عرّاب لاهوت التحرير | قس بنكهة ماركسية!
أوسكار روميرو، عرّاب حركة لاهوت التحرير وأحد أبرز رموزها، أكثر آباء الكنيسة انحيازاً للفقراء، وأكثرهم معارضة لهيمنة الولايات المتحدة على أمريكا اللاتينية. شغل منصب رئيس أساقفة السلفادور بين عامي 1977 و 1980، فيما شكّل موضوع اغتياله أثناء إقامته لقداس بذرة لدخول بلاده في حرب أهلية عصفت بالبلاد لمدة 12 عاماً.
راديكال - طلال عبدالله
لم يكن التقارب الذي نشأ بين الكنيسة والحزب الشيوعي برعاية القديس فكتور سانا باريا عام 1946 في كوستاريكا ببعيد عن الأسقف أوسكار روميرو، الذي شرع في الستينيات والسبعينيات لبلورة رؤية حقيقية لحركة لاهوت التحرير؛ ما شكّل إضافة حقيقية للفكر الإنساني خلال القرن العشرين، مع التأكيد على أن الإبداع اللاتيني تجلى في أبرز صوره في الثورات الراديكالية المسلحة، وفي خلق “لاهوت التحرير”، الذي جدد رؤية المسيحية في القرن الماضي، مما أزعج الولايات المتحدة، لتتوجه نحو محاربة نموذج لاهوت التحرير، مذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا.
وعقب هزيمة الحركات التنموية والإصلاحوية في أمريكا اللاتينية، وبالأخص كوبيت شيك في البرازيل، برونديزي في الأرجنتين، رومولو بيتانكور في فنزويلا، بدأت أنظار الفقراء والمعذبين تتجه نحو الماركسية والمسيحية على حد سواء، ليبدأ المسيحيون المنحازون للفقراء بمحاولة خلق علاقة ما بالفكر الماركسي (التطورات السياسية التي شهدتها المنطقة آنذاك)، على الأقل فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية، لتظهر سؤال هربرت ماركوزه بسخرية من جديد في تلك الحقبة: “هل ما زال يوجد مسيحيون؟”.
لقد أعاد آباء وقساوسة الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية، وعلى رأسهم أوسكار روميرو، قراءة المسيحية بما يدعم الفقراء والمعدمين والمظلومين والمهمشين، ولربما كان الموقع الطبقي للأسقف روميرو هو السبب في ذلك، الأمر الذي قارب بين وجهات النظر بين الماركسية والمسيحية، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع، وفقت فيها الكنيسة إلى جانب الشيوعيين في نضالهم من أجل الكادحين.
ولطالما طرح لينين تلك المسألة في مؤلفاته، ولطالما أشار إلى أن الماركسي لا بد أن يكون مادياً جدلياً، أي أن يتعامل مع الدين لا بطريقة مجردة، وعلى أساس منعزل ونظري بحت، لا يختلف قط عن الوعظ، بل بطريقة عينية، تقوم على أساس الصراع الطبقي الحادث فعلاً، وبذلك يقع على كاهل الماركسي تعليم الجماهير أكثر وأفضل ما يمكن.
وبدأت الكنيسة اللاتينية بالتحول فعلاً إلى قوة للتغيير في العام 1969، عقب سلسلة من اللقاءات بين الماركسيين والمسيحيين في المنطقة، مما ظهر على صورة انزعاج شديد من قبل إدارة الولايات المتحدة برئاسة ريتشارد نيكسون، الذي دعى زعماء أمريكا اللاتينية الموالين له للقضاء على لاهوت التحرير ولو اضطروا إلى استخدام القوة، وذلك بحسب وثائق نشرت فيما بعد مثل (تقرير مؤسسة راند) و (وثيقة سانتا) التي دعت إلى الهجوم على لاهوت التحرير بشكل صريح إبان حكم ريغان.
في أمريكا اللاتينية، بدأت الكنيسة بقيادة رموز لاهوت التحرير بإعادة تكييف علاقتها مع المجتمع على أسس ثورية، وبالتحديد، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ففي الوقت الذي كانت الأنظمة القمعية تسيطر على معظم دول أمريكا اللاتينية (البيرو- تشيلي- أوروغواي- الأرجنتين- البرازيل)، وحروب العصابات تعصف بكولومبيا وفنزويلا ونيكاراغوا، انتشرت حالة من القهر والاستبداد على شعوب أمريكا اللاتينية، في ظل قيام السلطات العسكرية الشمولية تلك بالسيطرة على كل شيء، ومصادرة قوى ومؤسسات شعوبها، وتعزيز هيمنة الطبقات الحاكمة المرتبطة بمصالح متبادلة مع القوى الاستعمارية الإمبريالية المركزية في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، وتقديم المزيد من الخدمات لكبار الملاك والإقطاعيين الذين ارتبطت مصالحهم بالرأسمالية الأمريكية أيضاً.
أوسكار روميرو أسهم في ذلك الوقت تحديداً ببلورة رؤية ثورية راديكالية أكثر قرباً من هموم وقضايا الفقراء والمهمشين في داخل الكنيسة الكاثوليكية، وبدأت تتظهر في ذلك الوقت مجموعات راديكالية ثورية من القساوسة والآباء قامت بإعادة تعريف دور الكنيسة في المجتمع، بوصف الكنيسة الحقة، هي تلك التي تتواجد على المستوى الشعبي فقط، وأعادوا قراءة العهود القديمة والجديدة والتراث الكنسي، وركزوا على كونها في مجملها منحازة للفقراء ضد الأغنياء، وفكرة كون المسيح “نبي الفقراء ومخلصهم”، وبأنه كان فقيراً، من خلال اكتشاف النصوص المسيحية التي تتحدث عن حقوق الفقراء والمضطهدين والمحرومين.
وبجانب روميرو، وقف الأب جوستافو جوتييرز في بيرو كأحد أهم مؤسسي حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، الذي كرس جهداً كبيراً في كتاباته التي جمعت في كتاب تحت عنوان “رب الحياة”، لصياغة المفاهيم والأفكار الرئيسية للاهوت التحرير، حيث اعتبر أن المحور الرئيسي في لاهوت التحرير يستند إلى كون “المسيح هو مسيح الفقراء ومسيح المضطهدين، ومسيح الحرية”.
أما الأسقف أوسكار روميرو فقد وضع عدة مؤلفات تعد الأساس الفعلي لحركة لاهوت التحرير، أهمها كتب (عنف الحب) و (صوت من لا صوت لهم) و(رسالة الأمل من أحد الشهداء) و(أوقفوا الاضطهاد)، التي أصبحت فيما بعد عنواناً لسلسلة الكتب التي تعبر عن فكر وتوجيهات حركة لاهوت التحرير، واستمر في دعواته إلى مناصرة الفقراء والمستضعفين، ورفض هيمنة الأغنياء، لتبدأ الحرب على روميرو من خلال وصفه بالمروّج للشيوعية في داخل الكنائس.
وحين اغتيل روميرو في أوائل الثمانينيات، وجهت حكومة السلفادور أصابع الاتهام وقتها للثوار اليساريين، وحمّلتهم المسؤولية عن مقتله، ولكن يمضِ الكثير من الوقت حتى اتضح تورط “كتائب الموت” التابعة للشرطة والجيش السلفادوري في اغتياله بالتعاون مع الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA).
الخلطة السحرية المطلوبة بين الدين واليسار، تأتي في السياق الاجتماعي بشكل خاص، وفي سياق التحرر من الاستعمار بشكل عام، تأتي في سياق التركيز على تلك الجوانب، بعيداً عن كون الدين سلاحاً للسود على سبيل المثال، وهنا يتجلّى الفارق بين لاهوت التحرير في أصوله اللاتينية وبين لاهوت التحرير الأسود على سبيل المثال، حيث أن الأول بدا أكثر تركيزاً على الجوانب الاجتماعية وجوانب التحرر من الاستعمار، بعكس الثاني الذي غلب فيه البعد العرقي.
تأثر حركة لاهوت التحرير بالفكر اليساري والماركسي بصفة خاصة، لم يخف على أحد، وكون حركة لاهوت التحرير شكلّت تمازجاً بين المسيحية والماركسية؛ أمر سيواصل إزعاج الطبقات الحاكمة، في الوقت الذي يرجع فيه التشابه في كثير من الأفكار بين اليسار والمسيحية في أمريكا اللاتينية -بصفة أساسية- إلى الواقع المشترك الذي ولّد اهتمامات مشتركة وأفرز أفكاراً متشابهة، منها الرغبة في التغيير ورفض الواقع الذي أدى إلى الظلم والفقر.
“الخطيئة الحقيقية هي الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروات”، مقولة للأسقف أوسكار روميرو، ستبقى خالدة في تاريخ أمريكا اللاتينية، وسيبقى هو كذلك خالداً في وجدان أبناء قارته، جملة دينية بنكهة ماركسية، جعلته يبدو كمفكر يساري أصيل، أسست لتعايش خلاق بين اليسار والكنيسة، ففي حين كان رجال لاهوت التحرير يتمتعون بانفتاح على الفكر الإنساني على اختلافه بما فيه الفكر اليساري، كانت الحركات اليسارية في أمريكا اللاتينية تدرك طبيعة شعوبها وخلفيتها الدينية وتعي أنها شعوب مسيحية مؤمنة ومتمسكة بإيمانها المسيحي فلم تسع إلى الصدام مع الخلفيات الدينية لها بما سمح بالتعايش والتلاقح الفكري بين الجانبين، وهو ما أوجد نوعاً من التشابه بين أفكار كل منهما، وإن احتفظ كل فريق بمنطلقات ومرجعيات مغايرة للآخر.
حركة لاهوت التحرير براءة اختراع لاتينية، تشكل إحدى علامات الفكر الإنساني المهمة في العصر الحديث، تعمل على تطوير رؤانا بشأن علاقة الدين بالعدل والإيمان بالحرية والكرامة الإنسانية للفئات المهمشة والمستضعفة في عصر عولمة الرأسمالية وتدويل سلطة السوق، فهل ثمّة “لاهوت تحرير” بنسخة عربية؟!
“الكنيسة التي لا تتحد بالفقراء، ولا تنطلق منهم، ولا ترفض الظلم المرتكب بحقهم، ليست الكنيسة الحقيقية ليسوع المسيح“ – أوسكار روميرو