– ا
أعاتب نفسي
على عدم معاودة الكتابة إليك حتى الآن، مع أنه ليس هنا أي أمر هام لأحدثك
عنه. ولكم فكرت فيك – وأنت في إيستبورن، بجانب سرير جيني المريضة وأثناء
زياراتك اليومية الملتزمة التي طالما رفعت من روح هذا المتذمر الدائم نيك
العجوز. ولكن كوني على ثقة يا طفلتي الغالية بأن فيرمي كان في عطلة منذ
الأسبوع الماضي، وهو يقيم في شارع ميشيليت (وهو ما يطلق على جزء من طريق
مصطفي الكبير) أسفل التل الذي يطل منه فندق فيكتوريا. والفندق على مرمى
حجر منه، بالرغم من أنه يضطر إلى "التسلق" ليصله لعدم وجود طريق لائق
إليه. والحقيقة أنه يواظب في الآونة الأخيرة على زيارتي مما يحبط أفضل
النوايا لكتابة الخطابات عصرا. أما عدا ذلك، فالسيد فيرمي ضيف أرحب به ولا
يفتقد إلى روح الدعابة. فقد أعطيته بعض النسخ من "المواطنين"
و"المساواة" كي يقرأها، فوصل وهو يضحك كثيرا من ما كتبه جيسد "إرهاب
المستقبل" (الذي له أن يستمر) حتى – وقد نشر هذا التوقع بالخط الداكن –
يتم قطع رأس أخر بورجوازي ظالم في الوجود. فيرمي لا يحب الجزائر التي لا
يناسبه مناخها لا هو ولا أسرته (إذ يمرضون بالحمى كثيرا، إلخ.) بالرغم من
أن كل أفرادها – بدء بزوجته - من المواطنين الأصليين. ولكن قبل كل شيء،
مرتبه كقاضي لا يكاد يكفي حتى أبسط احتياجات الحياة، فالمعيشة في عاصمة
المستعمرة أمر مكلف دائما. ولكنه يقر بأنه لا يعرف أية مدينة أخرى في أي
مكان آخر هي مقر للسلطة المركزية وتتمتع بنفس القدر من عدم التدخل وحرية
الحركة، ولا تحتاج إلا لأقل عدد من رجال الشرطة، وهناك شعور غير مسبوق
بعدم الحرج بين العوام. أما السبب في ذلك فهو العنصر المغربي، لأن المسلمين
لا يعترفون بشيء اسمه الخضوع. فهم ليسوا رعية ولا محكومين، ولا سلطة هناك
إلا فيما يختص بالسياسة - وهو أمر فشل الأوربيون في فهمه تماما. رجال
الشرطة قليلون في الجزائر وأغلبهم من السكان المحليين. ومع ذلك، تكثر
التصادمات حتما بسبب هذا الخليط من العناصر الوطنية والأشخاص عديمي
الضمير، وهنا يثبت سكان كاتالونيا سمعتهم القديمة فعلا، فالأحزمة البيضاء
أو الحمراء التي يرتدونها فوق عباءاتهم تشبها بالمغاربة وغيرهم، وليس
تحتها كما يفعل الفرنسيون، كثيرا ما تخفي خناجراً رفيعة طويلة النصل لا
يتواني أبناء كاتالونيا هؤلاء في استخدامها دون تفرقة ضد الأيطاليين
والفرنسيين إلخ. والسكان المحليين على حد سواء. وبهذا الخصوص، فقد تم
القبض على عصابة مزورين منذ أيام في مقاطعة وهران ومن بينهم قائدها الذي
كان ضابطا إسبانيا سابقا، وتبين أن وكالتهم الأوربية تقع في برشلونة عاصمة
كاتالونيا! وقد فلت عدد من هؤلاء المجرمين من الاعتقال وهربوا إلى
اسبانيا. أن فيرمي يمدني بهذه المعلومات وغيرها ما يشابهها. فقد حصل على
عرضين مواتيين من الحكومة الفرنسية، أولهما انتقال إلى نيو كاليدونيا حيث
سيكون مسؤولا عن إدخال نظام قانوني جديد وبمرتب يبلغ 10 آلاف فرنك (سيسافر
هو وأسرته مجانا وسيحصل على سكن حكومي مجاني لدى وصوله) ؛ أما العرض
الثاني فإلي تونس حيث سيشغل رتبة قضائية أعلى هناك وفي ظروف أفضل بكثير
مما هو عليه حاليا. وقد أعطوه فترة محددة ليقرر رأيه - وأراه سيختار هذه
أو تلك.
أمر طبيعي أن أنتقل من فيرمي إلى الطقس، إذ أنه يصب
لعناته عليه بحرية. لم أفوت نزهتي على الأقدام يوما منذ إثنين الفصح
(شاملا ذلك اليوم)، بالرغم من أن الأمس (12 نيسان) هو اليوم الأول الذي
رحمنا فيه من تقلبات نيسان. فبالأمس، هبت علينا الرياح الشرقية الخفيفة
وتلتها رياح هوجاء، ألا أن ذلك كان أفضل طقس مررنا به – فدرجة الحرارة في
التاسعة صباحا (12 نيسان) كانت 19،5 درجة في الظل و35 درجة في الشمس.
وبالرغم من أنني خرجت في نزهة صباحا (12 نيسان) ألا أنني ذهبت لزيارة
جزائر المدينة عصرا لأشاهد السفينة الروسية المدرعة "بطرس الأكبر" التي
وصلت إلى الميناء قبل أيام قليلة.
تكهن مكتب الأحوال الجوية
الرسمي باضطراب جوي شديد يومي 15 و16 نيسان (أي حدوث عاصفة) وكذلك 19 و21
و25 و27 و29 و30 نيسان؛ ومع ذلك فإن الطقس باقي شهر نيسان سيكون صفوا بشكل
عام. ولكن هناك مخاوف بأن أيار سيعوضنا عن عدم مجيء الربيع الجزائري الحق
(والذي لم يبدأ إلا بالأمس) بوصول الصيف مباشرة ومعه الحر الذي لا يمكن
احتماله. ومهما كانت الظروف، فأنا بالرغم من أني عديم الفائدة، لا أشعر
بالرغبة في أن أكون محطة تجارب للأحوال الجوية. فبالنظر إلى غرابة الأشهر
الأربعة والنصف الماضية، الله وحده يعلم ما تدخره الجزائر لنا، وقد غادرت
أعداد كبيرة من القوم الأذكياء شواطئها الأفريقية قبل يومين (وبينهم
"رانك" الشهير). أما أنا فأنوي البقاء حتى يقرر الدكتور ستيفان بأن جانبي
الأيسر بحالة جيدة مجددا، بالإضافة طبعا إلى تلك الندبة التي يعرفها
الأطباء الكبار دونكين وهيوم جيدا، والتي هي نتيجة نوبة سابقة من التهاب
ذات الجنب. وما يرهقني هنا حتى الآن هو السعال المستمر وإن كان معتدلا إلى
حد ما؛ وفوق كل ذلك الملل الشديد.
مقاطعة من نوع ممتع جدا:
طرق على الباب -; أدخل! السيدة روزالي (واحدة من الخادمات هنا) تأتيني
بخطاب منك، عزيزتي كوكادو وخطاب آخر طويل من جاسكون على صفحاته ومظروفه
الختم الرسمي"الاتحاد الوطني"يبدو أنه نجح هذه المرة! ليست هذه واحدة من
تلك الجماعات التي يرعاها السيد هيرتش! ومن جانب آخر يبدو أن مغادرة
إبنتي كاكادو قد باتت وشيكة، ألا أنني أأمل ألا تكون الآن! كما أنني
أعتبره نوعا من التعويض بأن تكون الخالة كوكادو مكسبا ثمينا إلى هذا الحد
لجيني الصغيرة وأطفالها، وبأية حال فباريس ليست بعيدة ولا داعي هناك إلى
تقضية عام بأكمله في لندن. مما يذكرني: هل بعث لافارغ بالجزء التالي من
المقالة إلى بطرسبرغ؟ (لا أدري ماذا حدث للإرسالية الأولى). من بالغ
الأهمية ألا نفقد نقطة ارتكازنا في بطرسبرغ فأهميتها ترتفع يوميا! وهذا
ينطبق على كل من يرسل رسائل إلى هناك.
مقاطعة ثانية: الساعة الآن
1 ظهرا وقد وعدت السيدة كاستيلاز وإبنها والسيدة كلود (من نوفشاتيل)، وهي
مقيمة أخرى هنا، بزيارة "حديقة الحامة" أو"حديقة التجارب". يجب أن نعود
إلى هنا قبل موعد العشاء (6 مساء) إذ أنني لا أتذكر بأني حاولت بذل أي جهد
في الكتابة في وقت متأخر عن ذلك. لذا لن أكتب أكثر من هذا حتى الغد.
وكإضافة بسيطة * لمعرفة كاكادو سأسمح لنفسي بملاحظة أن الحامة هي المكان
الذي نزل فيه 24 ألف جندي بقيادة الامبراطور شارل الخامس (أو كارلوس الأول
عند الأسبان) يوم 23 تشرين اول عام 1541 وأنه اضطر بعد مرور ثمان أيام من
شحن ما تبقى من جيوشه الرائعة التي تحطمت بها سفنه في عاصفة يوم 26
ويجمعها بشق الأنفس في دوريا بماتيفو. ورأس ماتيفو يقع عند الطرف الأقصى من
خليج الجزائر مقابل جزائر المدينة حيث يمكنني أن أراه من شرفة فندق
فيكتوريا باستعمال منظار ثنائي جيد.
الجمعة14 نيسان
*
أبدأ هذا الخطاب في اللحظة التي أصبح لدي بعض ما أضيفه على ما سبق، أي في
الساعة 1 ظهرا. لقد انتهى يوم أمس صحوا تماما مثل يوم 12، وكانت أمسيتا
12 و13 (حوالي 8 مساء) دافئتان – وهذا هو الأمر الرائع – ومعتدلتان
(نسبيا) في نفس الوقت، وهو شيء ممتع. أما صباح اليوم فالدفء قد ازداد بعض
الشيء وبما أن الريح تهب بقوة منذ ساعتين فإني أعتقد بأنها العاصفة التي
تكهنوا بها الأمس ليومي 14 و15.
توجهنا أمس في الساعة 1 ظهرا
إلى مصطفى الصغير من حيث استقلنا الترام إلى "حديقة الحامة" أو"حديقة
التجارب"، وهي تستعمل كمنتزه للعامة تعزف فيه أحيانا الموسيقى العسكرية،
وكمشتل لإنتاج ونشر الخضروات المحلية، وأخيرا كمقر للتجارب العلمية
النباتية وكحديقة لأقلمة النباتات. وهي تقع على مساحة كبيرة جدا، جزء منها
جبلي والآخر سهلي. وستحتاجين إلى يوم بأكمله لمشاهدة تفاصيلها، ويفضل أن
يرافقك شخص مختص في الأمر مثل السيد ديوراندو، أستاذ علم النبات وصديق
السيد فيرمي والعجوز فورييريست. وهو أيضا قائد فرع "النادي الألبي
الفرنسي" في رحلاته المنتظمة أيام الأحد. (أنا نادم جدا على أن ظروفي
البدنية والحظر الصارم الذي فرضه على الدكتور ستيفان لم يتيحا لي حتى الآن
المشاركة في هذه الرحلات مع أن الدعوة قد وجهت لى 3 مرات).
تناولنا
القهوة قبل دخولنا إلى الحديقة، وبالطبع تناولناها في الهواء الطلق بأحد
مقاهي المغاربة. وقد حضرها المغربي بشكل ممتاز، وكنا على الضفة. بجوارنا،
على طاولة خشنة المظهر جلس حوالي ستة من الزوار المغاربة القرفصاء، كل
واحد فيهم مستمتع بجهاز تحضير القهوة الخاص به (كل شخص هنا يحصل على واحد
منها) وهم يلعبون الورق معا (وهي من انتصارات الحضارة عليهم). يا له من
منظر ملفت للأنظار: فبعض هؤلاء المغاربة ارتدى أزياء فاخرة بل وتنم على
الثراء بينما الآخرون لبسوا ما أطلق عليه اسم القمصان، بعضها من الصوف
الأبيض ولكنها أسمالا بالية - ألا أن في نظر المسلم الحقيقي لا تعتبر مثل
هذه المصادفات، أو حسن الحظ أو سؤه، أمرا يفرق أبناء أمة محمد عن بعضهم
البعض. هناك مساواة كاملة في تعاملاتهم الاجتماعية، وهي ليست مصطنعة. بل
على العكس، أنهم لا يشعرون بها إلا عندما تفسد أخلاقهم. أما فيما يختص
بكرههم للنصارى وأملهم في الانتصار نهائيا على هؤلاء الكفار، فإن لساستهم
الحق الكامل في اعتبار هذه المشاعر وهذه المساواة (وهي المساواة في
الشخصية لا في المال أو الجاه) كضمان المحافظة على الأول وعدم التنازل عن
الثاني. * (ومع ذلك فبدون وجود حركة ثورية لن يصيبهم سوى الخراب).
*أما
فيما يخص الجزء السهلي من "حديقة التجارب" فتعليقي الوحيد هو: تمر بطولها
ثلاث طرقات كبرى رائعة الجمال – فمقابل المدخل الرئيسي هناك طريق الأشجار
الساحلية يليه طريق النخيل الذي ينتهي عند واحة بها 72 نخلة ضخمة وتحدها
السكة الحديدية من جهة والبحر من جهة أخرى؛ والطريق الأخير هو طريق
المغنولية ونوع من أشجار التين (فيكوس روكسبورغي). وهذه الطرقات الثلاثة
تتقاطع معها طرقات كثيرة أخرى، مثل طريق أشجار الخيزران المدهش، طريق
النخيل ذو القنب، طريق أشجار السقرطي، واليوكاليبتوس (أشجار تاسمانيا
الصمغية الزرقاء)، إلخ. (وهذه النباتات الأخيرة إنما تنمو نموا سريعا
للغاية).
وبطبيعة الحال لا يمكن تقليد هذه الأنواع من الطرقات في "حدائق التأقلم" الأوربية.
عصرا
عزفت فرقة عسكرية الموسيقى في ساحة كبيرة تحيطها أشجار الدلب، وكان
قائدها وهو ضابط صف مرتديا البزة العسكرية الفرنسية العادية بينما ارتدى
العازفون (وهم من الجنود) سراويلا حمراء فضفاضة (على الطراز الشرقي)
وأحذية بيضاء طويلة من اللباد بها أزرار تصل إلى طرف السروال، وعلى رؤوسهم
الطرابيش الحمراء.
وبما أننا نتحدث عن الحدائق، فأنا لم أذكر
(بالرغم من أن بعضا منها كان محببا جدا لأنفي) أشجار البرتقال والليمون –
وكذلك أشجار اللوز والزيتون، إلخ، ولا أنواع الصبار والألوة التي تنبت
أيضا بأشكالها البرية (ومثلها اللوز البري والزيتون البري) في هذه البلد
الوعرة التي نقيم بها.
وبقدر ما أمتعتني هذه الحديقة، يجدر بي
أن أذكر بأن الشيء المقيت في هذه الرحلة ومثيلاتها هو الغبار الطباشيري
في كل مكان. فمع أنني كنت بخير طوال العصر وبعد عودتي إلى المنزل وأثناء
الليل، ألا أن سعالي يضايقني بسبب تهييج الغبار.
أتوقع حضور الدكتور ستيفان اليوم ولكني لا أقدر على تأجيل بعث هذه الرسالة ، وسوف أقوم بإرسال تقرير إلى فريد فيما بعد.
وختاما،
دعنا - كما إعتاد ماير السوابي على القول - دعنا نلقي نظرة على الأمور من
وجهة نظر تاريخية عليا. فالعرب البدو (الذين انحطوا كثيرا في عدد من
النواحي مع احتفاظهم بالعدد من الصفات الحميدة جدا بسبب صراعهم على
البقاء) لديهم ذكريات عن فلاسفتهم وعلمائهم العظماء إلخ. وهذا هو في
اعتقادهم سبب احتقار الأوربيين لهم لجهلهم الحالي. وفيما يلي رواية قصيرة
ذات مغزى هي نموذج للفلكلور العربي.
على طرف مياه نهر هائجة
استعد قائد قارب صغير في انتظار الفيلسوف الذي يرغب في العبور إلى الشط
الآخر. ويركب الفيلسوف ثم يبدأ المحاورة التالية:
الفيلسوف: أتعرف شيئا من التاريخ يا قائد القارب؟
قائد القارب: كلا!
الفيلسوف: إذا أضعت نصف عمرك!
وبعد قليل: الفيلسوف: هل درست الرياضيات؟
قائد القارب: كلا!
الفيلسوف: إذا أضعت أكثر من مجرد نصف عمرك!
وما كاد الفيلسوف أن ينطق بهذه الكلمات حتى قلبت الرياح القارب قاذفة بكلى الرجلين في الماء. وحينها صاح
قائد القارب أتعرف السباحة؟
الفيلسوفr: كلا!
قائد المركب: وحيك، فقد أضعت عمرك كله!
أأمل أن يفتح ذلك شهيتك للأمور العربية.
لك محبتي الشديدة وقبلات كثيرة.
نيك العجوز
(مع تحياتي للجميع)
ماركس إلى لورا لافارغ في لندن
[الجزائر] الخميس 13 نيسان 1882
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire