بخصوص اليسار؟
أخبرني يا صديقي، هل سمعت يوما عن واحد -و العياذ بالله- يساري؟! هل لي أن أسألك ماذا تعرف عن اليسار السياسي؟
في البداية، دعونا نُرسي الحقائق التالية
لم ينهار اليسار و أفكاره –على رأسها الإشتراكية- مع إنهيار الإتحاد السوفيتي؛ لأن الإتحاد السوفيتي لم يكن في الأصل نظاما إشتراكيا بل كان نظاما شموليا استبداديا، استغل الإشتراكية بما تحمله من مبادىء عُليا ليجعلها واجهة براقة لسياسته القمعية المستبدة
لم يكن النظام في مصر يوما نظاما إشتراكيا؛ إن ما عاشته مصر في الحقبة الناصرية كان صورة من صور رأسمالية الدولة؛ جاءت البداية مبشرة من خلال قوانين الإصلاح الزراعي و مجانية التعليم وبوادر التصنيع، و لكن سرعان ما تحول محاسيب القصر إلى محاسيب العسكر و فسد كل شيء
لقد حان الوقت لأن ندرك جميعا أن ما تعيشه البشرية اليوم من مآسي الفقر المُدقع و البطالة الساحقة لكل ما تتسم به النفس البشرية من قيم سامية، إنما هو نتيجة لما وصل إليه النظام الرأسمالي من إنحطاط قيمي يجعله خطر علي كل ما هو إنساني. تلك هي الرسالة القادمة من "قِبلة" الرأسمالية، وول ستريت، فذلك هو ما يحاول 5000 مواطن أمريكي إيصاله للبشرية من خلال إعتصامهم في وول ستريت، وكر مصاصي دماء الشعوب
اليسار لا يتبنى أي موقف سلبي تجاه الدين. و لماذا سيتبنى هكذا موقف أصلا؟ و هو فكر سياسي إجتماعي لا دخل له في ديانات الناس و معتقداتهم
*****************
و لنبدأ من الثورة، السبب الرئيسي لقيام الثورة كان شعور المواطن المصري أنه "مالوش حق في البلد ديه" لا في تعليم و لا في صحة و لا في رواتب؛ فكر اليسار السياسي يتلخص بمنتها البساطة في حل هذة المشكلات عن طريق إنهاء إستغلال طبقة معينة على قمة الهرم الإجتماعي لباقي طبقات الشعب
يوجد بكل المجتمعات شريحة من الناس أصحاب نفوذ مالي ينتج عنه نفوذ سياسي، هدف تلك الشريحة الأساسي هو تحقيق الربح المادي السريع دون أي مراعاة لحق باقي طبقات المجتمع في العيش و نيل حياة كريمة. وأظن أن المواطن المصري يعرف جيدا كيف ساهمت تلك الطبقة المُستغلة -بطبعها- في "التنكيد" عليه على مدار 37 سنة منذ بداية ما يُعرف بالإنفتاح الإقتصادي
اليسار حينما يتكلم عن العدالة الإجتماعية لا يتعامل معها على إنها "شر لابد منه" مثلما يتعامل معها 'الليبراليون الجدد'؛ فمثلا، عندما أسمع نجيب ساويرس يتكلم عن حرصه على تحقيق العدالة الإجتماعية، تصيبني حالة من الضحك المصحوب بشعور بالإستغفال ثقيل الوزن. فالعدالة الإجتماعية عند اليسار تتخطى مفهوم الهبات و العطايا، تتخطى مفهوم الجمعيات الخيرية؛ إنها حق
لا منحة أو فضل من فئة على غيرها
اليسار هدفه هو بناء دولة مصرية يكون عمادها الأساسي صناعة وطنية حديثة تعود بكامل أرباحها على كافة من يعملون بها؛ لا لحفنة من من أعضاء مجالس الإدارات و كبار المديرين. ذلك بالإضافة إلي إستثمار أجنبي قادم ليساعد علي زيادة خبرات كوادر الصناعة المصرية، لا ليستغل السوق المصري لتضخيم عوائد إستثماراته
ولقد ناضل اليسار طويلا من أجل إنقاذ الإقتصاد المصري من عبث سياسات البنك الدولي الإستغلالية؛ و من المعلوم بالضرورة أن الهدف الأول و الأخير لتلك السياسات في دول العالم الثالث -كمصر- هو إغناء الغني و إفقار الفقير و تحقيق مصالح الكيانات الرأسمالية المُسيطرة على العالم
*****************
حينما تتأمل الحالة الهيستيرية التي أصابت من يسمون برجال الأعمال –هم في الواقع رجال التوكيلات الأجنبية و عمولات السمسرة- عندما نُشر خبر إحتمالية فرض ضريبة 10% على الأرباح الرأسمالية في البورصة، ينتابك شعور بالحسرة من إنتهازية هؤلاء الناس
فهم ظلوا يجمعون الأرباح لسنين و مع ذلك غير مستعدين بالمرة لأن يردوا نسبة بسيطة جدا من حق المجتمع، ذلك المجتمع الذي صنع لهم تلك الأرباح من الأساس. و قد مهدت كل حكومات الدكتاتور المخلوع الطريق لهؤلاء من خلال تمرير و تقنين الفساد على مدار السنين من خلال حجة تشجيع الإستثمار الأجنبي و منح تسهيلات لرجال الأعمال
و قد ظهرت تلك الظاهرة في أكثر صورها فجاجة من خلال ما يعرف بالخصخصة؛ التي شردت آلاف العمال و لم تضف للصناعة المصرية شيئا يذكر؛ كان الغرض الوحيد لتلك العمليات المشبوهة هو جني الأرباح حتى لو كانت هذة الأرباح على حساب الإقتصاد الوطني
دعني أؤكد لك أنني لا أسعى الى "شيطنة" رجال الأعمال، فمنهم الطيب و لكن –للأسف- أكثر من في وطني منهم هو الخبيث و لعل ذلك يرجع الي حالة "فساد بارتي" التي عاشتها مصر لعقود
*****************
قد يختلف الليبراليون و تيارات الإسلام المُسيّس على مسائل مثل موقف الدولة المصرية من قضية حرجة كقضية "البكيني" و كيف ستتعامل الدولة مع ملهى "باشا" بشرم الشيخ
و لكن حينما نبتعد عن تلك النوعية من الكلام الفارغ و نتجه صوب ما يمس حياة المواطن المصري القاطن بالوراق سنجد أيما إتفاق في السياسات الإقتصادية التي سيتبعها كلاهما؛ سياسات السوق الحر و المُتحرر من اي شيء نبيل و هَلُمَّ بالإستثمار الأجنبي سواء كان أمريكيا أو سعوديا و ليستمر إستغلال الكادحين و المُعدمين
و لن تجد أي منهما يتحدث عن فرض نظام ضرائب تصاعدية كالمعمول به في اعتى الدول الرأسمالية كبريطانيا و الولايات المتحدة؛ فكلا التيارين مدعوم ماليا بألة رأسمالية لن ترضَ أن تُمس مصالحها بهكذا إجراء يساعد على تضييق الفجوات الشاسعة بين طبقات المجتمع
*****************
اليسار تيار عريق في مصر (منذ عشرينات القرن الماضي) و له نصيب الأسد من الإسهامات الثقافية و التنويرية التي أثرت المجتمع المصري في العصر الحديث
لكن للأسف كان دائما مُحارب من أي نظام حاكم لمصر إبتداءاً من حكومات "الوفد" إلى أن أصبحت الحرب مُعلنة عليه في عهد السادات
*****************
لقد كان من الممكن أن أتناول في هذا المقال مصطلحات من نوعية "دكتاتورية البروليتاريا" و "الإشتراكية الثورية" لكنني قررت ألا أقع في نفس الفخ الذي وقعت فيه كل التيارات اليسارية العربية عموما والمصرية خصوصا؛ التي من المفترض أن تتواجد في الشارع؛ تركت الشارع و جلسوا في الصالونات الفكرية يناقشوا: يا ترى تروتسكي كان بيقصد ايه بنظرية "الثورة الدائمة"، طب، و لماذا فشلت تجربة "كومونة باريس"؟
و هنا أتوجه بحديثي إلى الأحزاب اليسارية الناشئة؛ إلى متى ستظلون تلقون باللوم على قلة الموارد المالية المتوفرة لديكم. بالطبع لا يمكن إنكار أهمية الدور الذي يلعبه المال في العمل السياسي و لكن يوجد العديد من الحالات التي يتضائل بها هذا الدور
فمثلا، يوجد قطاع عريض من أبناء مختلف شرائح الطبقة الوسطى لا يكترث ل"شنطة" الإخوان و لديه من الوعي ما ينجيه من مجاهل السلفيين. حينما قرر ذلك القطاع -الشاب المتعلم- الإنخراط في الحياة السياسية لم يجد أمامه سوي الأحزاب الليبرالية المدعومة بآلة إعلامية مُتضخمة، فهؤلاء الشباب لم يسمعوا يوما عن اليسار و أفكاره. ولكن المدهش أنك حينما تحدث أحدهم عن اليسار تجد لديه استعدادا لتبني مبادئه بل و التحمس إليها أيضا
لذا يجب على اليسار أن يحشد قواه و ينزل الشارع و يُعرف نفسه لكل أطياف المجتمع المصري تحديدا طلبة الجامعات –و أنا منهم- فهؤلاء هم المُتعطشون للعمل السياسي؛ بالإضافة إلى العمال و الموظفين؛ و يوضح لهم أهدافه المُمثلة في إقامة مجتمع مصري مُنتج؛ ينعم أفراده بحق عادل في التعليم و الصحة على أعلى مستوى مُمكن
مجتمع يوجد به نظام ضريبي يساعد على توزيع الثروة بشكل منطقي و عادل بين كل طبقات المجتمع- ليس نظاما ضريبيا، كالمعمول به الأن، يساوي -تقربيا- في نسبة الضريبة المستحقة بين موظف درجة ثانية في وزارة الصحة و شركة مثل فودافون
شعار الثورة المصرية كان: عيش-حرية-عدالة إجتماعية، و لا يمكن على مُنْصِف إنكار "يسارية" ذلك الشعار
فادي محمد
Ta7iaté
RépondreSupprimer