بالرغم من أن كل المراقبين الغربيين والعرب كانوا يرشحون حزب العدالة
والبناء الإسلامي للفوز بأغلبية المقاعد في المؤتمر الوطني العام بليبيا،
في صورة شبيهة بنتائج حزب النهضة التونسي والحرية والعدالة المصري وحزب
العدالة والتنمية المغربي، إلا أن تحالف القوى الوطنية "الليبرالي" كسر
قاعدة فوز الأحزاب الإسلامية في انتخابات ما بعد الربيع العربي للمرة
الثانية بعد حالة جبهة التحرير الوطني في الجزائر.
كيف، إذن، يمكن تفسير سقوط الأحزاب الإسلامية في انتخابات المؤتمر
الوطني العام (البرلمان) الليبي ؟ وماهي القراءات الممكنة للنتائج
الانتخابية للإسلاميين في ليبيا، مقارنة مع نتائج تيار تحالف القوى
الوطنية بقيادة محمود جبريل الموصوف بأنه "ليبيرالي"؟ وماهو أثر هذه
النتائج على باقي الدول المغاربية التي تقودها حكومات إسلامية (تونس
والمغرب)؟ وهل يمكن الحديث عن بداية تراجع مد إسلامي لفائدة تيارات أخرى
(ليبرالي آو وطني تاريخي ) بعد انتخابات الجزائر وليبيا؟
وفي سبيل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، حول طبيعة "خيبة" الإسلاميين
اللبيبين للظفر بانتخابات المؤتمر العام في لبيا، وعن حالة توقف المد
الانتخابي للأحزاب الإسلامية من خلال الحالة الليبية، أورد الدكتور عبد
الرحيم منار اسليمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، أربعة
تفسيرات:
التفسير الأول: اعتبر اسليمي أن ليبيا ليست
هي تونس أو مصر، فالليبيون لم ينظموا اقتراعا منذ 1961 تحت حكم الملك
السنوسي، والجيل الذي ولد مع صعود القذافي إلى الحكم، والذي يتجاوز اليوم
أربعين سنة من عمره، لم يعرف ما هي الانتخابات، فهو سمع عنها أو شاهدها في
التلفزيون دون أن يمارسها، فالقدافي كان يمثل كل شيء في نظامه
الديكتاتوري فهو "الطبيب" و"البستاني" و"الشرطي "و"الرياضي" و"المطرب"
و"الفكاهي"...وجلسات أسطورة لجنه الشعبية كانت هي "الدستور" و"الانتخابات"
و"البرلمان" ...وبالتالي، من الطبيعي جدا أن تعرف ليبيا في أول انتخابات
لها نتيجة تفوز فيها تيارات داعية إلى الانفتاح، فالانتخابات التي تجري في
نظام سياسي بعد مرحلة الديكتاتورية تجعل الناخب يبحث عن التيارات الداعية
إلى الحرية والانفتاح أكثر من غيرها.
التفسير الثاني: إن الثورة على النظام
الديكتاتوري والإطاحة بحكامه، لا تنهي بسرعة مع حالة ارتباط الإفراد النفسي
بالشخصيات الكارزماتية البطولية، وهي حالة تصويت الليبيين على تحالف
القوى الوطنية الذي يقوده محمود جبريل، كقائد كارزماتي تعرف عليه الليبيون
في مرحلة الثورة من خلال قدرته الكبيرة على التواصل وترسيخه لفكرة لازال
يتذكرها الليبيون مبنية على كونه – اي محمود جبريل – القناة التواصلية
لليبيا مع الخارج (الولايات المتحدة وأوروبا وقطر ...).
التفسير الثالث: إن ليبيا مجتمع قبلي في
بنائه الاجتماعي، والمجتمعات ذات البنية القبلية، كما يرى اسليمي، تحافظ
على هويتها وتستعصي على الحركات الإسلامية التي تكون غير قادرة على
اختراقها، أضف إلى ذلك أن البنية القبلية تحافظ على طقوس إسلامها الشعبي
التقليدي (التصوف وظاهرة الزوايا ..) وتكون أقل طلبا على خطاب الشريعة الذي
تدعو إليه الحركات الإسلامية و تمارس به الدعاية الانتخابية والعمل
السياسي.
وما نلاحظه في الانتخابات الليبية، يضيف منار اسليمي، أن الإسلاميين
همشوا القبيلة على عكس تحالف القوى الوطنية الذي سعى إلى بناء تحالف بين
القبلية والليبرالية، أكثر من ذلك بدت الأحزاب الإسلامية، وهي تطلب السلطة،
منقسمة في ليبيا إلى ستة أحزاب وشخصيات مستقلة سبقتهم أخطاء بعض المتشددين
في التعامل مع التقاليد الليبية، فالإسلاميون العائدون من الخارج ساهموا
في الثورة، ولكنهم كانوا أقل تواصلا مع الليبيين وبالتالي، فالمجتمع الليبي
لم يكن له طلب كبير على الشريعة، كما اعتقد الإسلاميون، ولكن طلب على
بناء المؤسسات والانفتاح والأمن.
التفسير الرابع: ويتعلق بتصويت الشباب بقوة
على تحالف القوى الوطنية، وهذه المسالة هي مخالفة للجزائر مثلا، التي قاطع
فيها جزء كبير من الشباب التصويت مقابل تصويت للشيوخ بكثرة على جبهة
التحرير الوطني، فنزعات الشباب هنا تبدو مختلفة داخل دول المغرب العربي عكس
ما تحمله العديد من التقارير حول ظاهرة التدين التي تقول بأن الشباب أكثر
طلبا في الوقت الراهن على الدين وتخلط الطلب على الدين بالطلب على الحركات
الإسلامية، فالطلب على التدين ليس معناه طلبا على أفكار وتوجهات الأحزاب
الإسلامية،ولدينا بعض التقارير التي تصدر في المغرب حول الحالة الدينية من
طرف "المركز المغربي للدراسات الدينية والأبحاث المعاصرة" الذي يشرف عليه
مصطفى الخلفي وزير الاتصال في الحكومة الحالية.
والمُلاحظ، أيضا، أن الانتخابات الليبية جاءت بعد مسافة زمنية قريبة
من انتخابات تونس والمغرب والجزائر التي تبدو داخلها مسارات الإسلاميين
مختلفة وتقدم أربع رسائل سياسية:
الرسالة الأولى: تبين أن الإسلاميين ليسوا
وحدهم في الميدان، وان تعميم نتائج الانتخابات على كل الدول العربية ليس
صحيحا، كما أن الاعتقاد بان الإسلاميين هم ورثة الربيع العربي بمفردهم ليس
صحيحا، فالعالم العربي يسير بسرعة ولا أحد يعرف من سيحكم غدا.
كما أن سلوكات الربيع العربي التي أعطت الامتياز السياسي للإسلاميين ،
وأوصلتهم إلى الحكم وأرجعت تيارات أخرى إلى الوراء منها التيارات
اليسارية، هذه السلوكات، تتطلب اليوم إعادة القراءة، فظاهرة صعود
الإسلاميين والاحتفالية التي رافقت ذلك، أحجبت الرؤية عن مجريات مسلسلات
أحداث الربيع العربي ومعانيه.
والسؤال المطروح حاليا: لماذا عادت الحركات الاحتجاجية مثلا إلى قصيدة
أبي القاسم الشابي (إرادة الحياة ) التي تعود إلى سنة 1930؟ هل معناها
استيقاظ الذاكرة الجماعية القديمة للشعوب العربية ؟ وكيف نفسر مثلا أن
جميع أنواع المفاهيم والشعارات التي راجت في الثورات لا علاقة لها بالقاموس
العربي القديم ؟
يجيب المحلل السياسي، منار اسليمي، كون تحليل الشعارات يبين إننا أمام
جيل جديد لا علاقة له بالتيارات القديمة ويقدم فكرة نهاية الإيدولوجيات
الكبرى (القومية،الاشتراكية، وحتى الإسلاموية السياسية ...).
وكيف يمكن تفسير أن جميع الشعوب في لحظات تورثها تعترف برجالات تاريخها
(الذين ساهموا في أعمال بطولية أو انجاز بناء الدولة)،لكن الثورات العربية
كانت استثناء فهي ليس لها ” إحساس الاعتراف ” فأسماء كجمال عبد الناصر في
مصر أو بورقيبة في تونس كانت غائبة ،مما يعني أن حركات الربيع العربي ليس
لها زعيم أو زعامات محددة ؟ وما هي التفسيرات الممكنة لظاهرة الفرح
الجماعي في ثورات الربيع العربي التي جمعت بين الشعر، الأغنية والصلاة
المسيحية والإسلامية وأحيانا جمعت بين الفرح والحزن؟
يرى اسليمي أن هذه الأسئلة تبين أن فكرة إنجاز الثورة أو التحول من طرف الحركات الإسلامية وحدها يجب أن يعاد فيه النظر.
الرسالة الثانية: إن المسافة الزمنية منذ
بداية صعود الإسلاميين عن طريق الانتخابات، تسمح اليوم ببداية تقييمهم في
المنطقة المغاربية، إذ يبدو أن الحركة الأكثر ذكاء هي حركة النهضة في
تونس التي تعاملت مع المجتمع التونسي، الذي هو مجتمع يميل إلى العلمانية،
بذكاء، فهي تحاول صياغة خطاب سياسي يمثل كل التونسيين، بمعنى أنها انتبهت
إلى مخاطر التقسيم النفسي للمجتمع ب"فاسديه" و"صالحيه"، عكس خطاب حزب
العدالة والتنمية الحاكم في المغرب الذي يستعمل خطاب "أنت ضدي فأنت فاسد"
و"أنت معي فأنت صالح" وهو خطاب يقتل التمثيلية السياسية.
أضف إلى ذلك، يؤكد اسليمي، "إن النهضة استطاعت أن تتعايش مع اليسار أو
خلقت جسر التواصل، وهي حالة لم يستطع حزب العدالة والتنمية الحاكم الوصول
إليها في المغرب إذ إنه نزع منذ البداية إلى التحالف مع التيارات السياسية
التقليدية".
الرسالة الثالثة: وتتعلق بجدلية الدعوة
والدولة، فالحركات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في تونس والمغرب تختلف
في رسم و تحديد المسافة بين جناحها الدعوي وجناحها السياسي، فالنهضة في
تونس اختارت أن يشتغل جناحها الدعوي في مجالات التربية وصياغة فهم وسطي
للإسلام، يجعل منه مصدر الهام ووحدة وانفتاح على الحداثة وقضايا العصر حسب
أدبياتها، أما في المغرب فهناك مسافة غامضة ورمادية مابين العدالة والتنمية
وجناحه الدعوي المتمثل في حركة التوحيد والإصلاح رغم أن بعض الإحصائيات
تقول إن 80 في المائة من أعضاء الحزب هم أعضاء بالحركة، وبالتالي فالحزب
والحركة يعيشان نوعا من السكوت المطبق بخصوص قضايا هوياتية مطروحة داخل
المجتمع المغربي اليوم ،وحالة تخلي العدالة والتنمية وجناحه الدعوي على
الفقيه النهاري مثال على هذا السكوت، رغم أن النهاري سند انتخابي قوي لحزب
العدالة والتنمية.
الرسالة الرابعة: إن المثير للانتباه في
المقارنة بين المغرب وتونس حول حالة التيارات الأخرى أمام ظاهرة صعود
الإسلاميين بعد الربيع العربي، هو انه في تونس لازال اليسار قويا، بينما في
المغرب اليسار غير قادر على قراءة المرحلة، ويبدو انه اقتنع بخطاب لم
يعاود فحصه ،وهو خطاب ان حزب العدالة والتنمية هو الأكثر مشروعية في
الشارع وهو الأكثر قدرة على تحريك الشارع، فالمشروعيات التي تقود إليها
صناديق الاقتراع ليست ثابتة ،والشارع في المغرب تحركه تيارات متعددة وليس
التيارات الإسلامية وحدها ،وتبين المعطيات الميدانية في المجتمع العميق أن
الطلب على الإسلام الشعبي لازال موجودا وقويا أكثر من غيره، ويكفي هنا
زيارة بعض المواسم كمولاي عبد الله أمغار آو بعض الزوايا لمعاينة الدور
الذي لازال يلعبه الإسلام الشعبي في التعبئة والتأطير .
وهناك ملاحظة تسترعي الانتباه، وهي أن بصعود الإسلاميين بعد الربيع
العربي في مصر وتونس والمغرب، والطريقة التي تعاملت بها السلطة في المغرب
معهم، إذ يبدو أن السلطة نجحت إلى حد الآن في تشتيت الإسلاميين بعزلهم عن
بعضهم البعض وترويض دعاة السلفية وجعلهم "نجوما" يشتغلون في مجال السياسة
بوعي أو بدون وعيهم، كما إنها تفك الارتباط تدريجيا بين شيوخ السلفية
والسلفيين الموجودين داخل المعتقلات .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire