لينين، دليل للمتمردين والمتمردات الجدد – الجزء 5
13- ثمار الانتصار
تم إرساءُ بِنية دولة جديدة، مرتكزة على السوفييتيات (مجالس العمال). وأصبح لينين رئيس الحكومة الجديدة. ورغم ما يُـتهم به غالبا من سعي إلى السلطة، فإنه لم يكُن يرغبُ في المنصب. حاول إقناع تروتسكي بتقلده، كي يركز هو طاقاته على الحزب. لكن تروتسكي رفض (إسحق دويتشر المجلد الأول، النبي المسلح).
أقدم النظام الثوري الجديد فورا على تطبيق برنامج إصلاحات جذرية عظيمة الأهمية. ونص أحد المراسيم الأولى على تدابير الرقابة العمالية على المصانع.
تم إلغاء الملكية الخاصة للأرض دون تعويض. وآل حق استغلال الأرض إلى كل من يزرعها. وبعد نقاش حاد تم توقيع معاهدة سلام مع ألمانيا. هكذا انسحبت روسيا من الحرب.
حصلت الأمم التي كانت الإمبراطورية الروسية تضطهدها سابقا على استقلالها. وتم تأسيس خمس دول خلال السنوات الخمس التالية، وتم إرساء 17 منطقة وجمهورية مستقلة وسط الفيدرالية الروسية.
و جرى الغاء القانون الشرعي القديم، وتم إصلاح كامل النظام القانوني. وأقيمت محاكم شعبية يترأسها قضاة مُنتخبون.
حصلت النساء على حق التصويت، والمواطنة التامة، والمساواة في الأجور، وحق الشغل. وبدأت التغيرات القانونية في تحويل كل طبيعة العائلة. وكما يفسر أحد المشرعين، على الزواج «أن يتوقف عن كونه سجنا يعيش فيه الزوج والزوجة بمثابة المحكوم عليهما». وكف التمييز تجاه الأطفال غير الشرعيين. وباتت روسيا عام 1920 أول بلد في العالم صادق على الإجهاض. ولم تعد المثلية الجنسية جريمة. وضعت تلك التغيرات روسيا إلى حد كبير في مقدمة الأمم الأوربية المسماة أكثر تقدما.
ازداد عدد المدارس في ظرف سنة بأكثر من 50%، وكانت ُتنظم حملات لتعليم الأميين القراءة والكتابة. وألغيت تكاليف التعليم في الجامعات لإتاحة ولوج التعليم العالي لأكبر عدد من الطلاب. وتم التخلي عن الامتحانات، و تقليص كبير لنسبة التعلم المعتمد على الحفظ الصرف. تم التوفيق بين التعليم المدرسي والعمل اليدوي، واتخذت تدابير الرقابة الديمقراطية، بمشاركة كل العمال المتعلمين في المدارس والتلاميذ الذين يفوق سنهم 12 سنة. وكان لينين شخصيا يولي اهتماما كبيرا لانتشار المكتبات.
لا يمكن للمراسيم أن تغير سوى إلى هذا الحد. إذ أن مهام استئصال الجهل والخرافات والمواقف الرجعية قد تتطلب المزيد من الوقت. كان لينين يلح على أهمية تحرر الطبقة العاملة الذاتي، بقوله إن على الثورة «تطوير تلك المبادرة المستقلة للعمال، وكل البروليتاريين والمستغَلين على العموم، تطويرها أوسع قدر ممكن في العمل التنظيمي الخلاق. علينا مهما كلف الثمن القطع مع الأحكام المسبقة القديمة والمُنافية للعقل والفظة والبغيضة والقذرة التي مردها أن ” الطبقات العُليا ” وحدها والأغنياء وحدهم، ومن تخرجوا من مدارس الأغنياء، قادرون على تسيير الدولة وتوجيه التطور التنظيمي للمجتمع الاشتراكي». رغم حالات الحرمان الفظيعة في مرحلة ما بعد الثورة، أحس عمال كُثر بتخلصهم من قيود نمط حياتهم القديم. توجد حكايات حديثة تقول إن العمال، بعد يوم من العمل، يرتجلون ويؤلفون مسرحيات تمثلية، أو يتابعون دروسا لتعلم وكتابة الشعر.
شهدت روسيا الثورية غليانا في عمليات الإبداع والتجارب في مجال الأدب والرسم والسينما. وتغير موقف الفنان في المجتمع.
14. الدولة العمالية الهشة
كان المجتمع الجديد ملزما بمواجهة مشاكل عدة. كانت الحرب والتسيير السيء للنظام القيصري قد سببا خلق اقتصاد عشوائي. كانت الطبقة العاملة حديثة تماما. ومُعظم العُمّال أبناء فلاحين توجّهوا للعمل في المدن، وعدد كبير منهم أميّ. وكانت الطبقة العاملة أقلية صغيرة كليا في وسط فئة واسعة من الفلاحين.
أقرّ لينين من البداية أنه يتعذر تحقيق اقتصاد مُخطط دون مشاركة فعالة من جماهير العمال. وكما شرح ذلك في خطاب نشرته جريدة : « لم يكن ثمة مخطط نهائي لتنظيم الحياة الاقتصادية ولا يمكن أن يكون. ما من أحد بوسعه صياغته. لكن بالإمكان وضعه من أسفل، من قبل الجماهير، من خلال تجربتها. من اللازم طبعا تقديم تعليمات وتحديد أشكال الفعل، لكن من الضروري البداية من أعلى ومن أسفل في الآن ذاته ».
وبعبارات أخرى يستحيل أن يتم وضع «تخطيط اقتصادي» على نحو منفصل عن ديمقراطية عمالية. وبين التاريخ إلى أي حد كان لينين على حق. كلما جرى فرض التخطيط من أعلى، دون إشراك الجماهير، أصبح ما يسمى “الاشتراكية” تحريفا غريب الشكل ومستبدا.
غير أن العمال الذين كان يعتمد عليهم لينين ترعرعوا في مجتمع شوه تطورهم وأخره. وكما قال عام 1919، يلزم بناء الاشتراكية «مع رجال ونساء ترعرعوا في ظل الرأسمالية، وجعلتهم الرأسمالية فاسدين ومنحطين». كانت روسيا بلدا أقل تطورا، صناعيا وثقافيا من أوربا الغربية، ودمرت الحرب العالمية اقتصاده. كان على الحزب البلشفي منذ البداية النيابة إلى حد ما عن جماهير العمال.
كان ثمة نقص كبير في عدد المناضلين الثوريين المتوفرين على التجربة الضرورية قصد إنجاز أعمال إدارية. غالب ما وجد من كانوا أكفاء أنفسهم يزاولون مهاما عديدة في الآن ذاته. فعلى سبيل المثال وجد فيكتور سيرج، الثوري البلجيكي الذي قدم إلى روسيا لمساعدة الثورة، نفسه منهمكا في العمل في الآن ذاته كصحفي ومدرس ومفتش تعليم ومترجم ومهرب أسلحة وأمين وثائق.
كان هكذا غياب التجربة بوجه خاص خطيرا فيما يتعلق بجهاز الدولة الأمني. خلق النظام الجديد منظمة تسمى التشيكا («اللجنة الطارئة الروسية قصد محاربة الثورة المضادة والأعمال التخريبية» بروسيا)، وكان ذاك ضروريا بلا شك. إذ أن عددا كبيرا من محظوظي العهد السابق كانوا يرغبون في تدمير النظام الجديد. كان من اللازم القضاء عليهم. لكن غالبا ما كان مستخدمو التشيكا أناسا دون ما يكفي من الالتزام بالمبادئ الاشتراكية، ويتجاوزون سلطتهم. فعانى أبرياء كُثر من قبضتهم. كان كل واحد يعترف بإلحاحية ذاك الإجراء: استبدلت التشيكا عام 1922 بإصرار من لينين وآخرين بهيئة ذات سلطات أكثر تحديدا.
كان بعض الثوريين يأملون تحقيق أمور كثيرة وبسرعة بالغة. وشكل عمال كُثر عام 1917 لجان مصانع، اضطلع البلاشفة فيها بدور رئيسي. لكن ما كانت تلك الهيئات تمثل سوى مصالح مجموعة خاصة من العمال بدل عمال الطبقة بمجملها. وقد وصف تقرير أعده شليابنيكوف (الذي أصبح فيما بعد من قادة المعارضة العمالية) في مارس من عام 1918 الفوضى التي سببتها المراقبة العمالية في قطاع السكك الحديدية. (طوني كليف، لينين، المجلد الثالث، لندن، 1978 صفحتا 119-120). كان ذاك بوجه عام ضدا على مصالح العمال، الذين كانوا في حاجة لنظام نقل فعال. ورغم التزام البلاشفة بتطبيق مسألة الرقابة العمالية مبدئيا، فإنهم عملوا على إحداث لجان المصانع في النقابات.
لو كانت روسيا في مأمن عن الإخطار الخارجية، لكان بالإمكان تجاوز كل تلك المصاعب مع الوقت. لكن الدول الأوربية الكبرى لم تكن راغبة في معاينة استمرار الثورة. كانت تدرك إلى أي حد تحظى روسيا بشعبية ضمن العمال الضجرين من الحرب، وتخاف من فكرة إمكانية انتشار النموذج الثوري.
قال وينستون تشيرشل للحكومة البريطانية يوما قبل توقيع هدنة عام 1918، إنه قد يكون من الضروري إعادة بناء الجيش الألماني لمحاربة البلشفية. وبعد أسبوعين صرح في اجتماع: «الحضارة تتعرض للتدمير كليا في أماكن واسعة، بينما يقفز ويبتهج البلاشفة كمجموعة من القردة المتوحشة وسط دمار المدن وأجسام ضحاياهم». (م. جيلبير، وينستون تشيرشل، المجلد الرابع لندن، 1975، صفحتا 226-227).
اشتعلت حرب أهلية عنيفة حتى عام 1920 عبر الأراضي الروسية. وفي الواقع ليست عبارة «الحرب الأهلية» تعبيرا مناسبا. فقد كانت في روسيا قوات من بريطانيا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية و17 بلدا آخر، انضمت إلى قادة روس شرسين وفاسدين أبعدتهم الثورة.
كادت بتروغراد تسقط في قبضة الرجعيين. طرح لينين على بساط البحث إمكانية عودة البلاشفة إلى التنظيم السري (فيكتور سيرج، مذكرات ثوري).
إن من يسعون دوما إلى التشهير بلينين، مثل مؤلفي “كتاب الشيوعية الأسود”، ينشرون استشهادات عن لينين تبرزه بمثابة إنسان فظ متعطش للدم. أرسل لينين في آب/أغسطس من عام 1918 برقية حول سبل مواجهة تمرد الكولاك (فلاحون ميسورون نسبيا كانوا أعداء الفلاحين الفقراء) حيث يقول: «أيها الرفاق، يجب سحق عصيان الكولاك في مناطقكم الخمس بدون رحمة. ذاك ما تقتضيه مصالح الثورة كلها، لأن النضال الأخير ضد الكولاك بدأ في كل مكان. من اللازم: 1- شنق (وأؤكد شنق على نحو يراهم الناس) أكثر من 100 كولاك، أغنياء، ومصاصي دماء معروفين. 2- نشر أسماءهم. 3- مصادرة كل حبوبهم. 4- التحقق من هوية الرهائن كما أشرنا ذلك في برقيتنا أمس.» (ستيفن كورتوا ومن معه، كتاب الشيوعية الأسود).
يبدو كل ذلك فظيعا إذا ما فصل الاستشهاد عن سياقه. حدثت آنذاك حرب أهلية عنيفة، وكان المضادون للثورة أكثر شراسة بكثير من البلاشفة. فقد اعترف القائد الأمريكي بسيبريا عام 1919، الجنرال س. غرافس William S. Graves ، بقوله: «إنني أدلي بالحقيقة عندما أقول إن المناهضين للبلاشفة كانوا يقتلون 100 شخص بسيبريا الشرقية مقابل كل شخص يقتله البلاشفة. (W. P. et Z ، التدخل العسكري بروسيا أعوام 1918-1922، لندن صفحة، 1935، صفحة 209). لم يكن لينين مسالما، وكان يقوم بكل ما بوسعه لضمان انتصار البلاشفة. لا نسمع من مؤلفي الكتاب الأسود أي انتقاد لجورج بوش أو أرييل شارون، فمن الأسهل عليهم إراحة ضميرهم بالتشهير بلينين».
كانت القوات المضادة للثورة فاسدة ومعادية للسامية. ما كان لديها ما تقدمه سوى عودة إلى النظام القديم فاقد الاعتبار. وقد انتصر البلاشفة في نهاية المطاف في الحرب الأهلية بفضل ما أبدوه من عزم وجسارة هائلين.
اضطلع لينين بدور حاسم لتوجيه الحزب سياسيا. لكن لم يكن في الحقيقة مستبدا بأي وجه. غالبا ما كانت القيادة البلشفية خلال الشهور التي تلت الثورة منقسمة إلى حد كبير حول مسائل هامة. وكان لينين أحيانا يجد نفسه في وضع أقلية، ما يضطره إلى إلى تقديم البراهين بضراوة لإثبات موقفه.
لم يكن لينين يعتبر أية مهام غير لائقة به. كان يقضي كثيرا من الوقت حول التفاصيل الإدارية الثانوية في الغالب. قورن لينين بالدكتاتوريين الحديثين لكن اجراءات تأمين سلامته كانت ضعيفة للغاية. تعرضت مرة سيارته لهجوم من قبل لصوص واضطر للهبوط فيما كانوا يفرون بها. كان عليه الانتظار بعض الوقت قبل الحصول على أدنى مساعدة.
ولم يكن يسعى للحصول على امتيازات لصالحه. وجه عام 1918 «توبيخا قاسيا» لمجلس مفوضي الشعب لما قرر الزيادة في راتبه. وتوجد رسالة كتبها لينين عام 1920 طلب فيها بأدب من أمين مكتبة عمومية إن كان بإمكانه خرق القواعد باستعارة كتب أثناء الليل مؤكدا انها ستُرجع في الصباح الباكر. من الصعب تصور ستالين أو صدام حسين يكنان مثل ذاك الاحترام لقواعد عمل المكتبات.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire