إن الدعم الامريكي الأوروبي الاعمى والمتواصل لسياسات إسرائيل الرعناء
في فلسطين بشكل خاص والعالم المسلم والعربي بشكل عام, واهتمامها الزائد في
منطقة الشرق الأدنى والأوسط ليس حديثا كما يعتقد الكثيرون, ولكن له جذور
دينية وسياسية عميقة تعود إلى ما قبل القرن السادس عشر، أي عند ولادة
البروتستانتية كحركة دينية منافسة للكاثوليكية والارثوذوكسية، ففي الجزء
الأول من هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على العلاقة الدينية العميقة
والروابط الروحية الوطيدة, بين الأماكن المقدسة في فلسطين والمهاجرون
المسيحيون الأوروبيون الأوائل الى أمريكا في أوائل القرن السادس عشر, حتى
جعلتهم يؤمنون ويقتنعون بأنهم شعب يرجع أصله الى شعوب الشرق الأوسط. الجزء
الثاني سيشرح للقارئ دخوب الكثير من أنظمة الدول العربية وبعض شعوبها الى
نادي الصهيونية العالمية وأسباب تعاون وتحالف تلك الدول مع قوى الإمبريالية
الأمريكية وحليفاتها والتنافس بإظهار عنصريتهم النازية للقضاء على أعداء
أسرائيل وأمريكا والغرب الصهيوني, وأيضا الدعوة والمساعدة المحمومة لدمج
"إسرائيل" العدوّة في خارطة الشرق الأوسط الجديد كدولة ذات حدود رسمية
معترف بها دوليا ومن قبل أغلبية الأنظمة العربية والمسلمة.
وشرح خلفيات التيارات الإسلامية والدينية المتطرّفة التي يتمّ تجنيدها
للقضاء على كل شكل من أشكال المقاومة في دول مسلمة وعربية, لتطويعها
بالإعتراف الصريح بالكيان الصهيوني وفرض التعامل معه, على الشعوب العربية
والمسلمة ككيان صديق من خلال التطبيع والتبادل الثقافي والتجاري ومحاولة
تجميل الوجه البشع لهذه الدولة الصهيونية والإستعمارية على حساب الشعب
الفلسطيني, الذي هُّجّر وطُرد من أرضه وما زالت الدولة الصهيونية تعمل
المستحيل لقتل وطرد وإبادة الباقي من هذا الشعب بكل الطرق الشرعية
والقانونية والإجرامية. في بداية القرن السادس عشر قام المهاجرون
الأوروبيين الأوائل الى القارة الامريكية الجديدة بعد أن تمّ اكتشافها في
أواخر القرن الرابع عشر من قبل كولومبوس , باستعمار المناطق التي تشكّل
اليوم الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وقاموا باستيطانه ببناء أول مستعمرة
أطلقوا عليها اسم "فيرجينيا" تيمنا بالملكة الإنجليزية العذراء "إليزابيث
".
وفي النصف الثاني للقرن السادس عشر زادت حدّة الإستيطان في القارة
الجديدة, وظهرت شركات ضخمة هدفت الى تشجيع حركة الإستيطان القوية, التي
لاقت رواجا بين الناس في بريطانيا وأوروبا بسبب الأزمات الإقتصادية
والبطالة والإنفلات الأمني والإضطهاد الديني. سكان تلك المستوطنات الأولى
كان خليط من سكان بريطانيا وأوروبا. وقد أطلق المهاجرون المتأخرون إلى
"العالم الجديد" او أمريكا, اسم "الحجاج" على الذين عبروا المحيط الأطلسي
على ظهر أول سفينة كانت تقلّ النازحين الى "الأرض الموعودة" .“ Myflower”
كان اسمها في أوائل القرن السادس عشر والسابع عشر هاجرثلاثة أنواع من البشر
من أوروبا الى القارة الجديدة، النوع الأول يتكون من المغامرون والحرفيون
الذين يبحثون عن المغامرة وسعيا وراء الثراء السريع وحياة أفضل, والنوع
الثاني كانوا الملاحقون قانونيا والمجرمين الخطرين المنفيين من الدول
الأوربية الى العالم الجديد. والنوع الثالث هم "الحجاج" (البيوريتانيون)
التطهيريين, أي البروتستانت المتزمّتين الذين هاجروا بحثاً عن الحرية
الدينية في الأرض الموعودة هربا من الاضطهاد الديني الكاثوليكي. اعتبر
المهاجرون الأوروبيون الاوائل, القارة الجديدة, بأنها "ارض الميعاد"
المذكورة بالتوراة، وشبهوا انفسهم باليهود الذين خرجوا من ارض مصر بعد أن
خلّصهم النبي موسى من نير العبودية والأسر الفرعوني الطويل, وانطلقوا بعدها
الى ارض كنعان الموعودة حسب توراة العهد القديم.
فقد قارن المهاجرين الأوروبيين الأوائل الى القارة الجديدة, وضعهم
الديني في اوروبا في القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر, مع وضع
اليهود واضطهادهم تحت نير الفراعنة حسب قصص التوراة التي آمنوا بها. ورأوا
انه يوجد هناك تشابه كبير بين العذاب والإضطهاد وسوء المعاملة التي كان
يعامل بها اليهود في مصر الفرعونية, وبين العذاب والاضطهاد الذي مارسته
الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا ضد طوائف البروتستانت, مما اضطر الكثيرون
منهم إلى الرحيل الجماعي والنزوح عن ديارهم والهجرة إلى القارة الجديدة
طلبا للحرية الدينية وحريات أخرى كانوا محرومين منها. فرأوا ان هجرتهم الى
أمريكا, ما هي إلا تنفيذاً لمشيئة إلهية توراتية مأكّدة, ولها نفس الصفات
الدينية والإيمانية المذكورة بالكتاب المقدس. إن صلة الحجاج الروحية القوية
بالأماكن المقدسة بفلسطين عن طريق عباداتهم الدينية اليومية المتزمّته,
جعلتهم على مرّ السنين يؤمنون بأنهم جزء لا يتجزء من شعوب فلسطين القديمة
والتاريخية, وأنهم شعب الله المختار وورثة الأرض, فهم رؤا أن هذا حق إلهي
محفوظ لهم إلى الابد, ورؤوا ان امتلاك واسترجاع كل بقعة على الأرض هو حقّهم
الديني الخاص, خاصة فلسطين وأرض "إسرائيل" المذكورة بتوراتهم, وانتزاعها
من "المتوحشين" الذين سكنوا فيها على مدى مئات وآلاف من السنين واستولوا
عليها بغير حقّ شرعي. واعتقدوا ان "يهوة" اورثهم الأرض وما فيها من ثروات.
والبشر الذين ليسوا من جنسهم ولا تجمع بينهم مصلحة دينية أو اقتصادية,
ويعيشون على تلك الأرض, يُعدّون متوحشين لا يمتّون الى البشرية بأي صلة,
وقتلهم هو جزء لا يتجزأ من الممارسات الدينية التي تربّوا عليها, لتطهير
الأرض منهم وتهيئتها للمؤمنين من جماعتهم لبناء فردوس أرضي بديلا للفردوس
السماوي الذي طرد "يهوه" الإنسان منه.
ويجب على هؤلاء المتوحشين الإختفاء من تلك الأرض وتركها لهم كونهم
ورثتها الوحيدون, وإذا لم يقوموا بذلك اختيارا فيجبرون بقوة السلاح
ويُقتلون, فقد ذكر نوعام تشومسكي بكتابه "501 سنة والغزو مستمر" بأن هوغو
غروتيوس الذي كان معروفا بإنسانيته قد كتب واصفا "المتوحشين" " أن أكثر
الحروب عدالة هي الحرب ضد البهائم المتوحشة, ثم الحرب ضد الناس الذين على
شاكلتهم". أما جورج واشنطن فقد كتب عام 1783: " أن التوسع التدريجي
لمستوطناتنا سيجعل المتوحشين يتراجعون تدريجيا, وكذلك الذئاب, فكلاهما
طرائد للصيد, مع انهم مختلفون شكلا" أما توماس جفرسون فقد تنبأ بحديثه مع
جو آدمز بأن : "(القبائل المتخلفة على الحدود) سوف تتردى في البؤس
والبربرية, وتتناقص عددا بسبب الحرب والفاقة, وسنكون مضطرين لسوقهم الى
الجبال الصخرية مع وحوش الغابات" فعند قدوم المستوطنين الجدد الى سواحل
أمريكا الشرقية, كانت تلك الأراضي منذ آلاف السنين مسكونة بالهنود الحمر
سكان أمريكا الأصليين, الذين استقبلوهم استقبالا حسنا ومدّوهم بالمساعدة
والغذاء والدواء. وبعد أن أسسوا أول مستوطناتهم, حاولوا استعباد الهنود
الحمر للعمل في أراضيهم ومزارعهم التي استولوا عليها ولكنهم فشلوا في هذا,
فلم يتورّعوا في القضاء عليهم للإستيلاء على أراضيهم وثرواتهم بشكل ممنهج
وبالقوة.
وعندما لاقوا مقاومة شرسة من قبل الهنود أخذوا بإبادتهم تدريجيا وقتلهم
بصورة جماعية ونزع الأراضي منهم بالقوة تحت غطاء ديني وحضاري لتبرير
أفعالهم. وهكذا وقعت إحدى أبشع الكوارث السكانية التي ليس لها مثيل في
التاريخ البشري , وأدت إلى هلاك السكان الأصليين للعالم الجديد الذي بلغ
تعدادهم أكثر من 100 مليون نسمة وإبادتهم عن بكرة ابيهم. إيمان هؤلاء
"الحجاج" الصهاينة, الذين هجروا أوروبا الى العالم الجديد, بأنهم شعب الله
المختار الذي له الحق التاريخي في فلسطين, هو إيمان غير صحيح بتاتا. أولا
لأنها فكرة دينية دخلت رؤوسهم عن طريق غسل مخ ذاتي من خلال ممارسة دينهم
وإيمانهم على مدى مئات السنين وثانيا لأسباب منطقية وواضحة للعيان, وببساطة
لأنهم لا يمتّون بأي صلة عرقية ولا لغوية ولا تاريخية, الى بني اسرائيل
القدماء الذين انقرضوا بانقراض لغتهم العبرية المنطوقة وامتزجوا بين شعوب
الشرق الأوسط, الذي انصهر معظمها وأصبحت شعوبا عربية مستعربة. وبالتالي
فهؤلاء الذين قدموا الى فلسطين ليس لهم أي علاقة ببني إسرائيل القدماء. فهم
صهاينة متطرفّين قدموا من أمريكا وكل دول الغرب لاسترداد الأراضي التي
وعدها لهم ربّهم "يهوه" وطرد الشعوب التي تسكنها وتعيش بها منذ آلاف
السنين. ويحاولون جاهدين تحسين صورتهم والتغطية على أعمالهم الإجرامية
والوحشية بقوّة الدين والمال والإعلام وإعطائها صبغة سماوية, دينية,
انسانية وحضارية, بالضبط كما حصل عند هجرة الإنسان الأبيض و "الحجاج"
البيوريتانيون من دول أوروبا الى العالم الجديد أمريكا.
وللكلام بقيّة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire