تتطلب وضع سياسة عقلانية طويلة المدى (إلى الأبد)، وظهور مشكلة البيئة دليل على كون الرأسمالية بوصفها حضارة أصبحت عاجزة عن التقدم ومن الضرورى تجاوزها لكن للأسف "الخضر فى غالبيتهم لا يتفهمون ذلك.
-إن قراءة جيدة للعديد من الظواهر التى تبدو بديهية تسمح لنا بالتعرف على الشكل الظرفى وغير الدائم لها. فى هذا المجال بإمكاننا ذكر "تراجع الدولة" "effacement de L`Etat" وأميلة "financiarisation" رأس المال. (أى تغلب البعد المالي علي الأبعاد الإنتاجية فى القرار الاقتصادى)
والخطاب السائد هنا يزعم أن الشركة الكبيرة حصلت على استقلاليتها تجاه الدولة وأصبحت الفاعل المهيمن والمنفرد فى المرحلة الجديدة المستديمة للرأسمالية. ويأخذ المنظرون الإيديولوجيون بالتباهى والتفاخر فى خطاباتهم المعلنة "ضد الدولة".
لكن فى الواقع تظل الشركات المتعدية الجنسيات الكبرى وطنية (خاصة بتملكها وتحكمها فى رأس المال) وتتعدى أنشطتها حدود بلدها الأصلى كما أن انتشارها فى حاجة إلى مساندة جدية من الدولة. لكنها فى نفس الوقت اكتسبت من القوة ما يمكنها من تطوير وانتشار استراتيجيتها خارج (وأحيانا ضد) سياسة دولتها. فهى ترغب فى إخضاع منطق هذه الأخيرة إلى استراتيجيتها ومنطقها. والخطاب النيوليبرالى يخفى أهدافه هذه لإضفاء الشرعية لمنطقه الحصرى الذى يدافع عن المصالح الخاصة بالشركات هذه. إن "الحرية" المنادى بها ليست للجميع بل تقتصر على مصالح الشركات على حساب الآخرين. بهذا المعنى يُعتبر الخطاب النيوليبرالى أيديولوجيا ومخادعا فى الوقت نفسه. ووضعية العلاقة التى تربط رأس المال المحتكر (الأوليغوبولى) الخاص بالدولة علاقة مبهمة وغامضة. لكن لا أحد يستطيع الجزم بأن المتغلب فى هذه الساعة سيظل متغلبا ومكتسبا الدور الأهم على المدى البعيد. فالعابر هنا قد يصبح مستديما بدون رجعة.
من ناحية أخرى، فالحديث عن رأس مال متعدى الجنسيات (بالتالى عن برجوازية متعدية الجنسيات) يعوض دور رؤوس الأموال الوطنية ذات المدي العالمى، يبدو سابقا لأوانه الآن. إن التضامن بين أعضاء الثالوث له جذور أخرى.
إن الاميلة financiarisation La ظاهرة ظرفية ناتجة عن الأزمة. فالفائض من الرساميل الذى لا يجد توظيفاً فى انتشار النظم الإنتاجية يشكل خطرا حقيقيا بإنقاص فالأسئلة قيمة رأس المال للطبقات الحاكمة. وتتطلب إدارة الأزمة إيجاد أسواق مالية لتجنب الكارثة. غير أن ذلك لا يعد سوى هروب إلى الأمام لا يسمح بخروج فعلى من الأزمة. بالعكس فالأميلة تحبس الأزمة داخل دوامة ركود لأنها تضاعف من عدم التكافؤ فى توزيع الدخل وتجبر الشركات الكبرى على لعب دور الممول.
نحن لا نعرف أى شكل ستتخذه الأزمة الكبرى "الآتية" (انهيار البورصات؟). كما أننا لا نعرف ما هى الردود السياسية التى ستأتى بها الحركات الاجتماعية للنتائج الفوضوية الناجمة عن الأزمة. هل ستكون نيو شعبوية رجعية أم يسارية راديكالية؟ إن بنى النظام المستقبلى متوقفة على الأجوبة التى تأتى بها هذه الحركات.
لقد عملت حركة الأميلة خلال العشرين سنة الماضية على تركيز قوى لرؤوس الأموال بحيث تضاعف سبع مرات حجم الإدماجات وأصبح مستحيلا الآن الرجوع إلى الوراء. والتساؤل المطروح حاليا عن مدى شرعية تركيز القوى الخاصة- بالتالى الممارسات غير الشفافة اللاديمقراطية التى تميزها- التى تأخذ مكان السلطات العامة الكفيلة وحدها بضمان الشفافية.
إن الإدارة الاقتصادية للأزمة تهدف إلى "عدم التقنين" والتقليص من المواقف الصارمة "للنقابات وتفكيكها إن أمكن ذلك وتحرير الأسعار والأجور وخفض المصاريف العمومية (خاصة الإعانات والخدمات الاجتماعية) والخصخصة وفتح علاقات مع الخارج إلخ.
من ناحية أخرى فإن مصطلح "عدم التقنين" مصطلح مخادع أصلا. لأنه لا توجد أسواق غير مقننة ما عدا فى ذهن الاقتصادى "البحت". فكل الأسواق مقننة وتعمل وفق التقنين. والسؤال هو معرفة كيف ومن يقننها. من خلف عبارة عدم يتستر واقع غير معلن عنه: واقع التقنين الأحادى المسير من طرف رأس المال المهيمن.
بالطبع، فى الوقت الذى تسجن فيه الليبرالية الاقتصاد فى دوامة ركود من الصعب التحكم فيها على المستوى العالمى، وتتزايد الصراعات التى يصعب حلها، يظل الخطاب الليبرالى يردد وعوده بتنمية "سليمة".
إن العولمة الرأسمالية تتطلب إدارة للأزمة على هذا المستوى لإيجاد حل للفائض الكبير من الرساميل العائمة. capitaux flottants. فمن الضرورى التصدى للفائض الهائل من الرساميل العائمة التى تخضع الاقتصاد إلى معيار واحد ووحيد: الأرباح المالية.
وفتح المجال أمام التنقلات الدولية لرؤوس الأموال والتعامل بمبدأ الصرف العائم وأسعار الفائدة المرتفعة والعجز فى ميزانية الدفع الأمريكية والديون الخارجية لبلدان العالم الثالث وسياسات الخصخصة كل هذه العناصر - تكون وحدة سياسية عقلانية تسمح لرؤوس الأموال العائمة بمخرج، معتمدة بذلك على المضاربة المالية لتجنب خطر الإنقاص الشديد devalorisation massive من قيمة الفائض فى رؤوس الأموال.
وقد سببت سياسة التحركات غير المستقرة flux instables خسائر كبيرة ظهرت إثر الأزمة الآسيوية عام 1997 إذ كانت المنطقة تعرف حالة ادخار شديد ولم تكن بحاجة إلى رؤوس أموال خارجية عائمة. وكان هؤلاء يعلمون جيدا أنهم يمولون تضخما اصطناعيا للعقار والأوراق المالية جلب لهم أرباحا فورية عظيمة لكنهم تركوا خلفهم الدمار الاقتصادى والاجتماعى. فيما يخص هذا الموضوع تم تقديم عدة اقتراحات بشأن فرض ضريبة على التحركات المضاربة. (taxe Tobin) والإجراءات الواجب اتخاذها لمحاربة "الجنات الضرائبية" fiscaux Paradis.
ليست الأميلة من الصفات المستديمة للرأسمالية الجديدة كما يعتقد بعض المحللين الذين يرونها بوصفها خصوصية للرأسمالية "الأنجلوساكسونية" بالمقارنة مع خصوصية رأسمالية "ألمانيا واليابان". وليس بإمكان الدوائر المالية أن تتنامى بمعزل عن الاقتصاد الحقيقى. أما الخطاب السائد حول الأميلة فهو يلح على نوعية أخرى من المشاكل المتعلقة بكبر سن سكان الثالوث وانفجار صناديق المعاشات Fonds de pension. هناك بعض التحليلات تشير إلى وجود كتلة من الدائنين creanciers تشكل قوة اجتماعية واعية بمصالحها. ويتعلق الأمر بمجموع المتقاعدين ومن ورائهم مجموع الأجراء "المستقرين" المتضامنين مع مسيرى "الأرصدة التقاعدية" Fonds de pension بحيث يكون همهم الوحيد إبعاد خطر التضخم لأنهم يستفيدون من أسعار الفائدة المرتفعة ومن الرسملة المالية لأرصدتهم.
وتتعارض هذه الكتلة فى رأيهم مع كتلة المُبعدين والعاطلين عن العمل والعمال غير المستقرين فالقطيعة الاجتماعية لم تعد تظهر فى معارضة رأس المال مع العمل بل فى كتلة الدائنين (التى تجمع رأس المال والعمل) مقابل المُبعدين.
إن المسألة تستحق التفكير لأن الرسملة الخاصة بالأرصدة (الشكل الأمريكى) تتعارض مع تقاليد بعض البلدان الأوروبية والقوى اليسارية عامة التى تفضل نظام التوزيع. لكن فى الحقيقة النظم الأوروبية النموذج الأمريكى. ليست هذه الاستراتيجية المتبناة بهدف خلق كتلة الدائنين غير الموجودة فى الواقع (إلى الآن) كما أنها ليست ناتجا حتميا "للتطور" بل هى تشكل ورقة رابحة للقوى الرأسمالية المهيمنة فى عمليتها المدمرة لجبهة العمل.
-فهل العولمة قفزة نوعية؟ سؤال يستدعى البحث والتفكير.
نلاحظ الآن اتجاها واضحا يتلخص فى تعويض الاقتصاد الدولى الذى ميز المراحل السابقة من الرأسمالية باقتصاد عالمى. غير أن تفكك النظم الإنتاجية المركزية الوطنية مازال جزئيا ونسبيا. إضافة إلى ذلك لم يبرز منطق نظام إنتاجى معولم يعوض النظام السابق كما أن غياب سلطة سياسية قادرة على إدارة النظام المعولم ذى البناء الفوضوى ومتمتعة بشرعية تضاهى شرعية الدولة القومية، يشكل تناقضا صارخا للفترة التى نعيشها. هذا الغياب يؤدى حاليا إلى الخضوع المؤقت لهيمنة الولايات المتحدة.
تبدو العولمة وكأنها أرخبيل داخل المحيط وكثافة توزيع جزر هذا الأرخبيل متفاوتة: فهى قوية فى المناطق المركزية حيث تتركز الشركات المتعدية الجنسيات ومتوسطة فى المناطق ذات التصنيع المتوسط وضعيفة فى التخوم (العالم الرابع).
ومن الأكيد أن أنظمة الدول تتآكل من الأعلى ومن الأسفل من طرف مجموعات محلية تتصرف وكأنها مجموعة فاعلين مستقلين داخل العولمة. يبقى أن هذه المجموعات الفرعية المعولمة غير منسجمة، من ناحية أخرى فإن ما خلفته المرحلة السابقة أى مرحلة ما بعد الحرب (1945 - 1990) أدى إلى تفجير العالم غير المصنع. (1880 - 1950) إلى ثلاثة طبقات متباينة:
-الطبقة الأولى: البلدان الاشتراكية سابقا: الصين، كوريا، ومعها تايوان، الهند، البرازيل، المكسيك، حيث تمكنت هذه البلدان من بناء نظم إنتاجية وطنية قادرة على المنافسة.
الطبقة الثانية: البلدان التى دخلت فى التصنيع لكنها لم تستطع انشاء نظم إنتاجية وطنية: البلدان العربية، أفريقيا الجنوبية، إيران، تركيا، أمريكا اللاتينية، جنوب شرق آسيا. ونجد فى بعض الحالات منشآت صناعية "تنافسية" تتوفر فيها اليد العاملة الرخيصة ولكنها تفتقد الإدارة التنافسية.
الطبقة الثالثة: البلدان التى لم تدخل فى التصنيع (خاصة البلدان الأفريقية) فهى ليست تنافسية فيما عدا المجالات التى تتميز بها من حيث الموارد الطبيعية، المناجم، البترول والمواد الزراعية.
ليس بمقدور العولمة أن تلحق بلدان الطبقة الأولى ببلدان "المراكز الجديدة" أى أن تصبح بلداناً متطورة بالمفهوم الرأسمالى للكلمة. فما بالك بالطبقات الأخرى. وحتى فى المناطق التى عرفت تصنيعاً متطوراً تظل التخوم تشكل "احتياطى" تستعمل فيها قوة العمل فى أنشطة ذات إنتاجية ضعيفة. والسبب يعود إلى كون سياسات التحديث. أى محاولات "اللحاق" تفرض خيارات تكنولوجية حديثة وباهظة الكلفة من حيث استغلال رؤوس الأموال واليد العاملة الماهرة ويتفاقم هذا التوتر كلما تزامنت الحداثة مع توزيع غير متكافىء للدخل.
وضمن هذه الظروف يستحيل للأنشطة الإنتاجية الحديثة أن تستوعب الاحتياطى الهائل من اليد العاملة فالتخوم الديناميكية، بالرغم من ديناميكيتها تظل تخوماً. يعنى مجتمعات تعيش التناقضات الكبرى الناتجة عن تماس أجزاء تم تحديثها (وإن كان تحديثاً نسبياً) بمحيط ضعيف الحداثة، من جهة أخرى تساهم هذه التناقضات فى إبقائها فى وضعية متدنية خاضعة للاحتكارات الخمسة لبلدان المراكز. (انظر الاستقطاب). إن الأطروحة القائلة بالاشتراكية هى الحل الوحيد لمشاكل المجتمعات ما دمنا لا ننظر إليها بوصفها وصفة كاملة ونهائية بل بوصفها حركة تضامنية أسست بفضل استراتيجيات شعبية تؤمن النقل التدريجى والمنظم من الاحتياطى نحو الأجزاء الحديثة بطرق متحضرة. ذلك يتطلب فك ارتباط أى إخضاع العلاقات الخارجية إلى منطق المرحلة الوطنية الشعبية الانتقالية الطويلة.
فماذا عن المناطق المهمشة؟ هل الأمر ظاهرة بدون سابقة تاريخية أم أنها تترجم ميلا مستمراً للانتشار الرأسمالى الذى ميزته علاقة لم تكن سلبية تماما تجاه التخوم فى فترة ما بعد الحرب.
إن هذا الوضع الاستثنائى كان أساس "التضامن" فى العالم الثالث (فى نضاله ضد الاستعمار ومطالبه بخصوص المواد الأولية وإرادته السياسية فى التحديث والتصنيع الذى طالما حاول الغرب مقاومته).
كل ذلك تم رغم الاختلافات بين دول العالم الثالث. ولكن كون النجاح الذى تحقق على مختلف الجبهات كان غير متساوٍ، قد أدى إلى فشل التناسق والتضامن فى العالم الثالث.
كُتب الكثير عن المعجزة الآسيوية. آسيا، المحيط الهادىء مركز المستقبل آسيا التى تتصدر مكانة أمريكا وأوروبا فى التحكم فى العالم، الصين، القوة العظمى للمستقبل كتب الكثير عن ذلك. غير أن بعض التحاليل والكتابات جديرة بالانتباه والنقاش. منها من رأى فى الحالة الآسيوية إعادة النظر فى نظرية الاستقطاب الخاصة بالانتشار الرأسمالى العالمى وإعادة النظر فى استراتيجيات فك الارتباط بوصفه ردًا على تحدى الاستقطاب. هكذا أصبحت نظرية "اللحاق" ممكنة وخاصة مع اندماج فاعل فى حركة العولمة بدلاً من فك ارتباط وهمى يكون مسؤلاً فى أعينهم عن الكارثة السوفيتية.
ويعود نجاح آسيا حسب البعض إلى عوامل داخلية من بينها العامل الثقافى الذى سمح لبعض البلدان الآسيوية بفرض أنفسها والدخول الفاعل فى مجال العولمة بينما فشل البعض الآخر وهُمش وأصبح "منفكاً" دون إرادته.
هذا هو تعريف فك الارتباط الذى ينظر إليه بعض المحللين المتسرعين فى تحليلاتهم بوصفه اكتفاء ذاتياً autarcie لكن الأزمة التى لحقت ببلدان جنوب شرق آسيا قد خفضت من حدة هذا الخطاب. ويبقى أن مسألة دخول الصين وكوريا فى الاقتصاد المعولم مطروحة.
بصفة عامة يتميز الاقتصاد المعولم الجديد بمعدلات نمو متفاوتة السرعة. ونحن نتساءل إن كان ذلك جديداً؟
ألم تشكل طريقة النمو المتفاوت هذه قاعدة تاريخية للرأسمالية. إن فترة ما بعد الحرب 1945-1980 مثلت فترة استثنائية فى تاريخ الرأسمالية بحيث سمحت العلاقات الاجتماعية آنذاك بتدخلات الدولة (دولة الرفاهية)، الدولة السوفيتية، والدولة القومية فى باندونغ والعالم الثالث. وكان ذلك استجابة لمتطلبات النمو وتحديث القوى الإنتاجية بتنظيم التحولات الاقليمية والقطاعية المسيرة لها.
هناك جوانب عديدة من الأزمة التى يعيشها العالم المعاصر تدل على أننا نعانى من أزمة حضارة، وأن الرأسمالية أصبحت نظاماً بالياً غير قادر على الاستجابة لتحديات ومشاكل الأنماء، وبالتالى يتوجب تجاوزه، فعلى الحركات الاجتماعية أن تفكر فى ذلك.
واللبرالية المعولمة الأميلة التى تنتج عنها ما هى إلا منشطات تستعملها الرأسمالية المترهلة. إنها الفياجرا لهذا الجسم الهرم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire