اركيولوجيا مهدي عامل
سامي ملوكي
ثلاثة وعشرون عاماً على استشهاد مهدي عامل في 19 أيار 1987 في شارع الجزائر- بيروت، برصاصات الغدر التي راحت تُغرق بيروت… جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية… في يم ظلامية ظلامييها، الذين اطفأوا مشاعلَ في دروب النضال: سهيل طويلة، خليل نعوس، حسين مروة، مهدي عامل……
وفي أيار المتكرر نعاود اللقاء مع مهدي عامل… نحاول الوقوع عليه في ذكرى اغتياله فلا نقع عليها، بل نجذب الى قهقهة أهازيج آتية من الأمام، أهازيج مناضل شيوعي يصر على اجهادنا في أثره… اجاد التسابق والدخول في الزمن المتقدم…
دأبه المشاكسة – حتى في شعره: فضاء النون وتقاسيم على الزمان- الخروج على القوالب الجاهزة المألوفة، وبمشاكسته إجترح مكونات المعرفة والمواجهة… إجترح أدوات الثورة ومنهجها من الموقع الماركسي بالذات.
وفي ذكرى استشهاد مهدي عامل، وفي ظل التحولات التي نشهدها وما حملته من ارتدادات على الماركسية نطرح على أنفسنا ما اذا كانت القضايا الفكرية التي بحثها مهدي مازالت راهنة، وطرح السؤال يضعنا أمام تحدي اثبات راهنية الفكر الماركسي اللينيني الذي به بحث مهدي القضايا الفكرية، والاثبات ليس فعلاً دغمائياً، انه فعل تفكر موقعه الموقع النقيض لفكر ينبهر باليومي وينظّر له على قاعدة الالتحاق بالايديولوجية السائدة. ليس بفكر مهزوم منبهر باليومي وايديولوجيته السائدة تنتقد الماركسية، وليس بفكر يطبق القوانين الماركسية المتكونة على واقع متميز ينتج الفكر الماركسي ويتطور،فالماركسية اللينينية فكر مادي علمي علميته في ماديته وماديته في كشفه ما يحرك الظاهر من الواقع، اي كشف ضرورته، والضرورة ليست معطى من الواقع بل تكمن في الواقع الذي يحتم ضرورة استخراجها وهذه علمية الفكر الماركسي اللينيني التي استعصت على فهم من ينقدها وينظر الى نزع، بوهم الانبهار باليومي، العلمية عنها، والاستخراج لايحدث بمفاهيم جاهزة في العقل بل العقل ينتجها وبانتاجه لها ينتج معرفة علمية بالضرورة التي يستخرج. انها العلاقة التناقضية التي اوضحها لينين بين مادية المعرفة وتاريخيتها. انه المنهج المادي العلمي يستحث النقد يثيره يكتشف التناقض في الواقع الذي التناقض فيه قائم ومنعكس في الفكر وتجاوزه يمر بتجاوز الفكر في الواقع.
ورد الحلاج
مؤلفات مهدي عامل
حسن حمدان (مهدي عامل) 1936-1987.(صورة)
تعتبر فترة 1968-1976 من الفترات المهمة في حياة مهدي عامل، حيث بدأ فيها ممارسة مشروعه الفكري والكتابة باللغة العربية، ودراسة واقعه الاجتماعي في ضوء المنهج المادي الماركسي-اللينيني وتمييز كونية قوانينه، لتبدأ بحسب مهدي عامل “صيرورة الفكر العربي فكراً علمياً”، مبتعداً عن القولبة وتكرار المقولات المتكونة، ومنذ البداية أدرك مهدي خطورة ما يقوم به بقوله:”إنها لمخاطرة كبرى أن يفكر الواحد منا واقعه باللغة العربية”.
بدايات مهدي كانت مع مجلة “الطريق” وكانت دراسته الأولى تحت عنوان:”الاستعمار والتخلف” في العدد الثامن- أيلول 1968 التي مهدت لكتابه الأول في العام 1972:”مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني”. ولقد قسمه الى قسمين: القسم الأول:”في التناقض”، والقسم الثاني:”في نمط الانتاج الكولونيالي” الذي صدر عام 1976.
كتابه الأول- الأساس الذي بحث فيه، في مجال جديد في الفكر الماركسي-اللينيني، انتاج ادوات المعرفة، تحديد طبيعة نمط الانتاج في مجتمعاتنا العربية، وهناك جزء ثالث من “مقدمات نظرية…” لم يكمله مهدي وبقي على شكل مخطوطة بعنوان:”في تمرحل التاريخ”. صدر عن دار الفاربي عام 2001.
عمل مهدي في “مقدمات نظرية…” على تمييز كونية القوانين الماركسية في مجتمعاتنا، وبتمييزه عمل على انتاج الاساس النظري لسيستامه الفكري الذي اعتمده في كتاباته اللاحقة جميعها.
ولقد طرح مهدي في “مقدمات نظرية…” القضية الاساس التي صاغها على النحو التالي:
“ما هو الشكل، أو بالأحرى ما هي الأشكال المحددة التي تتميز فيها حركة القوانين التاريخية الكونية في الحركة التاريخية للمجتمعات العربية المعاصرة؟”.
القسم الأول من الكتاب:”في التناقض” بحث نظري بحث فيه علاقة الفكر بالواقع وفي أزمة البنية الاجتماعية التي فيها:زمان التكون وزمان التطور وزمان القطع. وكشف ببحثه ان الفكر علاقة تناقض في صراع ايديولوجي مميزاً بين التناقض الهيغلي والتناقض الماركسي.
كما عرف بأزمة الطبقة المسيطرة وبآلية تحول البرجوازية الصغيرة المسيطرة الى برجوازية كولونيالية متجددة. وحلل أشكال ترابط المستويات البنيوية في البنية الاجتماعية الشاملة وتمييز كونية الماركسية “فان القانون النظري الذي له بالضرورة طابع كوني لايوجد إلا مميزاً وما هذه الحقيقة سوى قانون تفاوت التطور”.
القسم الثاني: “في نمط الانتاج الكولونيالي”:
عمل مهدي عامل في هذا القسم على انتاج نظرية العلاقة الكولونيالية وصاغها في”تمييز الشكل الكولونيالي لنمط الانتاج الرأسمالي” كاشفاً القانون العام لتطور نمط الانتاج الكولونيالي والاضاءة على اهمية الدور التاريخي للطبقة العاملة في حركة التحرر الوطني.
كما بحث في “علاقة الفكر بالفكر” وفي “علاقة الاختلاف بين البرجوازية الامبريالية والبرجوازية الكولونيالية”.
في هذا القسم تكشفت اهمية عمل مهدي عامل من اعادة انتاج النظرية الثورية في ظروف الواقع الاجتماعي، على قاعدة النظرية إياها، في واقع متميز، بمعنى آخر “ان نفكر الأدوات المفهومية التي بها نفكر حتى نتمكن من ان نفكر واقع هذه الحركة التاريخية”.ولقد انهى مهدي “في نمط الانتاج الكولونيالي” بقوله:”بقي علينا إذن أن نحاول تحليل التطور التاريخي لهذه العلاقات، أي أن نحدد الصيرورة الطبقية لمختلف طبقات المجتمع الكولونيالي، في الوحدة البنيوية لعلاقاتها. فتحديد البنية الطبقية الكولونيالية لابد ان يتبعه تحديد لمنطق صيرورتها التاريخية [...]. هذا ما سنقوم به في القسم الثالث من هذه الدراسة”.
وفي عام 1974صدر كتابه الثاني “أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟” ناقش فيه أعمال الندوة الفكرية التي عقدت في الكويت تحت عنوان:”أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي” (نيسان 1974). وفي نقاشه كشف مهدي عامل أن الأزمة ليست أزمة الحضارة العربية، بل أزمة الفكر الناظر في هذه الحضارة أي فكر البرجوازيات العربية، ونقض بعض المفاهيم التي وردت في سياق أعمال الندوة من مثل:”الإغتراب”، و”الوراثة”، و “الانقطاع الحضاري”، و”العقل العربي”، و”التخلف”، و”الأصالة والحداثة” وبنقضه استنتج مهدي ان المشكلة هي مشكلة الفكر الحاضر الناظر في الماضي وفي التراث، وان مشكلة الحاضر هي مشكلة تحرره الوطني.
ثم جاء كتابه ” النظرية في الممارسة السياسية. بحث في اسباب الحرب الأهلية في لبنان” وذلك بعد أربع سنوات من اندلاع الحرب الأهلية (1979). والكتاب بحث في واقع يعيش حركة تحوله حرباً أهلية في لبنان. التي هي ليست بمعزل عن حركة التحرر الوطني للشعوب العربية كما لايمكن النظر الى هذه الحرب من خارج أزمة القيادة البرجوازية وأزمة النقيض الثوري. وذلك لأن الساحة اللبنانية حقل مركزي للصراع بين الخطين الأساسيين النقيضين في حركة التحرر الوطني للشعوب العربية. كما نظر مهدي في تطور البنية الاجتماعية اللبنانية وبحث في علاقة التمثيل السياسي الطائفي واسباب فشل الاصلاح الشهابي ومفهوم الطغمة المالية والعلاقة بين الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية.
“مدخل الى نقض الفكر الطائفي القضية الفلسطينية في ايديولوجية البرجوازية اللبنانية” صدر عام 1980.
طرح مهدي السؤال التالي:”كيف تنظر البرجوازية اللبنانية بين ايديولوجيتها الطبقية الى القضية الفلسطينية؟”.
والكتاب اجابة على السؤال المطروح، حدده مهدي بخطوتين منهجيتين:
- الأولى: عرض لمعالم ايديولوجية البرجوازية اللبنانية، وتحديد لمفاهيمها الاساسية التي ينتظم بها بنائها الفكري.
- الثانية: نقض هذه الايديولوجية.
إختار مهدي في نقضه للبرجوازية اللبنانية نصوصاً لميشال شيحا الأب الروحي للبرجوازية اللبنانية، قرأ فيها تلك الأيديولوجية، واختار أيضاص نصوصاً لحزب الكتائب الذي في فاشيته هو الوليد الشرعي والطبيعي لهذه الايديولوجية.
قراءة مهدي النقضية لايديولوجية البرجوازية اللبنانية عبرت عنها العناوين التالية:
- تكون الطغمة المالية في اقتصاد التجارة والخدمات.
- العلاقة بين الفكر الطائفي والفكر الانعزالي والفكر القومي.
- سلاح الدين والتقاليد في الايديولوجية البرجوازية اللبنانية.
- الايديولوجية المتوسطية، في خطر اسرائيل، في الشكل الطائفي للصراع الطبقي… وغيرها من العناوين.
وفي عام 1985صدر كتاب:”في علمية الفكر الخلدوني” برز فيه الوجه الآخر لمهدي، الاستاذ المعلم، حيث اعتمد فيه اسلوباً تحليلياً تعليمياً من ممارسة إبن خلدون الفكرية نقض مفهوم للتاريخ سابق، غير علمي. والكتاب بحسب مهدي تمرين لقراءة نص تراثي بفكر مادي علمي، حيث قرأ مهدي نصاً مقتطفاً من مقدمة إبن خلدون بعنوان:”في فضل علم التاريخ”، ويقف فيه امام مفهومين نقيضين للتاريخ:
-الأول: تجريبي، كان سائداً في “تاريخ” المؤرخين السابقين على إبن خلدون لايسمح بتكون التاريخ في علم.
- الثاني خلدوني يقوم على نقض المفهوم التجريبي نقضاً جذرياً، فالتاريخ بمفهومه الخلدوني ليس سرداً للاخبار، بل علم يستخرج الواقع من ظاهر يحجبه.
من هنا يحدد مهدي عامل علمية الفكر الخلدوني التي شكلت قفزة في حقلي الفكر الاجتماعي والفكر التاريخي.
قراءة مهدي لنص إبن خلدون قراءة لنص تراثي بفكر مادي علمي يعيد فيه انتاج التراث فيميزه في حاضره ويقيم الحد المعرفي الفاصل في تاريخية هذا الفكر. و”علمية الفكر الخلدوني” قصد منه مهدي ايضاً، ، إبراز دلائل على علمية الفكر الخلدوني كمثال في مقابل علمية فكر إبن رشد التي كانت موضوع جدال واختلاف في الرأي، اغلب الظن، بين الشهيدين حسين مروة ومهدي عامل.
خاض مهدي عامل معركة فكرية-سياسية في كتابه “هل القلب للشرق والعقل للغرب. ماركس في استشراق إدوارد سعيد”، ضد محاولات ادراج النظرية الماركسية في البناء النظري للفكر البرجوازي، وفي كتابه هذا ناقش مهدي عامل أربع صفحات فقط (ص170-173) من كتاب”الاستشراق” تحدث فيه ادوارد سعيد عن علاقة ماركس بالفكر الاستشراقي وبالفكر الآسيوي.
لقد غيّب ادوارد سعيد الطابع التاريخي للثقافة واعتمد بدلاً منه الفكر القومي أو فكر الأمة، اي الفكر الواحد في بنيته، يؤول الكاتب نصاً لماركس فيرى فيه استثناء لقاعدة، أي خروجاً على فكر الأمة.
وفي كتابه هذا وضع مهدي عامل، انطلاقاً من الأمانة العلمية، نص ماركس المؤول من قبل سعيد ووضع كذلك نص سعيد التأويلي، وقارن بينهما وصولاً الى كشف منطق الفكر الذي يؤول النص.
وفي عام 1986صدر كتاب “في الدولة الطائفية” آخر كتب مهدي الصادرة قبل استشهاده، قرأ فيه مجموعة نصوص تعالج الطائفية وتقارب أزمة النظام السياسي في لبنان لتخرج من ثم بحلول هي في منطقها الداخلي واحدة. قرأ مهدي أولاً نصوصاً أربعة من موقع فكري مختلف عن الموقع الذي تحتله هذه النصوص في حقل الفكر في لبنان، والاختلاف هذا حد معرفي فاصل بين الفكر البرجوازي المسيطر والفكر الثوري النقيض.
والنصوص الأربعة الأولى هي لأنطوان مسرة، وناصيف نصار، وبسام الهاشم، وإيليا حريق. عمل مهدي على تفكيك بنيتها اللغوية لابراز المفاهيم التي تحملها، ثم كشف فكر هذه المفاهيم، وانتقاده بفكر ماركسي ينتج الواقع في انتاج هذا الواقع له.
ويرى مهدي ان الفكر التوافقي الكامن في هذه النصوص شكل متجدد من الفكر البرجوازي، يؤبد النظام البرجوازي كأن حرباً أهلية لم تكن.
من ثم يتصدى مهدي لنصين آخرين لمسعود ضاهر وأحمد بعلبكي ينتقد فيهما ما يراه من انزلاقات في حركة انتاج الفكر الماركسي الى موقع الفكر البرجوازي في شكله الطائفي المسيطر. وفي نقده يعيد مهدي عامل التاكيد على اهمية كشف موقع الفكر المؤسس للكتابة، على القراءة بتبيانه كي تكون نقداً منتجاً للمعرفة.
وآخر ما كان يعمل عليه الشهيد مهدي عامل قبل أن تغدره رصاصات الغدر الظلامية الطائفية كتاب:”نقد الفكر اليومي” الذي صدر لاحقاً ومنتقصاً في ما بعد.
“نقد الفكر اليومي” من الأعمال النادرة في اللغة العربية يتتبع فيه مهدي عامل الفكر المنتشر على صفحات الصحف والمجلات ليصل الى تعرية وكشف موقعه الطبقي، وبنقده للفكر اليومي وصل مهدي الى هدم الفكر اليومي، والكتاب يحتوي ايضاً على قسم بعنوان:”في عدم وجود نمط معين من الانتاج يمكن تمييزه بأنه نمط اسلامي” نقد فيه مهدي الفكر الاقتصادي الاسلامي كاشفاً تماثل بديله مع الاقتصاد البرجوزاي لتماثل موقعهما الطبقي.
وفي عام 1991صدر كتاب:”في قضايا التربية والسياسة التعليمية” والكتاب عبارة عن مجموعة مقالات بحث فيها مهدي قضايا التربية والتعليم نشرت ما بين 1968-1973في مجلة “الطريق” ودوريات اخرى، حلل فيها الآلية السياسية التعليمية للدولة في لبنان، التي تعمل من خلالها على ضرب التعليم الرسمي وتعميق الانتماء للطائفة لاعادة انتاج النظام السياسي الطائفي المسيطر.
والكتاب ينتظم في قسمين يحويان مجموعة مقالات منها:- دور الجامعة اللبنانية في انتاج ثقافة وطنية.- الاتجاهات الجديدة لسياسة البرجوازية اللبنانية في حقل التعليم.- حول منهجي الفلسفة العربية والفلسفة العامة.- حول منهج تاريخ الفكر.- نقل المفاهيم الاجتماعية وانتاجها
سامي ملوكي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire