هل يمثلون الإسلام أم يمثلون أنفسهم؟!
علاء الأسواني
ماذا تفعل لو تعاملت مع شخص فوجدته كاذبا، كلما وعد لا ينفذ وعده وكلما قال شيئاً تبين أن الحقيقة عكس ما يقوله.. النتيجة الطبيعية أن تفقد الثقة تماماً فى هذا الشخص الكاذب ولكن إذا كان هذا الكاذب يرتدى الجلباب الأبيض ويطلق لحيته وعلامة الصلاة ظاهرة على جبينه ويقدم نفسه على أنه داعية إسلامى يسعى لإقامة شرع الله.. عندئذ سيتعقد الأمر. المفترض فى هذه الحالة أن تكون جريمة المتحدث باسم الدين مضاعفة.. مرة لأنه كذب ومرة لأنه أعطى نموذجاً سيئاً للمسلم. على أن ما يحدث فى مصر عكس ذلك، فالمتحدثون باسم الإسلام مهما كذبوا وخانوا العهود ومهما تورطوا فى فضائح سيجدون دائماً أناساً يدافعون عنهم ويلتمسون لهم الأعذار.
هؤلاء المدافعون ليسوا أغبياء ولا حمقى إنما هم يعتبرون المتحدثين باسم الإسلام جزءا من الإسلام، وبالتالى فإن الحديث عن أخطائهم أو أكاذيبهم يعتبر هجوما على الإسلام لا يسمحون به أبدا.. الإخوان المسلمون خالفوا كل العهود. تعهدوا بأن ينافسوا على ربع مقاعد مجلس الشعب ثم نافسوا على المقاعد جميعاً وأثناء الانتخابات ارتكبوا كل أنواع المخالفات الانتخابية بدءا من شراء الأصوات إلى تشويه المنافسين لهم بالشائعات المغرضة والطعن على دينهم وقد تعهدوا بأنهم سيكتبون الدستور بمشاركة كل القوى السياسية الأخرى ثم نقضوا عهدهم واستأثروا وحدهم بلجنة كتابة الدستور، وقد تعهدوا مرارا وتكرارا بأنهم لن يتقدموا بمرشح رئاسى وكالعادة نقضوا عهدهم وتقدموا بمرشحهم خيرت الشاطر.. كثيرون من مشايخ السلفية، فى فيديوهات مسجلة بالصوت والصورة، وقفوا ضد الثورة ودعوا المتظاهرين إلى العودة إلى منازلهم وحرَّموا الخروج على حسنى مبارك ومنهم من حرَّم الديمقراطية والانتخابات وتداول السلطة.. لكنهم انقلبوا جميعا بعد نجاح الثورة وغيروا آراءهم وأنشأوا أحزابا وخاضوا الانتخابات..
هذا الانقلاب فى الموقف بغير دليل شرعى مقنع يدل على أنهم كذبوا فى أحد الموقفين، إما أنهم كذبوا عندما حرموا الديمقراطية وإما أنهم كذبوا عندما أباحوها من أجل الوصول إلى السلطة.. هذه الأخطاء الأخلاقية لو فعلتها أى جماعة سياسية أخرى لسقطت فى نظر الناس إلى الأبد، على أن مسلمين كثيرين يعتبرون الإخوان والسلفيين يمثلون الدين وبالتالى يجدون صعوبة فى إدانتهم مهما ارتكبوا من أخطاء ومهما تورطوا فى فضائح..
هذا التقديس الزائف للأفراد ليس من الإسلام فى شىء بل هو فى الواقع عكس ما يأمرنا به الإسلام الذى يؤكد أن كل إنسان مهما علا قدره يجب أن يحاسب على أخطائه.. لقد كان أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب (رضى الله عنهما) من كبار الصحابة ومن أقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تولى كلاهما منصب الخلافة فكان الناس ينتقدونهما بشدة على الملأ فيتقبل عمر وأبوبكر نقد الناس لهما بصدر رحب ويسعيان جاهدين إلى الدفاع عن قراراتهما ويسارعان إلى الاعتذار إذا ارتكبا أى خطأ.. لعل الفرق بين الثقافة التى تسمح بنقد خليفة رسول الله وتلك التى تحرم الخروج على الحاكم وتمنح القدسية للمشايخ وتحصنهم ضد النقد.. هو ذاته الفرق بين عصور النهضة وعصور الانحطاط فى التاريخ الإسلامى. الفرق بين الفهم الصحيح للدين والفهم الخاطئ الذى يتمثل الدين فى أشخاص فيكاد يعصمهم من الخطأ ويقدسهم.
إن استغلال مشاعر البسطاء الدينية كان دائما سلاحا فى يد الاستبداد، ففى عام 1882 عندما حشد أحمد عرابى الجيش المصرى ليدافع عن مصر ضد الغزو البريطانى أوعز الإنجليز إلى السلطان العثمانى باعتباره خليفة المسلمين فأصدر فتوى دينية أكد فيها أن «عرابى» خارج على تعاليم الإسلام، وللأسف أثرت هذه الفتوى فى عامة المصريين وكانت من أسباب هزيمة الثورة العرابية.. وفى عام 1798 جاءت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت لاحتلال مصر.. كان «بونابرت» ملحداً لكنه أراد أن يستغل مشاعر المصريين الدينية فأشاع أنه أسلم وارتدى الملابس الشرقية وكان يؤم المسجد يوم الجمعة، وقد ألقى فور وصوله إلى القاهرة بياناً عجيباً إلى المصريين بدأه بالبسملة والحوقلة ثم قال: «أيها المشايخ والأئمة قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم نزلوا فى روما الكبرى وخربوا فيها كرسى البابا الذى كان يحث النصارى على محاربة المسلمين»..
هكذا تم استغلال مشاعر البسطاء الدينية مرة بعد أخرى عبر تاريخنا لصالح السلطة المستبدة الظالمة.. إن الفهم الصحيح للدين لا يمنح قداسة لأشخاص مهما كانت مكانتهم ويرسى القيم الإنسانية العظيمة: الحرية والعدل والمساواة.. إن التاريخ يعلمنا أنه عندما يتم تقديس رجال الدين ورفعهم فوق مستوى البشر يتحول الدين فوراً من طاقة إنسانية إيجابية تدفع المجتمعات إلى الحرية والتقدم إلى أداة رجعية تؤدى إلى استبداد السلطة باسم الدين. لعل ذلك ما انتبه إليه عمر سليمان، نائب المخلوع مبارك، عندما وضع خطته لإجهاض الثورة المصرية التى نفذها بعد ذلك المجلس العسكرى بحذافيرها..
فقد تحالف عمر سليمان مبكراً مع الإخوان المسلمين لثقته أنهم يستطيعون دائماً استغلال مشاعر الناس الدينية وحشدهم لتحقيق أى هدف سياسى يروق لهم. فى يوم 4 فيراير عام 2011، قبل تنحى مبارك، عقد عمر سليمان اجتماعاً مع الإخوان المسلمين خرج بعده الدكتور الكتاتنى (رئيس مجلس الشعب الآن) ليؤكد فى التليفزيون أن كلام عمر سليمان موضوعى، وأن هناك مخططاً لإحراق البلد يجب على الإخوان معاونة نائب مبارك فى التصدى له، وأكد «الكتاتنى» أنه اتفق مع نائب المخلوع على إلغاء الطوارئ والتشاور مع المتظاهرين لإخلاء الميدان وإجراء التعديلات الدستورية وانتخابات النقابات.. أى أن الإخوان لما اطمأنوا إلى تحقيق مصالحهم أيدوا عمر سليمان وتجاهلوا مطلب الثورة فى دستور جديد وأبدوا استعدادهم لإقناع المتظاهرين بالانصراف من الميادين.
الإخوان المسلمون من البداية وضعوا مصالحهم السياسية قبل أهداف الثورة. مرة أخرى لو فعل ذلك أى سياسى مصرى لتحول فى نظر المصريين إلى خائن للثورة، لكن الإخوان وجدوا من يدافع عن صفقتهم لأنهم فى نظر الكثيرين يمثلون الإسلام فلا يجوز انتقادهم.. تنفيذا للصفقة عمل الإخوان والسلفيون لحساب المجلس العسكرى وأقنعوا الناس بأن الموافقة على التعديلات الدستورية واجب شرعى على كل مسلم، وأكدوا أن رفض التعديلات الدستورية ليس سوى مؤامرة ضد الإسلام يقودها الأقباط وكارهو الدين من العلمانيين والشيوعيين..
هكذا تحول الاستفتاء إلى معركة دينية بين المؤمنين والكفار، وضاعت على مصر فرصة تاريخية لكتابة دستور جديد كان كفيلا بإقامة الدولة الديمقراطية على أسس صحيحة لكن المجلس العسكرى رفض الدستور الجديد لأنه كان سيؤدى إلى إسقاط نظام مبارك الذى استمات المجلس العسكرى فى الدفاع عنه.. لقد صار الإخوان والسلفيون بعد الثورة للأسف بمثابة الجناح السياسى للعسكر.. لقد وافق مصريون كثيرون على التعديلات الدستورية دون أن يعرفوا معناها بدليل أن المادة 28 التى تحصن قرارات اللجنة المشرفة على الانتخابات ضد الطعن، والتى ستستعمل حتما فى تزوير الانتخابات الرئاسية، تلك المادة المشينة يعترض عليها الآن مصريون كثيرون بغير أن ينتبهوا أنها كانت ضمن التعديلات الدستورية التى وافقوا عليها فى الاستفتاء وهم يعتقدون أنهم يحمون الإسلام كما أكد لهم المشايخ.. أذكر أننى ذهبت يوم الاستفتاء للإدلاء بصوتى ولما كان الطابور طويلا فقد دخلت فى حوار مع الرجل الواقف أمامى الذى سألنى:
- هل ستوافق على التعديلات؟!
- سأرفضها لأننا يجب أن نكتب دستورا جديدا بعد الثورة.
- أنا سوف أوافق على التعديلات.
- لماذا؟
- لأن الشيخ محمد حسان دعانا جميعاً للتصويت بـ«نعم» على التعديلات.
انزعجت وقلت له:
- اسمح لى.. يجب أن تكوّن رأيك بنفسك.
ابتسم الرجل وقال:
- الشيخ حسان يفهم أحسن منى مائة مرة.. من أكون أنا حتى أخالف رأى الشيخ حسان؟!
لا شك أن هناك آلاف المصريين يتصرفون بهذه الطريقة، فهم يلغون عقولهم تماما (على عكس ما يدعو إليه الإسلام) ويسلمون أنفسهم تماما إلى ما يقوله شيخهم المفضل. وهم تعصبون لشيخهم تعصباً شديداً فيرفضون آراء كبار العلماء مثل الإمام محمد عبده والإمام الغزالى إذا خالفت آراء شيخهم، بل إنهم يهاجمون بشراسة كل من ينتقد شيخهم. جرب يا عزيزى القارئ أن تدخل على الإنترنت وتوجه نقداً لآراء أحد مشايخ السلفية أو الإخوان، عندئذ سوف يعاجلك أتباع الشيخ بسيل من البذاءات والشتائم المقذعة. هؤلاء الشتامون مسلمون مخلصون وقد يكونون أشخاصا مهذبين فى حياتهم اليومية لكنهم ببساطة يعتبرونك عدوا للدين لأنك تجاسرت على انتقاد شيخهم الذى يمثل فى نظرهم الدين وبالتالى فهم يشتمونك دفاعاً عن الدين.. الشيخ المحلاوى فى الإسكندرية يؤكد دائما أثناء خطبة الجمعة أن الليبراليين واليساريين جميعاً أعداء الدين، وعندما اعترض أحد المصلين على هذا الكلام طرده الشيخ من المسجد (الذى هو بيت الله) ثم أعلن الشيخ المحلاوى رأيه بوضوح:
«من يكرهنى إنما يكره الإسلام الذى أريد تطبيقه».
هذا الفهم الخاطئ للدين الذى يؤدى إلى تقديس المشايخ كان العامل الحاسم فى الصفقة بين الإخوان والعسكر.. وسواء كان الأمر يتعلق بتعديلات دستورية أو بمرشح رئاسى أو بأى شىء آخر فإن الإخوان والسلفيين سيحيلون الموضوع فورا إلى تصويت دينى.. سيكون هناك رأى المشايخ الذى هو بالضرورة رأى الإسلام ورأى من يختلفون معهم، وهؤلاء جميعا أعداء الدين.
هكذا يتحول النقاش السياسى إلى صراع دينى تحت قصف مُركّز من الأكاذيب والمغالطات فيضمن المجلس العسكرى النتائج التى يريدها دون اللجوء إلى تزوير الصناديق كما كان يفعل مبارك.. على أن أحدا لا يستطيع أن يخدع الناس جميعا إلى الأبد.. إن تحالف المجلس العسكرى مع الإخوان والسلفيين الذى تخلوا بموجبه عن أهداف الثورة مقابل وصولهم إلى السلطة، يبدو الآن أوضح وأقبح من أى وقت مضى. لقد بدأ المصريون يدركون أن الإخوان والسلفيين لا يمثلون الإسلام وإنما يمثلون أنفسهم . إن الإسلام يدعونا إلى معرفة الرجال بالحق وليس الحق بالرجال.. إن الثورة المصرية، بعد أن خانها من خان وتآمر عليها من تآمر، تعثرت وتعطلت صحيح لكنها مازالت قوية وحية.. الثورة مستمرة وستنتصر بإذن الله لتقود مصر إلى المستقبل الذى تستحقه.
الديمقراطية هى الحل.
لقد أثبتوا أنهم أذكى سياسيا،وما علينا في ظل أمراضنا اليسارية المزمنة من ردة موسمية كلما فتح سوق المزاد ، ومن تناطح على الزعامات وإدمان على تفريخ تكتلات سياسية ونقابية وفئوية متقاتلة فيما بينها خدمة لمصالح شخصية بحتة ... فلنقبل بشروط اللعبة ، ولنترحم على مشاريع لنا بقيت في إطار الأحلام والخطب والمقالات والتنظيرات المنفصلة تماما عن الأرض...
RépondreSupprimerCe commentaire a été supprimé par l'auteur.
RépondreSupprimer