كتاب الرغبة 4: المناضل عاشقاً
غسان كنفاني الذي رحل ككاتب، عاد كعاشق في ذكراه العشرين، ليثير سجالاً من نوع آخر حول صورته الرمزية ككاتب وناشط سياسي فلسطيني قال عنه محمود درويش يوماً إنه "نقل الحبر إلى مرتبة الشرف"
وبنصف اعتراف من الأديبة غادة السمان، أثير جدلٌ كبير حول صاحب "رجال في الشمس"، وتساءل البعض في غضبٍ: هل يصلح المناضل عاشقاً؟
بالنسبة إلى هؤلاء بدا أمراً ممجوجاً وغير أخلاقي أن يتزوج المناضل بغير القضية، فكيف إذا أحب على القضية وعلى زوجته الفعلية؟
لم يستطع هؤلاء استيعاب فكرة أن غسان- الذي صادف الثامن من يوليو تموز عام 2007 الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتياله- في النهاية بشر، من لحم ودم ومشاعر. ولم يتمكن هذا الفريق من تقبل فكرة الجانب الهش داخل كيان هذا الأديب والناشط السياسي الذي كان الحب الخاص والعام يملأ شرايين قلبه
تحت الضوء الخافت لعشقٍ أتلف صاحب "ما تبقى لكم"، يمكن أن نستعيد سطوراً فاتنة لم يكترث فيها غسان العاشق بما سيقوله الناس لو قرأوها. لم يهمه سوى أن يكون صادقاً حين كتب لغادة: "يقولون هذه الأيام في بيروت، وربما في أماكن أخرى، إن علاقتنا هي علاقة من طرف واحد، وإنني ساقط في الخيبة. قيل في الـ"هورس شو" إنني سأتعب ذات يوم من لعق حذائك البعيد. يُقال إنك لا تكترثين بي، وإنك حاولت أن تتخلصي مني..لكنني كنت ملحاحاً كالعَلَق. يشفقون عليّ أمامي ويسخرون مني ورائي..."
بالرغم من أعماله وكتاباته الكثيرة، فإن غسان كنفاني، الأديب وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وجد وقتاً ليحب أيضاً.. تصوروا
غير أن هناك من رأى في هذا العشق فضيحة
والشاهد أنه ليس في حب امرأة ما يلغي صورة الأديب المناضل التي احتفظ بها غسان كنفاني في أذهان كثيرين. وربما أمكننا التساؤل: كيف يستطيع أحد النضال دون حب؟ يقول تشي غيفارا إن النضال هو أسلوب حب
غادة السمان نشرتْ رسائلَ حبٍ كتبها لها غسان في أجمل لحظات عمره تحت عنوان "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" صدر عن دار الطليعة في شهر يوليو تموز عام 1992. كان ذلك من حقه، وطبيعي أن يكون من حقها. الرسائل المنشورة كانت عاصفة ومفاجئة، خاصة أن بعض رسائل غسان كانت تستجديها كثيراً وتوحي بشعور الاضطهاد الذي كان يشده أكثر إليها
تبدأ غادة السمان كتاب الرسائل بمحاولة إهداء: "إلى الذين لم يُولدوا بعد"، وهي نفسها الكلمات التي أهداها إياها ذات يوم كاتب مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، "وإلى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل. وهي تتحدث عن محاولة "الوفاء بعهد قطعناه"
وهنا
تنطلق غادة كحصان يتحرك ببطء ولكن بخطوات واسعة، مظهرٌ منكسر وأعماق
جامحة، مقاطع طويلة كلها تبدأ بـ "نعم كان ثمة رجل يدعى غسان كنفاني"..وجه
طفولي وجسد عجوز، نحيل منخور لا تفارقه إبر الأنسولين. إنها لا تعرضه بصورة
العاشق القوي البنية، فغسان لم يكتمل بالنسبة لها كعاشق ولذلك كان هناك
آخرون..إذ تقول: "لا أستطيع الادعاء- دون أن أكذب- أن غسان كان أحب رجالي
إلى قلبي كامرأة كي لا أخون حقيقتي الداخلية مع آخرين سيأتي دور الاعتراف
بهم – بعد الموت – وبالنار التي أوقدوها في زمني وحرفي ..لكنه بالتأكيد كان
أحد الأنقياء القلائل بينهم"
وربما
كانت غادة محقة بشأن شعورها النرجسي، الفخر بعلاقتها برجل استثنائي
بإبداعه ودفاعه عن قضيته، إذ تقول: "ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدق
وأضبطها وهي تكاد تتستر على عامل نرجسي لا يستهان به: الفخر بحب رجل كهذا
أهدى روحه لوطنه وأنشد لي يوماً ما معناه: مولاي وروحي في يده ...إن ضيعها
سلمت يده"
يقول
غسان كنفاني، في إحدى رسائله لغادة السمان: "أعرفُ أن شيئاً واحداً أستطيع
أن أقوله وأنا واثقٌ من صدقه وعمقه وكثافته، وربما ملاصقته التي يخيل إليّ
الآن أنها كانت شيئاً محتوماً، وستظل كالأقدار التي صعقتنا: إنني أحبك"
دعونا لا ننسى أن أشهر العشاق قد قضوا دون أن ينالوا من الحب سوى حلم الحب ولذته المتوهمة. بالنسبة للعشاق، فعل الحب هو المهم، أما نحن الذين نطالع آثارهم ونقرأ أعمالهم فإننا ننظر إليهم كأننا في مختبر، ولا نحاول أن نضع أنفسنا مكان هؤلاء العاشقين
الصبي الذي غادر عكا نازحاً مع أسرته إلى الجنوب اللبناني ثم إلى دمشق أصبح شاباً يرتاد جامعتها، وهناك التقى غادة لأول مرة أمام باب قاعة الامتحانات الشفهية في جامعة دمشق، لكن علاقته بها لم تتوطد إلا في بيروت حين كانت مكسورة بموت والدها ومحكومة بالسجن، حينها بادر بمساعدتها بجواز سفر إلى لندن
بعدها كانت الحبيبة البعيدة عنده مفقودة إلا من الرسائل التي لم تكن تجود بها بسهولة
الرسالة التي كتبها غسان لأخته فائزة في نهاية عام 1966تعطينا فكرة عن علاقته بغادة، وتعد الرسالة الأطول بين الرسائل المنشورة.. إذ حكى فيها عن غادة التي لم يستطع أن يكف عن حبها، فيقول "أحياناً أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة، ولكنني لا أستطيع". وبالرغم من أن الرسالة كُِتبَت لفائزة فإنها في الحقيقة تخاطب غادة بضمير الغائب.. كان مجروحاً منها، عاملته باستغباء وكانت أقوى منه، بل إنها كانت توحي له بضعفه: "تُراها سألت عني؟ ذلك لن يكون إلا إذا كانت تريد أن تراني معذباً، أو تريد أن تنصحني تلك النصيحة التافهة: اذهب إلى بيتك باكراً"
وعندما هاتفها ذلك اليوم طالباً رؤيتها ردت عليه بفظاظة وأخبرته أنها عائدة إلى البيت: "إنني أدفع معها ثمن تفاهة الآخرين..أمس صعقتني، مثلاً، حين قلت لها إنني أرغب في رؤيتها فصاحت: أتحسبني بنت شارع؟"، ثم فوجيء بأنها خرجت للسهر برفقة صديق، فيقول: "ثم هتفت لها فأبلغتني أنها كانت تشرب نبيذاً، وأنها كانت تسهر مع صديق..وسألتني: لماذا تأخرت؟"
كان ذلك جرحاً إضافياً جعله يحتسي كأس كحول لكل صفحة من صفحات الرسالة حتى تعطلت كتفه وراح يطل من على حاجز الروشة ناسياً لأول مرة إبرة الأنسولين، وبعد شروق يوم 28 ديسمبر كانون أول عام 1966 عرج على شقة غادة ليسلمها الرسالة بنفسه ويمضي غاضباً
وفي رسالة أخرى نجد غسان يسترسل في بث لواعج أشواقه المتدفقة، فيقول: "أيتها الشقية الحلوة الرائعة! ماذا تفعلين بعيداً عني؟ أقول لك همساً ما قلته اليوم لك على صفحات الجريدة: (سأترك شعري مبتلاً حتى أجففه على شفتيك!) إنني أذوب بالانتظار كقنديل الملح. تعالي!
دعونا لا ننسى أن أشهر العشاق قد قضوا دون أن ينالوا من الحب سوى حلم الحب ولذته المتوهمة. بالنسبة للعشاق، فعل الحب هو المهم، أما نحن الذين نطالع آثارهم ونقرأ أعمالهم فإننا ننظر إليهم كأننا في مختبر، ولا نحاول أن نضع أنفسنا مكان هؤلاء العاشقين
الصبي الذي غادر عكا نازحاً مع أسرته إلى الجنوب اللبناني ثم إلى دمشق أصبح شاباً يرتاد جامعتها، وهناك التقى غادة لأول مرة أمام باب قاعة الامتحانات الشفهية في جامعة دمشق، لكن علاقته بها لم تتوطد إلا في بيروت حين كانت مكسورة بموت والدها ومحكومة بالسجن، حينها بادر بمساعدتها بجواز سفر إلى لندن
بعدها كانت الحبيبة البعيدة عنده مفقودة إلا من الرسائل التي لم تكن تجود بها بسهولة
الرسالة التي كتبها غسان لأخته فائزة في نهاية عام 1966تعطينا فكرة عن علاقته بغادة، وتعد الرسالة الأطول بين الرسائل المنشورة.. إذ حكى فيها عن غادة التي لم يستطع أن يكف عن حبها، فيقول "أحياناً أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة، ولكنني لا أستطيع". وبالرغم من أن الرسالة كُِتبَت لفائزة فإنها في الحقيقة تخاطب غادة بضمير الغائب.. كان مجروحاً منها، عاملته باستغباء وكانت أقوى منه، بل إنها كانت توحي له بضعفه: "تُراها سألت عني؟ ذلك لن يكون إلا إذا كانت تريد أن تراني معذباً، أو تريد أن تنصحني تلك النصيحة التافهة: اذهب إلى بيتك باكراً"
وعندما هاتفها ذلك اليوم طالباً رؤيتها ردت عليه بفظاظة وأخبرته أنها عائدة إلى البيت: "إنني أدفع معها ثمن تفاهة الآخرين..أمس صعقتني، مثلاً، حين قلت لها إنني أرغب في رؤيتها فصاحت: أتحسبني بنت شارع؟"، ثم فوجيء بأنها خرجت للسهر برفقة صديق، فيقول: "ثم هتفت لها فأبلغتني أنها كانت تشرب نبيذاً، وأنها كانت تسهر مع صديق..وسألتني: لماذا تأخرت؟"
كان ذلك جرحاً إضافياً جعله يحتسي كأس كحول لكل صفحة من صفحات الرسالة حتى تعطلت كتفه وراح يطل من على حاجز الروشة ناسياً لأول مرة إبرة الأنسولين، وبعد شروق يوم 28 ديسمبر كانون أول عام 1966 عرج على شقة غادة ليسلمها الرسالة بنفسه ويمضي غاضباً
وفي رسالة أخرى نجد غسان يسترسل في بث لواعج أشواقه المتدفقة، فيقول: "أيتها الشقية الحلوة الرائعة! ماذا تفعلين بعيداً عني؟ أقول لك همساً ما قلته اليوم لك على صفحات الجريدة: (سأترك شعري مبتلاً حتى أجففه على شفتيك!) إنني أذوب بالانتظار كقنديل الملح. تعالي!
"أحس
نحوكِ هذه الأيام – أعترف – بشهوةٍ لا مثيل لها. إنني أتقدُ مثل كهفٍ مغلق
من الكبريت وأمام عيني تتساقط النساء كأن أعناقهن بُتِرَت بحاجبيك. كأنكِ
جعلتِ منهن رزمةً من السقط محزومة بجدولتك الغاضبة الطفلة..لا. ليس ثمة إلا
أنت. (إلى أبدي وأبدك وأبدهم جميعاً)..وسأظلُ أضبط خطواتي وراءك حتى لو
كنتِ هواءً.. أتسمعين أيتها الشقية الرائعة؟ حتى لو كنتِ هواءً! ولكنني
أريدكِ أكثر من الهواء. أريدكِ أرضاً وعَلَماً وليلاً..أريدكِ أكثر من ذلك.
وأنتِ؟"
وعقب نشر تلك الرسائل، تباينت ردود الفعل..من ترحيب البعض بهذا الكشف الأدبي المهم، حتى أن إلياس خوري
اعتبر أن "غسان كنفاني اليوم يسطع كما لم يسطع من قبل".. إلى استنكار
مزدوج لدى فريق آخر يصل إلى حد التشكيك في صحة أمر العلاقة والرسائل أصلاً،
ثم استهجان نشرها. وذهب البعض إلى الاستعداء من أجل مقاضاة غادة السمان،
والتلميح إلى مؤامرة تتصل بالنظام العالمي الجديد، حسب إلياس العطروني في مقاله المنشور في جريدة "السفير" بتاريخ الأول من أغسطس آب عام 1992 والذي رأى في نشر الرسائل أمراً "يمكن وصفه بالعورات"
في إحدى الرسائل يخاطب غسان غادة قائلاً: "لقد صرتِ عذابي، وكُتِبَ عليّ أن ألجأ مرتين إلى المنفى، هارباً أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرها تجذراً في صدره: الوطن والحب
في إحدى الرسائل يخاطب غسان غادة قائلاً: "لقد صرتِ عذابي، وكُتِبَ عليّ أن ألجأ مرتين إلى المنفى، هارباً أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرها تجذراً في صدره: الوطن والحب
"وإذا كان
عليّ أن أناضل من أجل أن أسترد الأرض فقولي لي: أنت ِأيتها الجنيةُ التي
تحيك، كل ليلةٍ، كوابيسي التي لا تحتمل ..كيف أستردكِ؟
"أقول
لكِ، دون أن أغمض عينيّ ودون أن أرتجف: إنني أنام إلى جواركِ كل ليلة،
وأتحسس لحمكِ وأسمع لهاثكِ وأسبح في بحر العتمة مع جسدكِ وصوتكِ وروحكِ
ورأسِك، وأقول وأنا على عتبة نشيج : يا غادة يا غادة يا غادة...
"وأغمض عينيّ
"وحين أكتب ليس ثمة قاريء غيركِ، وحين أقود سيارتي في تعب الليل وحيداً أتحدث إليكِ ساعات من الجنون، أتشاجر، أضحك، أشتم السائقين، أسرع، ثم أقف: أحتويكِ وأقبلكِ وأنتشي"
كان غسان كنفاني – الذي تحول جسده إلى شظايا وأشلاء متناثرة يوم السبت الموافق 8 يوليو تموز عام 1972- في مناطق ومساحات كاملة من الرسائل شخصاً في حالة انعدام الوزن. وربما جاز القول بأن الرجل الشرقي في حالات العشق والتضرع والتدله يبدو خفيفاً وطائشاً ومتهوراً ومراهقاً، ولا يحسب لرزانة العمر حساباً
"وحين أكتب ليس ثمة قاريء غيركِ، وحين أقود سيارتي في تعب الليل وحيداً أتحدث إليكِ ساعات من الجنون، أتشاجر، أضحك، أشتم السائقين، أسرع، ثم أقف: أحتويكِ وأقبلكِ وأنتشي"
كان غسان كنفاني – الذي تحول جسده إلى شظايا وأشلاء متناثرة يوم السبت الموافق 8 يوليو تموز عام 1972- في مناطق ومساحات كاملة من الرسائل شخصاً في حالة انعدام الوزن. وربما جاز القول بأن الرجل الشرقي في حالات العشق والتضرع والتدله يبدو خفيفاً وطائشاً ومتهوراً ومراهقاً، ولا يحسب لرزانة العمر حساباً
وهو يتحدث في إحدى رسائله عن زوجته الدنماركية آني
التي تعرف عليها عام 1961 وطلب الزواج منها بعد أقل من عشرة أيام من
تعارفهما، فيقول: "لقد جاءت آني حين كنت قد شرعت، مختاراً ومرغماً، في
الانزلاق على هضبة الوحل المغرية والجذابة ، وفي ذات الصباح الذي قررت في
مسائه أن أتزوجها كنت على وشك الاتفاق مع امرأة نصف ثرية نصف جميلة ونصف
تحبني ونصف شابة على أن نعيش معاً. كانت تلك المرأة نصف الطريق إلى السقوط
وأردت أن أجعلها محطتي كي أقبل الرحلة كلها فيما بعد إلى قرار القاع السحيق
والمنسيّ
"وجاءت آني ذلك اليوم مثلما تجيء رسالة
البشرى من مكان قصيّ مجهول فجعلتها ملجأي للفرار في واحدة من ومضات النبوّة
التي تبرق في ضمير كل إنسان على ظهر هذه الأرض. أقول لك الآن: كانت
فراراً"
وهو
يقول عن الزوجة إنها كانت "بعيدة عني في كل شيء. واحتجت إلى خمس سنوات
كبيرة أظل مشغولاً خلالها في ردم الهوة المفتوحة بيننا، وارتكبت مرة أخرى
خطأ الاحتيال: فحين عجزت عن ردمها كما ينبغي ردمتها بطفلين"
في
حديث صحفي قالت غادة السمان إن "ملف غسان كنفاني مفتوح للحقيقة وللتاريخ
..فقد شكل كتاب "الرسائل" وما جاء بعده, أقوى ضوء ُسلِطَ على غسان كنفاني,
وكانت له أصداء أكثر من مهرجانات التأبين التي أقيمت له على مدى عقدين من
الزمن..لقد أعاده هذا الكتاب حياً بكامل بهائه الإنساني؛ لأنني وجدت حقيقته
أجمل من تمثاله, ولم يسيء أحد إلى غسان كنفاني بقدر ما أساء إليه الذين
اتهموني بتشويه صورته, فأنا لم أزور الرسائل ولم أستتر عليها لأنني لم أر
فيها ما ينتقص من عظمة غسان, بل ما يضيف اليها"
يقول غسان لغادة في رسالة: "إنني على عتبة جنون ولكنني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودكِ معي جنونٌ آخر له طعم اللذة، ولكنه- لأنك أنتِ، التي لا يمكن أن تُصلح في قالبٍ أريده أنا- جنون تنتهي حافته إلى الموت!
"أمس رن الهاتف في المنزل، ورفعت السماعة..لم يكن ثمة أحد يتكلم على الطرف الآخر وهمست، بعد لحظةٍ، بصوت جبان: غادة؟
"وهذا كله لا يهمك ..أنت صبيّة وفاتنة وموهوبة..وبسهولة تستطيعين أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين، وتدوسي عليه وأنت تصعدين إلى ما تريدين..ولكنني أقبل..إنني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة!
"ماذا أقول لكِ؟ إنني أنضح مرارة..يعصر لساني الغضب مثلما يعصرون البرتقال على الروشة، لا أستطيع أن أنسى، ولا أستطيع أن أبعد عن وريدي شفرة الخيبة التي بذلتِ جهداً، يشهد الله كم هو كبير، لتجعلينني أجترعها بلا هوادة!
"لا أعرف ماذا أريد. لا أعرف ماذا أكتب. لا أعرف إلى أين سأنتهي. والآن – خصوصاً – أنا مشوش إلى حد العمى : إن النقرس يفتك بي مثل ملايين الإبر الشيطانية. أشفقي عليّ أيتها الشقية ...فذلك، على الأقل، شيء يقال
"قلتِ: نتحادث في الهاتف..أما أنا فليس لدي قرشٌ أستطيع أن أصرفه، وأن أصرفه خصوصاً على عذاب لا أحتمله. لقد تقوّض هذا الشيء الذي كنته، وأنا حطام، وأعرف أن ذلك شيء لا يسرّك كثيراً، ولكنه حدث: عنوان القصة"حازم؟ أجل حازم، من نوع أكثر صميمية: إنني أكثر شجاعة منه في وجه العدو المعذ َِّب، ولكنني أقل منه شجاعة في وجه الحب""حازم :أحد أبطال قصص كتاب غادة السمان "ليل الغرباءالطريف حقاً في الجدل الذي أثير حول كتاب الرسائل أنها المرة الأولى التي ينافح فيها العربُ عن سمعة رجل ارتكب "خطيئة" الحب، دون أن يبالوا بسمعة ومشاعر الأنثى التي أعلنتْ هذا الحب
في ليل الأول من فبراير شباط عام 1967 يكتب غسان لمحبوبته التي تتجاهله قائلاً
"عزيزتي غادة
يلعن***!
"ما الذي حدث؟ تكتبين لكل الناس إلا لي؟ اليوم في الطائرة قال لي سليم اللوزي أنك كتبت له أو لأمية لم أعد أذكر ، وأمس قال لي كمال إنه تلقى رسالة منك... وآخرين! فما الذي حدث؟ لا تريدين الكتابة لي؟ معلش! ولكن انتبهي جيداً لما تفعلين: ذلك سيزيدني تعلقاً بك!"أمية : أمية اللوزي زوجة سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة "الحوادث"، وكانا صديقين حميمين لغادة وغسان
كمال : كمال طعمة، صديق مشترك كان يشاركهما السهر هو وعاطف السمرا وسواهما من الأصدقاء
وعندما نتأمل تلك الرسائل، سيلفت انتباهنا أن رسائل غسان كنفاني لغادة السمان خطابات "إنسانية" تختلط فيها الصداقة العميقة بلغة العصر وأوجاع الزمن. تختلط فيها الصداقة بالقضايا. ولهذا جاءت رسائل غسان وثيقة "عشق عاقل" إن صحت العبارة
وقد يتساءل القاريء عن رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني..وهي ترد على ذلك بوضوح في كتاب الرسائل قائلة: "وريثما أحصل على رسائلي إليه فأنشرها ورسائله معاً، أكتفي مؤقتاً بنشر رسائله المتوافرة، بصفتها أعمالاً أدبية لا رسائل ذاتية أولاً ووفاء لوعد قطعناه على أنفسنا ذات يوم بنشر هذه الرسائل بعد موت أحدنا"
وهي بالمناسبة لم تنشر رسائله كلها، فقد ضاع بعضها – بحسب غادة- إثر احتراق منزلها ببيروت عام 1976، وما تبقى نشرته بعد حذف المقاطع السياسية التي لا بد أنها قد حملت جزءاً كبيراً مما لم يتضمنه أدب غسان كنفاني
وربما جاز لنا أن نشير إلى أن أرشيف غادة السمان غير المنشور والذي أودعته في أحد المصارف السويسرية، يضم مجموعات من الرسائل تعد غادة بنشرها "في الوقت المناسب". ولأن غادة كانت نجمة في سماء بيروت الثقافية في عقد الستينيات فإنه من المتوقع أن تؤرخ هذه الرسائل لتلك الحقبة
ومن المنتظر أيضاً أن تكشف عن علاقات عاطفية لم تكترث غادة لإخفائها آنذاك، خاصةً مع ناصر الدين النشاشيبي الصحفي الفلسطيني الذي كشف عن وجود رسائل عاطفية موجهة له من غادة في أواسط الستينيات. وقد تحدث النشاشيبي عن "علاقة حب عاصفة جمعتني بالأديبة غادة السمان، وجمعتني لقاءات بها قبل أن تتزوج، وشرفتني بالزيارة إلى منزلي بجنيف وأقامت معي. وما كتبته في كتابي "المرأة تحب الكلام" تحت عنوان "كاتبة الليل" كان عن غادة السمان". ومن الأسماء الأخرى المرشحة لنشر رسائلها مع غادة، الشاعر الفلسطيني كمال ناصر الذي اغتيل في أبريل نيسان عام 1973 في حي فردان في بيروت على يد فرقة كوماندوز إسرائيلية قادها إيهود باراك
استقبلت غادة – حسب تصريحها– أكثر من مئتي مقالة نقدية كانت قد كُتبت حول ذلك الكتاب، نصفها مؤيد للنشر ونصفها ضد خطوة النشر. وأصدرت غادة المحاورات التي دارت معها على هامش انفجار "رسائل غسان" في كتاب حمل عنوان "محاكمة حب" وصدر في نوفمبر تشرين الثاني عام 2004
تتعدد إهداءات هذا الكتاب كتعدد وجوه قطعة الألماس التي كان غسان تمثيلاً رائعاً لها، فهي تهدي كتاب المحاورات الساخنة: "إلى الذين دعموني في خطوتي البيوغرافية غير المسبوقة" رسائل غسان إلى غادة" والمليئة بالثقوب لأنها محاولة أولى، وشجعوني بلا تحفظ ، وإلى الذين وقفوا بتحفظ مع صرختي ضد همجيتنا الأبجدية المتمثلة في إحراق بعض أوراق راحلينا المبدعين في غياب مؤسسة عربية ترعى الميراث الثقافي للراحلين، وأهديه أيضا إلى الذين هاجموني، فقد تتبدل بعض قناعاتهم المتكلسة".. ثم تهديه أولاً إلى: "الذين حاوروني حوله، ومنحوني الفرصة للتعبير عن وجهة نظري التي لا تخلو من الهنات ككل ما هو بشري"
لقد أحب غسان كنفاني هذه المرأة حباً زلزل كيانه، إلى الحد الذي يقول لها فيه: " لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبداً أبداً. لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبداً أبداً ولذلك لن أنساكِ، لا...إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معكِ ويبدو لي أنني سأنتهي معكِ"
لكن غسان لم ينته.. فقد بقي، في حين زال واندثر آخرون
يقول غسان لغادة في رسالة: "إنني على عتبة جنون ولكنني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودكِ معي جنونٌ آخر له طعم اللذة، ولكنه- لأنك أنتِ، التي لا يمكن أن تُصلح في قالبٍ أريده أنا- جنون تنتهي حافته إلى الموت!
"أمس رن الهاتف في المنزل، ورفعت السماعة..لم يكن ثمة أحد يتكلم على الطرف الآخر وهمست، بعد لحظةٍ، بصوت جبان: غادة؟
"وهذا كله لا يهمك ..أنت صبيّة وفاتنة وموهوبة..وبسهولة تستطيعين أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين، وتدوسي عليه وأنت تصعدين إلى ما تريدين..ولكنني أقبل..إنني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة!
"ماذا أقول لكِ؟ إنني أنضح مرارة..يعصر لساني الغضب مثلما يعصرون البرتقال على الروشة، لا أستطيع أن أنسى، ولا أستطيع أن أبعد عن وريدي شفرة الخيبة التي بذلتِ جهداً، يشهد الله كم هو كبير، لتجعلينني أجترعها بلا هوادة!
"لا أعرف ماذا أريد. لا أعرف ماذا أكتب. لا أعرف إلى أين سأنتهي. والآن – خصوصاً – أنا مشوش إلى حد العمى : إن النقرس يفتك بي مثل ملايين الإبر الشيطانية. أشفقي عليّ أيتها الشقية ...فذلك، على الأقل، شيء يقال
"قلتِ: نتحادث في الهاتف..أما أنا فليس لدي قرشٌ أستطيع أن أصرفه، وأن أصرفه خصوصاً على عذاب لا أحتمله. لقد تقوّض هذا الشيء الذي كنته، وأنا حطام، وأعرف أن ذلك شيء لا يسرّك كثيراً، ولكنه حدث: عنوان القصة"حازم؟ أجل حازم، من نوع أكثر صميمية: إنني أكثر شجاعة منه في وجه العدو المعذ َِّب، ولكنني أقل منه شجاعة في وجه الحب""حازم :أحد أبطال قصص كتاب غادة السمان "ليل الغرباءالطريف حقاً في الجدل الذي أثير حول كتاب الرسائل أنها المرة الأولى التي ينافح فيها العربُ عن سمعة رجل ارتكب "خطيئة" الحب، دون أن يبالوا بسمعة ومشاعر الأنثى التي أعلنتْ هذا الحب
في ليل الأول من فبراير شباط عام 1967 يكتب غسان لمحبوبته التي تتجاهله قائلاً
"عزيزتي غادة
يلعن***!
"ما الذي حدث؟ تكتبين لكل الناس إلا لي؟ اليوم في الطائرة قال لي سليم اللوزي أنك كتبت له أو لأمية لم أعد أذكر ، وأمس قال لي كمال إنه تلقى رسالة منك... وآخرين! فما الذي حدث؟ لا تريدين الكتابة لي؟ معلش! ولكن انتبهي جيداً لما تفعلين: ذلك سيزيدني تعلقاً بك!"أمية : أمية اللوزي زوجة سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة "الحوادث"، وكانا صديقين حميمين لغادة وغسان
كمال : كمال طعمة، صديق مشترك كان يشاركهما السهر هو وعاطف السمرا وسواهما من الأصدقاء
وعندما نتأمل تلك الرسائل، سيلفت انتباهنا أن رسائل غسان كنفاني لغادة السمان خطابات "إنسانية" تختلط فيها الصداقة العميقة بلغة العصر وأوجاع الزمن. تختلط فيها الصداقة بالقضايا. ولهذا جاءت رسائل غسان وثيقة "عشق عاقل" إن صحت العبارة
وقد يتساءل القاريء عن رسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني..وهي ترد على ذلك بوضوح في كتاب الرسائل قائلة: "وريثما أحصل على رسائلي إليه فأنشرها ورسائله معاً، أكتفي مؤقتاً بنشر رسائله المتوافرة، بصفتها أعمالاً أدبية لا رسائل ذاتية أولاً ووفاء لوعد قطعناه على أنفسنا ذات يوم بنشر هذه الرسائل بعد موت أحدنا"
وهي بالمناسبة لم تنشر رسائله كلها، فقد ضاع بعضها – بحسب غادة- إثر احتراق منزلها ببيروت عام 1976، وما تبقى نشرته بعد حذف المقاطع السياسية التي لا بد أنها قد حملت جزءاً كبيراً مما لم يتضمنه أدب غسان كنفاني
وربما جاز لنا أن نشير إلى أن أرشيف غادة السمان غير المنشور والذي أودعته في أحد المصارف السويسرية، يضم مجموعات من الرسائل تعد غادة بنشرها "في الوقت المناسب". ولأن غادة كانت نجمة في سماء بيروت الثقافية في عقد الستينيات فإنه من المتوقع أن تؤرخ هذه الرسائل لتلك الحقبة
ومن المنتظر أيضاً أن تكشف عن علاقات عاطفية لم تكترث غادة لإخفائها آنذاك، خاصةً مع ناصر الدين النشاشيبي الصحفي الفلسطيني الذي كشف عن وجود رسائل عاطفية موجهة له من غادة في أواسط الستينيات. وقد تحدث النشاشيبي عن "علاقة حب عاصفة جمعتني بالأديبة غادة السمان، وجمعتني لقاءات بها قبل أن تتزوج، وشرفتني بالزيارة إلى منزلي بجنيف وأقامت معي. وما كتبته في كتابي "المرأة تحب الكلام" تحت عنوان "كاتبة الليل" كان عن غادة السمان". ومن الأسماء الأخرى المرشحة لنشر رسائلها مع غادة، الشاعر الفلسطيني كمال ناصر الذي اغتيل في أبريل نيسان عام 1973 في حي فردان في بيروت على يد فرقة كوماندوز إسرائيلية قادها إيهود باراك
استقبلت غادة – حسب تصريحها– أكثر من مئتي مقالة نقدية كانت قد كُتبت حول ذلك الكتاب، نصفها مؤيد للنشر ونصفها ضد خطوة النشر. وأصدرت غادة المحاورات التي دارت معها على هامش انفجار "رسائل غسان" في كتاب حمل عنوان "محاكمة حب" وصدر في نوفمبر تشرين الثاني عام 2004
تتعدد إهداءات هذا الكتاب كتعدد وجوه قطعة الألماس التي كان غسان تمثيلاً رائعاً لها، فهي تهدي كتاب المحاورات الساخنة: "إلى الذين دعموني في خطوتي البيوغرافية غير المسبوقة" رسائل غسان إلى غادة" والمليئة بالثقوب لأنها محاولة أولى، وشجعوني بلا تحفظ ، وإلى الذين وقفوا بتحفظ مع صرختي ضد همجيتنا الأبجدية المتمثلة في إحراق بعض أوراق راحلينا المبدعين في غياب مؤسسة عربية ترعى الميراث الثقافي للراحلين، وأهديه أيضا إلى الذين هاجموني، فقد تتبدل بعض قناعاتهم المتكلسة".. ثم تهديه أولاً إلى: "الذين حاوروني حوله، ومنحوني الفرصة للتعبير عن وجهة نظري التي لا تخلو من الهنات ككل ما هو بشري"
لقد أحب غسان كنفاني هذه المرأة حباً زلزل كيانه، إلى الحد الذي يقول لها فيه: " لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبداً أبداً. لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبداً أبداً ولذلك لن أنساكِ، لا...إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معكِ ويبدو لي أنني سأنتهي معكِ"
لكن غسان لم ينته.. فقد بقي، في حين زال واندثر آخرون
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire