«على الرغم من أن تروتسكي أيد لينين ضد معارضة كامينيف وزينوفييف بخصوص ضرورة تنظيم الانتفاضة في أكتوبر 1917،
فإنه سرعان ما وجد نفسه على خلاف معه في بداية عام 1918 بخصوص توقيع معاهدة السلام مع ألمانيا. إن الطريقة التي تصرف بها في هذه المسألة تبرز في نفس الآن نقاط قوته ونقاط ضعفه» (Cogito، الصفحة 17)
هذه هي الإشارة الأولى والأخيرة في مقال جونستون
يحاول مونتي جونستون هنا تطبيق نفس الخدعة التي استخدمها في الجزء المتعلق بـ "الثورة الدائمة". في هذا المقطع، ومن خلال "نسيانه" لموقف المناشفة، يبالغ في تضخيم جميع الاختلافات بين لينين وتروتسكي. ومرة أخرى لا يعرف جونستون في مسألة بريست ليتوفسك سوى موقفين فقط: موقف لينين (أي القبول فورا بالشروط الألمانية) وموقف تروتسكي (الذي وصفه بكونه موقف "لا سلام ولا حرب"). لكن مونتي جونستون يعرف جيدا أنه بخصوص هذه المسألة لم يكن هناك موقفان فقط، بل ثلاثة: مواقف لينين وموقف تروتسكي، وموقف بوخارين الذي دافع ليس فقط عن رفض الشروط الألمانية، بل أيضا عن شن حرب ثورية ضد ألمانيا. وقد نسي [جونستون] أيضا أن يشير إلى نقطة صغيرة وهي أن موقف بوخارين كان أصلا موقف أغلبية الحزب في فترة مفاوضات بريست ليتوفسك.
ماذا كان موقف البلاشفة تجاه الحرب؟ في عام 1915، وفي سياق نقاشه لإمكانية وصول البلاشفة إلى السلطة في روسيا، كتب لينين مقالا في جريدته (Sotsial-Democrat) "الاشتراكي الديمقراطي" تحت عنوان "بعض الموضوعات":
«وردا على سؤال عما سيفعل حزب البروليتاريا لو أن الثورة وضعته في السلطة خلال الحرب الحالية، نرد: سنقترح السلام على جميع الأطراف المتحاربة بشرط تحرير المستعمرات، وجميع الشعوب التابعة والمضطهدة التي لا تتمتع بالحقوق الكاملة. لن تقبل لا ألمانيا ولا بريطانيا ولا فرنسا في ظل حكوماتها الحالية بهذا الشرط. عندها يجب علينا أن نستعد لخوض حرب ثورية، أي أنه لا يجب علينا فقط أن نطبق بشكل كامل التدابير الأكثر حسما لبرنامج الحد الأدنى، بل ينبغي علينا أن نحرض على العصيان بشكل منتظم كافة الشعوب المضطهدة الآن من قبل روسيا العظمى، وجميع المستعمرات والبلدان التابعة في آسيا (الهند والصين وبلاد فارس، الخ) ونحرض أيضا - وقبل كل شيء- البروليتاريا في أوروبا على التمرد ضد حكوماتها وتحدي اشتراكييها الشوفينيين». (الأعمال الكاملة، المجلد 21، صفحة 403)
كانت تلك هي الإستراتيجية الثورية الجريئة التي طرحها لينين مسبقا للثورة الروسية. وهي إستراتيجية لا يجمعها أي شيء مع النزعة المسالمة التي يعظنا بها اليوم كهنة الحزب الشيوعي، والتي يحاولون إلصاقها بزعيم أكتوبر. كان لينين والبلاشفة، قبل عام 1917، يتبنون موقف الحرب الثورية، أي حرب الثورة ضد الامبريالية، والتي من شأنها أن تجمع بين الكفاح المسلح للجيش الأحمر وبين تمرد العمال في أوروبا وشعوب الدول المضطهدة.
في فترة التحريض والتحضير التي سبقت أكتوبر، أكد البلاشفة مرارا أنهم يتبنون موقف "السلام دون إلحاقات أو تعويضات"، وأنهم سيطرحون هذا السلام للإمبرياليين، وفي حال رفضهم له سيشن البلاشفة حربا ثورية ضدهم. وهكذا، كتب لينين في أواخر شتنبر 1917:
«إذا حدث المنظور الأقل احتمالا، أي إذا لم تقبل أي من الدول المتحاربة ولو بهدنة، عندها ستصبح الحرب من جانبنا ضرورية حقا، حربا عادلة ودفاعية حقا. ومجرد وعي البروليتاريا والفلاحين الأكثر فقرا بهذا سيجعل روسيا أقوى مرات عديدة من الناحية العسكرية، خصوصا بعد القطيعة التامة مع الرأسماليين الذين ينهبون الشعب، ناهيك عن أن الحرب من جانبنا ستكون آنذاك بالفعل، وليس بالكلمات، حربا بتحالف مع الشعوب المقهورة في العالم بأسره». ( الأعمال الكاملة، المجلد 26، الصفحة 63)
لقد تم قبول فكرة الحرب الثورية دون جدال باعتبارها جزءا من الإستراتيجية الأساسية للحزب. وهكذا عندما كتب كامينيف وزينوفييف رسالتهما المفتوحة المعارضة لثورة أكتوبر، كانت واحدة من حججهما الرئيسية هي احتمال حرب ثورية، التي حاولوا تخويف العمال بها:
«إن جماهير الجنود يدعموننا لأننا لا نطرح شعار الحرب، بل شعار السلام... فإذا قمنا بالاستيلاء على السلطة وحدنا الآن، ووجدنا أنفسنا مضطرين بفعل الوضع العالمي بأسره إلى خوض حرب ثورية، فإن جماهير الجنود سيبتعدون عنا».
كانت هذه حجة جيدة لتوقيع سلام بريست ليتوفسك، قبل أشهر عدة. لكنها لم تكن دليلا على قدرة كامينيف وزينوفييف على التوقع التاريخي، بل فقط على هشاشة أعصابهما وتذبذبهما الانتهازي. وكان دعمهما لاحقا لتوقيع المعاهدة مجرد الوجه الآخر لمعارضتهما لانتفاضة أكتوبر: لا يمكن فصل المسألتين عن بعضهما. إن السؤال الهام بالنسبة للماركسي ليس فقط هو ماذا يقال، بل أيضا من يقول ذلك ولأي سبب.
ماذا كان موقف البلاشفة تجاه معاهدة بريست ليتوفسك؟ كان الجيش الذي ورثوه عن القيصرية قد تفكك تماما ؛ قامت وحدات كاملة بحل نفسها؛ وانهار الانضباط، وانتقل الضباط إلى معسكر الثورة المضادة. كانت هذه المعطيات الملموسة، وليس أي اعتبارات نظرية جوهرية هي التي حددت مواقف البلاشفة. إن تصوير الخلافات في الحزب بكونها أكثر من خلافات تكتيكية هو تشويه فضيع للحقيقة. في ظل ظروف مختلفة – لو أنه كان لديهم، على سبيل المثال، الوقت لبناء الجيش الأحمر- كان السؤال سيطرح بطريقة مختلفة تماما، كما اتضح خلال الحرب البولندية عام 1920.
كانت أول سياسة انتهجها البلاشفة هي تمديد أمد المفاوضات لأطول وقت ممكن، على أمل أن تأتي الحركة الثورية في الغرب لمساعدة الثورة. إن هذه الفكرة التي يصفها "الواقعيون" الأدعياء اليوم بكونها "تروتسكية"، طرحت في عشرات المناسبات ليس فقط من قبل تروتسكي بل أيضا من قبل جميع القادة البلاشفة، بمن فيهم لينين. كامينيف، على سبيل المثال، الذي ساند في وقت لاحق موقف لينين حول توقيع اتفاق السلام، قال عن الدعاية التي نظمت في بريست ليتوفسك «أن كلماتنا ستصل إلى الشعب الألماني من فوق رؤوس الجنرالات الألمان، إن كلماتنا ستنزع من أيدي الجنرالات الألمان الأسلحة التي يخدعون بها الشعب». ورغم أن الأحداث سارت بشكل مختلف عما كان يتوقعه كامينيف، فإنه في ذلك الوقت كان يتحدث باسم الحزب البلشفي بأكمله.
وقد كان الاعتماد الرئيسي من أجل القيام بدعاية ناجحة في بريست ليتوفسك على تروتسكي. لقد حول الكونفرانس إلى منبر لشرح أفكار الثورة للعمال الذين أنهكتهم الحرب في أوروبا. وقد جمعت خطب تروتسكي لاحقا ونشرت في عدة طبعات وبلغات عديدة من قبل الأممية الشيوعية أثناء حياة لينين. وفقط بعد 1924 حيث اكتشف الستالينيون فيها فجأة "الجملة الثورية"، الشيء الذي برر إعدامها.
وقد تسبب تأخر اندلاع الثورة في الغرب، والضعف العسكري للثورة الروسية، في نشوء اختلاف في الرأي داخل صفوف قيادة الحزب، وهو الاختلاف الذي وجد لينين نفسه خلاله في موقع الأقلية. كانت أول مرة ظهرت فيها الاختلافات هي يوم 21 يناير 1918، عندما كانت المفاوضات تقترب من ذروتها. وخوفا من التعرض لهجوم جديد إذا ما رفض البلاشفة الإنذار الألماني الأخير، اقترح لينين التوقيع الفوري على اتفاقية السلام، ولو بالشروط الكارثية التي فرضها الألمان. اتفق تروتسكي حول مسألة أنه لا توجد أي إمكانية للاستمرار في الحرب، لكنه اعتقد أنه ينبغي وقف المفاوضات وأنه على البلاشفة ألا يستسلموا إلا في حالة هجوم جديد. بينما طالب بوخارين بشن حرب ثورية.
وبعيدا عن الصورة الخاطئة التي قدمها الستالينيون، ابتداء من 1924 فصاعدا، عن تعرض لينين والبلاشفة لتحد من قبل تروتسكي الغير المنضبط والمتطرف، فإن الحقيقة هي أن كلا من لينين وتروتسكي كانا يمثلان الأقلية "المعتدلة" بين صفوف القيادة بشأن هذه المسألة. وما كان صحيحا بالنسبة للقيادة كان صحيحا بشكل مضاعف بالنسبة للقواعد. لقد عارضت الغالبية الساحقة من العمال التوقيع على المعاهدة. وعندما دعت القيادة السوفييت لإعطاء وجهة نظره بشأن بريست ليتوفسك، انعقد أكثر من 200 سوفييت، ومن بينها كلها أيد اثنان فقط من السوفييتات الكبيرة السلام (سوفييتا بتروغراد وسيفاستوبول - وهذا الأخير مع إبداء بعض التحفظات)، بينما جميع المراكز العمالية الكبيرة الأخرى: موسكو، ايكاترينبرغ، خاركوف، ايكاترينوسلاف، ايفانوفو- فوزويسنك،، كرونشتادت، الخ، صوتت وبأغلبية ساحقة لصالح قطع المفاوضات.
في اجتماع اللجنة المركزية يوم 24 يناير 1918 تم اتخاذ قرار نهائي بشأن الخط الذي ينبغي على تروتسكي أن يعتمده في بريست ليتوفسك. قبل الاجتماع أجرى تروتسكي محادثة مع لينين، حيث وافق هذا الأخير على خطة تروتسكي بخصوص رفض التوقيع على المعاهدة وإعلان الأعمال الحربية في نهايته، شريطة قيام تروتسكي بدعم موقف التوقيع الفوري على المعاهدة إذا ما قام الألمان بالهجوم مرة أخرى، وعدم دعم موقف "الحرب الثورية". وقد وافق تروتسكي على هذا[1]. هنا لم يطرح لينين مطلبه بالتوقيع فورا على المعاهدة، بل فقط طرح مقترحا، تمت الموافقة عليه، يدعو تروتسكي إلى تمديد أمد المفاوضات لأطول وقت ممكن. ثم أجري تصويت على اقتراح تروتسكي بوقف الحرب مع رفض التوقيع على المعاهدة، والذي قبل أيضا.
وفقا لمونتي جونستون، «عندما وجد [تروتسكي] نفسه أمام الشروط القاسية التي طالب بها الألمان، طغت المبالغة في تقدير احتمالات اندلاع ثورة فورا، على تقديره لحقيقة الوضع وأدى به إلى رفض التوقيع على المعاهدة» Cogito)، الصفحة 17(
لقد رأينا سابقا ما الذي دفع "تروتسكي إلى رفض التوقيع على المعاهدة"، في سياق الحديث عن الخلافات داخل الحزب. لكن مونتي جونستون يقوم، هنا كما هو الحال في أماكن أخرى، بتطعيم "تحليله" بشذرات قليلة من الاقتباسات التي لا علاقة لها بأي من القضايا الجوهرية المطروحة للنقاش، بل فقط بالجدالات الانفعالية للمشاركين فيها، والتي تخلق انطباعا بأن موقف تروتسكي كان نزوة شخصية وليس وجهة نظر الحزب. يواصل جونستون قائلا:
«أما لينين من جهته فقد أكد بأن الألمان أقوياء بينما القوات الروسية التي مزقتها الحرب والسيئة التجهيز والجائعة لا يمكنها الصمود في مواجهة الآلة العسكرية القوية. [!] وبالتالي [!] حث على القبول بالشروط الألمانية، التي اعتبرها مهينة، بمجرد ما وجه الألمان إنذارهم، محذرا من أن البديل سيكون هو قيام الألمان بالمزيد من التقدم داخل الأراضي السوفياتية، وفرض شروط أكثر سوءا». (Cogito، الصفحة 17)
يصور مونتي جونستون القضية كلها بمثابة صراع بين تروتسكي ولينين. إنه عازم على تصوير لينين كـ "واقعي" برجوازي صغير متعجرف، يعارض "أحلام" تروتسكي الثورية. واقتبس عبارات للينين معزولة عن سياقها حول أن الثورة العالمية مجرد "خرافة جميلة"، دون أن يوضح الأسباب التي أعطاها لينين ليوضح موقفه من بريست ليتوفسك، وهي الأسباب التي كانت نابعة من نزعة أممية اشتراكية ثورية حازمة.
في سياق هذا النقاش وجد لينين نفسه "مدعوما" من قبل زينوفييف وستالين. وقد أكد ستالين أنه «ليست هناك حركة ثورية في الغرب، لا وقائع تدل عليها، وليست سوى احتمال». وأعلن زينوفييف أنه بالرغم من أنه «بتوقيعنا لمعاهدة السلام سنعزز الشوفينية في ألمانيا وسنضعف لفترة من الزمن الحركة في الغرب» فإن ذلك أفضل بكثير من "خراب الجمهورية الاشتراكية". وقد اضطر لينين إلى التبرؤ علنا من الدعم المستند إلى حجج هؤلاء "الواقعيين" الأدعياء، التي يحاول مونتي جونستون الآن إلصاقها به.
في رده على زينوفييف أكد لينين بشكل قاطع أنه إذا كانت «الحركة العمالية الألمانية قادرة على التطور خلال مفاوضات السلام... فعلينا أن نضحي بأنفسنا لأن الثورة الألمانية ستكون أقوى بكثير من ثورتنا». وبالضبط من أجل حماية ظهره من هذا النوع من الانتهازية، أكد لينين مرارا وتكرارا أنه:
«ليس هناك مجال لأدنى شك في أنه لا أمل في النصر النهائي لثورتنا، في حالة ما إذا بقيت وحيدة، وإذا لم تندلع حركات ثورية في بلدان أخرى... وأكرر: إن خلاصنا من كل هذه الصعوبات، هو اندلاع ثورة أوروبية شاملة «.
بعد عام 1924، اخترعت أسطورة معارضة تروتسكي العنيدة للينين والقيادة من خلال رفضه التوقيع على معاهدة السلام التي كان الجميع يتوق إليها. في 14 فبراير وبعد أن أبلغ تروتسكي اللجنة التنفيذية المركزية السوفياتية بتقرير عن الإجراءات التي اتخذها، طرح سفيردلوف باسم البلاشفة التوصية التالية: «بعد الاستماع بشكل كامل إلى تقرير وفد السلام، تعلن اللجنة التنفيذية المركزية موافقتها التامة على عمل ممثليها في بريست ليتوفسك». وفي وقت لاحق، خلال شهر مارس 1918، قال زينوفييف في مؤتمر الحزب إن «تروتسكي على حق عندما يقول إنه تصرف وفقا لقرار أغلبية أعضاء اللجنة المركزية». ولم يحاول أحد أن ينكر ذلك.
مثله مثل لينين، لم يكن عند تروتسكي أي وهم بأن في إمكان"القوات الروسية التي مزقتها الحرب والسيئة التجهيز والجائعة" أن تتحمل هجوما جديدا، ناهيك عن شن حرب ثورية. ولكن، من جهة كان المزاج السائد بين العمال وغالبية قيادة الحزب ضد قبول شروط المعاهدة التي لم تكن "مذلة" فحسب، بل كارثة كبرى للدولة السوفياتية الفتية. ومن جهة أخرى، فإن شن ألمانيا لهجوم جديد من شأنه إقناع الجماهير في أوروبا الغربية بأن البلاشفة لم يوافقوا على عملية سلام تتضمن إلحاقات إلا تحت الإكراه. وقد كان هذا دافعا سياسيا مهما، بالنظر إلى حملة الافتراءات الخبيثة التي كانت تشنها "الحكومات الحليفة" (بريطانيا وفرنسا)، حول أن البلاشفة عملاء لألمانيا، دفع لهم القيصر من أجل إخراج روسيا من الحرب. كان هناك شعور قوي في روسيا بأن هذا كان تمهيدا لمفاوضات مع ألمانيا لتسوية سلمية على حساب روسيا. (وقد أثبت التاريخ أن الدوائر الحكومية البريطانية والفرنسية كانت تفكر في تطبيق مثل هذه السياسة).
بعد تجديد التهديد الألماني، دافع لينين مرة أخرى عن ضرورة التوقيع الفوري على معاهدة السلام، لكنه هزم أمام أغلبية ضئيلة في اللجنة المركزية. وقد صوت تروتسكي ضد التوقيع، بالنظر إلى أن الهجوم لم يكن قد بدأ. فقام لينين بإعادة طرح السؤال على النحو التالي: «إذا بدأ الهجوم الألماني، ولم يحدث أي نهوض ثوري في ألمانيا، هل سنواصل رفض توقيع معاهدة السلام؟» فامتنع الشيوعيون "اليساريون" (بوخارين وأنصار الحرب الثورية) عن التصويت على هذا. بينما صوت تروتسكي لصالح المقترح، الذي كان متماشيا مع الاتفاق الذي توصل إليه في وقت سابق مع لينين. وفي اليوم الموالي، عندما تلقى البلاشفة دليلا على التقدم الألماني، تحول تروتسكي إلى جانب لينين، مما أتاح له أغلبية داخل اللجنة المركزية.
في 21 فبراير، تم الإعلان عن شروط جديدة وأكثر قسوة من قبل الجنرال هوفمان، مع نية واضحة في جعل التوقيع على السلام مستحيلا. قامت هيئة أركان الجيش الألماني بعمل استفزازي في فنلندا، حيث سحقت الحركة العمالية الفنلندية. وأكد هذا الحدث مخاوف البلاشفة من أن الحلفاء قد توصلوا إلى اتفاق مع الإمبريالية الألمانية من اجل سحق الجمهورية السوفياتية. وقد كانت هناك إمكانية جدية بأنه حتى لو وقع البلاشفة على المعاهدة، فإن الألمان سيواصلون تقدمهم. تبنى تروتسكي في البداية وجهة النظر هذه، لكن عندما كرر لينين موقفه، أمام معارضة "اليساريين"، لم يلتحق تروتسكي بدعاة الحرب الثورية، بل امتنع عن التصويت، لتمكين لينين من الأغلبية.
يبدو غريبا أن يقوم شخص مولع جدا بـ"الجملة الثورية" بالتصويت في مناسبتين حاسمتين في اللجنة المركزية لتمكين لينين من الأغلبية! لكن بما أننا في سياق الحديث عن "الجملة الثورية" دعونا نلقي نظرة على كراسة كتبها لينين تحت نفس الاسم، والتي يقتبس منها جونستون بغزارة.
نشرت "الجملة الثورية" التي كتبها لينين كمقالة في جريدة برافدا في 21 فبراير 1918، باعتبارها بداية حملة شاملة لصالح التوقيع على معاهدة السلام. يستشهد جونستون بهذا المقال عدة مرات كما لو أنه كان موجها ضد تروتسكي. في الواقع لم يظهر اسم تروتسكي ولو مرة واحدة في هذه المقالة. ضد من كانت تلك المقالة موجهة؟ نجد الجواب عن هذا السؤال منذ السطر الأول:
«عندما قلت خلال اجتماع للحزب إن الجملة الثورية حول الحرب الثورية قد تدمر ثورتنا، انتقدت بكوني استعملت كلمات قاسية». ( الأعمال الكاملة، المجلد 27، الصفحة 19، التشديد من عندنا)
يمكن لأي شخص قرأ المقال أن يرى بوضوح شديد أنها موجهة ضد أولئك الذين دعوا إلى الحرب الثورية ضد ألمانيا، على الرغم من الضعف العسكري للجمهورية السوفياتية: أي مجموعة بوخارين الشيوعيين "اليساريين". هذا هو السبب الذي جعل لينين، خلال كل جدالاته، يوجه 99٪ من هجماته ضد جماعة بوخارين، بينما لم تتم الإشارة إلى تروتسكي إلا بصورة عابرة وبطريقة خفيفة نسبيا. وينفضح التزوير بشكل واضح حين نتذكر أن مقالة لينين نشرت في 21 فبراير، أي بعد ثلاثة أيام من تصويت تروتسكي لصالح اقتراح لينين في اللجنة المركزية. إن قيام جونستون باقتباس كلمات لينين الموجهة ضد سياسة بوخارين اليسارية المتطرفة بطريقة تجعلها تظهر وكأنها كانت موجهة ضد تروتسكي، عمل غير نزيه بالمطلق. وقد صار هذا التزوير ممكنا بسبب أن جونستون لا يذكر بوخارين مطلقا، مما يخلق انطباعا مبالغا فيه تماما وكاذبا ومضللا عن الخلافات بين لينين وتروتسكي.
ويعلق إ. هـ. كار، المؤرخ البرجوازي الشهير، الذي لا يمكن لمونتي جونستون أن يتهمه بكونه تروتسكيا أو "غير تاريخي"، على الاختلافات بين لينين وتروتسكي في بريست ليتوفسك على النحو التالي:
«كانت خلافات لينين مع تروتسكي حول بريست ليتوفسك أقل عمقا من تلك التي فصلت بينه وبين أتباع بوخارين. إن شخصية تروتسكي القوية ودوره البارز في قصة بريست ليتوفسك أعطيا لتلك الخلافات أهمية عملية أكبر وأكثر بروزا لا سواء في أعين المعاصرين أو الأجيال اللاحقة. لكن الصورة الشعبية عن تروتسكي، باعتباره مدافعا عن الثورة العالمية والمتصارع مع لينين، بطل الأمن القومي أو الاشتراكية في بلد واحد، صورة مشوهة تماما إلى درجة أنها تكاد تكون خاطئة بشكل مطلق». (الثورة البلشفية، المجلد 3، الصفحة 54، التشديد من عندنا)
إذا صدقنا تاريخ مونتي جونستون "المنتقى والمنقح بدقة" فإن كل تاريخ البلشفية والسلطة السوفياتية (مع استثناءات قليلة، مثل "حدث" ثورة أكتوبر الذي تكرم الرفيق جونستون وكرس له فقرة واحدة) يتألف من الصراع بين لينين وتروتسكي! هذا هو العمل "المتوازن" و"الموضوعي" العظيم الذي وعدنا به الرفيق جونستون في مقدمته.
لن يكون من قبيل الإطناب توضيح الطبيعة الأحادية الجانب "لموضوعية" جونستون من خلال نقل واقعتين تتعلقان بعلاقة الجمهورية السوفياتية بالعالم الرأسمالي، وموقف لينين وتروتسكي منها. مباشرة بعد الجدل حول بريست ليتوفسك، وجد تروتسكي نفسه في مواجهة قسم مهم من القيادة حول مسألة قبول المساعدات من بريطانيا وفرنسا. طرح تروتسكي اقتراح القبول بها، وعارضه بوخارين و"اليساريون"، إلى جانب سفيردلوف. بينما لينين لم يكن موجودا في الاجتماع، إلا أن مقرر الاجتماع يحتوي إشارة من طرفه تتضمن ما يلي:
«أطلب منك إضافة تصويتي لصالح أخذ البطاطا والذخيرة من اللصوص الامبرياليين البريطانيين والفرنسيين».
وبعد عامين من بريست ليتوفسك، وقع انقسام مماثل بين صفوف القيادة حول مسألة الحرب مع بولندا. عارض تروتسكي أي محاولة لنقل الحرب إلى بولندا بمجرد ما تم التصدي لهجوم بيلسودسكي، على المستوى العسكري والسياسي. بينما دافع لينين عن شن الهجوم، على أساس أن العمال في وارسو ومدن أخرى سيتشجعون بالحرب الثورية للنهوض ضد بيلسودسكي والقيام بالثورة. بعد تقدم باهر في البداية تعرض الجيش الأحمر للهزيمة على أبواب وارسو، وأجبر على العودة وراء خط كيرزون إلى موضع يقع وراء الخط الذي كان قد احتله في بداية القتال. وفي المعاهدة التي تلت ذلك، اضطر البلاشفة إلى التنازل عن مساحة واسعة من روسيا البيضاء لصالح بولندا، مما فصل ألمانيا وليتوانيا عن الجمهورية السوفياتية.
هل كان لينين في عام 1920 قد افتتن بـ"الجملة الثورية"؟ هل ارتكب جريمة الانغماس في "خرافة" الثورة العالمية و"المتمنيات"؟ وحده ضيق الأفق البرجوازي الصغير من يجرؤ على قول ذلك. لقد كان لينين مناضلا ثوريا وأمميا. وقد كانت تحركاته موجهة، أولا وقبل كل شيء، بمصالح الثورة البروليتارية العالمية.
لم يدع لينين للسلام في بريست ليتوفسك إلا من أجل الحصول على فرصة لالتقاط الأنفاس، يمكن خلالها إعادة بناء الجيوش الروسية المحطمة، وإنشاء الجيش الأحمر للدفاع والهجوم، كوسيلة لمساعدة الثورة في الغرب، وفي نفس الوقت الذي دافع فيه عن توقيع معاهدة السلام، أضاف أنه "لا غنى عن التحضير لحرب ثورية".
إن توصيف لينين لموقفه من بريست ليتوفسك ترياق كاف ضد سموم النزعة المسالمة و"التعايش السلمي"، والاشتراكية الوطنية التي حاول الستالينيون إلصاقها به:
«خلال مفاوضات بريست ليتوفسك كان علينا أن ندخل في مواجهة مع النزعة الوطنية. قلنا: إذا كنت اشتراكيا فعليك التضحية بمشاعرك الوطنية باسم الثورة العالمية القادمة، التي لم تأت بعد، لكن التي يجب عليك أن تؤمن بها إذا كنت أمميا». (الأعمال الكاملة، المجلد 28، نوفمبر / دجنبر 1918)
كان لينين أكبر سياسي واقعي. لقد كان دائما يبني تحركاته على فحص دقيق لجميع العناصر التي تشكل التوازن الدولي للقوى الطبقية. لكن ليست هناك أي ضمانة للنجاح في الثورة. إن تخيل إمكانية وجود تلك الضمانة هو انضمام إلى صفوف "الموضوعيين" الأدعياء، الذين كل موهبتهم هي أنهم دائما على حق، بعد وقوع الحدث. ومع ذلك، فإنه لا علاقة للأسباب التي جعلت لينين يدافع عن توقيع معاهدة بريست ليتوفسك بتلك التي يطرحها جونستون وقادة الحزب الشيوعي والتي يقصدون من ورائها ليس تسليط الضوء على موقف لينين في بريست ليتوفسك، بل تبرير سياساتهم الجبانة والمعادية للينينية اليوم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire