2003 / 11 / 16
تقـــديـــم :
تتعرض الماركسية، حاليا، لهجومات شرسة ترتكز على بعض الاطروحات والوقائع التي توظف لمحاربتها وتشويهها :
-فانطلاقا من أزمة أو فشل بعض تجارب البناء الاشتراكي يتم استنتاج أن الماركسية فشلت وتجاوزها التاريخ.
-إذ يتم تشويه الماركسية كي يسهل انتقادها وذلك عبر تسطيحها وتحويلها الى نقيضها أي إلى منظومة من المقولات ( Système ) منغلقة على نفسها وكاملة ومنتهية، بينما تعتبر الماركسية منهجا وأطروحات منفتحة وقابلة للتطور باستمرار. ويتم الرجوع، في هذا المجال إلى ما لقيته الماركسية من تشويه وتسطيح على يد بعض " الماركسيين " أنفسهم[1] إضافة إلى بعض أخطاء ونواقص ماركس وانجلز ولينين.
- كما يتم التشكيك، أيضا في أطروحتها الأساسية. وذلك من خلال نفي الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية في المرحلة التاريخية الحالية ، اما عبر إنكار دور الصراع الطبقي وتعويضه بتناقضات فعلية كالصراع الديني أو الطائفي أو القومي مثلا، هاته التناقضات التي تظل في نظرنا، محددة، في نهاية المطاف، بالصراع الطبقي، أو عبر تضبيب مفهوم البروليتاريا وصولا إلى نفي وجوده.
والجدير بالذكر، بهذا الصدد، أنه لا يمكن، في مقال مثل هذا، مناقشة كل هذه الإشكاليات الهامة. لذلك سنكتفي بتوضيح الجوهر الحي والثوري للماركسية منتقدين، في نفس الآن، الانحرافات والتشويهات التي لحقتها والنواقص والأخطاء التي يتطلب تجاوزها القيام بالمزيد من الاجتهادات النظرية ارتباطا بتطوير الممارسة النضالية.
ووعيا منا بأن الماركسية ترفض التعريفات لان هذه الأخيرة ترتكز على عزل العنصر الذي يتم تعريفه عن غيره من العناصر وتجميده في الزمان، وأن الماركسية ترتكز على العلاقات والصيرورات ( وليس على الأشياء )، فإننا سنجازف، تسهيلا للعرض، بإعطاء تعريف للماركسية محاولين، ما أمكن، أن يكون منفتحا و " شاملا " وساعين عند توضيحه إلى تجاوز نواقصه وعلاته.
ومن تم، فإننا نعتبر أن الماركسية هي النقد النظري والعملي للرأسمالية ولكل أشكال الاستغلال والاستلاب والعسف التي تلازمها وللإيديولوجيات التي تنتجها، ذلك النقد الذي ينطلق من موقع البروليتاريا ومصالحها الآنية والاستراتيجية ويرتكز على المادية الجدلية.
بيد، أنه قبل أن نفصل القول في هذا التعريف، لا بد من توضيح ما يلي :
إن نظرية ماركس ليست كاملة ولا مقدسة :
إن الماركسية، أذن، هي الفكر والممارسة القادران على الاستيعاب والتجاوز الجدلي لتناقضات الرأسمالية على الصعيد العالمي أي، بصيغة أخرى، تخطي تناقضات المرحلة التاريخية الطويلة التي تؤدي إلى اندحارها واقامة الشيوعية حيث يتم، في نفس الحركة، اضمحلال الدولة وبروز الإنسان المتحرر والمتحكم في علاقاته بالطبيعة والمجتمع مع بزوغ الحضارة الإنسانية الحقيقية.
وغني عن البيان القول بأن منهج ماركس وانجلز يناقض، تماما، أي تصور لفكرهما باعتباره نسقا أو منظومة كاملة وشاملة[2] أو باعتباره قوانين صالحة لكل مكان وزمان ويكفي تطبيقها على الواقع العيني لتغييره، الشيء الذي عبر عنه لينين بوضوح ودقة قائلا :
" إننا لا نعتبر نظرية ماركس كشيء كامل " Acheve ومقدس، بل على العكس نحن مقتنعون أن ماركس وضع فقط أحجار الزاوية للعلم الذي يجب على الاشتراكيين ان يقدموه في كل الاتجاهات حتى لا يتأخروا عن تطور الحياة.
إننا نعتقد أن الاشتراكيين الروس يجب، بكل تأكيد أن يطوروا بأنفسهم نظرية ماركس لان هذه الأخيرة لا تدل سوى على مبادئ موجهة عامة تنطبق بشكل مختلف في كل حالة خاصة، في انجلترا بشكل مختلف عن فرنسا، وفي فرنسا بشكل مختلف عن ألمانيا، وفي هذه الأخيرة بشكل مختلف عن روسيا "[3].
من خلال تمعن قول لينين يتضح مدى الأهمية البالغة التي تكتسيها الكلمات المستعملة. ذلك أن لينين لا يعتبر أن الماركسية تقدم قوانين عامة تتحكم في سير المجتمعات والعالم، وانما يعتبر ان الماركسية تقدم، فقط مبادئ عامة توجه التفكير والممارسة، تلك المبادئ التي لا تكتسب مضمونها الملموس الا بفضل تطبيقها الخلاق في كل حالة خاصة على حدة.
وعلى هذا الأساس، فالماركسية في تعريفنا ليست فقط ما أنتجه ماركس وانجلز من فكر ( وان كانا قد وضعا حجز الزاوية للعلم الماركسي كما يطرح ذلك لينين )، ولكن هي أيضا، إسهامات كل الذين تبنوا تلك المبادئ الموجهة العامة، وعملوا، عبر اندماجهم في حركة البروليتاريا، في بلدانهم، على تطوير تلك المبادئ واغنائها بفضل تطبيقها الخلاق على الواقع الملموس لمجتمعاتهم.
كما أننا نجد ان كتابات انجلز تشتمل هي أيضا، على نفس الأفكار السابقة كما يتضح من المقطعين التاليين :
· " إن المنهج المادي يتحول إلى نقيضه كلما استعمل ليس كخيط موجه " fil conducteur " للبحث التاريخي بل كنموذج جاهز يتم بفضله تقطيع واعادة تقطيع الوقائع التاريخية ".
· " إن نظرتنا للتاريخ هي قبل كل شيء توجيه للبحث "[4]
هكذا، إذن يظهر أن جوهر الماركسية يتناقض مع الدوغمائية ومع فكرة النموذج الجاهز والصالح لكل مكان وزمان والذي يجب إدخال الواقع فيه رغم أنفه وأكثر من ذلك، فإن ما ينبغي استحضاره في كل لحظة، هو أن الماركسية تنطلق من تحليل الواقع كما هو[5].
وهكذا، تعرف الماركسية التقهقر والتفسخ كلما تحولت إلى منظومة أو كلما توقف الاجتهاد والإبداع أو حينما تتحول إلى تبرير للواقع عوض أن تكون منهجا ونبراسا للتغيير الثوري على طريق إقامة الاشتراكية فالشيوعية. ولعل أخطر تسطيح وتحجير للماركسية تم حين أصبحت ايديولوجيا الدولة السوفياتية أيام ستالين الذي أعطى أجوبة نهائية لكل قضايا الماركسية انطلاقا من فكرة أن الماركسية- اللينينية تقدم قوانين جاهزة وصالحة لكل مكان في مرحلة الرأسمالية ومرحلة البناء الاشتراكي، بل انه حدد نفس المراحل لتطور كل المجتمعات منذ ظهور المجتمعات البشرية. وقد أدى ذلك إلى أنه عوض النظر الى الواقع كما هو تم اعتبار العناصر التي تؤكد تلك القوانين وتم تجاهل غيرها. غير أن النتيجة تؤكد أن الواقع العنيد استمر في التطور بينما أصبحت الماركسية السوفياتية نموذجا ميتا. بحيث لعب " تقنين " الماركسية أيام ستالين نفس الدور الذي قام به التدوين في التاريخ الإسلامي، إذ أدى إلى توقيف الاجتهاد ووقف سدا منيعا أمام تطور بعض العلوم والفنون[6].
هكذا تحولت الماركسية إلى نموذج ساهم في العديد من الأخطاء التي شهدتها ممارسة أغلبية الاحزاب الشيوعية والتي كانت لها عواقب وخيمة فضلا عما ترتب عنه من بناء هش ومصطنع للاشتراكية في دول اوروبا الشرقية؛ يقول التوسير : بحلة لـ " مشاكل " الماركسية... بطريقته الخاصة، فرض ستالين على تلك المشاكل حلولا كانت نتيجتها هي حجز الأزمة التي أثارتها وقوتها تلك الحلول. وبتعنيفه للماركسية في انفتاحها بل حتى في صعوباتها، أثار ستالين أزمة خطيرة في الماركسية، لكنه وبنفس الوسائل حجز : " Il a bloqué " تلك الأزمة ومنع انفجارها "[7].
يكمن خطأ ستالين، إذن في كونه أضفى صفة المطلق "Caractère absolu "على الحلول الخاصة بالثورة الروسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين التي طرحها لينين لمشاكل الماركسية. وهو، بذلك يكون قد أعطى حلولا لازمة الماركسية لكنها تبقى حلولا شكلية.
إننا نعتبر أن الماركسية التي ترتكز على العلاقة الجدلية الحية بين الذات والموضوع تعيش دائما توثرا حادا هو، في حد ذاته تعبير بالأساس على التناقضات التي يعرفها الواقع الموضوعي والفكر الذي يحاول الإمساك بذلك الواقع والفعل فيه. لذلك نجد أن جورج لبيكا كان على صواب حين كتب يقول : " فكأن الأزمة تشكل الشكل الحاد، لكن غير الاستثنائي إطلاقا، لتمظمر الماركسية في علاقتها بموضوعها "[8].
هكذا، يتضح إذن أنه ليس أمام الماركسية من خيار سوى مواجهة الإشكاليات التي يطرحها واقع الرأسمالية المتغير بدون انقطاع وذلك استنادا إلى التراث الماركسي ليس باعتباره معرفة تحيط بالواقع في كل جوانبه، دفعة واحدة والى الأبد، ولكن كمبادئ موجهة عامة اغتنت بفضل ذلك التراث ولا تزال بقدر ما يطورها الشيوعيون في ممارستهم الثورية؛ الشيء الذي سيجعلها دائما بمثابة مبادئ عامة موجهة مهما اغتنت وتطورت إذ لا تتحول أبدا إلى معرفة نهائية.
على انه نريد التنبيه هنا إلى أن ما أصاب الماركسية من أخطاء أيام برنشتاين وكاوتسكي وستالين وبعده ليس نابعا بالأساس من إرادة وأخطاء بعض الأشخاص رغم اهمية الدور الذي لعبوه ولكن من ارغامات الواقع الموضوعي ( ألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر[9]
وانتشار الماركسية بشكل مسطح ومبسط وسط الطبقة العاملة كما أن التقنين الستاليني للماركسية يعتبر هو أيضا إلى حد بعيد وليد طبيعة الواقع الموضوعي في الاتحاد السوفياتي[10] فضلا عن الفهم السائد للماركسية واللينينية وسط الطبقة العاملة والحزب الشيوعي السوفياتي.
الماركسية : نقد نظري وعملي للرأسمالية
لعل ما يثير الانتباه هنا هو إن ماركس وانجلز قد خصصا أغلب أعمالهما للنقد : نقد البرجوازية في كل تجلياتها، نقد واقع الرأسمالية نقد الفلسفة[11] علما بأن أعظم عمل قدمه ماركس الذي هو : " الرأسمال " : هو نقد للاقتصاد السياسي البرجوازي ولم يتوقف ماركس وانجلز أبدا خلال حياتهما عن تطبيق سلاح النقد في كل مظاهر الحياة الاجتماعية وعلى نشاط وفكر الحركة العمالية. غير إن منهج ماركس يتنافى والانتقاد من بعيد في الأبراج العاجية. ذلك ان الماركسية قد أحدثت القطيعة مع الفكر التأملي الميتافيزيقي. واعتبرت أن الأفكار السديدة تأتي من الممارسة العملية الهادفة إلى تغيير الواقع وذلك ما عبر عنه ماركس في أطروحاته، حول فيورباخ حيث يقول : " إن الفلاسفة لم يقوموا سوى بتأويل العالم، بينما يتعلق الأمر بتغييره "[12]
إن ماركس يعتبر أن سلاح النقد لا يجب أن يعوض نقد السلاح أي النقد العملي عبر الممارسة النضالية الهادفة إلى التغيير الثوري. والحال أن ما تروجه البرجوازية من كون ماركس وانجلز مجرد منظرين يعتبر كذبا ولا أساس له من الصحة ذلك لانهما قد كرسا حياتهما للنضال الثوري إلى جانب البروليتاريا ولم يكفا عن الالتحام بالحركة الشيوعية ومشاكلها فكانا قادة لها. ويكفي الرجوع إلى نشاطهما قبل وخلال ثورات 1848 وبعدها والى تأسيس ماركس للأممية الأولى وما كان له من نشاط هو وانجلز داخلها ومدى اهتمامهما الكبير والمستمر بنشاط الأحزاب العمالية وكذا إدراك نضالهما الذي لم يتوقف ضد الأخطاء والانحرافات للوقوف عن كثب على الطبيعة العملية لنشاطهما.
وليس من قبيل الصدفة في شيء أن تصبح الماركسية سلاحا ثوريا جبارا أكثر فأكثر كلما مارست النقد ليس فقط ضد واقع الرأسمالية وأيديولوجياتها ولكن أيضا ضد تأثير تلك الأيديولوجيات. وذلك الواقع على الماركسية وعلى الحركة العمالية وأحزابها بما فبها الأحزاب الماركسية نفسها.
لذلك فان تطوير الماركسية على يد لينين سيتم ليس بفضل انتقاد النظريات الفلسفية البرجوازية الجديدة[13] أو تحويل الماركسية إلى "علم" أكاديمي وتطويرية مسطحة ونقد أخطاء الاشتراكيين الثوريين في تقييمهم لوضع روسيا[14] ونقد الفوضوية ومختلف أشكال الانتهازية فحسب، وانما بالوقوف كذلك عند ما أصاب الماركسية من تشويه والأممية الثانية من تفسخ فكري على يد كاوتسكي واتباعه. ولابد هنا من الإقرار أن ماركس الذي قدم فهما علميا لجوهر الرأسمالية وتناقضاتها العميقة التي لا تتغير مهما تغيرت أشكال الرأسمالية لم ينج من إعلان بعض التقييمات و"التنبؤات" التي تجد أساسها في إضفائه صفة المطلق على الشكل الذي كانت عليه الرأسمالية في عهده ( أي الرأسمالية التنافسية ) وما كانت تؤدي إليه من أزمات وانهيارات وما يصاحب ذلك من استغلال مكثف وتفقير للطبقة العاملة. الشيء الذي يعتبر مصدر بعض التقييمات الكارثية مثل الأزمة العامة والنهائية للرأسمالية[15].
والحقيقة أن الرأسمالية كانت قد بدأت تدخل في نهاية حياة ماركس في مرحلتها الامبريالية المرتكزة إلى الاحتكارات المؤسسة على قاعدة انصهار الرأسمال البنكي بالرأسمال الصناعي لتكوين الرأسمال المالي في ظل صيرورة من تمركز الرأسمال وعلى تصدير رؤوس الأموال ونهب المستعمرات. وقد استطاع لينين بعبقريته الفذة، ان يستوعب هذه التحولات لذلك وخلافا للنظرة الماركسية السائدة آنذاك والتي تجد أساسها النظري في أعمال ماركس المتعلقة بالرأسمالية التنافسية والمتمثلة في اعتبار أن الرأسمالية ستحول المستعمرات إلى دول رأسمالية متطورة على غرار دول أوروبا الغربية، اكتشف لينين قانون التطور اللامتكافئ الذي يؤدي إلى النمو الرأسمالي التابع والمشوه في المحيط وكذا قدرة الاحتكارات بفضل مراكمة الأرباح، خاصة عبر نهب المستعمرات، على ارشاء فئة من الطبقة العاملة سماها لينين بالأرستقراطية العمالية والتي برزت في الحركات العمالية إما وسط أحزاب عمالية ( مثال بريطانيا ) أو عبر تحول الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية إلى حليفة للبرجوازية كما ظهر جليا في الحرب العالمية الأولى وأدى إلى إفلاس الأممية الثانية. وقد مكن ذلك لينين قبل غيره من أن يفهم الدور الثوري لحركات التحرر الوطني في المستعمرات مهما كانت الطبيعة الطبقية لقياداتها[16].
هكذا استطاع لينين فعلا وبشكل خلاق أن يطبق الماركسية عبر إمساكه بجوهرها وتجاوزه لبعض أطروحاتها التي لا تنطبق سوى على مرحلة الرأسمالية التنافسية. ومن ثمة يتضح إذن ان مختلف الإسهامات الرائعة للينين لم تتوقف عن نقد الاطروحات الخاطئة التي واكبت الماركسية من الداخل تحت تأثير الاتجاهات السائدة في العديد من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية ( وخاصة الحزب الألماني ) بالارتكاز إلى أن الماركسية ليست مقولات جامدة، وإنما هي مبادئ موجهة عامة، وان الرأسمالية تغيرت من حيث الشكل حتى تستطيع الاستمرار من حيث الجوهر بينما أدى تغير الرأسمالية بالعديد من المنظرين الاشتراكيين الديمقراطيين إلى الظن بأنها يمكن أن تتغير من حيث الجوهر في إطار صيرورة تطورية هادئة ستوصل إلى الشيوعية، مما أدى إلى انقسام الاشتراكية –الديمقراطية في بداية القرن وانهيار الأممية الثانية.
لقد عانت الاشتراكية كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه من التحجر بفعل تحويلها أيام ستالين إلى منظومة كاملة من " القوانين " النهائية لتطور العالم ماضيا وحاضرا ومستقبلا. ولعل من سخرية التاريخ ان الماركسية في الوقت نفسه الذي كانت تشهد " انتصارها " بعد أن أصبحت في صيغتها الستالينية ايديولوجيا الدولة السوفيايتة كانت تعيش انحطاطها إلى منظومة ميتة تلعب دور إعطاء المشروعية للبيروقراطية مما أفقدها جوهرها النقدي.
لقد كان لينين يعتقد أن السلطة السوفياتية يجب أن تكون في نفس الوقت دولة ولا دولة " Non Etat " وهو يعني بذلك إنها سلطة مركزية تتوفر على وسائل العنف والإكراه في مواجهة أعداء الثورة الداخليين والخارجيين، وانها تمركز ارادة البروليتاريا وحلفائها. لكنه كان، في الوقت نفسه كامل الوعي بخطورة الانحراف البيروقراطي وبنزوع الدولة في ( شكلها الكلاسكي ) الى التشكل كجسم منفصل عن المجتمع ومهيمن عليه. لذلك ظل يواجه بكل شدة وحزم البيروقراطية ويؤكد ضرورة تطوير كل اشكال المساهمة الشعبية في مختلف الميادين وخاصة الميدان السياسي : السوفياتات، النقابات، الجمعيات، الحزب الشيوعي... الخ. وهو ما كان يعبر عنه ب " لا دولة ". لقد شدد لينين في كتاب : " الدولة والثورة " على الأهمية القصوى للديمقراطية المباشرة وللمشاركة والمراقبة الشعبية الفعلية، وأكد على ضرورة أن يكون الموظفون منتخبين وأن تتوفر الجماهير على الحق في عزل ممثليها في السوفياتات وفي إقالة الموظفين كلما أخلوا بالتزاماتهم أو تصرفوا بشكل يضر بمصالح الجماهير. وقال بأن للدولة، في المرحلة الانتقالية من الرأسمالية الى الاشتراكية، مضمونا مختلفا عن الدولة السابقة لأنها دولة مفترض فيها أن تعيش مرحلة الاضمحلال عبر التفويض التدريجي لمختلف وظائفها إلى المجتمع المدني المبني على أساس تعاون المنتخبين الأحرار فيما بينهم، كما نادى بثورة ثقافية ليصل المجتمع إلى مرحلة أعلى من الرقي والوعي والتطور حتى يواجه خطر البيروقراطية.
غير أن الصيرورة التاريخية للمجتمع السوفياتي أفضت إلى عكس هذا التطور حيث انتفخت الأجهزة الإدارية وتفاقم طابعها القمعي-السلطوي، بينما اضمحلت اللادولة متمثلة في أشكال التنظيم المستقل للمجتمع[17] وأصبحت الماركسية التي تقول باضمحلال الدولة في مرحلة الانتقال من الرأسمالية الى الشيوعية تبرر لتضخم الدولة وتعسفها وبطشها، لذلك لابد في نظرنا بعد انتصار ثورة البروليتاريا في بلد ما ألا يتماهى الحزب والدولة، وان يطبق المركزية الديمقراطية الحقيقية في صفوفه، وان يحترم الى أقصى حد التنظيمات المستقلة للجماهير ويعمل على ان تتطور ويتعامل معها تعاملا ديمقراطيا وان يحافظ على الجوهر النقدي للماركسية وذلك، من خلال عدم السماح بتحويلها الى ايديولوجيا للدولة لان الماركسية هي موجهة فكرا وممارسة المرحلة التي يتم خلالها اضمحلال الدولة.
وقد انتصر الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماوتسي تونغ في حرب التحرر الوطني بفضل قدرته على نقد وتجاوز اطروحات الأممية الثالثة وعلى استيعاب التناقضات الملموسة في المجتمع الصيني باعتباره مجتمعا شبه مستعمر وشبه إقطاعي.
فقد رفض ماو تحاليل الأممية الثالثة حول القبول بقيادة البرجوازية الوطنية لمرحلة التحرر الوطني، حيث اعتبر إنها طبقة متذبذبة وغير قادرة على قيادة الثورة، بينما رأى في الفلاحين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من الشعب الصيني القوة الرئيسية في الثورة المضادة للاستعمار والإقطاع أما بخصوص البروليتاريا فقد اعتبرها هي القوة القادرة على قيادة كل الطبقات والفئات الوطنية نحو الاشتراكية خلال صيرورة لا تنقطع وعبر مراحل تمثل الديمقراطية الجديدة التي يجب ان تنجز الأهداف المشتركة ما بين الطبقة العاملة والفلاحين والبرجوازية الصغرى والوطنية في مرحلتها الأولى. كما احدث ماو قطيعة مع نموذج البناء الاشتراكي الذي ساد في الاتحاد السوفياتي واعتبر ان الاشتراكية ليست نمطا جديدا للإنتاج ولكنها مرحلة متناقضة يتم خلالها الصراع بين " الشيوعية الناشئة والرأسمالية المحتضرة ".
وقد كان ماو شديد الوعي بخطر البيروقراطية وخطر بروز من داخلها ومن داخل الحزب فئة محظوظة قد تتحول إلى برجوازية جديدة وقد حاول الإجابة على هذا التناقض عبر الدعوة إلى ثورة ثقافية ضد الحزب نفسه. غير ان هذه الثورة فشلت ربما لأنها سقطت في الارادوية والفوضوية ولم تأخذ بعين الاعتبار بما فيه الكفاية واقع المجتمع الصيني الذي كان لا يزال يعاني العديد من مظاهر التخلف لم تكن ملائمة للقيام بمثل الثورة التي تحولت إلى تصفية حسابات وصراعات وسط الحزب وغدت معزولة عن الجماهير.
والان، يكون من المفيد جدا التأكيد بأن المطلوب اليوم وخاصة بعد الانهيارات التي عرفتها العديد من الأنظمة الاشتراكية وبعد أن دخلت الرأسمالية في مرحلة جديدة هو الرجوع إلى الجوهر النقدي للماركسية.
وإذا كان يعد من الغرور طرح تصور متكامل للمرحلة الجديدة من الرأسمالية خاصة وان ملامح هذه المرحلة لا زالت غير واضحة بعد فإنه من الممكن إبراز بعض الارهاصات والميولات العامة التي يناط بالحركات التقدمية المناهضة للرأسمالية دراستها وتوضيحها وتصحيحها.
إننا نعتبر ان احد أهم تطورات الرأسمالية هو الاتجاه نحو التدويل " Mondialisation " غير ان هذا لا يتم بشكل متجانس وانما في اطار بنية تراتبية " Structure Hierachisée"
ترتكز على صيرورة متناقضة من الادماج التهميش. فإذا كان الادماج الرأسمالي قد تم في البداية والى حدود هذه المرحلة في اطار فضاء الدولة / الامة وكذلك التهميش، الشيء الذي ادى الى بروز مركز ومحيط فان التدويل الرأسمالي ينحو الى ادماج مناطق معينة من مختلف الدول في الاقتصاد الرأسمالي وتهميش أخرى[18] وكذا ادماج قطاعات اقتصادية وتهميش اخرى وبالتالي ادماج فئات من البرجوازية وتهميش اخرى وحتى نكون واضحين اكثر سنعطي بعض الامثلة : فدول المركز نفسها لم تبق تلك الفضاءات الاقتصادية الممركزة على الذات حيث يتم توزيع العمل بينها على أساس موازين القوى، فهذا القطاع تهيمن عليه الامبريالية الفلانية وتنظم تدويله والتطور يتم بشكل غير متكافئ على المستوى الوطني بل هناك مناطق في الولايات المتحدة الامريكية أو اوروبا الغربية تعاني من تهميش حقيقي وكذلك الامر بالنسبة للبرجوازيات : فإذا كانت بعض فئات البرجوازية في المحيط، مدمجة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي ( البرجوازية النفطية مثـلا )، فان بعض فئات البرجوازية، في المركز تظل مهمشة عن الاقتصاد العالمي.
غير ان هذا الادماج لمناطق او قطاعات او برجوازيات من مختلف الدول لا يتم على قدم المساواة بل يخضع لموازين القوى الاقتصادية بما في ذلك التحكم في النظام النقدي المالي الدولي- والسياسية والعسكرية بين البرجوازيات المختلفة كما ان تهميش بعض المناطق وبعض فئات البرجوازية وبعض القطاعات عن الاقتصاد الرأسمالي العالمي لا يعني بالضرورة القضاء عليها اذ يمكن ان تستمر على صعيد وطني لكن تحت سيطرة الرأسمال العالمي المدول. كما أن ذلك التهميش لا يمس الدول الرأسمالية بنفس الشكل ولا علاقة له بالتهميش الذي تعانيه الدول التابعة. ان هذا التطور يؤدي الى اعادة هيكلة الاجهزة الانتاجية وبشكل عام اقتصاديات كل الدول الرأسمالية بما في ذلك المتطورة تحت غطاء ما يسمى بالليبرالية الجديدة في اتجاه ضرب تماسكها وطابعها ال
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire