mardi 5 mars 2013

محطات من حياة ستالين




ولد جوزيف فيساريونوفيتش دزيغاشفيللي في 21 كانون أول عام 1879 في مدينة غوري في جورجيا. تحدّر 

والده فيساريون، الذي كان يعمل إسكافيًا، من عائلة من الفلاحين الأقنان. وكانت والدته يكاترينا جورجيفنا إبنة لعائلة من الأقنان أيضا. كان والدا ستالين، الرازحان تحت وطأة البؤس والأمّية، ينتميان إلى قاع الشعب، لذا فقد كان ستالين واحدًا من قادة البلاشفة النادرين من ذوي الأصول المتواضعة. وقد إجتهد طوال حياته على أن يكتب ويتحدث بطريقة مفهومة من قبل العمال البسطاء.      

خلال سنواته الخمس الأولى في المدرسة الإبتدائية، في غوري، لفت الفتى جوزيف دزيغاشفيللي أنظار معلميه، بذكائه، وبذاكرته الخارقة. وحين تخرج من المدرسة الإبتدائية، أوصى معلموه، بإعتباره " التلميذ الأفضل " من أجل إدخاله إلى المدرسة الاكليركية في تفليس، والتي كانت تعتبر المؤسسة التربوية العليا الأكثر اهمية في جورجيا. ومركز المعارضة للنظام القيصري في الوقت ذاته. وفي عام 1893 قاد أحد الطلاب وهو كيتشوفيللي إضرابًا، فصل على أثره (87) طالبا.     
حين بلغ الخامسة عشرة من عمره، وكان في السنة الثانية من سنوات دراسته في الكلية، إتصل ستالين بالحلقات الماركسية السرية، وجعل يتردد إلى مكتبة عامة. كان يرتادها بعض الشبان الرادكاليين لقراءة الكتب التقدمية. وفي عام 1897 دوّن معاون المدير المسؤول عن مراقبة الطلاب ملاحظة مفادها بأنه قبض دزيغاشفللي (ستالين) متلبسا وهو يقرأ كتاب : تطور آداب الأمم للمؤلف ليتورنو. وكان قد ضبطه سابقا يطالع كتاب : عمال البحر، ثم كتاب 93 لفكتور هيغو. وبوجه الإجمال، ضُبط الطالب دزيغاشفللي ثلاثة عشرة مرة يطالع كتبا محظورة.
عام 1898 إنضم دزيغاشفيللي، وكان عمره ثمانية عشرة عاما، إلى المنظمة الإشتراكية الأولى في جورجيا، التي كان على رأسها زودرانا، وتشكيدزة، وتسيريتيلي وقد أصبح ثلاثتهم من المناشفة المرموقين فيما بعد، وفي السنة التي تلت، قاد ستالين حلقة دراسية عمالية. وفي تلك الفترة قرأ ستالين مؤلفات بليخانوف، والكتابات الأولى للينين.
في عام 1899 فصل ستالين من المدرسة الإكليركية، وهكذا بدأت مرحلة إحترافه الثوري.
أظهر ستالين في مرحلة شبابه الأولى ذكاء خارقا، وتمتع بذاكرة قويّة، وإكتسب بجهوده الذاتية معارف سياسية واسعة جدّا بفضل نهمه الشديد للمطالعة.
وبغية الحط من شأن مؤلفاته وآثاره الفكرية والسياسية، يعمد كافة الكتاب البرجوازيين تقريبا إلى إستعادة وتكرار أكاذيب تروتسكي وأباطيله ضد ستالين.
يقول تروتسكي:
" إن أهميّة آراء ستالين السياسية جد محدودة، ومستواه النظري بدائي كليّا، هذا التجريبي المتصلب، يبدو، من خلال تشكله الذهني، مفتقرا إلى المخيلة الخلاقة ".           
في الأول من أيار عام 1900 خطب ستالين أمام إجتماع عمالي غير ' شرعي'، ضم 500 عامل، إجتمعوا في الجبال المحيطة بتفليس، تحت صور ماركس وأنجلز. كان المجتمعون يستمعون إلى الخطابات باللغة الجورجية، والروسية، والأرمنية. وخلال الشهور الثلاثة التي تلت، إنفجرت موجة من الإضرابات في المصانع، والسكك الحديدية في تفليس، وكان ستالين واحدا من المنظمين الرئيسيين لها.
وفي بداية عام 1901 وزع ستالين العدد الأول من الصحيفة السرية، الإيسكرا، التي كان لينين يصدرها في الخارج.
في 1 أيار عام 1901 نظـّم ألفا عامل، للمرة الأولى، مظاهرة مفتوحة، في تفليس قمعها البوليس بعنف بالغ، وقد كتب لينين في الإيسكرا بأن هذا الحدث يرتدي " أهمية تاريخية " بالنسبة إلى القوقاز بأسره.
وفي غضون السنة ذاتها، قاد ستالين وكيتشوفيللي وكراسين الجناح الراديكالي في الحزب الإشتراكي-الديمقراطي في جورجيا. وحصلوا على مطبعة، أعادوا طبع الإيسكرا بواسطتها. وأصدروا الصحيفة السرية الجورجية الأولى، بردزولا " النضال " وفي العدد الأول منها حملوا لواء الدفاع عن الوحدة فوق القومية للحزب، وشنوا هجوما على " المعتدلين " من أنصار حزب جورجي مستقل متضامن مع الحزب الروسي.
في شهر تشرين الثاني عام 1901 جرى إنتخاب ستالين في اللجنة المركزية الأولى لحزب العمال الإشتراكي-الديمقراطي الروسي، وأرسل إلى باطوم، وهي مدينة نصف سكانها من الاتراك. وفي شباط 1902 نظم ستالين إحدى عشرة حلقة سرية داخل المشاريع الصناعية الرئيسية في المدينة. وفي 27 شباط اشترك ستة آلاف عامل من عمال مصفاة النفط في مسيرة تظاهرية في قلب المدينة. وفتح الجيش نيران بنادقه على المتظاهرين، فسقط 15 قتيلا منهم، وأعتقل 500 عامل.
بعد شهر واحد، أعتقل ستالين نفسه، وظل رهن الإعتقال حتى نيسان عام 1903، ثم حكم بثلاث سنوات في سيبيريا. ولكنه تمكن من الهرب وعاد إلى تفليس في شباط عام 1904.
خلال إقامته في سيبيريا بعث ستالين رسالة إلى صديق له في لايبزغ يطلب منه نسخاً من الكراس الذي كتبه لينين بعنوان: رسالة إلى رفيق حول مهماتنا التنظيمية. وعبر في رسالته عن دعمه لمواقف لينين. ومنذ مؤتمر آب عام 1903 إنشق الحزب الإشتراكي الديمقراطي إلى بلاشفة ومناشفة وقد إنحاز المندوبون الجورجيون إلى صف المناشفة. وإنحاز ستالين الذي قرأ كراس لينين : ما العمل، إلى صف البلاشفة دون أدنى تردد.
" كان قرار ستالين، في الإنحياز إلى جانب لينين يتطلب إيماناً وشجاعة، فقد كان التأييد الذي يلقاه لينين والبلاشفة من ممثلي ما وراء القوقاز ضئيلا جدّا " هذا ما كتبه يان غري. وفي عام 1905 كتب زعيم المناشفة الجورجيين زوردانيا نقدًا لأطروحات البلاشفة التي دافع عنها ستالين، وكان هذا مؤشرا على أهمية الموقع الذي إحتله ستالين من الآن فصاعدًا في الحركة الثورية الجورجية. وفي بحر السنة نفسها، دافع ستالين في كراسه " الثورة المسلحة وتكتيكنا " عن ضرورة النضال المسلح في سبيل القضاء على القيصرية، ومعارضاً أطروحات المناشفة.
حينما بلغ السادسة والعشرين من عمره، إلتقى ستالين بلينين، للمرة الأولى في فنلندا. وكان ذلك في شهر كانون الأول من عام 1905 إبان إنعقاد مؤتمر البلاشفة.
ما بين عامي 1905 – 1908 كانت القوقاز مسرحاً لنشاط ثوري كثيف، وقد أحصى البوليس، خلال تلك الفترة 1150 " عملا إرهابيا "، لعب ستالين فيها دورا كبيرا. وفي عامي 1907 – 1908 قاد ستالين برفقة أورجونيكدزه وفورشيلوف مكتب نقابة عمال البترول، منخرطين في نضال قانوني مشروع متسع الأبعاد، بين 50 ألفا من عمال الصناعة البترولية في باكو. وتمخض ذلك النضال عن إنتزاع حق إنتخاب ممثلي العمال للاجتماع في مؤتمر خاص، ومناقشة إتفاق مشترك يتناول الأجور، وظروف العمل. وقد حيّا لينين هذا النضال الذي ظهر في لحظة أوقفت فيها معظم الخلايا الثورية في روسيا كافة نشاطاطها.
في آذار من عام 1908 أعتقل ستالين للمرة الثانية في باكو، وحكم بالنفي إلى سيبيريا لمدة عامين. ولكنه فرّ في حزيران عام 1909، وعاد إلى باكو، حيث وجد الحزب يعيش أزمة حادة، وقد توقفت صحيفة الحزب عن الظهور.
بعد ثلاثة أسابيع من عودته إلى باكو جدّد ستالين حركة النشر ووجه، في مقال له، نقدًا  " للصحف المنشورة في الخارج، بعيدًا عن الواقع الروسي والتي عجزت عن توحيد عمل الحزب ". ودافع ستالين عن الحفاظ على سرية الحزب وطالب بتشكيل لجنة تنسيق حزبي في داخل روسيا، وإصدار صحيفة على المستوى القومي في الداخل، تقوم بالنشاط الإعلامي، وتعمل على تشجيع وإرساء خط الحزب. وقد كرر هذه الإقتراحات في بداية عام 1910 متوقعاً إنطلاقة جديدة للحركة العمالية.
غير أنه في غمرة الإعداد لإضراب شامل في الصناعة البترولية، أعتقل للمرة الثالثة، في آذار عام 1910، وأبعد إلى سيبيريا. ومن ثمّ حكم بالنفي خمس سنوات. وقد هرب من جديد في شباط عام 1912، عائدًا إلى باكو.
علم ستالين بأن البلاشفة في مؤتمر براغ شكلوا حزبهم المستقل، وأن مكتبًا سياسيا للحزب، كان ستالين أحد أعضائه، قد باشر مهامه. وفي 22 نيسان 1912 أصدر ستالين في سانت بطرسبورغ الطبعة الأولى من الصحيفة البلشفية، البرافدا.
في اليوم نفسه، ألقي القبض على ستالين للمرة الرابعة، ومعه مولوتوف سكرتير تحرير الصحيفة، بعد أن وشي بهما مالينوفسكي، وهو عميل للبوليس كان قد أنتخب في اللجنة المركزية للحزب. وحلّ شيرنومازوف محل مولوتوف كسكرتير للصحيفة، وكان عميلا للبوليس أيضا. ونفي ستالين إلى سيبيريا لمدة ثلاث سنوات، ولكنه هرب من جديد، واستعاد موقعه في رئاسة تحرير الصحيفة.
ورغم أنه على قناعة بضرورة القطيعة مع المناشفة، إلا أن وجهة نظره حول التكتيك الذي ينبغي إتباعه كانت مغايرة لوجهة نظر لينين. إذ ينبغي، حسب رأيه، الدفاع عن خط البلاشفة، من دون اللجوء إلى مهاجمة المناشفة في الوقت نفسه، مادام العمال يتطلعون إلى وحدة الحزب. وتحت قيادته بلغ توزيع البرافدا رقما قياسيا، فقد كانت توزع يوميا 80.000 نسخة.
إستدعى لينين في نهاية عام 1912 ستالين ومسؤولين آخرين إلى فرصوفيا كي يقنعهم بوجهة نظره حول القطيعة الفورية مع المناشفة. وقد أرسل ستالين إلى فييانا كي يتفرغ لكتابة مؤلفه : الماركسية والمسألة القومية. وهاجم ستالين في مؤلفه هذا " الإستقلال الثقافي – القومي " في داخل الحزب، وأدانه بإعتباره النهج الذي يؤدي إلى الإنقسام، وإلى تبعية الإشتراكية للقومية ودافع عن وحدة مختلف الجنسيات داخل حزب مركزي واحد.
لدى عودته إلى سانت بطرسبورغ، أوقع به العميل مالينوفسكي، فاعتقله البوليس للمرة الخامسة، وتمّ إبعاده، هذه المرة، إلى أقصى مناطق سيبيريا، بحيث يتعذر عليه الفرار منها، وكان عليه أن يقضي هناك مدة خمس سنوات.
لم يتمكن ستالين من العودة إلى سانت بطرسبورغ إلا بعد ثورة شباط عام 1917، حيث كان قد أنتخب إلى رئاسة المجلس الأعلى للسوفييت الروسي، واستعاد موقعه في رئاسة تحرير البرافدا، وفي مؤتمر الحزب، الذي إنعقد في نيسان عام 1917 كان ترتيبه الثالث في عدد الأصوات التي حصل عليها المرشحون لعضوية اللجنة المركزية. وحينما أغلقت الحكومة المؤقتة صحيفة البرافدا في شهر تموز، واعتقلت عددا من قادة البلاشفة. كان على لينين أن يتوارى عن الأنظار، فلجأ إلى فنلندا، وقاد ستالين الحزب في تلك الفترة. وفي شهر آب، قدم تقريرًا إلى المؤتمر السادس للحزب، بإسم اللجنة المركزية. وتمّ تبني خطه السياسي بإجماع 167 مندوبا، وامتناع أربعة مندوبين عن التصويت.
وقد صرّح ستالين :
" لا يمكننا أن نستبعد إمكانية أن تكون روسيا هي البلد التي ستفتح الطريق نحو الإشتراكية. علينا التخلي عن الفكرة القديمة التي ترى بأن أوروبا وحدها هي التي بمقدورها أن ترشدنا إلى الطريق".
في لحظة إندلاع ثورة الخامس والعشرين من أوكتوبر كان ستالين واحدًا من أعضاء المركز العسكري الثوري، الذي كان يضم خمسة أعضاء من اللجنة المركزية وقد عارض كل من كامينيف وزينوفييف إستلام السلطة من قبل البلاشفة، وأيّد موقفهم كل من ريكوف ونوجين ولونا تشارسكي وميلوتين. غير أن ستالين هو الذي رفض إقتراح لينين بفصل كامينيف وزينوفييف من الحزب. وبعد الثورة فإن " البلاشفة اليمينيين " أنفسهم طالبوا بحكومة ائتلاف تضم المناشفة والإشتراكيين الثوريين إلى جانب البلاشفة. وحين وجدوا أنفسهم مهددين بالفصل عدلوا مواقفهم، وإلتزموا بخط الحزب.
أصبح ستالين مفوض الشعب الأول لشؤون القوميات، وأدرك عاجلا جدّا بأن البرجوازية العالمية ستدعم البرجوازيات المحلية للأقليات القومية. كتب ستالين : 
" إن حق تقرير المصير، ليس حقــًا من حقوق الطبقة البرجوازية، وإنما هو حق جماهير العمال في أية أمة من الأمم. ينبغي أن يستخدم مبدأ حق تقرير المصير كأداة للصراع من أجل الإشتراكية. ولابد أن يكون هذا الحق خاضعا للمبادىء الإشتراكية ".
وهكذا، يمكننا أن نستخلص أنه ما بين عامي 1901 و 1917 ، أي منذ ظهور الأصول الأولى للحزب البلشفي وحتى إنتصار ثورة أوكتوبر كان ستالين نصيرا مواليا للخط السياسي الذي أرساه لينين. ما من قائد بلشفي آخر كان يمكنه أن يباهي بمثل هذا النشاط الثوري المثابر والمتنوع الذي بذله ستالين. لقد سار، منذ البداية، على خطى لينين، في أحلك اللحظات التي لم يكن لينين يعتمد فيها إلا على عدد محدود من الأنصار بين جمهرة المثقفين الإشتراكيين. وخلافا لأغلبية قادة البلاشفة الآخرين، كان ستالين على الدوام على تماس مع الواقع الروسي، ومع المناضلين في الداخل. لقد عرف ستالين عن كثب أولئك المناضلين بعدما خالطهم في غمرة النضال المفتوح والعلني، وفي ظروف السرية، في السجون، وفي منافي سيبيريا. وكان يمتلك مؤهلات بالغة الإتساع، فهو الذي قاد النضال المسلح في القوقاز مثلما قاد النضالات السرية، وقام بتنظيم النضالات النقابية، وبنشر وتوزيع الصحف السرية و "الشرعية"، وكان على رأس العمل " الشرعي" والبرلماني، كما كان ملمّا تمام الإلمام بوضع الأقليات القومية، مثلما كان على دراية بالشعب الروسي.
إن تروتسكي لم يأل جهدًا في مهاجمة ستالين وتشويه ماضيه الثوري بصورة منهجية. وقد استقى جميع الكتاب البرجوازيين تقريبا تشنيعاتهم على ستالين من تروتسكي. يقول تروتسكي :
" كان ستالين أقل الأعضاء ذكاء في حزبنا ".
حين يتحدث تروتسكي عن " حزبنا " فذلك من قبيل التدليس والمراوغة، إذ لم يكن ينتمي إلى هذا الحزب البلشفي إطلاقا سوى لينين وزينوفييف وستالين وسفيردلوف وثمة آخرون إنضموا إلى صفوفه بين عامي 1903 و1917. أما تروتسكي فلم ينضم إلى الحزب إلا في تموز عام 1917.
كتب تروتسكي أيضًا :
" بالنسبة للمسائل اليومية، كان لينين يوكل الأمور إلى ستالين وزينوفييف وكامينيف. إذ لم أكن قط ملائما للقيام بمثل تلك المهمات. كان لينين، بحاجة، في الميدان العملي، إلى مساعدين طيّعين لأداء مثل هذا الدور. ولم أكن مؤهلا لذلك على الإطلاق ".
هذا الكلام، في الحقيقة لا يسيء إلى ستالين البتة، بل يسيء إلى تروتسكي كليّا. فهو يسقط على لينين تصوره الأرسطقراطي والبونابارتي الخاص به عن الحزب : قائد محاط بمعاونين طيعين، يعالجون المسائل اليومية المستجدة.      

" الإشتراكيون " والثورة


حدثت الثورة البلشفية، إذن، في 25 أكتوبر عام 1917.

وفي الغداة، صوّت "الإشتراكيون" عبر سوفييت مندوبي الفلاحين على مذكرة، ستكون أول دعوة إلى الثورة المضادة :
" أيها الرفاق الفلاحون. إن كافة الحريات المكتسبة بدم أبنائكم تتعرض الآن لخطر جسيم. كما أن ضربة مميتة وُجهت إلى جيشنا، الذي يردّ عن الوطن والثورة خطر الهزيمة الخارجية. لقد شقّ (البلاشفة) قوى العمال، والضربة القاتلة الموجهة إلى جيشنا هي أولى الجرائم وأسوأها التي يقترفها حزب البلاشفة. 
في المقام الثاني، أطلق هذا الحزب شرارة الحرب الأهلية واستولى على السلطة بالعنف. إن (البلاشفة) لن يجلبوا إليكم السلام بل العبودية".     
وهكذا، أعلن "الإشتراكيون" غداة ثورة أكتوبر عن موقفهم المتمثل في مواصلة الحرب الإمبريالية، واتهموا البلاشفة بإثارة الحرب الأهلية، وجلب العنف والعبودية.
وعلى الفور، سعت القوى البرجوازية، والقوى القيصرية القديمة، وكافة القوى الرجعية إلى التكتل، وإعادة تنظيم صفوفها خلف الطليعة "الإشتراكية"... ومنذ عام 1918 إندلعت ثورات مسلحة ضد البلاشفة. ففي بداية 1918 شكل بليخانوف، وهو زعيم بارز من زعماء المناشفة "الإتحاد من أجل بعث روسيا" مع الإشتراكيين الثوريين، والإشتراكيين الشعبيين وكذلك مع زعماء الحزب البرجوازي، الكاديت. وقد كتب كيرنسكي :
" لقد قرّ رأي الجميع على ضرورة تشكيل حكومة قومية، تقوم على المبادىء الديمقراطية بمعناها الأكثر إتساعا. كما إرتؤوا إعادة تشكيل جبهة ضد ألمانيا بالتعاون مع حلفاء روسيا الغربيين".
في 20 حزيران 1918 ظهر كيرنسكي في لندن بإسم هذا الإتحاد، كي يتفاوض مع الحلفاء. مع الوزير البريطاني الأول لويد جورج. وصرّح كيرنسكي : " إن هدف الحكومة القومية المشكلة، مواصلة الحرب إلى جانب الحلفاء. وتحرير روسيا من الطغيان البلشفي، وإقامة النظام الديمقراطي".
على هذا النحو، كانت البرجوازية الروسية العدوانية، تستخدم، منذ أكثر من سبعين عامًا كلمة "الديمقراطية" كي تغطي هيمنتها البربرية.
طلب كيرنسكي، باسم الإتحاد، "تدخل" الحلفاء في روسيا. وبعد فترة وجيزة أقيمت حكومة مديرين في سيبيريا تضم الإشتراكيين الثوريين، والإشتراكيين الشعبيين، وحزب الكاديت البرجوازي، والجنرالين القيصريين الكسييف وبولدريف، وأوشكت الحكومتان الأنكليزية والفرنسية على الإعتراف بها قبل أن تلعب ورقة الجنرال القيصري كولتشاك.
وهكذا تكتلت القوى، التي دافعت عن النظام القيصري الرجعي، وعن البرجوازية خلال الحرب الأهلية في روسيا: الفرق العسكرية القيصرية، وسائر قوى البرجوازية – من الكاديت وحتى الإشتراكيين – متحالفة مع فرق التدخل الأجنبية.
إنطلقت شرارة الحرب الأهلية عام 1918، وامتد لهيبها في كل مكان، وحتى في بتروغراد وموسكو. ولم يعد أحد قط آمنًا على حياته وممتلكاته.
وضرب الأسطول الأنكليزي حصارًا، بمساندة من سائر البلدان الإمبريالية الأخرى. مانعًا دخول المواد الغذائية والألبسة والأدوية، ومادة التخدير المستخدمة في العمليات الجراحية. وتم إنزال الجيوش الأنكليزية والفرنسية واليابانية والإيطالية والأمريكية في مورمانسك واركانجيسك في الشمال. وفي فلاديفوستوك في الشرق الأقصى وفي باطوم وأوديسا في الجنوب لمساندة القطعات القيصرية بقيادة دينيكين وكولتشاك وجودينيتش وفرانجل الذين شنوا عملياتهم الحربية على امتداد الأراضي الروسية، أما الفرق القديمة سرى التشيكيين فقد سيطرت على الجزء الأكبر من سيبيريا. ودمرت الجيوش الألمانية والبولونية الجزء الغربي من البلاد، واحتلت أوكرانيا.
من عام 1918 وحتى 1921 خلـّـفت تلك الحرب الأهلية تسعة ملايين قـتيل، كانوا ضحايا المجاعة في الأساس، غير أن هذه الملايين التسعة كانوا ضحايا التدخل الأجنبي بوجه خاص، ضحايا الحصار المضروب من قبل القوى الغربية. ولكن اليمين، وضع هذه الأرواح في عنق البلاشفة بكل ما عُرف به من خسّة ومكر.                     
ثمة معجزة خارقة في أن حزب البلاشفة الذي كان تعداده ثلاثة وثلاثون ألف عضو عام 1917 نجح في تعبئة قوى شعبية كانت من الكثافة والإتساع بحيث أفلحت في إلحاق الهزيمة بالقوى المتفوقة عليها من البرجوازية، ومن النظام القيصري القديم، مدعومة من "الإشتراكيين"، ومعزّزة من قبل الجيوش الأجنبية الغازية. وذلك يعني أنه لو لم يكن ثمة تعبئة مكثفة لجماهير الفلاحين والعمال، ولو لم تكن هذه الجماهير متمتعة بالثبات والإرادة الصلبة في تحقيق الحرية، لما إستطاع البلاشفة على الإطلاق تحقيق النصر النهائي. 
من الجدير بالتنويه أن المناشفة، ومنذ بداية الحرب الأهلية، أدانوا "ديكتاتورية البلاشفة"، و"النظام التعسفي، الإرهابي" للبلاشفة، و"الأرستقراطية الجديدة " البلشفية. في عام 1918 لم يكن ثمة "ستالينية " تشيع في الجو، ومع ذلك فإن عبارة "ديكتاتورية الارستقراطية الجديدة " هي التي كانت ترددها الإشتراكية الديمقراطية لترمي بها، ومنذ البداية، النظام الإشتراكي الذي أرساه لينين. 
لقد دبّج بليخانوف القاعدة النظرية التي إستندت إليها هذه الإتهامات، وذلك من خلال تأكيده على أن البلاشفة مارسوا سياسة "رجعية من الناحية الموضوعية " تسير بعكس إتجاه التاريخ. وأقاموا طوباوية رجعية ترتكز على إدخال الإشتراكية في بلد لم تنضج فيه الظروف بعد. وتحدث بليخانوف عن " الفوضوية الفلاحية" التقليدية ولكن حين إتسع نطاق التدخل الأجنبي كان بليخانوف أحد القادة المناشفة القلائل الذين عارضوا ذلك التدخل.
إن انضواء القادة الإشتراكيين في صف البرجوازية قد استند إلى ذريعتين: تتمثل الأولى في أنه من المستحيل "فرض" الإشتراكية داخل بلد متخلف، وأما الثانية فمفادها، أن البلاشفة ماداموا يريدون، مع ذلك، فرض إشتراكية "بالقوة"، فإنهم سيولـّدون الإستبداد والديكتاتورية، وسيشكلون أرسطقراطية جديدة فوق الجماهير.      
تلك " التحليلات" التي صاغها الإشتراكيون الديمقراطيون المعادون للثورة والتي قاتلت ضد الإشتراكية بعنف سنتصدّى لها فيما بعد: فهذه الحملات الإفترائية ضد اللينينية سيجري تضخيمها ببساطة، فيما بعد، ضد الستالينية. 

ستالين أثناء الحرب الأهلية


لنتأمل قليلاً في الدور الذي قام به ستالين خلال الحرب الأهلية.

ثمة العديد من المنشورات البرجوازية جعلت من تروتسكي "المبدع والمنظم للجيش الأحمر". ووضعته على قدم المساواة مع لينين، بصفتهما العبقريين اللذين أحرزا النصر العسكري للبلاشفة. أما إسهام ستالين في القتال ضد جحافل البيض فقد ضرب عنه صفحًا في الغالب. مع ذلك، فخلال أعوام 1918 – 1920 قاد ستالين شخصيًّا المعارك العسكرية في العديد من الجبهات الحاسمة. ولم يكن لزينوفييف وكامينيف وبوخارين أي إسهام في المجال العسكري.
في شهر تشرين الثاني عام 1917 شكلت اللجنة المركزية مجلسًا مصغرًا لمعالجة المسائل العسكرية الملحّة، مؤلفـًا من لينين وستالين و سفيردلوف وتروتسكي. وقد كتب مساعد ستالين:
" طوال ساعات اليوم كان لينين يستدعي ستالين عددًا لا يحصى من المرات. وكان ستالين يقضي الجزء الأكبر من يومه مع لينين".
حين جرت مفاوضات السلام مع ألمانيا في ديسمبر، كانون أول عام 1917 كان لينين وستالين يصران على قبول الشروط الجائرة التي فرضتها ألمانيا من أجل إيقاف الحرب. وذلك بغية إنقاذ السلطة السوفييتية الوليدة، مهما كلف الثمن. فقد كانا يضعان في إعتبارهما وضع الجيش الروسي الذي كان، بوجه عام، عاجزًا عن القتال. أما بوخارين وتروتسكي فكانا يرفضان تلك الشروط ويرفعان راية "الحرب الثورية". وكان ذلك يعني، بالنسبة إلى لينين، الوقوع في الفخ الذي نصبته البورجوازية، تلك التي كانت تنادي بالنزعة القومية المتطرفة، وذلك بهدف إسقاط سلطة البلاشفة، وحين بدأت المفاوضات صرح تروتسكي:
"إننا ننسحب من الحرب، ولكننا نرفض توقيع معاهدة السلام". وقد أكد ستالين بأنه لم يكن ثمة علامات تشير إلى حدوث ثورة وشيكة في ألمانيا. وأن حركة تروتسكي الإستعراضية لم يكن لها زى سياسي. وقد إستأنف الألمان هجومهم فعلاً، فوجد البلاشفة أنفسهم مضطرين حالاً إلى التوقيع على شروط سلام أكثر إجحافا. وبصدد هذه المسألة أوشك الحزب على السقوط في الكارثة.
في كانون الثاني من عام 1918 جند الجنرال القيصري الكسييف جيشًا من المتطوعين في أوكرانيا ومنطقة الدون. وفي شباط إحتل الجيش الألماني أوكرانيا كي "يضمن إستقلالها" عن روسيا. وفي أيار عام 1918 إحتل 300 ألف من الجنود التشيكيين جزءًا واسعا من سيبيريا. وخلال الصيف، وبتحريض من وينستون تشرشل تدخلت كلّ من أنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة و إيطاليا واليابان عسكريا للقضاء على البلاشفة.
منذ شهر آذار عام 1918 أصبح تروتسكي مفوض الشعب لشؤون الدفاع. وكان على عاتقه مهمة تشكيل جيش جديد من العمال والفلاحين تحت قيادة أربعين ألفا من ضباط الجيش القيصري القديم.
في حزيران عام 1918، كانت منطقة شمال القوقاز، وهي منطقة زراعة الحبوب الوحيدة ذات الأهمية التي كانت في يد البلاشفة، مهددة بالإكتساح من قبل جيش الجنرال الأبيض كراسنوف. وقد أرسل ستالين إلى تسارتسين، والتي ستصبح ستالينغراد فيما بعد، من أجل تأمين إستلام محاصيل الحبوب. فوجد الوضع هناك غارقا في سديم من الفوضى الشاملة.
" من دون أية إجراءات شكلية، سأطرد أنا بنفسي هؤلاء القادة العسكريين والقوميساريين الذين هم على وشك دفع الوضع إلى الإنهيار الكامل". كتب ستالين إلى لينين طالبًا تفويضه السلطة العسكرية في المنطقة.
في 19 تموز تمّ تعيين ستالين رئيسًا للمجلس الحربي في الجبهة الجنوبية. وبعد ذلك، دخل ستالين في نزاع مع جنرال المدفعية القديم في الجيش القيصري سيتين الذي كان قد عيّنه تروتسكي قائدا عسكريًا للجبهة الجنوبية، وكذلك مع القائد العام الكولونيل القيصري القديم فاتسيتي. وتكللت جهود الدفاع عن مدينة تسارتسين بالنجاح. وقد اعتبر لينين الإجراءات التي إتخذها ستالين في مدينة تسارتسين نموذجا يحتذى.
في تشرين الأول عام 1918 عُيّن ستالين رئيسًا للمجلس العسكري في أوكرانيا وكان على عاتقه مهمة قلب نظام سبوروبادسكي الذي اصطنعه الألمان.
في كانون أول، اختل الوضع في الأورال اختلالاً خطيرًا، وبات قاب قوسين من الإنهيار، من جراء التقدم الحثيث للقطعات العسكرية الرجعية بقيادة كولتشاك. وأرسل ستالين على الفور مفوضًا بكامل السلطات، من أجل الحد من الحالة الكارثية التي أحاقت بالجيش الثالث، ولإقصاء القوميساريين غير الأكفاء. ولدى معاينته للوضع عن كثب وجه ستالين نقدًا لسياسة تروتسكي والكولونيل فاتسيتي. وفي المؤتمر الثامن للحزب المنعقد في آذار 1919 خضع تروتسكي لنقد العديد من المندوبين بسبب "مواقفه الديكتاتورية" و "ولعه بالإختصاصيين العسكريين" و"سيل برقياته المشوشة وغير المفهومة".
في أيار عام 1919 أرسل ستالين من جديد، بكامل السلطات، لتنظيم الدفاع عن بيتروغراد ضد الهجوم الذي شنه الجنرال الأبيض جودنيتش. وفي 4 حزيران بعث ستالين ببرقية إلى لينين، يؤكد فيها، إستنادا إلى وثائق حصل عليها. بأن عديدًا من ذوي الرتب العليا في الجيش الأحمر يعملون سرًا لصالح البيض.
على الجبهة الشرقية، إنفجر نزاع خطير بين قائد هذه الجبهة س.كامينيف وبين القائد العام فاتسيتي، وأيدت اللجنة المركزية للحزب الجنرال س.كامينيف فقدم تروتسكي إستقالته التي رفضتها اللجنة المركزية. وتمّ توقيف فاتسيتي للتحقيق معه.
في آب 1919 احتل الجيش الأبيض الأراضي الواقعة على ضفة الدون في أوكرانيا، وفي جنوب روسيا، متقدمًا بإتجاه موسكو. ومن تشرين الأول 1919 حتى آذار 1920 قاد ستالين الجبهة الجنوبية، ودحر جيش دينيكين.
في أيار عام 1920 أرسل ستالين إلى الجبهة الجنوبية الغربية، حيث كان الجيش البولوني يدق أبواب مدينة لوفوف في أوكرانيا، وكانت قوات فرانجل تهدد مدينة كريمي. كان البولونيون قد احتلوا قسما كبيرا من أوكرانيا، بما فيها مدينة كييف. وفي الجبهة الغربية شنّ القائد الأحمر توخاتشيفسكي هجومًا مضادًا، دحر فيه المعتدين، وتعقب فلولهم حتى مشارف فرصوفيا. كان لينين يأمل بكسب الحرب ضد بولونيا الرجعية، لذا فقد وافق على تشكل حكومة سوفييتية بولونية مؤقتة. لكن ستالين حذر من عواقب ذلك:
"إن الصراعات الطبقية في بولونيا لم تبلغ بعد من القوة بحيث تتغلب على مشاعر الوحدة القومية البولونية".
ومن جراء فقدان التنسيق، وتلقي أوامر متضاربة تعرضت قوات توخاتشيفسكي لهجوم بولوني مضادبإتجاه جناحها المكشوف، فولّت الأدبار.
في اللحظة ذاتها، كان على ستالين تركيز معظم قواته ضد فرانجل الذي كان قد احتل الأراضي الواقعة شمال بحر آزوف، والذي كان يهدد بإقامة اتصال مع القوات المعادية للشيوعيين على الدون. وقد تمّ القضاء على جيوش فرانجل البيضاء قبل نهاية عام 1920.
في كانون أول عام 1919 قـُلد كل من ستالين وتروتسكي وسام العلم الأحمر لقاء مآثرهما العسكرية. وهو وسام صنع حديثا... كان لينين واللجنة المركزية يعتبرون كفاءات ستالين في قيادة النضال المسلح، في المواقع الأشد خطورة تضاهي كفاءات تروتسكي الذي أسس وقاد الجيش الأحمر على المستوى المركزي. ولكن تروتسكي كان أبرع بكثير في إبراز قدره والإحتفال بنفسه وقد كتب تروتسكي:
"طوال الحرب الأهلية ظل ستالين شخصية من الدرجة الثالثة".     
غير أن مـك نيل الذي كان، في الغالب، مشبعًا بالأحكام المسبقة ضد ستالين، كتب بهذا الصدد:
"كان ستالين قد برز كقائد سياسي وعسكري. حيث أن إسهامه في تحقيق النصر للجيش الأحمر لا يوازيه إلاّ إسهام تروتسكي. كان دوره في تأسيس الجيش الأحمر، بوجه عام، أقل من دور منافسه تروتسكي، ولكن دوره في قيادة الجبهات الحاسمة أكثر أهمية وخطورة. وإذا كانت شهرته كبطل بعيدة عن أن ترقى إلى شهرة تروتسكي، فلم يكن مرد ذلك إطلاقًا إلى الجدارة الموضوعية لتروتسكي وإنما بالأحرى لما كان يفتقر إليه ستالين من موهبة الدعاية الذاتية لإظهار نفسه كبطل فذ".
في كانون أول عام 1919 إقترح تروتسكي "عسكرة الحياة الإقتصادية" وكان ينوي أن يطبق، في تعبئة العمال، نفس المناهج التي كان يطبقها في قيادة الجيش الأحمر وعبر هذا المنظور، تم تعبئة عمال السكك الحديدية في ظل نظام من الإنضباط العسكري واجتاحت الحركة النقابية موجة من الإحتجاجات. وصرح لينين بأن تروتسكي قد إرتكب أخطاء تعرّض ديكتاتورية البروليتاريا للخطر، من جراء مضايقاته البيروقراطية للنقابات وهو يجازف بشق حزب الجماهير العمالية.
إن فردية تروتسكي، واحتقاره العلني للكوادر البلشفية، وأسلوبه في القيادة المستبدة، ونزوعه إلى الإنضباط العسكري. كان قد أثار القلق لدى العديد من الكوادر الحزبية. وكانوا يرون بأن من الممكن فعلاً لتروتسكي أن يلعب دور نابليون بونابرت. وأن يقوم بإنقلاب عسكري، ويؤسس نظاماً استبدادياً مضاداً للثورة. 

"وصية" لينين 


إذا كان تروتسكي قد عاش برهة قصيرة من المجد عام 1919 ، في معمعان الحرب الأهلية، فمما لا جدال فيه أن ستالين كان بين عامي 1921 – 1923 الشخصية الثانية في الحزب بعد لينين.

منذ المؤتمر الثامن للحزب عام 1919 كان ستالين عضوًا في المكتب السياسي إلى جانب لينين، كامينيف، تروتسكي، كريستنسكي. وهذا التركيب ظل على حاله حتى عام 1921. كان ستالين بالإضافة إلى ذلك عضو المكتب التنظيمي المؤلف هو أيضًا من خمسة أعضاء من اللجنة المركزية. ولدى انعقاد المؤتمر الحادي عشر عام 1922 شن بريو برجنسكي نقدًا على واقعة أن ستالين كان يقود مفوضية القوميات، بالإضافة إلى مفتشية العمال والفلاحين (المكلفة بالرقابة على جهاز الدولة بأسره) وقد ردّ عليه لينين:
" نحن بحاجة إلى رجل، يمكن لأي ممثل من ممثلي القوميات أن يذهب إليه، ويروي له بالتفصيل كل ما يحدث لديه، ولن يكون بمقدور بريو برجنسكي أن يقترح مرشحًا آخر لهذا المنصب غير ستالين. والأمر نفسه بالنسبة إلى مفتشية العمال والفلاحين. فهذا عمل هائل يقتضي أن يكون على رأسه رجل يتمتع بسلطة كاملة، وإلا فإننا سنغوص في الوحل."
في 23 نيسان، وباقتراح من لينين، عُـيّن ستالين أيضًا سكرتيرًا عامًا للمكتب السياسي.
وهكذا كان ستالين، وهو الشخص الوحيد الذي يشارك في عضوية اللجنة المركزية، والمكتب السياسي، والمكتب التنظيمي، وسكرتارية الحزب البلشفي.
كان لينين قد تعرض لهجمة المرض الأولى في أيار 1922. وفي 16 كانون أول عام 1922 تعرض لهجمة ثانية. وكان الأطباء يدركون بأنه لن يعود قط إلى حالته الصحية الطبيعية.
في 24 كانون أول أخبر الأطباء ستالين، وكامينيف وبوخارين، بوصفهم ممثلين عن المكتب السياسي، بأن أي جدال سياسي مع لينين يمكنه أن يستثير نكسة جديدة لديه، مشؤومة هذه المرة. وقرر الأطباء بأنهم يسمحون للينين بأن يملي لمدة خمس دقائق أو ست في كل يوم. وأنه لا يستطيع استقبال زائرين سياسيين. أما رفاقه، وأولئك الذين حوله، فليس بمقدورهم أن يحيطوه علما بالشؤون السياسية. 
كان المكتب السياسي قد كلف ستالين بالاتصال بلينين، وبالأطباء. وتلك كانت مهمة شاقة ما دام لينين لم يكن يستطيع التخلص من الشعور بالإحباط إلى أقصى درجة، بسبب وطأة الشلل الذي ألمّ به، وبسبب إبعاده عن الشؤون السياسية.
كان لا بدّ لحنقه، أن ينصبّ بالضرورة على الرجل المكلف بالإتصال معه.
كتب يان غري:
" تتضمن النشرة اليومية التي كان يصدرها سكرتيرو لينين، من 21 تشرين الثاني وحتى 6 آذار عام 1923، تفاصيل النشاط الذي كان يقوم به لينين، يومًا بعد يوم، وتفاصيل زياراته، وصحته. وبعد 13 كانون أول تضمنت صورة عن أبسط أفعاله وتصرفاته، كان على لينين، إذن، بعد أن استحكم الشلل برجله ويده اليمينيتين أن يبقى في السرير، منقطعا عن الشؤون الحكومية، وبالأحرى عن العالم الخارجي، وكان الأطباء قد حظروا أي إزعاج له. ولأنه غير قادر على العدول عن عاداته في الإمساك بزمام الأمور، فقد كان يكافح للحصول على الملفات التي كان يريدها. كان لينين يعتمد على زوجته كروبسكايا وعلى أخته ماريا إيلشنا، وعلى ثلاث سكرتيرات أو أربع.
ولكونه معتادًا على قيادة كل جوانب الحياة الأساسية في الحزب والدولة، فقد حاول بجهد مستميت التدخل في السجالات الدائرة، والتي أصبح عاجزا جسديًا عن ضبط كافة عناصرها. لقد حظر عليه الأطباء كل نشاط سياسي. الأمر الذي أزعجه إلى أقصى حد، وحين أحسّ بدنو أجله سعى إلى تسوية المشكلات التي كان يراها جوهرية والتي لم يعد، مع ذلك، مسيطرا عليها. وقد حظر عليه المكتب السياسي كل عمل سياسي مرهق، غير أن زوجته كانت تسعى جهدها كي تحصل له على الوثائق التي كان يطلبها. وكان كل طبيب يطـّـلع على مثل هذه الأوضاع يقول بأن صراعًا نفسيًا وشخصيًا شاقا كان لا مهرب منه.
في نهاية كانون الأول من عام 1922 كتبت كروبسكايا رسالة كان لينين قد أملاها. وقد عنـّـفها ستالين على ذلك عبر الهاتف فاشتكت إلى لينين وإلى كامينيف:
" أنا أعرف أفضل من الأطباء ما يمكن قوله، وما لا يمكن قوله إلى اليتش، لأني أدرى بما يزعجه وما لا يزعجه. وفي كل الأحوال، فأنا أعرف ذلك أفضل مما يعرف ستالين".
وبصدد تلك الفترة كتب تروتسكي فيما بعد:
" في أواسط شهر كانون الأول عام 1922 تدهورت حالة لينين الصحية من جديد وتحرك ستالين على الفور، كي يستفيد من الموقف، مخفيا عن لينين قسما كبيرًا من المعلومات المتجمعة في سكرتارية الحزب. كان يبذل ما بوسعه لعزل لينين. وكانت كروبسكايا تفعل كل ما تستطيع كي تحمي المريض من هذه المناورات العدائية".
هذه الأقوال الفظيعة للغاية قمينة بشخص دساس. فقد كان الأطباء قد حظروا على لينين أن يتسلم أي تقرير. وها هو ذا تروتسكي يتهم ستالين بأنه يقوم بمناورات عدائية تجاه لينين، وبأنه يخفي عنه المعلومات".
هكذا، وفي تلك الظروف، أملى لينين بين 23 – 25 كانون أول عام 1922 ما يسميه أعداء الشيوعية " وصية لينين". تلك الملاحظات التي أملاها لينين والتي أتبعت بحاشية مؤرخة في 5 كانون الثاني عام 1923.
أضفى المؤلفون البرجوازيون هالة كبرى على هذه " الوصية " المزعومة من لينين، والتي تقضي، حسب زعمهم، بإقصاء ستالين لصالح تروتسكي. وقد كتب هنري برنارد، الأستاذ الشهير في المدرسة العسكرية الملكية ما يلي : 
" كان من الطبيعي أن يصبح تروتسكي خليفة لينين. إذ كان لينين يفكّر به كخلف له، فقد كان يجد ستالين فظًا للغاية".
في عام 1925، نشر التروتسكي الأمريكي ماكس إستمان " وصية لينين " مرفقة بكلمات المديح لتروتسكي. حينذاك وجد تروتسكي نفسه مرغما على نشر توضيح في صحيفة البلشفي جاء فيه :
" يؤكد إيستمان أن اللجنة المركزية أخفت 'الوصية' المزعومة عن الحزب ونحن لا نستطيع أن نسمي ذلك سوى وشاية ضد اللجنة المركزية لحزبنا (...).
إن فلاديمير إيليتش لم يترك أية وصية، فطبيعة علاقاته بالحزب تحديدا وكذلك طبيعة الحزب نفسه تستبعد كل فكرة عن 'وصية'. وبوجه عام، فإن صحافة المهاجرين الروس، والصحافة الأجنبية البرجوازية والمنشفية تشير بتلك التسمية إلى إحدى رسائل فلاديمير إيليتش تحتوي على توصيات ذات طبيعة تنظيمية. محرِّفة إياها إلى حد الزعم بأنها قد غُيّرت وغدت غير واضحة المعالم.
أما سائر الثرثرات التي تدور حول إخفاء وصية لينين أو إنكارها فليست سوى إفتراءات خبيثة".
بعد مرور سنوات على ذلك، سيطلق تروتسكي ذاته، وفي سيرته الذاتية، صرخات حانقة بخصوص ' وصية لينين التي جرى إخفاؤها عن الحزب'.
فلنعد إلى تلك الملاحظات الشهيرة التي أملاها لينين ما بين يوم 23 كانون أول عام 1922 ويوم 15 كانون الثاني من عام 1923.
يقترح لينين توسيع اللجنة المركزية، 'إلى حوالي مئة عضو'.
" سيكون ذلك ضروريا لزيادة قدرة اللجنة المركزية، ومن أجل تحسين عمل جهازنا الحزبي على نحو جدّي. وللحؤول، أيضا، دون أن تتمكن النزاعات بين بعض المجموعات الصغيرة في اللجنة المركزية من أن تشكل خطورة كبيرة جدًّا. في وسع حزبنا أن يلتمس من الطبقة العاملة 50 إلى 100 عامل للجنة المركزية".
وهذا يعني " اتخاذ إجراءات لمنع وقوع انقسامات في صفوف الحزب".
" النقطة الجوهرية في مسألة تماسك الحزب، تتمثل في وجود أعضاء في اللجنة المركزية، من أمثال ستالين وتروتسكي. فالعلاقة بينهما تشكل، في رأيي، الخطر الرئيسي الذي يهدد بحدوث هذا الإنقسام".
هذا بالنسبة للجزء 'النظري'.
ينطوي هذا النص على شيء من التشويش اللافت للنظر. ويبدو بوضوح أنه قد أملي من قبل رجل أنهكه المرض. تـُرى ما الذي يمكن لـ 50 إلى 100 عامل، يضافون إلى اللجنة المركزية أن يقوموا به حتى ' يزيدوا من قدرة اللجنة المركزية ' أو يقللوا من خطر الانقسام؟ وفيما لم يتحدث لينين عن أية تصورات سياسية، أو أية تصورات عن الحزب لدى ستالين أو تروتسكي، فقد أكد على أن العلاقات الشخصية بين هذين القائدين هي التي كانت تهدد وحدة الحزب.
بعد ذلك، يملي لينين 'أحكاما' حول القادة الرئيسيين الخمسة في الحزب ونحن نذكرها هنا بكاملها:
" بعد أن غدا الرفيق ستالين السكرتير العام للحزب، ركـّز بين يديه سلطة هائلة، ولست متأكدا بأنّ في مقدوره دائما أن يستخدمها بتبصّر.
من ناحية أخرى، فإنّ الرفيق تروتسكي، الذي اشتبك سابقا في صراع مع اللجنة المركزية بشأن مفوضية الشعب لطرق المواصلات، لم يلفت الأنظار إلى قدراته العالية فحسب، بل ربما كان الرجل الأكفأ في اللجنة المركزية. ولكنه مفرط في الثقة بالنفس، وفي الولع الشديد بالجانب الإداري من الأمور بوجه خاص.
هذه الخصال التي يتسم بها القائدان البارزان في اللجنة المركزية الحالية سيكون بمقدورها، في ظروف طارئة، أن تؤدي بالحزب إلى الانقسام.
سأكتفي بالتذكير بأن الموقف الذي اتخذه كل من كامينيف وزينوفييف في أكتوبر لم يكن بالتأكيد موقفا عابرًا أو لا مقصودًا. غير أنه لا ينبغي لنا أن ندينهم بهذه الجريمة، بصفة شخصية، أكثر مما ندين تروتسكي على أنه لم يكن بلشفيا.
ليس بوخارين منظرًا رفيع القيمة وحسب، بين غيره من أعضاء الحزب الأشد تأثيرا. ولكنه يتمتع، دون جدال، بمحبة الحزب بأسره، ومع ذلك، فإنّ رؤاه النظرية لا يمكن أخذها كليا على أنها مطابقة للماركسية، إلا بأكبر قدر من التحفظ، ذلك لأن فيه شيئا من السكولاستيكية 'المدرسية الجامدة' ، ( فهو لم يدرس مطلقا، بل وأفترض، أنه لم يفهم على الإطلاق، الديالكتيك تمام الفهم) ".
لنلاحظ بأن القائد الأول الذي أتى لينين على ذكره هو ستالين " هذا التجريبي المؤهل لأن يلعب أدوارًا من الدرجة الثانية والثالثة " كما قال عنه تروتسكي. وسيقول تروتسكي أيضًا:
" إن روح الوصية يتمثل في خلق الشروط التي ستتيح لي الإمكانية لأن أحل محلّ لينين، وأن أكون الرجل الذي يخلفه."
على ذلك، فما من شيء، يصلح لأن يوضح ما جاء في تلك التخطيطات التي أملاها لينين. مما كتبه يان غري بحق:

" برز ستالين على أنه الأشد نقاء ونصاعة. فهو لم يلطخ سجله السياسي بأية لطخة. أما النقطة الوحيدة التي جرى التساؤل حولها فهي : هل سيتمكن ستالين من أن يُظهر تبصرا في أحكامه خلال ممارسة سلطاته الواسعة، المتركزة بين يديه".

فيما يخص تروتسكي، فقد سجل عليه لينين أربعة عيوب كبيرة: فهو يتبنى توجهات مغلوطة، على غرار صراعه مع اللجنة المركزية في مسألة "عسكرة النقابات". ولديه فكرة مبالغ بها عن نفسه. وهو يعالج المشكلات بطريقة بيروقراطية. وأخيرا فإن لا بلشفيته لم تكن حدثـًا عارضا.
فيما يخص كامينيف وزينوفييف، فإن الشيء الوحيد الذي أخذه عليهما لينين هو أن خيانتهما لحظة اندلاع الثورة لم تكن مصادفة.
أما بوخارين، فهو منظر كبير، غير أن أفكاره ليست مطابقة للماركسية تمامًا، بل إنها بالأحرى سكولاستيكية، وغير ديالكتيكية.
لقد أملى لينين هذه الملاحظات بغية تجنب انقسام داخل القيادة، ولكن الكلمات التي ساقها بصدد كل من القادة الخمسة، تبدو وكأنها قد صيغت لتنسف مكانة كل واحد منهم، ولتفسد العلاقة فيما بينهم.
حين أملى لينين تلك الأسطر "كان يشعر بالاستياء"، كما تحدثت سكرتيرته فوتييفا. " فالأطباء كانوا يعارضون حواراته مع سكرتيرته، ومع عاملة الاختزال".
ثم إنه، وبعد عشرة أيام، أملى "ملحقـًا" يشير فيه إلى التعنيف الذي كان ستالين قد وجّهه إلى كروبسكايا قبل ذلك باثني عشر يومًا.
"إن ستالين فظ للغاية، وهذا العيب الذي يمكن أن يكون محمولاً تمامًا في وسطنا، وفي العلاقات التي تربط بيننا، نحن الشيوعيين. لا يعود كذلك، في وظائف السكرتير العام. أقترح إذن على الرفاق أن يتدارسوا طريقة لإبعاد ستالين عن هذا المنصب، وتعيين شخص آخر مكانه، لا يتميز عن الرفيق ستالين سوى بميزة واحدة. أن يكون أكثر تسامحًا، وأكثر صراحة وأشد تهذيبًا، وأرق حاشية تجاه رفاقه. وأن يكون مزاجه أقل تقلبًا، إلخ. يمكن أن لا تبدو هذه السمات أكثر من تفصيل بسيط للغاية. ولكنها، كما أرى، تصون حزبنا من الانقسام، آخذين بالحسبان ما كنت قد نوهت به سابقـًا بصدد علاقات ستالين بتروتسكي. فليس ذلك تفصيلا، بل إنه شأن يمكن أن يرتدي أهمية حاسمة".
إن لينين الذي هدّه المرض، وغدا نصف مشلول، كان يزداد تعلقا بزوجته واعتمادا عليها أكثر فأكثر، حتى أن بضع كلمات شديدة الخشونة، وجهها ستالين إلى كروبسكايا، دفعت لينين إلى أن يطلب استقالة السكرتير العام. ولكن كي يبدله بمن؟ برجل له كل مزايا ستالين، إضافة إلى "ميزة وحيدة، أن يكون أكثر تسامحا، وتهذيبا ومجاملة" إن ما يشف عنه النص بوضوح، هو أن لينين لم يفكر، على الأخص، بتروتسكي. بمن فكر إذن؟ بلا أحد.
إن "الفظاظة" التي يتميز بها ستالين، " محمولة تمامًا من الشيوعيين". ولكنها ليست كذلك بالنسبة " لمهمته كسكرتير عام". مع ذلك، فإن السكرتير العام، كان في تلك الفترة، منشغلا، في الأساس، بمسائل التنظيم الداخلي للحزب.
في شباط عام 1923 "تفاقمت حالة لينين الصحية تفاقما خطيرا، كان يكابد آلاما عنيفة في رأسه، فحظر عليه الطبيب حظرا تاما قراءة الصحف، والزيارات والأخبار السياسية، وطلب فلاديمير اليتش محاضر المؤتمر العاشر للسوفييتيات، ولكن طلبه لم يستجب، فشعر بأسى بالغ". حاولت كروبسكايا، كما يبدو، الحصول على الوثائق التي كان يطلبها لينين. وقد روي ديميتريفيسكي واقعة أخرى بينها وبين ستالين:
" حين اتصلت كروبسكايا عبر الهاتف مرة أخرى، تطلب الحصول منه على بعض المعلومات، ردّ عليها ستالين بلهجة جارحة. فانفجرت كروبسكايا في نوبة بكاء شديدة، وذهبت على الفور لتشتكي إلى لينين. ولما كان لينين يعاني من أشد حالات التوتر، فإنه لم يستطع أن يتمالك نفسه وقتا أطول".
وفي 5 آذار، أملى لينين ملاحظة جديدة:
"الرفيق ستالين المحترم، لقد كان فظاظة منك أن تستدعي زوجتي على الهاتف، كي تعنفها بألفاظ جارحة، ولست راغبا أن أنسى سريعا بأن إساءتك كانت موجهة لي، فليس من المفيد أن أشدد على أنني أعتبر أي إساءة إلى زوجتي هي إساءة لي أيضا، لهذا السبب أطلب منك أن تختار بجديّة بين أن تقبل بسحب ما قلته، وتقدم اعتذارك، أو إذا كنت تفضل قطع العلاقات فيما بيننا".
إنه لممّا يثير أشد الألم، قراءة هذه الرسالة الخاصة، من رجل كان مشرفا جسديا على النهاية، وقد طلبت كروبسكايا نفسها من السكرتيرة أن لا ترسل هذه الرسالة إلى ستالين. أضف إلى ذلك، أن هذه الأسطر كانت هي الأخيرة التي استطاع لينين إملاءها، إذ أن نوبة خطيرة من المرض دهمته في اليوم التالي، وتركته عاجزا عن القيام بأي عمل، في ما بقي له من حياته.
أن يجد تروتسكي نفسه مضطرًّا إلى استغلال أقوال مريض مشرف على شلل كلّي، فإن ذلك يظهر بجلاء، السيماء الأخلاقية لهذا الشخص. والواقع، أن تروتسكي، كمزوّر حقيقي، أبرز هذا النص كدليل نهائي على أن لينين كان قد اختاره، من دون أدنى شك، كخلف له من بعده، وقد كتب تروتسكي:
" هذه المذكرة هي النص الأخير الذي تركه لينين، وهي في الوقت ذاته، المحصلة الحقيقية لعلاقاته مع ستالين".
بعد مرور أعوام، أي في عام 1927 قامت المعارضة الموحدة، والمؤلفة من تروتسكي، كامينييف، زينوفييف بمحاولة جديدة لاستخدام "الوصية" ضد قيادة الحزب، وتحدث ستالين في تصريح علني، قائلا:
" أثار المعارضون في قيادة الحزب ضجة كبيرة، زاعمين بأن اللجنة المركزية للحزب أخفت "وصية" لينين. لقد بُحثت هذه المسألة مرات عديدة خلال دورات انعقاد اللجنة المركزية للحزب، وفي المجلس المركزي للرقابة ( بصوت عال)، آلاف المرات، وقد ثبت المرة تلو المرة بأن أحدًا لم يخفِ أي شيء مهما كان مما سمي وصية لينين التي أرسلها إلى المؤتمر الثامن للحزب. وأن هذه "الوصية" تـُليت خلال ذلك المؤتمر (وبصوت عال قطعًا)، وأن الحزب قرر بالإجماع عدم نشرها مع غيرها من الوثائق لأن لينينً نفسه لم يكن يرغب بذلك ويتمناه". "يقال بأن لينين اقترح في هذه "الوصية" إجراء نقاش حول "فظاظة" ستالين، وفيما إذا لم يكن بالإمكان استبدال ستالين، كسكرتير عام للحزب، برفيق آخر. هذا صحيح كليًا. نعم أيها الرفاق. أنا فظ تجاه أولئك الذين يحطمون ويشقون الحزب بطريقة فظة، وغادرة. 
في السابق، وإبان الانقسام الأول الذي حدث في دورة انعقاد اللجنة المركزية، بعد انعقاد المؤتمر الثامن للحزب، طلبت إعفائي من منصب السكرتير العام. وكان المؤتمر نفسه قد بحث مليًا هذه المسألة. وكل وفد من وفود المندوبين ناقش هذه المسألة مع كافة الوفود الأخرى. غير أن الجميع، بمن فيهم تروتسكي وزينوفييف وكامنييف، أرغموا ستالين على البقاء في منصبه، وبعد سنة على ذلك، وجهت طلبًا جديدا إلى اللجنة المركزية لإعفائي من منصبي ذاك. ولكنهم أجبروني مرة أخرى على البقاء فيه". 
وكما لو أن جميع هذه الدسائس حول "الوصية" لم تكن كافية، فإن تروتسكي لم يتردد، في نهاية حياته، عن اتهام ستالين بأنه قتل لينين.
ولكي يسند كشفه هذا بأية حجة، فإن الدليل الوحيد الذي قدمه هو "اعتقاده الجازم".
في كتابه "ستالين" كتب تروتسكي:
"ما الدور الذي لعبه ستالين إبان مرض لينين؟ (...) إن موت لينين هو وحده الذي كان يمكنه أن يفتح الطريق أمام ستالين. (...) إنني على يقين جازم بأن ستالين ما كان بإمكانه الانتظار، على نحو سلبي، في وقت كان مصيره في مهب الريح".
لم يزودنا تروتسكي فعلاً، بأي دليل يؤيد اتهامه هذا. ولكنه يخبرنا، مع ذلك، كيف خطرت له تلك الفكرة.
" في نهاية شباط عام 1923، وفي اجتماع المكتب السياسي، أخبرنا ستالين بأن لينين استدعاه فجأة، وطلب منه جرعة من السم، فقد كان يعتبر أن حالته الصحية ميؤوس منها، وكان يتوقع هجمة أخرى من الشلل، كما أنه لم يكن يثق بأطبائه، وكانت آلامه لا تطاق". 
حينئذ، وفيما كانوا ينصتون إلى ما يقوله ستالين، أوشك تروتسكي أن يكشف القناع عن قاتل لينين المقبل. كتب تروتسكي:
"بدت لي تعابير وجه ستالين غاية في الغموض، كانت تعلو وجهه ابتسامة صفراء، كما لو كانت فوق قناع".
لنتابع، إذن، المفتش كلوزو- تروتسكي، وهو يقوم بتحقيقاته، فنعلم التالي: " لماذا توجه لينين (الذي كان في ذلك الحين يرتاب بستالين إلى أقصى حدّ) إلى ستالين بالذات بمثل هذا الطلب؟ لقد كان لينين يرى في ستالين الرجل الوحيد القادر على أن يقدم له السمّ، لأنه كان ذا مصلحة مباشرة للقيام بذلك، وكان لينين يعرف المشاعر الحقيقية لدى هذا الرجل تجاهه".
ليحاول أحدا تأليف كتاب، مستندًا إلى هذا النوع من الأدلة، يتهم فيها الأمير ألبرت بأنه قد دسّ السمّ للملك بودوين. إذا كان للأمير مصلحة مباشرة بفعل ذلك، سيساق مؤلف مثل هذا الكتاب إلى السجن حتما. ولكن تروتسكي يسمح لنفسه بإجتراح مثل هذه الدناءات الشنيعة، كي يفتري على القائد الشيوعي الرئيسي. وقد هنأته البرجوازية بأسرها على "نضاله الدؤوب ضد ستالين". 
إليكم الآن بيت القصيد، في التحقيق الجنائي، للشرطي الحاذق، المفتش تروتسكي:
" أتصور أن الأمور جرت على النحو التالي: طلب لينين السمّ في أواخر شباط عام 1923، إبان فصل الشتاء، فقد بدأت حالة لينين في التحسن وعاودته قدرته على النطق، ولما كان ستالين يريد السلطة، فقد كان الهدف قريبا منه، ولكن الخطر الداهم الذي يشكله لينين على ستالين كان أقرب أيضا. كان على ستالين أن يحزم أمره، وأن يتصرف دون تأخير، فإذا كان ستالين قد أرسل السم إلى لينين بعد أن أعلمه الأطباء بأنه لم يعد ثمة أمل في شفاء لينين، أو انه لجا إلى وسائل أخرى، فإنني أجهل ذلك".
حتى أكاذيب تروتسكي جاءت مهلهلة. فإذا لم يعد هناك أمل في شفاء لينين، فلماذا كان على ستالين أن "يقتل" لينين؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
منذ 6 آذار عام 1923 وحتى وفاته كان لينين، يعاني من شلل مستمر تقريبا. وكان عاجزا عن النطق. كانت زوجته، وأخته، وسكرتيرتاه قرب سريره. ولم يكن بوسع لينين أن يتناول السمّ دون أن يعرفن ذلك. والنشرة الطبية عن هذه الفترة توضح تمامًا بأن وفاة لينين كانت لا مناص منها.
أمّا الطريقة التي فبرك فيها تروتسكي اتهامه ضد "ستالين، القاتل"، وكذلك الطريقة التي استخدم فيها على نحو مخاتل "وصية" لينين المزعومة، فإنها تدحض كليّا كل مساعيه ضد ستالين.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire