مقدمة الطبعة الأولى
في الوقت الحاضر تكتسب مسألة الدولة أهمية خاصة سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية السياسية. فالحرب الإمبريالية قد عجلت وشددت لأقصى حد سير تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية. والظلم الفظيع الذي تقاسيه جماهير الشغيلة من قبل الدولة التي تلتحم أوثق فأوثق باتحادات الرأسماليين ذات الحول والطول يغدو أفظع فأفظع. والبلدان المتقدمة –ونقصد «مؤخراتـ»ها- تتحول بالنسبة للعمال إلى سجون عسكرية للأشغال الشاقة.
إن الأهوال والنكبات المنقطعة النظير، الناجمة عن الحرب التي تستطيل، تجعل الجماهير في حالة لا تصدق وتشدد سخطها. إن الثورة البروليتارية العالمية تتصاعد بصورة بينة. ومسألة موقفها من الدولة تكتسب أهمية عملية.
إن عناصر الانتهازية التي تراكمت في غضون عشرات السنين من التطور السلمي نسبيا أنشأت تيار الاشتراكية-الشوفينية السائدة في الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم بأسره. وهذا التيار (بليخانوف، بوتروسوف، بريشكوفسكايا، روبانوفيتش، ثم المقنعون بقناع شفاف، السادة تسيريتيلي، تشيرنوف وشركاهما في روسيا؛ شيدمان، ليغين، دافيد وأضرابهم في ألمانيا؛ رينودل، غيد، فاندرفيلده في فرنسا وبلجيكا؛ هايندمان والفابيون في إنكلترا، وهلم جراً وهلم جراً)، وهو الاشتراكية قولاً والشوفينية فعلاً، يتميز بكون «زعماء الاشتراكية» يتكيفون بذلة وحقارة ليس فقط وفق مصالح برجوازيتـ«هم» الوطنية، بل، وعلى وجه الدقة، وفق مصالح دولتـ«هم»، إذ أن أكثرية ما يدعى بالدول الكبرى تستثمر وتستعبد منذ زمن طويل جملة من الشعوب الصغيرة والضعيفة. وما الحرب الإمبريالية سوى حرب من أجل اقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنيمة. والنضال من أجل تحرير جماهير الشغيلة من نفوذ البرجوازية بوجه عام والبرجوازية الإمبريالية بوجه خاص يستحيل بدون النضال ضد الأوهام الانتهازية بصدد «الدولة».
في البدء سننظر في تعاليم ماركس وإنجلس بشأن الدولة متناولين بإسهاب خاص ما نسي أو تعرض للتشويه الانتهازي من نواحي هذه التعاليم. وبعد ذلك سندرس بصورة خاصة الممثل الرئيسي لهذه التشويهات، كارل كاوتسكي، أشهر زعماء الأممية الثانية (سنوات 1889-1914) التي أفلست إفلاسا مشينا للغاية أثناء الحرب الراهنة. وسنستخلص في النهاية الاستنتاجات الرئيسية من خبرة الثورتين الروسيتين، ثورة سنة 1905 وثورة 1917 بوجه خاص. ويبدو أن هذه الأخيرة تنهي في الوقت الحاضر (أول غشت سنة1917) المرحلة الأولى من تطورها، ولكن هذه الثورة بأكملها لا يمكن فهمها بوجه عام إلاّ باعتبارها حلقة من حلقات سلسلة الثورات البروليتارية الاشتراكية التي تثيرها الحرب الإمبريالية. وهكذا، فإن مسألة موقف الثورة البروليتارية الاشتراكية من الدولة لا تكتسب أهمية سياسية عملية وحسب، بل تغدو كذلك مسألة ملحة من مسائل الساعة، باعتبارها مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير أن تفعله في المستقبل القريب للخلاص من نير رأس المال. المؤلف
غشت سنة 1917
مقدمة للطبعة الثانية
تصدر هذه الطبعة، الثانية، دون أي تغيير تقريبا، إذ لم يضف عليها غير المقطع الثالث في الفصل الثاني
المؤلف
موسكو.
17 ديسمبر 1918 .
الفصل الأول
المجتمع الطبقي والدولة
1-الدولة هي نتاج استعصاء التناقضات الطبقية
يحدث الآن لتعاليم ماركس ما حدث أكثر من مرة في التاريخ لتعاليم المفكرين الثوريين وزعماء الطبقات المظلومة في نضالها من أجل التحرر. ففي حياة الثوريين العظام كانت الطبقات الظالمة تجزيهم بالملاحقات الدائمة وتتلقى تعاليمهم بغيظ وحشي أبعد وحشية وحقد جنوني أبعد الجنون وبحملات من الكذب والافتراء وقحة أبعد القحة. وبعد وفاتهم تقوم محاولات لجعلهم أيقونات لا يرجى منها نفع أو ضر، لضمهم، إن أمكن القول، إلى قائمة القديسين، ولإحاطة أسمائهم بهالة ما من التبجيل بقصد «تعزية» الطبقات المظلومة وتخبيلها، مبتذلة التعاليم الثورية باجتثاث مضمونها وثلم نصلها الثوري. وفي أمر «تشذيب» الماركسية على هذا النحو تلتقي الآن البرجوازية والانتهازيون داخل الحركة العمالية. ينسون، يستبعدون، يشوهون الجانب الثوري من التعاليم، روحها الثورية. ويضعون في المقام الأول ويطنبون في امتداح ما هو مقبول للبرجوازية أو يبدو لها مقبولاً. فجميع الاشتراكيين-الشوفينيين هم الآن «ماركسيون»، بدون مزاح! والعلماء البرجوازيون الألمان الذين كانوا حتى الأمس متخصصين في استئصال الماركسية قد أخذوا يتحدثون أكثر فأكثر عن ماركس «ألماني وطني» ربّى على ما يزعمون اتحادات عمال منظمة خير تنظيم لشن حرب الغزو!
حيال هذا الوضع، حيال انتشار تشويه الماركسية انتشارا منقطع النظير، يتلخص واجبنا قبل كل شيء في بعث تعاليم ماركس الحقيقية بشأن الدولة. وهذا يقتضي إيراد جملة من فقرات طويلة تثقل البحث بطبيعة الحال دون أن تهمد البتة لجعله أقرب إلى الفهم. ولكن الاستغناء عنها أمر ليس في الإمكان بحال. ينبغي حتما أن نقيس في مؤلفات ماركس وانجلس وبأتم شكل ممكن جميع الفقرات المتعلقة بمسألة الدولة أو، على الأقل، جميع الفقرات الفاصلة، لكيما يتمكن القارئ من أن يكوّن لنفسه بصورة مستقلة فكرة عن مجمل نظريات مؤسسي الاشتراكية العلمية وعن تطور هذه النظريات، وكذلك لكيما نبرهن استنادا إلى الوثائق ونضج بجلاء تشويه هذه النظرات من قبل «الكاوتسكية» السائدة اليوم.
نبدأ من أوسع مؤلفات فريدريك إنجلس انتشارا: «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، هذا المؤلف الذي صدرت طبعته السادسة في سنة 1894 في شتوتغارت. ويتأتى علينا أن نترجم المقتبسات عن الأصل الألماني لأن التراجم الروسية، مع كثرتها، هي، في الأغلب، إمّا غير كاملة وإما مترجمة بصورة غير مرضية أبداً.
يقول إنجلس ملخصا نتائج تحليله التاريخي:
«الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وأنه قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر هي الدولة» (ص 177-178 من الطبعة الألمانية السادسة).
في هذه الفقرة قد أعرب بأتم الوضوح عن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي وشأنها. فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدر ما لا يمكن، موضوعيا، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها.
في هذه النقطة الأساسية والهامة جدا على وجه التدقيق يبدأ تشويه الماركسية الذي يتبع اتجاهين رئيسيين.
من جهة، الإيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الإيديولوجيون البرجوازيون الصغار، -المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمرا ممكنا. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق –الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! –الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفا اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.وهكذا، عندما طرحت في ثورة سنة 1917 مسألة شأن الدولة ودورها بكل خطورتها، عندما طرحت عمليا باعتبارها مسألة عمل مباشر وفي النطاق الجماهيري، انزلق جميع الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، جميعهم دفعة واحدة ودون تحفظ، نحو النظرية البرجوازية الصغيرة القائلة أن «الدولة» «توفق» بين الطبقات. القرارات والمقالات التي وضعها ساسة هذين الحزبين بعدد لا يحصى، تتخللها من ألفها إلى يائها هذه النظرية التافهة البرجوازية الصغيرة، نظرية «التوفيق». أمّا أن الدولة هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينهما وبين نقيضها (الطبقة المضادة لها)، فهذا ما لا تستطيع الديموقراطية البرجوازية الصغيرة فهمه بحال. والموقف الذي يقفه من الدولة الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة عندنا، هو دليل من أوضح الأدلة على أنهم ليسوا باشتراكيين قط (الأمر الذي كنا نحن البلاشفة نبرهنه على الدوام)، بل هم ديموقراطيون برجوازيون صغار ذوو عبارات تكاد تكون اشتراكية.ومن الجهة الأخرى التشويه «الكاوتسكي» للماركسية، وهو أحسن تقنيعا بكثير. فهو لا ينكر «نظريا» لا واقع أن الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية ولا واقع أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها. ولكن يُغفل ويُطمس الأمر التالي: إذا كانت الدولة نتاج استعصاء التناقضات الطبقية، وإذا كانت قوة فوق المجتمع و«تنفصل عن المجتمع أكثر فأكثر»، فمن الواضح أن تحرير الطبقة المظلومة لا يمكن ليس بدون ثورة عنيفة وحسب، بل أيضاً بدون القضاء على جهاز سلطة الدولة الذي أنشأته الطبقة السائدة والذي يتجسد فيه هذا «الانفصال». إن هذا الاستنتاج، البديهي من الناحية النظرية، قد وصل إليه ماركس بأتم الدقة، كما سنرى فيما يأتي، على أساس تحليل تاريخي ملموس لواجبات الثورة. وقد… «نسي» كاوتسكي وشوه هذا الاستنتاج عينه، وسنتبين ذلك بالتفصيل فيما يأتي من البحث
2-فصائل خاصة من رجال مسلحين، وسجون، الخ.
يستطرد انجلس قائلا: «…وبالمقارنة مع التنظيم «الجنسي» القديم (العشائري أو القبلي) تتميز الدولة، أولاً بتقسيم رعايا الدولة بموجب تقسيم الأراضي…»
وهذا التقسيم يبدو لنا «طبيعياً»، ولكنه قد تطلب نضالا طويلا ضد التنظيم القديم على أساس القبائل أو العشائر.
«… والسمة المميزة الثانية هي تأسيس السلطة العامة التي لم تعد تنسجم مباشرة مع السكان المنظمين أنفسهم بأنفسهم في قوة مسلحة. وهذه السلطة العامة المميزة ضرورية لأن منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها غدت أمرا مستحيلا منذ انقسام المجتمع إلى طبقات… وتوجد هذه السلطة العامة في كل دولة. وهي لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجون ومختلف مؤسسات القسر التي كانت معدومة في المجتمع المنظم على أساس القبائل (العشائر)…»
إن انجلس يشرح مفهوم «القوة» التي تسمى الدولة، القوة التي نشأت في المجتمع، ولكنها تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر. مم تتألف هذه القوة بصورة رئيسية؟ من فصائل خاصة من رجال مسلحين تحت تصرفهم السجون والخ..
يحق لنا أن نتحدث عن فصائل خاصة من رجال مسلحين لأن السلطة العامة الملازمة لكل دولة «لا تنسجم مباشرة» مع السكان المسلحين، مع «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها».
إن انجلس، شأن جميع المفكرين الثوريين العظام، يسعى ليلفت أنظار العمال الواعين إلى ما يبدو بالضبط في نظر الذهنية البرجوازية الصغيرة السائدة أقل ما يستحق الإنتباه، إلى أكثر ما يبدو لها مألوفا، مقدسا بأوهام متأصلة، بله يمكن القول، متحجرة. الجيش الدائم والشرطة هما الأداتان الرئيسيتان لقوة سلطة الدولة. ولكن كيف يمكن، يا ترى، أن يكون الأمر على غير ذلك؟
لا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك من وجهة نظر الأكثرية الساحقة من أوروبيي أواخر القرن التاسع عشر الذين توجه إليهم انجلس والدين لم يعيشوا ولم يشاهدوا عن كثب أية ثورة كبرى. فهم لا يفهمون أبدا ما هي «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وعلى السؤال: لماذا غدا من الضروري وجود فصائل خاصة من رجال مسلحين الشرطة والجيش النظامي) توضع فوق المجتمع وتنفصل عنه، يميل التافه الضيق الأفق في أوروبا الغربية وروسيا إلى الجواب بجملة من عبارات مقتبسة من سبنسر أو ميخايلوفسكي، مستشهدا بتعقد الحياة الإجتماعية، بتمايز الوظائف وهلم جراً.
وهذا الاستشهاد يبدو «عملياً» وهو ينوم بصورة ممتازة ذا الذهنية البرجوازية الصغيرة بطمسه الأمر الرئيسي والأساسي، أي انقسام المجتمع إلى طبقات متعادية عداء مستعصياً.
ولو لا هذا الانقسام لكانت «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها» تتميز بتعقيدها ورقي عتادها وغير ذلك عن منظمة بدائيين أو الناس المنظمين في مجتمعات قبائلية، ولكن مثل هذه المنظمة تكون أمرا ممكنا.
ولكنها أمر مستحيل لأن المجتمع المتمدن منقسم إلى طبقات متعادية عداء مستعصيا يسفر تسلحها «العامل من تلقاء نفسه» عن تقاتلها بالسلاح. تتشكل الدولة وتنشأ قوة خاصة، فصائل خاصة من رجال مسلحين؛ وكل ثورة، بهدمها لجهاز الدولة، ترينا النضال الطبقي المكشوف، ترينا رأي العين كيف تحاول الطبقة السائدة أن تبعث ما في خدمتها هي من الفصائل الخاصة من الرجال المسلحين وكيف تحاول الطبقة المظلومة إنشاء منظمة جديدة من هذا النوع، كفوءا لا لخدمة المستثمِرين، بل المستثمَرين.
في الفقرة المذكورة يطرح انجلس نظرياً نفس المسألة التي تطرحها أمامنا كل ثورة كبرى عمليا، بجلاء، وفي نطاق عمل الجماهير، نعني مسألة العلاقات بين الفصائل «الخاصة» من الرجال المسلحين و«منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وسنرى كيف تتوضح هذه المسألة عمليا بتجربة الثورات الأوروبية والروسية.
ولكن لنعد إلى مبحث انجلس.
إنه يبين أن هذه السلطة العامة تكون ضعيفة أحيانا، في بعض مناطق أمريكا الشمالية مثلاً (يدور الحديث عن حالات نادرة في المجتمع الرأسمالي، وعن مناطق أمريكا الشمالية في عهد ما قبل الإمبريالية، حيث كان يهيمن المعمر الحر). ولكنها، عموما، تتقوى:
«… تتقوى السلطة العامة بمقدار ما تتفاقم التناقضات الطبقية في داخل الدولة وبمقدار ما تزداد الدول المتلاصقة مساحة وسكاناً. لأنظروا على الأقل إلى أوروبا الراهنة حيث رفع النضال الطبقي والتنافس على الفتوحات السلطة العامة إلى مستوى غدت معه تهدد بابتلاع المجتمع برمته بما فيه الدولة نفسها…» لقد كتب هذا في تاريخ لا يتجاوز مستهل سنوات العقد العاشر من القرن الماضي. فمقدمة انجلس الأخيرة مؤرخة في 16 يونيو 1891. في ذلك الحين كان الانعطاف نحو الإمبريالية –بمعنى سيطرة التروستات سيطرة تامة وبمعنى حول وطول البنوك الكبرى وبمعنى عظمة نطاق السياسة الاستعمارية، الخ.- قد بدأ لتوه في فرنسا، وكان أضعف في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا. ومنذ ذلك الحين خطا «التنافس على الفتوحات» خطوة كبرى إلى الأمام، لا سيما والكرة الأرضية قد ظهرت في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين مقتسمة نهائياً بين هؤلاء «الفاتحين المتنافسين»، أي بين الدول السلابة الكبرى. ومنذ ذلك الحين ازداد التسلح العسكري والبحري ازدياداً هائلاً وحرب النهب، حرب سنوات 1914-1918 التي اندلعت من أجل سيطرة إنجلترا أو ألمانيا على العالم، من أجل اقتسام الغنيمة، قد قربت من الكارثة التامة «ابتلاع» جميع قوى المجتمع من قبل سلطة دولة ضاربة.
لقد استطاع انجلس أن يبين منذ سنة 1891 أن «التنافس على الفتوحات» هو سمة من السمات الهامة المميزة لسياسة الدول الكبرى في الحقل الخارجي، في حين أن أنذال الاشتراكية-الشوفينية يعمدون في سنوات 1914-1918، عندما كان هذا التنافس بالذات المشتد أضعافاَ مضاعفة قد أسفر عن الحرب الإمبريالية، إلى تستير المصالح الاغتصابية لبرجوازيتـ«هم» بعبارات «الدفاع عن الوطن» و«الدفاع عن الجمهورية والثورة» وما شاكل!
3-الدولة أداة لاستثمار الطبقة المظلومة
للإنفاق على سلطة عامة مميزة تقف فوق المجتمع تلزم الضرائب وتلزم ديون الدولة.
لقد كتب انجلس: « إن الموظفين،إذ يتمتعون بالسلطة العاملة وبحق جباية الضرائب يصحبون، باعتبارهم هيئات المجتمع، فوق المجتمع. فالاحترام الطوعي الاختياري الذي كان يمحض لهيئات مجتمع القبائل (العشائر) لم يعد يكفيهم حتى فيما لو كان باستطاعتهم اكتسابه…». وتوضع قوانين خاصة بشأن قداسة وحصانة الموظفين. «فلأحقر شرطي» «سلطان» يفوق سلطان ممثلي العشيرة، ولكن رئيس السلطة العسكرية نفسه في دولة متمدنة يغبط شيخ العشيرة الذي يمحضه المجتمع «احتراما لم يفرض بالعصا».
لقد طرحت هنا مسألة وضع الموظفين الممتازين باعتبارهم هيئات سلطة الدولة. والأمر الرئيسي هو أن نعلم: ما الذي يضعهم فوق المجتمع؟ وسنرى كيف حلت كومونة باريس عمليا في سنة 1871 هذه المسألة النظرية وكيف طمسها كاوتسكي رجعيا في سنة 1912.
«… بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات؛ وبما أنها نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسيا أيضا وتكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستمرارها…». فالدولة القديمة والدولة الإقطاعية لم تكونا وحدهما هيئتين لاستثمار العبيد والأقنان، بل كذلك «الدولة التمثيلية الحديثة هي أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. ومع ذلك فثمة، كحالات استثنائية، مراحل تبلغ فيها الطبقات المتصارعة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعا من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهرا وسيطا بينهما…» ومن هذا القبيل كان الحكم الملكي المطلق في القرنين السابع عشر والثامن عشر والبونابرتية في الإمبراطوريتين الأولى والثانية في فرنسا وبيسمارك في ألمانيا.
ومن هذا القبيل –نضيف نحن- حكومة كرينسكي في روسيا الجمهورية بعد الإنتقال إلى ملاحقة البروليتاريا الثورية، في البرهة التي كانت فيها السوفييتات قد غدت عاجزة من جراء قيادة الديموقراطيين صغار البرجوازيين ولم تكن فيها البرجوازية بعد قوية لحد يمكن من حل السوفييتات على المكشوف.
في الجمهورية الديموقراطية –يستطرد إنجلس- «تمارس الثورة سلطتها بصورة غير مباشرة، ولكن بالشكل الأضمن» :أولاً، عن طريق «الرشوة المباشرة للموظفين» (أمريكا) وثانيا، عن طريق «التحالف بين الحكومة والبورصة»(فرنسا وأمريكا).
وفي الوقت الحاضر «رقت» الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أية جمهورية ديموقراطية كانت. فإذا كان السيد بالتشينسكي، مثلاً، عندما كانت الجمهورية الديموقراطية بروسيا في أشهرها الأولى بالذات –ويمكن القول في شهر العسل لقران «الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية، وإذا كان السيد باتشينسكي الذي خرج من الوزارة فيما بعد (واستعيض عنه أيضا بباتشينسكي آخر لا يختلف عنه في شيء) قد «كوفئ» من قبل الرأسماليين بمنصب راتبه 120 ألف روبل في السنة- فبمَ يوصف ذلك؟ أهو رشوة مباشرة أم غير مباشرة؟ أهو تحالف الحكومة مع سنديكات الرأسماليين أم علاقات ودية «فقط لا غير»؟ وما هو الدور الذي يلعبه تشيرنوف وتسيرتيلي وافكسنتييف وسكوبيليف ومن على شاكلتهم؟ أهم حلفاء «مباشرون» لأصحاب الملايين سارقي الخزينة، أم غير مباشرين وحسب؟
إن سلطان «الثورة» هو كذلك أضمن في ظل الجمهورية الديموقراطية لأنه لا يتوقف على هذه النواقص أو تلك للآلية السياسية وعلى غلاف الرأسمالية السياسي الرديء. فالجمهورية الديموقراطية هي أحسن غلاف سياسي ممكن للرأسمالية، ولذا فرأي المال، إذ يستولي على هذا الغلاف الأفضل (عن طريق بالتشينسكي ةتشيرنوف وتسيريتيلي ومن لف لفهم) يقيم سلطته على أساس مكين، على أساس مضمون لحد لا يمكن لأي تبديل في الأشخاص ولا في المؤسسات ولا في الأحزاب في الجمهورية البرجوازية الديموقراطية أن يزعزع هذه السلطة.
كذلك يجدر بالذكر أن إنجلس يصف بصورة جلية قاطعة حق الإنتخاب العام أيضا بأنه أداة لسيادة البرجوازية. فقد قال آخذا بعين الإعتبار بصورة جلية الخبرة التي اكتسبتها الاشتراكية الديموقراطية الألمانية خلال وقت طويل أن حق الإنتخاب العام هو «دليل نضج الطبقة العاملة. ولا يمكنه أن يكون ولن يكون أبدا أكثر من ذلك في الدولة الراهنة».
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أشباه الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة في بلادنا ، وكذلك أشقاءهم، جميع الاشتراكيين-الشوفينيين في أوروبا الغربية، ينتظرون من حق الإنتخاب العام «أكثر» من ذلك بالضبط. إنهم يؤمنون هم أنفسهم ويوهمون الشعب بفكرة مغلوطة مفادها أن حق الانتخاب العام «في الدولة الراهنة» يستطيع أن يظهر في الواقع إرادة أكثرية الشغيلة وأن يضمن تطبيقها.
لا يسعنا هنا غير الإيماء إلى هذه الفكرة المغلوطة، غير الإشارة إلى أن تصريح انجلس الجلي والدقيق والملموس تماما تشوهه في كل لحظة دعاية وتحريض الاحزاب الاشتراكية «الرسمية» (أي الانتهازية). فتتمة عرضنا لنظرية ماركس وانجلس عن الدولة «الراهنة» تبين بالتفصيل مبلغ البطلان في الفكرة التي ينبذها هنا إنجلس.
يعطي إنجلس في أوسع مؤلفاته انتشارا خلاصة عامة لنظراته بالعبارات التالية:
«وهكذا، فالدولة لم توجد منذ الأزل. فقد وجدت مجتمعات كانت في غنى عن الدولة ولم يكن لديها أية فكرة عن الدولة وسلطة الدولة. وعندما بلغ التطور الاقتصادي درجة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات، غدت الدولة بحكم هذا الانقسام أمرا ضروريا. ونحن نقترب الآن بخطوات سريعة من درجة في تطور الإنتاج لا يكف عندها وجود هذه الطبقات عن أن يكون ضرورة وحسب، بل يصبح عائقا مباشرا للإنتاج. ستزول الطبقات بالضرورة كما نشأت في الماضي بالضرورة. ومع زوال الطبقات ستزول الدولة بالضرورة. والمجتمع الذي ينظم الإنتاج تنظيما جديدا على أساس اتحاد المنتجين بحرية وعلى قدم المساواة، سيرسل آلة الدولة بأكملها إلى حيث ينبغي أن تكون حينذاك: إلى متحف العادات بجانب المغزل البدائي والفأس البرونزية».
لا يصادف المرء هذا المقتبس إلاّ غرارا فيما تصدره الاشتراكية-الديموقراطية المعاصرة من مطبوعات الدعاية والتحريض. ولكن حتى عندما يصادف هذا المقتبس فإنما يوردونه في أغلب الأحيان وكأنهم ينحنون أمام أيقونة، أي للإفصاح الرسمي عن إجلال انجلس، دون أية محاولة لإمعان الفكر في مدى سعة وعمق نطاق الثورة الذي يفترضه «إرسال آلة الدولة بأكملها إلى متحف العادات». بل انه في الغالب لا يلاحظ أن ثمة فهما لما يسميه انجلس بآلة الدولة.
4-الثورة العنيفة و«اضمحلال» الدولة
إن كلمات إنجلس عن «اضمحلال» الدولة بدرجة من الشهرة، ويُستشهد بها بدرجة من التكرار، تبين كنه تكييف الماركسية المعتاد تبعا للانتهازية بدرجة من الوضوح بحيث أنه لابد من تناولها بإسهاب. فلنورد كامل الفقرة التي اقتبست منها:
«تأخذ البروليتاريا سلطة الدولة وتحول وسائل الانتاج قبل كل شيء إلى ملك الدولة. ولكنها تقضي على نفسها بوصفها بروليتاريا، تقضي بذلك على كل الفوارق الطبقية وجميع المتضادات الطبقية وعلى لدولة في الوقت نفسه بوصفها دولة. إن المجتمع الذي وجد ولا يزال والذي يتحرك ضمن المتضادات الطبقية كان بحاجة إلى الدولة، أي إلى منظمة للطبقة المستثمِرة قسرا في ظروف القمع الناجمة عن أسلوب الانتاج القائم (العبودية، القنانة، العمل المأجور). لقد كانت الدولة الممثل الرسمي للمجتمع بأكمله، تركزه في جسم منظور، ولكنها لم تكن كذلك إلاّ بمقدار ما كانت دولة تلك الطبقة التي كانت وحدها تمثل في عصرها المجتمع بأكله: في العصور القديمة كانت دولة ملاكي العبيد –مواطني الدولة، وفي القرون الوسطى كانت دولة الأعيان الإقطاعيين، أخيرا، ممثل المجتمع بأكمله حقا، أية طبقة اجتماعية ينبغي قمعها؛ وعندما تزول مع السيطرة الطبقية ومع الفوضى الراهنة في الإنتاج، تلك الاصطدامات وأعمال الشطط (التطرف) الناتجة عن هذا الصراع، لا يبقى هناك ما ينبغي قمعه، ولا تبقى أيضا ضرورة لقوة خاصة للقمع، للدولة. وأول عمل تبرز فيه الدولة حقا بوصفها ممثل المجتمع بأكمله –تملك وسائل الانتاج باسم المجتمع- هو في الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة، وعندئد يصبح تدخل الدولة في العلاقات الإجتماعية أمرا لا لزوم له في ميدان بعد آخر ويخبو من نفسه. وبدلا من حكم الناس «تلغى» إنها تضمحل. وعلى هذا الأساس ينبغي تقييم عبارة «الدولة الشعبية الحرة»، هذه العبارة التي كان لها حق البقاء بعض الوقت للتحريض ولكنها باطلة في آخر التحليل من وجهة النظر العملية. وعلى هذا الأساس ينبغي كذلك تقييم مطلب من يسمون بالفوضويين القائل بإلغاء الدولة بين عشية وضحاها» («ضد دوهرينغ». «السيد أوجين دوهرينغ يقلب العلم»، ص 301-303، الطبعة الألمانية الثانية).
بوسعنا أن نقول دون أن نخشى الزلل أن الصيغة القائلة أن الدولة «تضمحل»، برأي ماركس وخلافا للنظرية الفوضوية القائلة بـ«إلغاء» الدولة، هي كل ما تبقى من فقرة انجلس هذه الغنية جداً بالأفكار، مكتسبا حقا للفكر الاشتراكي في الأحزاب الاشتراكية الراهنة. إن بتر الاشتراكية بهذا الشكل يعني الهبوط بها إلى حضيض الانتهازية، إذ أن كل ما تبقى بعد هذا «التأويل» هو تصور مبهم عن تغير بطيء، موزون، تدريجي، عن انعدام القفز والأعاصير، عن انعدام الثورة. إن مفهوم «اضمحلال» الدولة بالمعنى الشائع، المنتشر عموما والجماهيري، إن أمكن التعبير، يعني دون شك طمس الثورة إن لم يكن إنكارها.
بيد أن هذا «التأويل» هو تشويه فظ جدا للماركسية، مفيد للبرجوازية وحدها، ويقوم نظريا على نسيان ظروف واعتبارات هامة للغاية ذكرت مثلا في فقرة انجلس «التلخيصية» التي أوردناها كاملة.
أولا. في مستهل هذه الفقرة بالذات يقول إنجلس أن البروليتاريا، إذ تأخذ سلطة الدولة، «تقضي بذلك على الدولة بوصفها دولة». أما معنى ذلك بصورة تامة أو يعزى إلى شيء ما بمثابة «ضعف هيغلي» عند إنجلس. وفي الواقع تعرب هذه الكلمات باقتضاب عن خبرة ثورة من أكبر الثورات البروليتارية، عن خبرة كومونة باريس 1871، الأمر الذي سنتحدث عنه بتفصيل في مكانه. هنا يتحدث إنجلس في الواقع عن «قضاء» الثورة البروليتارية على دولة البرجوازية، في حين أن ما قاله عن الاضمحلال يخص بقايا الدولة البروليتارية بعد الثورة الاشتراكية. الدولة البرجوازية لا «تضمحل» برأي إنجلس، ولكن «تقضي عليها» البروليتاريا في الثورة. تضمحل بعد هذه الثورة الدولة البروليتارية أو شبه الدولة.
ثانيا. الدولة هي «قوة خاصة للقمع». إن إنجلس قد أعطى هنا بأتم الوضوح تعريفه الرائع هذا والعميق منتهى العمق. ويستنتج منه أن «القوة الخاصة لقمع» البروليتاريا من قبل البرجوازية، قمع الملايين من الشغيلة من قبل حفنات من الأغنياء لا بد أن يستعاض عنها بـ«القوة الخاصة لقمع» البرجوازية من قبل البروليتاريا (ديكتاتورية البروليتاريا). وفي هذا كنه «القضاء على الدولة بوصفها دولة». وفي هذا كنه «عملية» تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع. ومن الواضح بداهة أن مثل هذه الاستعاضة عن «قوة خاصة» (برجوازية) بـ«قوة خاصة» أخرى (بروليتارية) لا يمكنها بتاتا أن تتم بشكل «اضمحلال».
ثالثا. يتكلم إنجلس عن «اضمحلال» أو حتى، وهو تعبير أبرز وأجمل، عن «الخبو» قاصدا بأتم الوضوح والجلاء مرحلة ما بعد «تملك الدولة لوسائل الإنتاج باسم المجتمع كله»، أي مرحلة ما بعد الثورة الاشتراكية. ونحن جميعا نعلم أن الشكل السياسي «للدولة» في هذه المرحلة هو الديموقراطية الأتم. ولكن لم يدر في خلد أحد من الانتهازيين الذين يشوهون الماركسية دونما خجل أن الحديث يدور هنا عند انجلس، بالتالي، عن «خبو» و«اضمحلال» الديموقراطية. ويبدو ذلك لأول وهلة في منتهى الغرابة. ولكن «لا يستطيع أن يفهم ذلك» غير الذين لم يصل بهم تفكيرهم إلى أن الديموقراطية هي أيضا دولة وأن الديموقراطية تزول هي أيضا، تبعا لذلك، عندما تزول الدولة. الدولة البرجوازية لا يستطيع «القضاء» عليها غير الثورة. والدولة بوجه عام، أي الديموقراطية الأتم، يمكنها أن «تضمحل» وحسب.
رابعا. صاغ انجلس موضوعته المشهورة: «الدولة تضمحل» شارحا بصورة مباشرة وملموسة أن هذه الموضوعة موجهة في وقت معا ضد الانتهازيين وضد الفوضويين. هذا وقد وضع انجلس في المقام الأول الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين والمستخلص من موضوعة «إضمحلال الدولة».
بإمكان المرء أن يراهن أن 9990 من 10000 شخص قرأوا أو سمعوا عن «إضمحلال» الدولة لا يعرفون بتاتا أو لا يدركون أن انجلس يوجه استنتاجاته من هذه الموضوعة ليس فقط ضد الفوضويين، وعلى أن تسعة من الأشخاص العشرة الباقين لا يعرفون، أغلب الضن، ما هي «الدولة الشعبية الحرة» ولماذا يتضمن الهجوم على هذا الشعار هجوما على الإنتهازيين. هكذا يُكتب التاريخ! وهكذا يجري بصورة غير ملحوظة تحوير التعاليم الثورية العظمى تبعا لروح التفاهة وضيق الأفق السائدة. فإن الاستنتاج الموجه ضد الفوضويين قد كرر ألف مرة، وحقر وحشي في الرؤوس بالشكل الأكثر ابتذالا واكتسب متانة الأوهام. أمّا الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين فقد طمسوه و«نسوه»!
«الدولة الشعبية الحرة» كانت مطلبا في برنامج الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان في سنوات العقد الثامن وشعارا من شعاراتهم الشائعة. هذا الشعار خال من كل مضمون سياسي عدا الوصف البرجوازي الصغير الطنان لمفهوم الديموقراطية. ولما كانوا يلمحون علنا في هذا الشعار إلى الجمهورية الديموقراطية كان إنجلس مستعدا «لتبريره» «بعض الوقت» من وجهة نظر التحريض. ولكن هذا الشعار كان انتهازيا، لأنه لم يفصح فقط عن تجميل الديموقراطية البرجوازية، بل وكذلك عن عدم فهم النقد الاشتراكي لكل دولة بوجه عام. نحن نؤيد الجمهورية الديموقراطية لأنها بالنسبة إلى البروليتاريا الشكل الأفضل للدولة في عهد الرأسمالية، ولكن لا يحق لنا أن ننسى أن عبودية العمل المأجور هي نصيب الشعب حتى في الجمهورية البرجوازية الأكثر ديموقراطية. وبعد. إن كل دولة هي «قوة خاصة لقمع» الطبقة المظلومة. ولذا فكل دولة ليست حرة وليست شعبية. وقد شرح ماركس وإنجلس ذلك مرارا وتكرارا لرفاقهما الحزبيين في سنوات العقد الثامن.
خامسا. إن مؤلف إنجلس ذاته الذي يتذكر منه الجميع المحاكمة بصدد اضمحلال الدولة يتضمن محاكمة بصدد أهمية الثورة العنيفة. فالتقدير التاريخي لدورها يتحول عند إنجلس إلى تقريظ حق للثورة العنيفة. و«ما من أحد يذكر» ذلك. فالحديث بله مجرد التفكير بأهمية هذه الفكرة غير مألوف في الأحزاب الاشتراكية الحالية، وفي الدعاية والتحريض اليوميين بين الجماهير ليس لهذه الأفكار أي دور. هذا في حين أنها تقترن بفكرة «اضمحلال» الدولة اقترانا وثيقا، وتكون معها كلاً متراصا.
وها هي ذي محاكمة إنجلس هذه:
«… أما أن العنف يلعب في التاريخ كذلك دورا آخر» (عدا ما يسبب من شر) «وبالضبط دورا ثوريا، وأنه، كما قال ماركس، المولدة لكل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد، وأن العنف هو تلك الأداة التي تشق الحركة الاجتماعية بواسطتها لنفسها الطريق وتحطم الأشكال السياسية المتحجرة والميتة –عن كل ذلك لم ينبس السيد دوهرينغ بكلمة. إنه يسلم فقط، مع إطلاق الزفرات والأنات، بأن إسقاط السيطرة القائمة على الاستثمار قد يتطلب عنف. ويا للأسف لأن كل استعمال للعنف يضعف، كما قال، معنويات من يلجأ إليه. وذلك يقال رغم ما نعلم من مبلغ النهوض الأخلاقي والفكري الذي كان ينجم عن كل ثورة ظافرة! وذلك يقال في ألمانيا حيث من شأن الاصطدام العنيف، الذي قد يفرض على الشعب ، أن يتسم، على أقل تقدير، بمزية استئصال روح الخنوع التي تغلغلت في وعي الأمة من جراء إهانات حرب الثلاثين سنة. إن تفكير الخوارنة هذا، السقيم الهزيل العاجز، يجرأ على فرض نفسه على الحزب الذي لم يعرف التاريخ مضارعا لروحه الثورية!» (ص 193، حسب الطبعة الألمانية الثالثة، نهاية الفصل الرابع من القسم الثاني).
وكيف السبيل إلى الجمع في تعاليم واحدة بين هذا التقريظ للثورة العنيفة، الذي ظل إنجلس يقدمه بإلحاح للاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان من سنة 1878 حتى سنة 1894، أي حتى وفاته، بين نظرية «اضمحلال» الدولة؟
في المعتاد يجمعون بين هذه وتلك جمعا اختياريا، عن طريق الاقتطاف الكيفي غير المبدئي والسفسطائي (أو لإرضاء القابضين على السلطة) لهذه الموضوعة طورا وصورا لتلك، علما بأنه في تسع وتسعون حالة من مائة، إن لم يكن أكثر، يوضع «الاضمحلال» بالذات في المقام الأول. يستعاض عن الدياليكتيك بالمذهب الإختياري، وهذا التصرف حيال الماركسية هو الظاهرة المألوفة للغاية والأوسع انتشارا في الأدب الاشتراكي-الديموقراطي الرسمي في أيامنا. وهذه الاستعاضة ليست طبعا ببدعة مستحدثة، فقد لوحظت حتى في تاريخ الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. أن إظهار الإختيارية بمظهر الدياليكتيك في حالة تحوير الماركسية تبعا للانتهازية، يخدع الجماهير بأسهل شكل، يرضيها في الظاهر، إذ يبدو وكأنه يأخذ بعين الإعتبار جميع نواحي العملية، جميع اتجاهات التطور، جميع المؤثرات المتضادة الخ.، ولكنه في الواقع لا يعطي أي فكرة منسجمة وثورية عن عملية تطور المجتمع.
لقد قلنا فيما تقدم وسنبين بمزيد من التفاصيل فيما يأتي من البحث أن تعاليم ماركس وإنجلس بصدد حتمية الثورة العنيفة تتعلق بالدولة البرجوازية. فهذه لا يمكن الاستعاضة عنها بدولة بروليتارية (ديكتاتورية البروليتاريا) عن طريق «الإضمحلال»، لا يمكن، كقاعدة عامة، إلاّ بالثورة العنيفة. فالتقريظ الذي خصها به انجلس والذي يتفق كل الاتفاق مع تصريحات ماركس العديدة (فلنتذكر خاتمة «بؤس الفلسفة» وخاتمة «البيان الشيوعي» حيث ينادي باعتزاز وعلى المكشوف بحتمية الثورة العنيفة، ولنتذكر انتقاد برنامج غوتا سنة 1875، الذي جاء بعد نحو ثلاثين سنة، والذي قرّع فيه ماركس انتهازية هذا البرنامج دون رحمة، -إن هذا التقريظ ليس قط من قبيل «الكلف»، ليس قط من قبيل بهرج الكلام، ولا من قبيل الحماسة في الجدال، إن ضرورة تربية الجماهير بصورة دائمة بروح هذه النظرة وهذه النظرة بالذات للثورة العنيفة هي أساس تعاليم ماركس وإنجلس بأكملها. وخيانة تعاليمهما من قبل التيارين الاشتراكي-الشوفيني والكاوتسكي السائدين اليوم تتجلى بوضوح خاص في نسيان هؤلاء وأولئك لهذه الدعاية، لهذا التحريض.
إن الإستعاضة عن الدولة البرجوازية بدولة بروليتارية لا يمكن بدون ثورة عنيفة. والقضاء على الدولة البرجوازية، أي على كل دولة، لا يمكن عن غير طريق «الاضمحلال».
لقد طور ماركس وإنجلس هذه النظرات بصورة مفصلة وملموسة دارسين كل وضع ثوري بعينه ومحللين عبر خبرة كل ثورة بعينها. وها نحن ننتقل إلى هذا القسم من تعاليمهماوهو دون شك أهم أقسامها.
الفصل الثاني
الدولة والثورة. خبرة سنوات 1848-1851
1- عشية الثورة
إن «بؤس الفلسفة» و«البيان الشيوعي»، وهما باكورتا الماركسية الناضجة، يعودان بالضبط لعشية ثورة سنة 1848. وبحكم هذا الواقع نجد فيهما لحد ما، إلى جانب بسط الأسس العامة للماركسية، انعكاسا للوضع الثوري الملموس القائم آنذاك، ولذا ربما من الأصوب تحليل ما قاله مؤلفا هذين الكتابين عن الدولة مباشرة قبل بسطهما الاستنتاجات التي استخلصاها من خبرة سنوات 1848-1851.
قال ماركس في «بؤس الفلسفة»:
«… في مجرى التطور ستحل الطبقة العاملة محل المجتمع البرجوازي القديم رابطة لا مكان فيها للطبقات وتضادها؛ ولن تكون ثمة أي سلطة سياسية بمعنى الكلمة الخاص، لأن السلطة السياسية بالذات هي الافصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في قلب المجتمع البرجوازي» (ص 182 من الطبعة الألمانية لسنة 1885).
ومن المفيد أن نقارن هذا العرض العام لفكرة زوال الدولة بعد القضاء على الطبقات مع العرض الوارد في «البيان الشيوعي» الذي كتبه ماركس وإنجلس بعد عدة أشهر، أي في نوفمبر سنة 1848:
«…عندما وصفنا أعم المراحل في تطور البروليتاريا، تتبعنا الحرب الأهلية المستترة لهذا الحد أو ذاك والجارية في المجتمع إلى الحد الذي تنقلب معه إلى ثورة مكشوفة وتؤسس فيه البروليتاريا سيادتها عن طريق اسقاط البرجوازية بالعنف…
… رأينا فيما تقدم أن الخطوة الأولى في الثورة العالمية هي تحول» (حرفيا: ترفي) «البروليتاريا إلى طبقة سائدة، الظفر بالديموقراطية.
تستفيد البروليتاريا من سيادتها السياسية لكينا تنتزع بالتدريج من البرجوازية كامل رأس المال وتمركز جميع أدوات الإنتاج في يد الدولة، أي في يد البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة ولكيما تزيد بأسرع ما يمكن القوى المنتجة» (ص31-37 من الطبعة الألمانية السابقة لسنة 1906).
نرى هنا صيغة لفكرة من أروع وأهم الأفكار الماركسية في مسألة الدولة، أي فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا» (كما غدا ماركس وانجلس يقولان بعد كومونة باريس)، ثم تعريفا للدولة في منتهى الأهمية أيضا في عداد «ما نسي من كلمات» الماركسية. «الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
إن تعريف الدولة هذا، عدا أنه لم يشرح قط في مطبوعات الدعاية والتحريض المسيطرة الصادرة عن الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية، قد نسى، فضلا عن ذلك، بالضبط لأن التوفيقي بينه وبين الإصلاحية لا يمكن بوجه، ولأنه يفقأ عين الأوهام الانتهازية والبورجوازية الصغيرة المعتادة بصدد «تطور الديموقراطية السلمي».
البروليتاريا بحاجة إلى دولة –هذا ما يكرره جميع الإنتهازيين، والاشتراكيين-الشوفينيين والكاوتسكيين، مؤكدين أن هذه هي تعاليم ماركس و«ناسين» أن يضيفوا، أولا، أن البروليتاريا، برأي ماركس، ليست بحاجة إلاّ إلى دولة في طريق الاضمحلال، أي مبنية بشكل تأخذ معه بالاضمحلال على الفور ولا مندوحة لها معه من أن تضمحل. وثانيا، أن الشغيلة بحاجة إلى «دولة»، «أي إلى البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
الدولة هي نوع خاص من تنظيم للقوة، هي تنظيم للعنف بقصد قمع طبقة من الطبقات. فأية طبقة ينبغي للبروليتاريا أن تقمعها؟ بطبيعة الحال ينبغي لها أن تقمع الطبقة المستثمِرة وحدها، أي البرجوازية. إن الشغيلة ليسوا بحاجة إلى الدولة إلاّ لقمع مقاومة المستثمِرين، ولا يقدر على قيادة هذا القمع، على تطبيقه عموما، غير البروليتاريا بوصفها الطبقة الوحيدة الثورية حتى النهاية، الطبقة الوحيدة الكفء لتوحيد جميع الشغيلة والمستثمَرين من أجل النضال ضد البرجوازية، من أجل إسقاطها تماما.
تحتاج الطبقات المستثمِرة إلى السيادة السياسية للإبقاء على الاستثمار، أي من أجل المصالح الأنانية للأقلية الضئيلة وضد الأكثرية الساحقة من الشعب وضد الأقلية الضئيلة من ملاكي العبيد المعاصرين، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين.
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أدعياء الاشتراكية هؤلاء، الذين استعاضوا عن النضال الطبقي بأحلام عن التوفيق بين الطبقات، تصوروا كذلك التحويل الاشتراكي بصورة خيالية، لا بصورة إسقاط سيادة الطبقة المستثمِرة، بل بصورة خضوع الأقلية بشكل سلمي للأكثرية المدركة لواجباتها. وهذه الطوباوية البرجوازية الصغيرة المرتبطة ارتباطا لا تنفصم عراه بالاعتراف بوجود دولة قائمة فوق الطبقات قد أفضت عمليا إلى خيانة مصالح الطبقات الكادحة، كما بين ذلك مثلا تاريخ ثورتي 1848 و1871 الفرنسيتين وكما بينت خبرة الاشتراك «الاشتراكي» بالوزارات البرجوازية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من البلدان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
لقد ناضل ماركس طيلة حياته ضد هذه الاشتراكية البرجوازية الصغيرة التي بعثها الآن في روسيا حزبا الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة. وقد طور ماركس باستقامة نظرية النضال الطبقي بما في ذلك نظرية السلطة السياسية، نظرية الدولة.
إن إسقاط سيادة البرجوازية لا يمكن إلاّ من جانب البروليتاريا باعتبارها طبقة خاصة تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لهذا الإسقاط وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تجزئ البرجوازية وتبعثر الفلاحين وجميع الفئات البرجوازية الصغيرة ترص البروليتاريا وتوحدها وتنظمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم، هي الوحيدة الكفء لتكون زعيما لجميع جماهيرالشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم البرجوازية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطا ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم.
إن تعاليم النضال الطبقي التي طبقها ماركس على مسألة الدولة وعلى مسألة الثورة الاشتراكية تفضي لا محالة إلى الاعتراف بسيادة البروليتاريا السياسية، بديكتاتوريتها، أي بسلطتها التي لا تقتسمها مع أحد والتي تستند مباشرة إلى قوة الجماهير المسلحة. إن إسقاط البرجوازية لا يمكن أن يتحدد عن غير طريق تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة قادرة على قمع ما تقوم به البرجوازية حتما من مقاومة مسعورة وعلى تنظيم جميع الجماهير الكادحة والمستثمَرة من أجل النظام الإقتصادي الجديد.
إلاّ أن البروليتاريا بحاجة إلى سلطة الدولة، أي إلى تنظيم القوة المتمركزة، إلى تنظيم العنف سواء لقمع مقاومة المستثمِرين أم لقيادة جماهير السكان الغفيرة من فلاحين وبورجوازية صغيرة وأشباه بروليتاريين في أمر «ترتيب» الاقتصاد الاشتراكي.
إن الماركسية، إذ تربي حزب العمال، تربي طليعة البروليتاريا الكفء لأخذ السلطة وللسير بكل الشعب إلى الاشتراكية ولتوجيه وتنظيم النظام الجديد ولتكوين معلماً وقائداً وزعيماً لجميع الشغيلة والمستثمَرين في أمر تنظيم حياتهم الاجتماعية بدون البرجوازية وضد البرجوازية. أمّا الإنتهازية السائدة اليوم، فإنها بالعكس تربي من حزب العمال جماعة منفصلة عن الجماهير تمثل العمال ذوي الأجور العليا الذين «يدبرون أمورهم» بصورة لا بأس بها في ظل الرأسمالية ويبيعون مقابل طبيخ من العدس حق الإبن البكر، أي أنهم يتخلون عن دور زعماء الشعب الثوريين في النضال ضد البرجوازية.
«الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة» -إن نظرية ماركس هذه ترتبط ارتباطا وثيقا بكامل تعاليمه عن دور البروليتاريا الثوري في التاريخ. وذروة هذا الدور هي ديكتاتورية البروليتاريا، سيادة البروليتاريا سياسيا.
ولكن، إذا كانت البروليتاريا بحاجة إلى الدولة بوصفها منظمة خاصة للعنف ضد البرجوازية، فمن هنا ينبثق تلقائياَ الاستنتاج التالي: هل من الممكن إنشاء مثل هذه المنظمة دون أن يسبق ذلك تحطيم وتدمير آلة الدولة التي أنشأتها البرجوازية لنفسها؟ هذا هو الاستنتاج الذي يسير بنا «البيان الشيوعي» مباشرة إليه وعن هذا الاستنتاج يتحدث ماركس ملخصاَ خبرة سنوات 1848-1851.
2-حاصل الثورة
في مسألة الدولة التي نحن بصددها لخص ماركس خبرة ثورة سنوات 1848-1851 في كتابه «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» بالعبارات التالية:
«… ولكن الثورة عميقة. إنها ما تزال في رحلة عبر المطهر. إنها تقوم بمهمتها بصورة منهاجية. فحتى الثاني من ديسمبر سنة 1851» (يوم قيام لويس بونابرت بالانقلاب) «أتمت نصف عملها التحضيري، وهي تتم الآن النصف الآخر. في البدء تسير بالسلطة البرلمانية إلى حد الكمال ليصبح بإمكانها اسقاطها. والآن، وقد بلغت ذلك، تسير بالسلطة التنفيذية إلى حد الكمال، تصل بها إلى تعبيرها الصرف، تجعلها في عزلة، تعرضها بنفسها باعتبارها الموضوع الوحيد لكيما تركز ضدها جميع قوى التدمير» (التشديد لنا). «وعندما تتم الثورة هذا النصف الثاني من عملها التحضيري، عندئذ تنهض أوروبا على قدميها وتهتف فرحة: ما أحسن ما تحفر أيها الخلد الهرم!.الدولة والثورة
تعاليم الماركسية حول الدولة، ومهمات البروليتاريا في الثورة
مقدمة الطبعة الأولى
في الوقت الحاضر تكتسب مسألة الدولة أهمية خاصة سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية السياسية. فالحرب الإمبريالية قد عجلت وشددت لأقصى حد سير تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية. والظلم الفظيع الذي تقاسيه جماهير الشغيلة من قبل الدولة التي تلتحم أوثق فأوثق باتحادات الرأسماليين ذات الحول والطول يغدو أفظع فأفظع. والبلدان المتقدمة –ونقصد «مؤخراتـ»ها- تتحول بالنسبة للعمال إلى سجون عسكرية للأشغال الشاقة.
إن الأهوال والنكبات المنقطعة النظير، الناجمة عن الحرب التي تستطيل، تجعل الجماهير في حالة لا تصدق وتشدد سخطها. إن الثورة البروليتارية العالمية تتصاعد بصورة بينة. ومسألة موقفها من الدولة تكتسب أهمية عملية.
إن عناصر الانتهازية التي تراكمت في غضون عشرات السنين من التطور السلمي نسبيا أنشأت تيار الاشتراكية-الشوفينية السائدة في الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم بأسره. وهذا التيار (بليخانوف، بوتروسوف، بريشكوفسكايا، روبانوفيتش، ثم المقنعون بقناع شفاف، السادة تسيريتيلي، تشيرنوف وشركاهما في روسيا؛ شيدمان، ليغين، دافيد وأضرابهم في ألمانيا؛ رينودل، غيد، فاندرفيلده في فرنسا وبلجيكا؛ هايندمان والفابيون في إنكلترا، وهلم جراً وهلم جراً)، وهو الاشتراكية قولاً والشوفينية فعلاً، يتميز بكون «زعماء الاشتراكية» يتكيفون بذلة وحقارة ليس فقط وفق مصالح برجوازيتـ«هم» الوطنية، بل، وعلى وجه الدقة، وفق مصالح دولتـ«هم»، إذ أن أكثرية ما يدعى بالدول الكبرى تستثمر وتستعبد منذ زمن طويل جملة من الشعوب الصغيرة والضعيفة. وما الحرب الإمبريالية سوى حرب من أجل اقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنيمة. والنضال من أجل تحرير جماهير الشغيلة من نفوذ البرجوازية بوجه عام والبرجوازية الإمبريالية بوجه خاص يستحيل بدون النضال ضد الأوهام الانتهازية بصدد «الدولة».
في البدء سننظر في تعاليم ماركس وإنجلس بشأن الدولة متناولين بإسهاب خاص ما نسي أو تعرض للتشويه الانتهازي من نواحي هذه التعاليم. وبعد ذلك سندرس بصورة خاصة الممثل الرئيسي لهذه التشويهات، كارل كاوتسكي، أشهر زعماء الأممية الثانية (سنوات 1889-1914) التي أفلست إفلاسا مشينا للغاية أثناء الحرب الراهنة. وسنستخلص في النهاية الاستنتاجات الرئيسية من خبرة الثورتين الروسيتين، ثورة سنة 1905 وثورة 1917 بوجه خاص. ويبدو أن هذه الأخيرة تنهي في الوقت الحاضر (أول غشت سنة1917) المرحلة الأولى من تطورها، ولكن هذه الثورة بأكملها لا يمكن فهمها بوجه عام إلاّ باعتبارها حلقة من حلقات سلسلة الثورات البروليتارية الاشتراكية التي تثيرها الحرب الإمبريالية. وهكذا، فإن مسألة موقف الثورة البروليتارية الاشتراكية من الدولة لا تكتسب أهمية سياسية عملية وحسب، بل تغدو كذلك مسألة ملحة من مسائل الساعة، باعتبارها مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير أن تفعله في المستقبل القريب للخلاص من نير رأس المال. المؤلف
غشت سنة 1917
مقدمة للطبعة الثانية
تصدر هذه الطبعة، الثانية، دون أي تغيير تقريبا، إذ لم يضف عليها غير المقطع الثالث في الفصل الثاني
المؤلف
موسكو.
17 ديسمبر 1918 .
الفصل الأول
المجتمع الطبقي والدولة
1-الدولة هي نتاج استعصاء التناقضات الطبقية
يحدث الآن لتعاليم ماركس ما حدث أكثر من مرة في التاريخ لتعاليم المفكرين الثوريين وزعماء الطبقات المظلومة في نضالها من أجل التحرر. ففي حياة الثوريين العظام كانت الطبقات الظالمة تجزيهم بالملاحقات الدائمة وتتلقى تعاليمهم بغيظ وحشي أبعد وحشية وحقد جنوني أبعد الجنون وبحملات من الكذب والافتراء وقحة أبعد القحة. وبعد وفاتهم تقوم محاولات لجعلهم أيقونات لا يرجى منها نفع أو ضر، لضمهم، إن أمكن القول، إلى قائمة القديسين، ولإحاطة أسمائهم بهالة ما من التبجيل بقصد «تعزية» الطبقات المظلومة وتخبيلها، مبتذلة التعاليم الثورية باجتثاث مضمونها وثلم نصلها الثوري. وفي أمر «تشذيب» الماركسية على هذا النحو تلتقي الآن البرجوازية والانتهازيون داخل الحركة العمالية. ينسون، يستبعدون، يشوهون الجانب الثوري من التعاليم، روحها الثورية. ويضعون في المقام الأول ويطنبون في امتداح ما هو مقبول للبرجوازية أو يبدو لها مقبولاً. فجميع الاشتراكيين-الشوفينيين هم الآن «ماركسيون»، بدون مزاح! والعلماء البرجوازيون الألمان الذين كانوا حتى الأمس متخصصين في استئصال الماركسية قد أخذوا يتحدثون أكثر فأكثر عن ماركس «ألماني وطني» ربّى على ما يزعمون اتحادات عمال منظمة خير تنظيم لشن حرب الغزو!
حيال هذا الوضع، حيال انتشار تشويه الماركسية انتشارا منقطع النظير، يتلخص واجبنا قبل كل شيء في بعث تعاليم ماركس الحقيقية بشأن الدولة. وهذا يقتضي إيراد جملة من فقرات طويلة تثقل البحث بطبيعة الحال دون أن تهمد البتة لجعله أقرب إلى الفهم. ولكن الاستغناء عنها أمر ليس في الإمكان بحال. ينبغي حتما أن نقيس في مؤلفات ماركس وانجلس وبأتم شكل ممكن جميع الفقرات المتعلقة بمسألة الدولة أو، على الأقل، جميع الفقرات الفاصلة، لكيما يتمكن القارئ من أن يكوّن لنفسه بصورة مستقلة فكرة عن مجمل نظريات مؤسسي الاشتراكية العلمية وعن تطور هذه النظريات، وكذلك لكيما نبرهن استنادا إلى الوثائق ونضج بجلاء تشويه هذه النظرات من قبل «الكاوتسكية» السائدة اليوم.
نبدأ من أوسع مؤلفات فريدريك إنجلس انتشارا: «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، هذا المؤلف الذي صدرت طبعته السادسة في سنة 1894 في شتوتغارت. ويتأتى علينا أن نترجم المقتبسات عن الأصل الألماني لأن التراجم الروسية، مع كثرتها، هي، في الأغلب، إمّا غير كاملة وإما مترجمة بصورة غير مرضية أبداً.
يقول إنجلس ملخصا نتائج تحليله التاريخي:
«الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وأنه قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر هي الدولة» (ص 177-178 من الطبعة الألمانية السادسة).
في هذه الفقرة قد أعرب بأتم الوضوح عن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي وشأنها. فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدر ما لا يمكن، موضوعيا، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها.
في هذه النقطة الأساسية والهامة جدا على وجه التدقيق يبدأ تشويه الماركسية الذي يتبع اتجاهين رئيسيين.
من جهة، الإيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الإيديولوجيون البرجوازيون الصغار، -المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمرا ممكنا. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق –الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! –الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفا اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.وهكذا، عندما طرحت في ثورة سنة 1917 مسألة شأن الدولة ودورها بكل خطورتها، عندما طرحت عمليا باعتبارها مسألة عمل مباشر وفي النطاق الجماهيري، انزلق جميع الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، جميعهم دفعة واحدة ودون تحفظ، نحو النظرية البرجوازية الصغيرة القائلة أن «الدولة» «توفق» بين الطبقات. القرارات والمقالات التي وضعها ساسة هذين الحزبين بعدد لا يحصى، تتخللها من ألفها إلى يائها هذه النظرية التافهة البرجوازية الصغيرة، نظرية «التوفيق». أمّا أن الدولة هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينهما وبين نقيضها (الطبقة المضادة لها)، فهذا ما لا تستطيع الديموقراطية البرجوازية الصغيرة فهمه بحال. والموقف الذي يقفه من الدولة الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة عندنا، هو دليل من أوضح الأدلة على أنهم ليسوا باشتراكيين قط (الأمر الذي كنا نحن البلاشفة نبرهنه على الدوام)، بل هم ديموقراطيون برجوازيون صغار ذوو عبارات تكاد تكون اشتراكية.ومن الجهة الأخرى التشويه «الكاوتسكي» للماركسية، وهو أحسن تقنيعا بكثير. فهو لا ينكر «نظريا» لا واقع أن الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية ولا واقع أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها. ولكن يُغفل ويُطمس الأمر التالي: إذا كانت الدولة نتاج استعصاء التناقضات الطبقية، وإذا كانت قوة فوق المجتمع و«تنفصل عن المجتمع أكثر فأكثر»، فمن الواضح أن تحرير الطبقة المظلومة لا يمكن ليس بدون ثورة عنيفة وحسب، بل أيضاً بدون القضاء على جهاز سلطة الدولة الذي أنشأته الطبقة السائدة والذي يتجسد فيه هذا «الانفصال». إن هذا الاستنتاج، البديهي من الناحية النظرية، قد وصل إليه ماركس بأتم الدقة، كما سنرى فيما يأتي، على أساس تحليل تاريخي ملموس لواجبات الثورة. وقد… «نسي» كاوتسكي وشوه هذا الاستنتاج عينه، وسنتبين ذلك بالتفصيل فيما يأتي من البحث
2-فصائل خاصة من رجال مسلحين، وسجون، الخ.
يستطرد انجلس قائلا: «…وبالمقارنة مع التنظيم «الجنسي» القديم (العشائري أو القبلي) تتميز الدولة، أولاً بتقسيم رعايا الدولة بموجب تقسيم الأراضي…»
وهذا التقسيم يبدو لنا «طبيعياً»، ولكنه قد تطلب نضالا طويلا ضد التنظيم القديم على أساس القبائل أو العشائر.
«… والسمة المميزة الثانية هي تأسيس السلطة العامة التي لم تعد تنسجم مباشرة مع السكان المنظمين أنفسهم بأنفسهم في قوة مسلحة. وهذه السلطة العامة المميزة ضرورية لأن منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها غدت أمرا مستحيلا منذ انقسام المجتمع إلى طبقات… وتوجد هذه السلطة العامة في كل دولة. وهي لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجون ومختلف مؤسسات القسر التي كانت معدومة في المجتمع المنظم على أساس القبائل (العشائر)…»
إن انجلس يشرح مفهوم «القوة» التي تسمى الدولة، القوة التي نشأت في المجتمع، ولكنها تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر. مم تتألف هذه القوة بصورة رئيسية؟ من فصائل خاصة من رجال مسلحين تحت تصرفهم السجون والخ..
يحق لنا أن نتحدث عن فصائل خاصة من رجال مسلحين لأن السلطة العامة الملازمة لكل دولة «لا تنسجم مباشرة» مع السكان المسلحين، مع «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها».
إن انجلس، شأن جميع المفكرين الثوريين العظام، يسعى ليلفت أنظار العمال الواعين إلى ما يبدو بالضبط في نظر الذهنية البرجوازية الصغيرة السائدة أقل ما يستحق الإنتباه، إلى أكثر ما يبدو لها مألوفا، مقدسا بأوهام متأصلة، بله يمكن القول، متحجرة. الجيش الدائم والشرطة هما الأداتان الرئيسيتان لقوة سلطة الدولة. ولكن كيف يمكن، يا ترى، أن يكون الأمر على غير ذلك؟
لا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك من وجهة نظر الأكثرية الساحقة من أوروبيي أواخر القرن التاسع عشر الذين توجه إليهم انجلس والدين لم يعيشوا ولم يشاهدوا عن كثب أية ثورة كبرى. فهم لا يفهمون أبدا ما هي «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وعلى السؤال: لماذا غدا من الضروري وجود فصائل خاصة من رجال مسلحين الشرطة والجيش النظامي) توضع فوق المجتمع وتنفصل عنه، يميل التافه الضيق الأفق في أوروبا الغربية وروسيا إلى الجواب بجملة من عبارات مقتبسة من سبنسر أو ميخايلوفسكي، مستشهدا بتعقد الحياة الإجتماعية، بتمايز الوظائف وهلم جراً.
وهذا الاستشهاد يبدو «عملياً» وهو ينوم بصورة ممتازة ذا الذهنية البرجوازية الصغيرة بطمسه الأمر الرئيسي والأساسي، أي انقسام المجتمع إلى طبقات متعادية عداء مستعصياً.
ولو لا هذا الانقسام لكانت «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها» تتميز بتعقيدها ورقي عتادها وغير ذلك عن منظمة بدائيين أو الناس المنظمين في مجتمعات قبائلية، ولكن مثل هذه المنظمة تكون أمرا ممكنا.
ولكنها أمر مستحيل لأن المجتمع المتمدن منقسم إلى طبقات متعادية عداء مستعصيا يسفر تسلحها «العامل من تلقاء نفسه» عن تقاتلها بالسلاح. تتشكل الدولة وتنشأ قوة خاصة، فصائل خاصة من رجال مسلحين؛ وكل ثورة، بهدمها لجهاز الدولة، ترينا النضال الطبقي المكشوف، ترينا رأي العين كيف تحاول الطبقة السائدة أن تبعث ما في خدمتها هي من الفصائل الخاصة من الرجال المسلحين وكيف تحاول الطبقة المظلومة إنشاء منظمة جديدة من هذا النوع، كفوءا لا لخدمة المستثمِرين، بل المستثمَرين.
في الفقرة المذكورة يطرح انجلس نظرياً نفس المسألة التي تطرحها أمامنا كل ثورة كبرى عمليا، بجلاء، وفي نطاق عمل الجماهير، نعني مسألة العلاقات بين الفصائل «الخاصة» من الرجال المسلحين و«منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وسنرى كيف تتوضح هذه المسألة عمليا بتجربة الثورات الأوروبية والروسية.
ولكن لنعد إلى مبحث انجلس.
إنه يبين أن هذه السلطة العامة تكون ضعيفة أحيانا، في بعض مناطق أمريكا الشمالية مثلاً (يدور الحديث عن حالات نادرة في المجتمع الرأسمالي، وعن مناطق أمريكا الشمالية في عهد ما قبل الإمبريالية، حيث كان يهيمن المعمر الحر). ولكنها، عموما، تتقوى:
«… تتقوى السلطة العامة بمقدار ما تتفاقم التناقضات الطبقية في داخل الدولة وبمقدار ما تزداد الدول المتلاصقة مساحة وسكاناً. لأنظروا على الأقل إلى أوروبا الراهنة حيث رفع النضال الطبقي والتنافس على الفتوحات السلطة العامة إلى مستوى غدت معه تهدد بابتلاع المجتمع برمته بما فيه الدولة نفسها…» لقد كتب هذا في تاريخ لا يتجاوز مستهل سنوات العقد العاشر من القرن الماضي. فمقدمة انجلس الأخيرة مؤرخة في 16 يونيو 1891. في ذلك الحين كان الانعطاف نحو الإمبريالية –بمعنى سيطرة التروستات سيطرة تامة وبمعنى حول وطول البنوك الكبرى وبمعنى عظمة نطاق السياسة الاستعمارية، الخ.- قد بدأ لتوه في فرنسا، وكان أضعف في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا. ومنذ ذلك الحين خطا «التنافس على الفتوحات» خطوة كبرى إلى الأمام، لا سيما والكرة الأرضية قد ظهرت في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين مقتسمة نهائياً بين هؤلاء «الفاتحين المتنافسين»، أي بين الدول السلابة الكبرى. ومنذ ذلك الحين ازداد التسلح العسكري والبحري ازدياداً هائلاً وحرب النهب، حرب سنوات 1914-1918 التي اندلعت من أجل سيطرة إنجلترا أو ألمانيا على العالم، من أجل اقتسام الغنيمة، قد قربت من الكارثة التامة «ابتلاع» جميع قوى المجتمع من قبل سلطة دولة ضاربة.
لقد استطاع انجلس أن يبين منذ سنة 1891 أن «التنافس على الفتوحات» هو سمة من السمات الهامة المميزة لسياسة الدول الكبرى في الحقل الخارجي، في حين أن أنذال الاشتراكية-الشوفينية يعمدون في سنوات 1914-1918، عندما كان هذا التنافس بالذات المشتد أضعافاَ مضاعفة قد أسفر عن الحرب الإمبريالية، إلى تستير المصالح الاغتصابية لبرجوازيتـ«هم» بعبارات «الدفاع عن الوطن» و«الدفاع عن الجمهورية والثورة» وما شاكل!
3-الدولة أداة لاستثمار الطبقة المظلومة
للإنفاق على سلطة عامة مميزة تقف فوق المجتمع تلزم الضرائب وتلزم ديون الدولة.
لقد كتب انجلس: « إن الموظفين،إذ يتمتعون بالسلطة العاملة وبحق جباية الضرائب يصحبون، باعتبارهم هيئات المجتمع، فوق المجتمع. فالاحترام الطوعي الاختياري الذي كان يمحض لهيئات مجتمع القبائل (العشائر) لم يعد يكفيهم حتى فيما لو كان باستطاعتهم اكتسابه…». وتوضع قوانين خاصة بشأن قداسة وحصانة الموظفين. «فلأحقر شرطي» «سلطان» يفوق سلطان ممثلي العشيرة، ولكن رئيس السلطة العسكرية نفسه في دولة متمدنة يغبط شيخ العشيرة الذي يمحضه المجتمع «احتراما لم يفرض بالعصا».
لقد طرحت هنا مسألة وضع الموظفين الممتازين باعتبارهم هيئات سلطة الدولة. والأمر الرئيسي هو أن نعلم: ما الذي يضعهم فوق المجتمع؟ وسنرى كيف حلت كومونة باريس عمليا في سنة 1871 هذه المسألة النظرية وكيف طمسها كاوتسكي رجعيا في سنة 1912.
«… بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات؛ وبما أنها نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسيا أيضا وتكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستمرارها…». فالدولة القديمة والدولة الإقطاعية لم تكونا وحدهما هيئتين لاستثمار العبيد والأقنان، بل كذلك «الدولة التمثيلية الحديثة هي أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. ومع ذلك فثمة، كحالات استثنائية، مراحل تبلغ فيها الطبقات المتصارعة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعا من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهرا وسيطا بينهما…» ومن هذا القبيل كان الحكم الملكي المطلق في القرنين السابع عشر والثامن عشر والبونابرتية في الإمبراطوريتين الأولى والثانية في فرنسا وبيسمارك في ألمانيا.
ومن هذا القبيل –نضيف نحن- حكومة كرينسكي في روسيا الجمهورية بعد الإنتقال إلى ملاحقة البروليتاريا الثورية، في البرهة التي كانت فيها السوفييتات قد غدت عاجزة من جراء قيادة الديموقراطيين صغار البرجوازيين ولم تكن فيها البرجوازية بعد قوية لحد يمكن من حل السوفييتات على المكشوف.
في الجمهورية الديموقراطية –يستطرد إنجلس- «تمارس الثورة سلطتها بصورة غير مباشرة، ولكن بالشكل الأضمن» :أولاً، عن طريق «الرشوة المباشرة للموظفين» (أمريكا) وثانيا، عن طريق «التحالف بين الحكومة والبورصة»(فرنسا وأمريكا).
وفي الوقت الحاضر «رقت» الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أية جمهورية ديموقراطية كانت. فإذا كان السيد بالتشينسكي، مثلاً، عندما كانت الجمهورية الديموقراطية بروسيا في أشهرها الأولى بالذات –ويمكن القول في شهر العسل لقران «الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية، وإذا كان السيد باتشينسكي الذي خرج من الوزارة فيما بعد (واستعيض عنه أيضا بباتشينسكي آخر لا يختلف عنه في شيء) قد «كوفئ» من قبل الرأسماليين بمنصب راتبه 120 ألف روبل في السنة- فبمَ يوصف ذلك؟ أهو رشوة مباشرة أم غير مباشرة؟ أهو تحالف الحكومة مع سنديكات الرأسماليين أم علاقات ودية «فقط لا غير»؟ وما هو الدور الذي يلعبه تشيرنوف وتسيرتيلي وافكسنتييف وسكوبيليف ومن على شاكلتهم؟ أهم حلفاء «مباشرون» لأصحاب الملايين سارقي الخزينة، أم غير مباشرين وحسب؟
إن سلطان «الثورة» هو كذلك أضمن في ظل الجمهورية الديموقراطية لأنه لا يتوقف على هذه النواقص أو تلك للآلية السياسية وعلى غلاف الرأسمالية السياسي الرديء. فالجمهورية الديموقراطية هي أحسن غلاف سياسي ممكن للرأسمالية، ولذا فرأي المال، إذ يستولي على هذا الغلاف الأفضل (عن طريق بالتشينسكي ةتشيرنوف وتسيريتيلي ومن لف لفهم) يقيم سلطته على أساس مكين، على أساس مضمون لحد لا يمكن لأي تبديل في الأشخاص ولا في المؤسسات ولا في الأحزاب في الجمهورية البرجوازية الديموقراطية أن يزعزع هذه السلطة.
كذلك يجدر بالذكر أن إنجلس يصف بصورة جلية قاطعة حق الإنتخاب العام أيضا بأنه أداة لسيادة البرجوازية. فقد قال آخذا بعين الإعتبار بصورة جلية الخبرة التي اكتسبتها الاشتراكية الديموقراطية الألمانية خلال وقت طويل أن حق الإنتخاب العام هو «دليل نضج الطبقة العاملة. ولا يمكنه أن يكون ولن يكون أبدا أكثر من ذلك في الدولة الراهنة».
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أشباه الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة في بلادنا ، وكذلك أشقاءهم، جميع الاشتراكيين-الشوفينيين في أوروبا الغربية، ينتظرون من حق الإنتخاب العام «أكثر» من ذلك بالضبط. إنهم يؤمنون هم أنفسهم ويوهمون الشعب بفكرة مغلوطة مفادها أن حق الانتخاب العام «في الدولة الراهنة» يستطيع أن يظهر في الواقع إرادة أكثرية الشغيلة وأن يضمن تطبيقها.
لا يسعنا هنا غير الإيماء إلى هذه الفكرة المغلوطة، غير الإشارة إلى أن تصريح انجلس الجلي والدقيق والملموس تماما تشوهه في كل لحظة دعاية وتحريض الاحزاب الاشتراكية «الرسمية» (أي الانتهازية). فتتمة عرضنا لنظرية ماركس وانجلس عن الدولة «الراهنة» تبين بالتفصيل مبلغ البطلان في الفكرة التي ينبذها هنا إنجلس.
يعطي إنجلس في أوسع مؤلفاته انتشارا خلاصة عامة لنظراته بالعبارات التالية:
«وهكذا، فالدولة لم توجد منذ الأزل. فقد وجدت مجتمعات كانت في غنى عن الدولة ولم يكن لديها أية فكرة عن الدولة وسلطة الدولة. وعندما بلغ التطور الاقتصادي درجة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات، غدت الدولة بحكم هذا الانقسام أمرا ضروريا. ونحن نقترب الآن بخطوات سريعة من درجة في تطور الإنتاج لا يكف عندها وجود هذه الطبقات عن أن يكون ضرورة وحسب، بل يصبح عائقا مباشرا للإنتاج. ستزول الطبقات بالضرورة كما نشأت في الماضي بالضرورة. ومع زوال الطبقات ستزول الدولة بالضرورة. والمجتمع الذي ينظم الإنتاج تنظيما جديدا على أساس اتحاد المنتجين بحرية وعلى قدم المساواة، سيرسل آلة الدولة بأكملها إلى حيث ينبغي أن تكون حينذاك: إلى متحف العادات بجانب المغزل البدائي والفأس البرونزية».
لا يصادف المرء هذا المقتبس إلاّ غرارا فيما تصدره الاشتراكية-الديموقراطية المعاصرة من مطبوعات الدعاية والتحريض. ولكن حتى عندما يصادف هذا المقتبس فإنما يوردونه في أغلب الأحيان وكأنهم ينحنون أمام أيقونة، أي للإفصاح الرسمي عن إجلال انجلس، دون أية محاولة لإمعان الفكر في مدى سعة وعمق نطاق الثورة الذي يفترضه «إرسال آلة الدولة بأكملها إلى متحف العادات». بل انه في الغالب لا يلاحظ أن ثمة فهما لما يسميه انجلس بآلة الدولة.
4-الثورة العنيفة و«اضمحلال» الدولة
إن كلمات إنجلس عن «اضمحلال» الدولة بدرجة من الشهرة، ويُستشهد بها بدرجة من التكرار، تبين كنه تكييف الماركسية المعتاد تبعا للانتهازية بدرجة من الوضوح بحيث أنه لابد من تناولها بإسهاب. فلنورد كامل الفقرة التي اقتبست منها:
«تأخذ البروليتاريا سلطة الدولة وتحول وسائل الانتاج قبل كل شيء إلى ملك الدولة. ولكنها تقضي على نفسها بوصفها بروليتاريا، تقضي بذلك على كل الفوارق الطبقية وجميع المتضادات الطبقية وعلى لدولة في الوقت نفسه بوصفها دولة. إن المجتمع الذي وجد ولا يزال والذي يتحرك ضمن المتضادات الطبقية كان بحاجة إلى الدولة، أي إلى منظمة للطبقة المستثمِرة قسرا في ظروف القمع الناجمة عن أسلوب الانتاج القائم (العبودية، القنانة، العمل المأجور). لقد كانت الدولة الممثل الرسمي للمجتمع بأكمله، تركزه في جسم منظور، ولكنها لم تكن كذلك إلاّ بمقدار ما كانت دولة تلك الطبقة التي كانت وحدها تمثل في عصرها المجتمع بأكله: في العصور القديمة كانت دولة ملاكي العبيد –مواطني الدولة، وفي القرون الوسطى كانت دولة الأعيان الإقطاعيين، أخيرا، ممثل المجتمع بأكمله حقا، أية طبقة اجتماعية ينبغي قمعها؛ وعندما تزول مع السيطرة الطبقية ومع الفوضى الراهنة في الإنتاج، تلك الاصطدامات وأعمال الشطط (التطرف) الناتجة عن هذا الصراع، لا يبقى هناك ما ينبغي قمعه، ولا تبقى أيضا ضرورة لقوة خاصة للقمع، للدولة. وأول عمل تبرز فيه الدولة حقا بوصفها ممثل المجتمع بأكمله –تملك وسائل الانتاج باسم المجتمع- هو في الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة، وعندئد يصبح تدخل الدولة في العلاقات الإجتماعية أمرا لا لزوم له في ميدان بعد آخر ويخبو من نفسه. وبدلا من حكم الناس «تلغى» إنها تضمحل. وعلى هذا الأساس ينبغي تقييم عبارة «الدولة الشعبية الحرة»، هذه العبارة التي كان لها حق البقاء بعض الوقت للتحريض ولكنها باطلة في آخر التحليل من وجهة النظر العملية. وعلى هذا الأساس ينبغي كذلك تقييم مطلب من يسمون بالفوضويين القائل بإلغاء الدولة بين عشية وضحاها» («ضد دوهرينغ». «السيد أوجين دوهرينغ يقلب العلم»، ص 301-303، الطبعة الألمانية الثانية).
بوسعنا أن نقول دون أن نخشى الزلل أن الصيغة القائلة أن الدولة «تضمحل»، برأي ماركس وخلافا للنظرية الفوضوية القائلة بـ«إلغاء» الدولة، هي كل ما تبقى من فقرة انجلس هذه الغنية جداً بالأفكار، مكتسبا حقا للفكر الاشتراكي في الأحزاب الاشتراكية الراهنة. إن بتر الاشتراكية بهذا الشكل يعني الهبوط بها إلى حضيض الانتهازية، إذ أن كل ما تبقى بعد هذا «التأويل» هو تصور مبهم عن تغير بطيء، موزون، تدريجي، عن انعدام القفز والأعاصير، عن انعدام الثورة. إن مفهوم «اضمحلال» الدولة بالمعنى الشائع، المنتشر عموما والجماهيري، إن أمكن التعبير، يعني دون شك طمس الثورة إن لم يكن إنكارها.
بيد أن هذا «التأويل» هو تشويه فظ جدا للماركسية، مفيد للبرجوازية وحدها، ويقوم نظريا على نسيان ظروف واعتبارات هامة للغاية ذكرت مثلا في فقرة انجلس «التلخيصية» التي أوردناها كاملة.
أولا. في مستهل هذه الفقرة بالذات يقول إنجلس أن البروليتاريا، إذ تأخذ سلطة الدولة، «تقضي بذلك على الدولة بوصفها دولة». أما معنى ذلك بصورة تامة أو يعزى إلى شيء ما بمثابة «ضعف هيغلي» عند إنجلس. وفي الواقع تعرب هذه الكلمات باقتضاب عن خبرة ثورة من أكبر الثورات البروليتارية، عن خبرة كومونة باريس 1871، الأمر الذي سنتحدث عنه بتفصيل في مكانه. هنا يتحدث إنجلس في الواقع عن «قضاء» الثورة البروليتارية على دولة البرجوازية، في حين أن ما قاله عن الاضمحلال يخص بقايا الدولة البروليتارية بعد الثورة الاشتراكية. الدولة البرجوازية لا «تضمحل» برأي إنجلس، ولكن «تقضي عليها» البروليتاريا في الثورة. تضمحل بعد هذه الثورة الدولة البروليتارية أو شبه الدولة.
ثانيا. الدولة هي «قوة خاصة للقمع». إن إنجلس قد أعطى هنا بأتم الوضوح تعريفه الرائع هذا والعميق منتهى العمق. ويستنتج منه أن «القوة الخاصة لقمع» البروليتاريا من قبل البرجوازية، قمع الملايين من الشغيلة من قبل حفنات من الأغنياء لا بد أن يستعاض عنها بـ«القوة الخاصة لقمع» البرجوازية من قبل البروليتاريا (ديكتاتورية البروليتاريا). وفي هذا كنه «القضاء على الدولة بوصفها دولة». وفي هذا كنه «عملية» تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع. ومن الواضح بداهة أن مثل هذه الاستعاضة عن «قوة خاصة» (برجوازية) بـ«قوة خاصة» أخرى (بروليتارية) لا يمكنها بتاتا أن تتم بشكل «اضمحلال».
ثالثا. يتكلم إنجلس عن «اضمحلال» أو حتى، وهو تعبير أبرز وأجمل، عن «الخبو» قاصدا بأتم الوضوح والجلاء مرحلة ما بعد «تملك الدولة لوسائل الإنتاج باسم المجتمع كله»، أي مرحلة ما بعد الثورة الاشتراكية. ونحن جميعا نعلم أن الشكل السياسي «للدولة» في هذه المرحلة هو الديموقراطية الأتم. ولكن لم يدر في خلد أحد من الانتهازيين الذين يشوهون الماركسية دونما خجل أن الحديث يدور هنا عند انجلس، بالتالي، عن «خبو» و«اضمحلال» الديموقراطية. ويبدو ذلك لأول وهلة في منتهى الغرابة. ولكن «لا يستطيع أن يفهم ذلك» غير الذين لم يصل بهم تفكيرهم إلى أن الديموقراطية هي أيضا دولة وأن الديموقراطية تزول هي أيضا، تبعا لذلك، عندما تزول الدولة. الدولة البرجوازية لا يستطيع «القضاء» عليها غير الثورة. والدولة بوجه عام، أي الديموقراطية الأتم، يمكنها أن «تضمحل» وحسب.
رابعا. صاغ انجلس موضوعته المشهورة: «الدولة تضمحل» شارحا بصورة مباشرة وملموسة أن هذه الموضوعة موجهة في وقت معا ضد الانتهازيين وضد الفوضويين. هذا وقد وضع انجلس في المقام الأول الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين والمستخلص من موضوعة «إضمحلال الدولة».
بإمكان المرء أن يراهن أن 9990 من 10000 شخص قرأوا أو سمعوا عن «إضمحلال» الدولة لا يعرفون بتاتا أو لا يدركون أن انجلس يوجه استنتاجاته من هذه الموضوعة ليس فقط ضد الفوضويين، وعلى أن تسعة من الأشخاص العشرة الباقين لا يعرفون، أغلب الضن، ما هي «الدولة الشعبية الحرة» ولماذا يتضمن الهجوم على هذا الشعار هجوما على الإنتهازيين. هكذا يُكتب التاريخ! وهكذا يجري بصورة غير ملحوظة تحوير التعاليم الثورية العظمى تبعا لروح التفاهة وضيق الأفق السائدة. فإن الاستنتاج الموجه ضد الفوضويين قد كرر ألف مرة، وحقر وحشي في الرؤوس بالشكل الأكثر ابتذالا واكتسب متانة الأوهام. أمّا الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين فقد طمسوه و«نسوه»!
«الدولة الشعبية الحرة» كانت مطلبا في برنامج الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان في سنوات العقد الثامن وشعارا من شعاراتهم الشائعة. هذا الشعار خال من كل مضمون سياسي عدا الوصف البرجوازي الصغير الطنان لمفهوم الديموقراطية. ولما كانوا يلمحون علنا في هذا الشعار إلى الجمهورية الديموقراطية كان إنجلس مستعدا «لتبريره» «بعض الوقت» من وجهة نظر التحريض. ولكن هذا الشعار كان انتهازيا، لأنه لم يفصح فقط عن تجميل الديموقراطية البرجوازية، بل وكذلك عن عدم فهم النقد الاشتراكي لكل دولة بوجه عام. نحن نؤيد الجمهورية الديموقراطية لأنها بالنسبة إلى البروليتاريا الشكل الأفضل للدولة في عهد الرأسمالية، ولكن لا يحق لنا أن ننسى أن عبودية العمل المأجور هي نصيب الشعب حتى في الجمهورية البرجوازية الأكثر ديموقراطية. وبعد. إن كل دولة هي «قوة خاصة لقمع» الطبقة المظلومة. ولذا فكل دولة ليست حرة وليست شعبية. وقد شرح ماركس وإنجلس ذلك مرارا وتكرارا لرفاقهما الحزبيين في سنوات العقد الثامن.
خامسا. إن مؤلف إنجلس ذاته الذي يتذكر منه الجميع المحاكمة بصدد اضمحلال الدولة يتضمن محاكمة بصدد أهمية الثورة العنيفة. فالتقدير التاريخي لدورها يتحول عند إنجلس إلى تقريظ حق للثورة العنيفة. و«ما من أحد يذكر» ذلك. فالحديث بله مجرد التفكير بأهمية هذه الفكرة غير مألوف في الأحزاب الاشتراكية الحالية، وفي الدعاية والتحريض اليوميين بين الجماهير ليس لهذه الأفكار أي دور. هذا في حين أنها تقترن بفكرة «اضمحلال» الدولة اقترانا وثيقا، وتكون معها كلاً متراصا.
وها هي ذي محاكمة إنجلس هذه:
«… أما أن العنف يلعب في التاريخ كذلك دورا آخر» (عدا ما يسبب من شر) «وبالضبط دورا ثوريا، وأنه، كما قال ماركس، المولدة لكل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد، وأن العنف هو تلك الأداة التي تشق الحركة الاجتماعية بواسطتها لنفسها الطريق وتحطم الأشكال السياسية المتحجرة والميتة –عن كل ذلك لم ينبس السيد دوهرينغ بكلمة. إنه يسلم فقط، مع إطلاق الزفرات والأنات، بأن إسقاط السيطرة القائمة على الاستثمار قد يتطلب عنف. ويا للأسف لأن كل استعمال للعنف يضعف، كما قال، معنويات من يلجأ إليه. وذلك يقال رغم ما نعلم من مبلغ النهوض الأخلاقي والفكري الذي كان ينجم عن كل ثورة ظافرة! وذلك يقال في ألمانيا حيث من شأن الاصطدام العنيف، الذي قد يفرض على الشعب ، أن يتسم، على أقل تقدير، بمزية استئصال روح الخنوع التي تغلغلت في وعي الأمة من جراء إهانات حرب الثلاثين سنة. إن تفكير الخوارنة هذا، السقيم الهزيل العاجز، يجرأ على فرض نفسه على الحزب الذي لم يعرف التاريخ مضارعا لروحه الثورية!» (ص 193، حسب الطبعة الألمانية الثالثة، نهاية الفصل الرابع من القسم الثاني).
وكيف السبيل إلى الجمع في تعاليم واحدة بين هذا التقريظ للثورة العنيفة، الذي ظل إنجلس يقدمه بإلحاح للاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان من سنة 1878 حتى سنة 1894، أي حتى وفاته، بين نظرية «اضمحلال» الدولة؟
في المعتاد يجمعون بين هذه وتلك جمعا اختياريا، عن طريق الاقتطاف الكيفي غير المبدئي والسفسطائي (أو لإرضاء القابضين على السلطة) لهذه الموضوعة طورا وصورا لتلك، علما بأنه في تسع وتسعون حالة من مائة، إن لم يكن أكثر، يوضع «الاضمحلال» بالذات في المقام الأول. يستعاض عن الدياليكتيك بالمذهب الإختياري، وهذا التصرف حيال الماركسية هو الظاهرة المألوفة للغاية والأوسع انتشارا في الأدب الاشتراكي-الديموقراطي الرسمي في أيامنا. وهذه الاستعاضة ليست طبعا ببدعة مستحدثة، فقد لوحظت حتى في تاريخ الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. أن إظهار الإختيارية بمظهر الدياليكتيك في حالة تحوير الماركسية تبعا للانتهازية، يخدع الجماهير بأسهل شكل، يرضيها في الظاهر، إذ يبدو وكأنه يأخذ بعين الإعتبار جميع نواحي العملية، جميع اتجاهات التطور، جميع المؤثرات المتضادة الخ.، ولكنه في الواقع لا يعطي أي فكرة منسجمة وثورية عن عملية تطور المجتمع.
لقد قلنا فيما تقدم وسنبين بمزيد من التفاصيل فيما يأتي من البحث أن تعاليم ماركس وإنجلس بصدد حتمية الثورة العنيفة تتعلق بالدولة البرجوازية. فهذه لا يمكن الاستعاضة عنها بدولة بروليتارية (ديكتاتورية البروليتاريا) عن طريق «الإضمحلال»، لا يمكن، كقاعدة عامة، إلاّ بالثورة العنيفة. فالتقريظ الذي خصها به انجلس والذي يتفق كل الاتفاق مع تصريحات ماركس العديدة (فلنتذكر خاتمة «بؤس الفلسفة» وخاتمة «البيان الشيوعي» حيث ينادي باعتزاز وعلى المكشوف بحتمية الثورة العنيفة، ولنتذكر انتقاد برنامج غوتا سنة 1875، الذي جاء بعد نحو ثلاثين سنة، والذي قرّع فيه ماركس انتهازية هذا البرنامج دون رحمة، -إن هذا التقريظ ليس قط من قبيل «الكلف»، ليس قط من قبيل بهرج الكلام، ولا من قبيل الحماسة في الجدال، إن ضرورة تربية الجماهير بصورة دائمة بروح هذه النظرة وهذه النظرة بالذات للثورة العنيفة هي أساس تعاليم ماركس وإنجلس بأكملها. وخيانة تعاليمهما من قبل التيارين الاشتراكي-الشوفيني والكاوتسكي السائدين اليوم تتجلى بوضوح خاص في نسيان هؤلاء وأولئك لهذه الدعاية، لهذا التحريض.
إن الإستعاضة عن الدولة البرجوازية بدولة بروليتارية لا يمكن بدون ثورة عنيفة. والقضاء على الدولة البرجوازية، أي على كل دولة، لا يمكن عن غير طريق «الاضمحلال».
لقد طور ماركس وإنجلس هذه النظرات بصورة مفصلة وملموسة دارسين كل وضع ثوري بعينه ومحللين عبر خبرة كل ثورة بعينها. وها نحن ننتقل إلى هذا القسم من تعاليمهماوهو دون شك أهم أقسامها.
الفصل الثاني
الدولة والثورة. خبرة سنوات 1848-1851
1- عشية الثورة
إن «بؤس الفلسفة» و«البيان الشيوعي»، وهما باكورتا الماركسية الناضجة، يعودان بالضبط لعشية ثورة سنة 1848. وبحكم هذا الواقع نجد فيهما لحد ما، إلى جانب بسط الأسس العامة للماركسية، انعكاسا للوضع الثوري الملموس القائم آنذاك، ولذا ربما من الأصوب تحليل ما قاله مؤلفا هذين الكتابين عن الدولة مباشرة قبل بسطهما الاستنتاجات التي استخلصاها من خبرة سنوات 1848-1851.
قال ماركس في «بؤس الفلسفة»:
«… في مجرى التطور ستحل الطبقة العاملة محل المجتمع البرجوازي القديم رابطة لا مكان فيها للطبقات وتضادها؛ ولن تكون ثمة أي سلطة سياسية بمعنى الكلمة الخاص، لأن السلطة السياسية بالذات هي الافصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في قلب المجتمع البرجوازي» (ص 182 من الطبعة الألمانية لسنة 1885).
ومن المفيد أن نقارن هذا العرض العام لفكرة زوال الدولة بعد القضاء على الطبقات مع العرض الوارد في «البيان الشيوعي» الذي كتبه ماركس وإنجلس بعد عدة أشهر، أي في نوفمبر سنة 1848:
«…عندما وصفنا أعم المراحل في تطور البروليتاريا، تتبعنا الحرب الأهلية المستترة لهذا الحد أو ذاك والجارية في المجتمع إلى الحد الذي تنقلب معه إلى ثورة مكشوفة وتؤسس فيه البروليتاريا سيادتها عن طريق اسقاط البرجوازية بالعنف…
… رأينا فيما تقدم أن الخطوة الأولى في الثورة العالمية هي تحول» (حرفيا: ترفي) «البروليتاريا إلى طبقة سائدة، الظفر بالديموقراطية.
تستفيد البروليتاريا من سيادتها السياسية لكينا تنتزع بالتدريج من البرجوازية كامل رأس المال وتمركز جميع أدوات الإنتاج في يد الدولة، أي في يد البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة ولكيما تزيد بأسرع ما يمكن القوى المنتجة» (ص31-37 من الطبعة الألمانية السابقة لسنة 1906).
نرى هنا صيغة لفكرة من أروع وأهم الأفكار الماركسية في مسألة الدولة، أي فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا» (كما غدا ماركس وانجلس يقولان بعد كومونة باريس)، ثم تعريفا للدولة في منتهى الأهمية أيضا في عداد «ما نسي من كلمات» الماركسية. «الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
إن تعريف الدولة هذا، عدا أنه لم يشرح قط في مطبوعات الدعاية والتحريض المسيطرة الصادرة عن الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية، قد نسى، فضلا عن ذلك، بالضبط لأن التوفيقي بينه وبين الإصلاحية لا يمكن بوجه، ولأنه يفقأ عين الأوهام الانتهازية والبورجوازية الصغيرة المعتادة بصدد «تطور الديموقراطية السلمي».
البروليتاريا بحاجة إلى دولة –هذا ما يكرره جميع الإنتهازيين، والاشتراكيين-الشوفينيين والكاوتسكيين، مؤكدين أن هذه هي تعاليم ماركس و«ناسين» أن يضيفوا، أولا، أن البروليتاريا، برأي ماركس، ليست بحاجة إلاّ إلى دولة في طريق الاضمحلال، أي مبنية بشكل تأخذ معه بالاضمحلال على الفور ولا مندوحة لها معه من أن تضمحل. وثانيا، أن الشغيلة بحاجة إلى «دولة»، «أي إلى البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
الدولة هي نوع خاص من تنظيم للقوة، هي تنظيم للعنف بقصد قمع طبقة من الطبقات. فأية طبقة ينبغي للبروليتاريا أن تقمعها؟ بطبيعة الحال ينبغي لها أن تقمع الطبقة المستثمِرة وحدها، أي البرجوازية. إن الشغيلة ليسوا بحاجة إلى الدولة إلاّ لقمع مقاومة المستثمِرين، ولا يقدر على قيادة هذا القمع، على تطبيقه عموما، غير البروليتاريا بوصفها الطبقة الوحيدة الثورية حتى النهاية، الطبقة الوحيدة الكفء لتوحيد جميع الشغيلة والمستثمَرين من أجل النضال ضد البرجوازية، من أجل إسقاطها تماما.
تحتاج الطبقات المستثمِرة إلى السيادة السياسية للإبقاء على الاستثمار، أي من أجل المصالح الأنانية للأقلية الضئيلة وضد الأكثرية الساحقة من الشعب وضد الأقلية الضئيلة من ملاكي العبيد المعاصرين، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين.
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أدعياء الاشتراكية هؤلاء، الذين استعاضوا عن النضال الطبقي بأحلام عن التوفيق بين الطبقات، تصوروا كذلك التحويل الاشتراكي بصورة خيالية، لا بصورة إسقاط سيادة الطبقة المستثمِرة، بل بصورة خضوع الأقلية بشكل سلمي للأكثرية المدركة لواجباتها. وهذه الطوباوية البرجوازية الصغيرة المرتبطة ارتباطا لا تنفصم عراه بالاعتراف بوجود دولة قائمة فوق الطبقات قد أفضت عمليا إلى خيانة مصالح الطبقات الكادحة، كما بين ذلك مثلا تاريخ ثورتي 1848 و1871 الفرنسيتين وكما بينت خبرة الاشتراك «الاشتراكي» بالوزارات البرجوازية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من البلدان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
لقد ناضل ماركس طيلة حياته ضد هذه الاشتراكية البرجوازية الصغيرة التي بعثها الآن في روسيا حزبا الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة. وقد طور ماركس باستقامة نظرية النضال الطبقي بما في ذلك نظرية السلطة السياسية، نظرية الدولة.
إن إسقاط سيادة البرجوازية لا يمكن إلاّ من جانب البروليتاريا باعتبارها طبقة خاصة تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لهذا الإسقاط وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تجزئ البرجوازية وتبعثر الفلاحين وجميع الفئات البرجوازية الصغيرة ترص البروليتاريا وتوحدها وتنظمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم، هي الوحيدة الكفء لتكون زعيما لجميع جماهيرالشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم البرجوازية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطا ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم.
إن تعاليم النضال الطبقي التي طبقها ماركس على مسألة الدولة وعلى مسألة الثورة الاشتراكية تفضي لا محالة إلى الاعتراف بسيادة البروليتاريا السياسية، بديكتاتوريتها، أي بسلطتها التي لا تقتسمها مع أحد والتي تستند مباشرة إلى قوة الجماهير المسلحة. إن إسقاط البرجوازية لا يمكن أن يتحدد عن غير طريق تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة قادرة على قمع ما تقوم به البرجوازية حتما من مقاومة مسعورة وعلى تنظيم جميع الجماهير الكادحة والمستثمَرة من أجل النظام الإقتصادي الجديد.
إلاّ أن البروليتاريا بحاجة إلى سلطة الدولة، أي إلى تنظيم القوة المتمركزة، إلى تنظيم العنف سواء لقمع مقاومة المستثمِرين أم لقيادة جماهير السكان الغفيرة من فلاحين وبورجوازية صغيرة وأشباه بروليتاريين في أمر «ترتيب» الاقتصاد الاشتراكي.
إن الماركسية، إذ تربي حزب العمال، تربي طليعة البروليتاريا الكفء لأخذ السلطة وللسير بكل الشعب إلى الاشتراكية ولتوجيه وتنظيم النظام الجديد ولتكوين معلماً وقائداً وزعيماً لجميع الشغيلة والمستثمَرين في أمر تنظيم حياتهم الاجتماعية بدون البرجوازية وضد البرجوازية. أمّا الإنتهازية السائدة اليوم، فإنها بالعكس تربي من حزب العمال جماعة منفصلة عن الجماهير تمثل العمال ذوي الأجور العليا الذين «يدبرون أمورهم» بصورة لا بأس بها في ظل الرأسمالية ويبيعون مقابل طبيخ من العدس حق الإبن البكر، أي أنهم يتخلون عن دور زعماء الشعب الثوريين في النضال ضد البرجوازية.
«الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة» -إن نظرية ماركس هذه ترتبط ارتباطا وثيقا بكامل تعاليمه عن دور البروليتاريا الثوري في التاريخ. وذروة هذا الدور هي ديكتاتورية البروليتاريا، سيادة البروليتاريا سياسيا.
ولكن، إذا كانت البروليتاريا بحاجة إلى الدولة بوصفها منظمة خاصة للعنف ضد البرجوازية، فمن هنا ينبثق تلقائياَ الاستنتاج التالي: هل من الممكن إنشاء مثل هذه المنظمة دون أن يسبق ذلك تحطيم وتدمير آلة الدولة التي أنشأتها البرجوازية لنفسها؟ هذا هو الاستنتاج الذي يسير بنا «البيان الشيوعي» مباشرة إليه وعن هذا الاستنتاج يتحدث ماركس ملخصاَ خبرة سنوات 1848-1851.
2-حاصل الثورة
في مسألة الدولة التي نحن بصددها لخص ماركس خبرة ثورة سنوات 1848-1851 في كتابه «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» بالعبارات التالية:
«… ولكن الثورة عميقة. إنها ما تزال في رحلة عبر المطهر. إنها تقوم بمهمتها بصورة منهاجية. فحتى الثاني من ديسمبر سنة 1851» (يوم قيام لويس بونابرت بالانقلاب) «أتمت نصف عملها التحضيري، وهي تتم الآن النصف الآخر. في البدء تسير بالسلطة البرلمانية إلى حد الكمال ليصبح بإمكانها اسقاطها. والآن، وقد بلغت ذلك، تسير بالسلطة التنفيذية إلى حد الكمال، تصل بها إلى تعبيرها الصرف، تجعلها في عزلة، تعرضها بنفسها باعتبارها الموضوع الوحيد لكيما تركز ضدها جميع قوى التدمير» (التشديد لنا). «وعندما تتم الثورة هذا النصف الثاني من عملها التحضيري، عندئذ تنهض أوروبا على قدميها وتهتف فرحة: ما أحسن ما تحفر أيها الخلد الهرم!.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire