حتما إن المثقف جزء من اللعبة الحضارية في المجتمعات الغربية، وركيزة قامت عليها هذه الحضارة ومازالت. ولا أحد ينكر الدور الذي اضطلع به فلاسفة الأنوار في كل من فرنسا وانجلترا وهولندا وألمانيا في تفكيك الحقائق السكولائية والتبشير بعهد الإنسان والحداثة والعقل، بل وفي الإعداد للثورة الفرنسية التي أطلقت التاريخ من عقاله وغيرت الأفق الرمزي والفكري والسياسي والحضاري للبشرية.
كما لا أحد ينكر دور المثقف الغربي في تفنيد أوهام الحركات الفاشية كما حدث في ألمانيا مع كتاب مثل رائد العمل المسرحي برشت وتوماس مان وأعلام مدرسة فرانكفورت النقدية أو في ايطاليا مع الفيلسوف الكبير أنطونيو غرامشي بل وفي نقد السياسات الاستعمارية لحكوماتهم كما هو حال جان بول سارتر في فرنسا.
لكن المثقف العربي لم يتمكن من الاضطلاع بهذا الدور المركزي داخل المجال العربي ـ الاسلامي، ليس لأنه لم يكن عارفا أو مدركا لدوره التنويري ولكن لأن المجال العربي ـ الاسلامي محكوم بتراتبية متحجرة، لا مكان فيها للمثقف الدنيوي إلا كتكنوقراط أو خادم في بلاط الملك بل وكخادم من الدرجة الثانية، باعتبار أن دور المثقف في هذا المجال يلعبه الفقيه وتحتكره المؤسسة الدينية. ولهذا سيكون من الأجدى الحديث عن غياب المثقف داخل المجال العربي ـ الإسلامي، باعتباره مجالا محكوما بحقائق ثابتة وسلطة مطلقة لا تؤبد غير الخضوع، ولا تفرخ لغير نموذج الشيخ والمريد، هذا على الأقل ما يؤكده المفكر الجزائري محمد أركون وكثير من المثقفين المعاصرين.
"الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد"
في كتابه "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد" يتحدث أركون عن تصوره عن المثقف ودوره ورسالته قائلا:"نقصد بالمثقف هنا ذلك الرجل الذي يتمتع بروح مستقلة، محبة للاستكشاف والتحري، وذات نزعة نقدية واحتجاجية تشتغل باسم حقوق الروح والفكر فقط. ويمكننا هنا تسمية نماذج كبرى من المثقفين الذين مارسوا مثل هذا الموقف الحر والمستقل: فمثلا الجاحظ والتوحيدي يعتبران من أكثرهم جرأة و"حداثة". وهناك أيضا الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، لكيلا نستشهد إلا بالأسماء الكبرى للفلاسفة الذين مارسوا أيضا البحث الفلسفي الذي لا يحذف الفكر الديني وإنما يهضمه ويتمثله".
في كتابه "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد" يتحدث أركون عن تصوره عن المثقف ودوره ورسالته لكن هذا الموقف الفلسفي أو النقدي المستقل اختفى من داخل الثقافة الإسلامية بعد أن سادت الأورثدكسية كل مجالات التفكير والحياة، هذه الأرثدوكسية التي أنتجت نمطا معينا من المثقف هو الفقيه، الحارس الأمين والشرس للتراث أو بالأحرى لقراءة دوغمائية للتراث، والذي لا يفعل حسب محمد أركون سوى إعادة إنتاج الماضي وتأبيد وصاية الأموات على الأحياء. وهذا ما ينعته أركون بالسياج الدوغمائي المغلق. فهو سياج وليس فضاء، ليس مدينة أو ساحة تقبل بتعدد الأصوات والأفكار وهو دوغمائي لأنه يتكلس عند يقينيات ومبادئ فوق التاريخ لا يمسها التغير ومغلق لأنه يكفر كل محاولة للتجاوز أو للتسلل خارج مضارب النص أو الهوية. كان ابن تيمية بنظر أركون أبرز ممثلي هذا السياج الدوغمائي المغلق في الماضي، نموذج ما برح ينبعث من جديد يقول أركون ويتابع "ويحظى بكل آيات التقدير والتبجيل، وتترسخ مكانته بكل وظائفه التقليدية". وطبعا فإن أركون يعني بذلك دور الإخوان المسلمين والحركات الإسلاموية المعاصرة في الانتصار للأرثدوكسية ورفض ومعاداة العلمانية والحداثة.
إن السياج الدوغمائي المغلق هو الخطاب الديني الذي تمحور حول الله والحكم والجنس والذي احتكر ـ ومازال ـ لنفسه حق الحديث عن هذه الأقانيم الثلاثة، رافضا ومكفرا كل قراءة تتعارض ورؤيته التمامية. ولاغرو بأن القاعدة الأساسية التي تقوم عليها هذه النظرة هي الطاعة، طاعة المؤمنين لله من جهة، وربط طاعتهم للسلطان بطاعتهم لله، إذ كما تقول قاعدة فقهية :"حاكم جائر خير من فتنة داخل الأمة". ثم إخضاع المرأة للرجل وتأبيد رؤية دينية ـ تقوم على مركزية قضيبية ـ للأسرة وللعلاقات بين الرجل والمرأة.
ويسجل أركون بأن ظهور مثقفين عرب نقديين درسوا في الغرب لم يساهم في اختفاء هذه الرؤية الرجعية ولا في اختفاء رجال الدين من الساحة، الذين نافسوا المثقفين الليبراليين ونجحوا في التأثير عليهم، إذ لم يتوفر المثقفون النقديون على قاعدة شعبية يستندون إليها، وأصبحوا معزولين واختار أغلبهم الهجرة أو الصمت. يقول أركون:"ما بين لحظة الاستقلال وحتى اليوم، وجدنا أن أيا من المجتمعات الإسلامية أو العربية لم يسمح بظهور فئة من المثقفين المستقلين النقديين المؤثرين عن طريق ممارستهم للعمل الدؤوب والمستمر، إلى الحد الذي يتيح لهم تشكيل ذروة الهيبة الثقافية أو السيادة الفكرية العليا" وبلغة أخرى، إلى الحد الذي يتحولون فيه إلى مرجع فكري وروحي وأخلاقي للمجتمع، ولا يعود ذلك لأسباب سياسية بحتة وإلى التحالف القائم بين السياسة ورجال الدين وحسب، ولكن أيضا إلى طبيعة الرؤية الدينية نفسها كما يعتقد أركون والتي ترفض تنسيب الحقيقة واقتسامها مع آخرين وترفض استقلالية العقل مختزلة إياه إلى مجرد خادم للوحي، أو إلى حواش عقيمة على النص المؤسس.
لكن على الرغم من ذلك يرى أركون بأن سطوة السياج الدوغمائي المغلق لم تحل دون ظهور حركة إنسية عربية ومثقف عربي نقدي منفتح على الثقافات الأخرى ومقبل على التعلم منها وتوسيع آفاقها داخل المجال الثقافي العربي الإسلامي، بل إنه لم يتورع عن القول بأن الجاحظ والتوحيدي كانا أكثر "حداثة" من عديد من المثقفين العرب اليوم.
نقد المركزية الثقافية الغربية
تندرج أعمال أركون في إطار ما يمكن أن نسميه بلغة عبد الكبير الخطيبي بـ "النقد المزدوج. فهو لا يفكك أقانيم الفكر الإسلامي وأساطيره ومواقع السلطة فيه ولكنه يعمد أيضا إلى تفكيك النظرة المركزية الغربية إلى الثقافة الإسلامية. في "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد" يكتب أركون مفككا الخطاب الغربي حول الإسلام قائلا:
"مهما يكن من أمر، فإنه لم يعد مقبولا حصر الإسلام كله فقط في تجلياته الأصولية أو المتزمتة أو الحركية الإسلاموية كما هو شائع جدا في الغرب. وإذ أقول كلامي هذا فإني لا أنكر أبدا حجم الضغط الاجتماعي لتلك الإيديولوجيا التي تستعير من الإسلام التقليدي مفرداته وشعاراته...ولكن تنبغي إدانة مؤامرة الصمت التي يقوم بها كل المراقبين الغربيين للإسلام المعاصر، بمن فيهم علماء الإسلاميات الأكثر شهرة. أقصد الصمت عن وجود فئات اجتماعية أخرى في المجتمعات الإسلامية غير تيار الإيديولوجيين الإسلامويين" ليخلص أركون إلى أن نجاح الكتب الأصولية المتطرفة داخل المجتمعات الإسلامية لا يختلف كثيرا عن نجاح الكتب الغربية حول الإسلام المليئة بالخلط والأغلاط والهلوسات، كما لو أن نجاح الطرفين مرتبط ببعضهما البعض، تماما كما ذهب وأوضح ذلك بيير بورديو في تحليله للعلاقة الوطيدة بين عقلانية المركز ولاعقلانية الأطرف أو ادوارد سعيد في تحليله للعلاقة العضوية بين الإمبريالية الأمريكية والنظام العربي الرسمي.
يقول أركون: "مهما يكن من أمر، فإنه لم يعد مقبولا حصر الإسلام كله فقط في تجلياته الأصولية أو المتزمتة أو الحركية الإسلاموية كما هو شائع جدا في الغرب." ينتقد أركون تلك الرؤية السائدة في الغرب والتي لا يمر يوم دون أن نصادفها في وسائل الإعلام على مختلف أنواعها، بل ونصادفها حتى لدى اقطاب اليسار الغربي، والتي تختزل العالم الإسلامي إلى معسكر للتطرف والتزمت، متجاهلة القوى الأخرى داخل هذا المجتمع والتي تناضل منذ عقود من أجل مجتمع مفتوح وحوار نقدي بين الأنا والآخر.
ويندرج في إطار الرؤية الغربية التبخيسية والمتكلسة في أحكامها المسبقة اتجاه العالم الإسلامي الإهمال الذي يعاني منه تدريس تاريخ الإسلام في الغرب كدليل على الإهمال والاحتقار الذي منيت به بلدان الضفة الجنوبية والشرقية للمتوسط من قبل بلدان الشمال. إن الأمر يتعلق برؤيا إيديولوجية لتاريخ حوض البحر المتوسط، رؤية لم تتحرر بعد من أدران الإستعمار وأدواءه وأحقاده، بل إن أركون يعتبرها استمرارا للرؤية الدينية المسيحية وموقفها من الإسلام، ما يترك الباب مفتوحا على مصراعيه لأشباه المستشرقين الذين بدأوا ينتشرون كالفطر في الدول الغربية ويصدرون كتابا بعد آخر كلما انفجرت قنبلة هنا أو سقط صاروخ هناك للتدليل على أن العنف متأصل بالإسلام وعلى أن العداء للسامية مكون من مكونات المجتمعات الإسلامية والإسلامية فقط.
محمد أركون ناقدا للعقل الإسلامي
إن اهتمامه بالفلاسفة العرب وخصوصا بمسكويه صاحب "تهذيب الأخلاق" وبيئته الثقافية والتاريخية هو ما دفعه إلى تغيير تلك الصورة النمطية عن الإسلام والتي تحاول اختزاله كما بينت ذلك الباحثة الألمانية أورسولا غونثر في الإسلاموية والعروبية. لقد تميز مسكويه وآخرون غيره كالتوحيدي والجاحظ وابن رشد بانفتاح كبير على الحضارات والثقافات الأخرى ويكفي الاستشهاد هنا بتلك المقولة المركزية لابن رشد في "فصل المقال:
"وإذا كان هذا هكذا، فقد يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحس ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم. فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع..."
"لا يكتفي ابن رشد بالدعوة إلى الاستفادة من الثقافات الأخرى بل يربط تلك الدعوة بالشرع، و يحولها إلى أمر شرعي أو أمر ديني" لا يكتفي ابن رشد في هذا المقام بالدعوة إلى الاستفاذة من الثقافات الأخرى بل يربط تلك الدعوة بالشرع، و يحولها إلى أمر شرعي أو أمر ديني. أو بلغة أخرى يقلب المعادلة ويجعل النقل مبررا للعقل ومبررا لاستعماله وانفتاحه واعتبار كل ذلك طريقا لـ "معرفة الله". لهذا لا يمكننا إلا أن نتفق مع أركون ودفاعه عن وجود انسانوية عربية في التاريخ الإسلامي رغم أنه لا يمكن مقارنتها بالحركة الإنسية في أوروبا لأنها حركة تحررت نهائيا من سلطة الدين في حين لم ير الإنسانويون العرب تضادا بين الحقيقتين الدينية والعقلية. ويخلص أركون في بحثه عن ميسكويه وكما بينت ذلك أورسولا غونثر في كتابها المتميز "أركون ناقدا للعقل الإسلامي" :
"أولا: لقد عرف القرن العاشر حركة إنسية عربية وكان ميسكويه أحد ممثليها
ثانيا: الادعاء بأن العرب نقلوا فقط الفلسفة اليونانية وأن ما كتبوه كان تقليدا فقط لا يملك أي أصالة هو ادعاء خاطئ، بل إنهم أعادوا تقييم ما كتبه اليونان وتوسيع آفاقه ونقده وتبيئته" (163).
وقد ندفع بالنتائج إلى حد أبعد من ذلك ونقول بأننا أحوج اليوم إلى تلك الإنسانوية العربية أو إلى روحها المنفتحة التي عرفت كيف تزاوج بين الدين والعقل منا إلى الإنسانوية الغربية التي انتصرت للعقل على الدين ولمركزية عقلية اتخذت في أحايين كثيرة وجوها عنيفة في رفض الآخر، ولعل هذا ما جعل أركون يقدم على تفكيك تلك العقلانوية الباردة التي أرادت أن تخرس الأقاليم الأخرى للإنسان كالروح والدين والمتخيل والأساطير. إنه يدعو إلى عدم الاستهانة بالتجربة الدينية للإنسان وعدم إهمال البعد الروحي والمتعالي كما تفعل الوضعية والمادية. إنها فلسفات لا تأخذ بعين الاعتبار أهمية البعد الأسطوري في الحياة البشرية، فالأسطورة كما يقول أركون:"هي إحدى الطرق لإنتاج المعرفة عن الإنسان".
آفاق العلمانية وأنفاقها
ويندرج حديث أركون عن العلمانية في إطار تفكيكه لتلك العقلانوية الباردة. لقد كان أركون من السباقين إلى المطالبة بإعادة النظر في مفهوم العلمانية المتشددة الذي أنتجته الثورة الفرنسية، وهو يلتقي في دعوته تلك مع فلاسفة كبار على رأسهم يورغن هابرماس الذي أكد في آخر محاضرة له ما يلي:
" من يطرح السؤال عن دور الدين في مجتمع اليوم للنقاش، يسأل عن المكانة المناسبة للدين في الرأي العام السياسي. وللوهولة الأولى يبدو أن الطابع العلماني للدولة الدستورية يتعارض مع كل نشاط سياسي للمواطنين المتدينين أو للجماعات الدينية، الذين يعبرون عن أنفسهم كمؤمنين أو كمنظمات دينية. واستنادا إلى هذا الأساس يعلن ليبراليون مثل جان راولز أو روبرت أودي بأنه من واجبات المواطنة "عدم دعم قوانين أو سياسات أو الدفاع عنها،(...) إذا لم تكن قائمة على استدلالات علمانية مناسبة أو لم تكن مستعدة لتقديمها". لكني شخصيا، أميل إلى أن يكون التواصل السياسي في المجال العمومي مفتوحا أمام كل مساهمة، وكيفما كانت اللغة التي يستعملها. إن السماح بالتعبير عن آراء دينية بحثة في المجال العمومي، لا يمكن الاستدلال عليه فقط بالنظر إلى الأشخاص الذين لا يتوافر لديهم الاستعداد والقدرة على تقسيم قناعاتهم ومعجمهم إلى ما هو دنيوي وماهو ديني، بل إن هناك سببا وظيفيا لذلك، واجب أن لا نختزل في عجلة من أمرنا التعقيد البوليفوني للمجال العمومي المتعدد الأصوات.
فواجب الدولة الديمقراطية أن لا تكبح الرغبة العفوية للأفراد والجماعات في التعبير، لأنها لا تستطيع معرفة ما إذا كان المجتمع، في حال قيامها بالعكس، سينقطع بذلك عن مصادر المعنى والهوية. وخصوصا فيما يتعلق بالمجالات الشديدة الحساسية للحياة الاجتماعية، تتمتع التقاليد الدينية بالقدرة على التعبير على الحدوس الأخلاقية. أو ليس من الممكن أن يتعرف المواطنون العلمانيون في مضامين الآراء الدينية على حدوسهم الشخصية، سواء تلك المخفية أم المكبوتة؟".
لقد كان محمد أركون سباقا إلى الدعوة إلى إعادة النظر في المغامرة التاريخية التي كرست في الغرب نهاية النظام الديني، دون أن يبخس العلمانية دورها التاريخي والتي جاءت لتضع حدا للحروب الدينية. إنه يدعو إلى الانفتاح على صيغة جديدة للعلاقة بين الدين والدولة أو إلى علمنة جديدة لا تتكلس في مقولاتها الرافضة للدين باسم الحيادية والموضوعية حتى أصبح درس الأديان محرما في المدارس وأضحى الناس أميين بكل ما يخص الخطاب الديني والأسطوري. ولهذا يفرق أركون وفي صرامة بين الفكر العلمانوي أو اليعقوبي المتطرف في رفضه للدين والفكر العلماني المنفتح على أقاليم التفكير الأخرى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire