ارتبطت الثورة التي أطاحت بشاه إيران – أحد كبار رموز الاستبداد في الشرق الأوسط – قبل عشرين عامًا بالإسلام والإسلام السياسي. وفي أذهان الملايين في كل مكان، صارت “الثورة الإيرانية” و”الثورة الإسلامية” مترادفان. فإذا كنت مناصرًا للثورة الجماهيرية التي أسقطت نظامًا مستبدًا استغلاليا حليفًا للإمبريالية، فعليك أن تؤيد الإسلام السياسي أو تتعاطف معه على الأقل. وإذا كنت ساخطا على استبداد الإسلاميين ورجعيتهم، فعليك أن تمتد بسخطك إلى الثورة التي قادوها وأوصلتهم للحكم. والواقع أن هذين ليسا البديلين الوحيدين على الإطلاق. ذلك أن وصف الثورة بأنها. إسلامية ينطوي في الحقيقة على كثير من التبسيط المخل. ولكي يتبين لنا ذلك نحتاج لإلقاء نظرة على طبيعة الحركة الجماهيرية التي أطاحت بنظام الشاه، كما نحتاج أن نفهم كيف انتهت هذه الثورة بسيطرة آيات الله من الملالي (الاسم الفارسي لرجال الدين) وأسباب نجاحهم في فرض تلك السيطرة.
ثورة من؟
كان “فقراء المدن” هم أول الشرائح الاجتماعية التي أشعلت فتيل الثورة. ففي يونيو 1977، وعندما حاولت الشرطة إزالة الأكواخ السكنية الفقيرة في جوانب طهران (عاصمة إيران) التي رأى الشاه أنها لا تتناسب مع عظمة عاصمته “الإمبراطورية، اندلعت انتفاضة عارمة. واستمرت المواجهات الدامية بين الشرطة والسكان لأكثر من شهرين، ولم تهدأ إلا مع تراجع النظام عن خططه.
كان “فقراء المدن” هم أول الشرائح الاجتماعية التي أشعلت فتيل الثورة. ففي يونيو 1977، وعندما حاولت الشرطة إزالة الأكواخ السكنية الفقيرة في جوانب طهران (عاصمة إيران) التي رأى الشاه أنها لا تتناسب مع عظمة عاصمته “الإمبراطورية، اندلعت انتفاضة عارمة. واستمرت المواجهات الدامية بين الشرطة والسكان لأكثر من شهرين، ولم تهدأ إلا مع تراجع النظام عن خططه.
شجعت هزيمة النظام المذلة في هذه المواجهة فئات أخرى على التعبير علنًا عن سخطها. ففي نوفمبر، بدأ الكتاب والمحامون والأكاديميون ينظمون ندوات شعرية شعبية سرعان ما أصبحت محورًا للمعارضة الليبرالية. أما الملالي، فقد ظهرت مشاركتهم النشطة في الحركة المعادية للشاه في ديسمبر 1977 حيث راحوا – تحت قيادة آية الله الخميني من منفاه في العراق وقتذاك – يحرضون على التظاهر والتمرد ويطالبون بسقوط الشاه. وكانت شبكة رجال الدين المنظمة جيدًا من خلال الجوامع على صلة وثيقة بـ”البازار” (المؤسسة التقليدية التي يندرج في ظلها الحرفيون والتجار والممولين الصغار والمتوسطون في إيران). وقد حاول الشاه أن يتخذ من هذه الفئات كبش فداء للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي عصفت بإيران منذ منتصف السبعينات حيث اتخذ ضدهم العديد من الإجراءات الاقتصادية وكذلك البوليسية. ومن هذا استطاعت القيادة الدينية أن تلعب دورًا بارزًا في قيادة وتوجيه المعارضة المتزايدة لهذه الفئات البرجوازية الصغيرة طوال النصف الأول من عام 1978، وذلك من خلال الدعوات المتواصلة للتظاهر والمطالبة بسقوط الشاه وعودة دستور 1905 شبه الليبرالي.
ومع بداية النصف الثاني من عام 1978، حدث تحول كيفي في طبيعة الحركة المعادية للشاه، إذ اندلعت موجة واسعة من الإضرابات العمالية على طول البلاد وعرضها. كانت الإجراءات الانكماشية والتقشفية (التقشف للجماهير المعدمة بالطبع وليس للطبقة الحاكمة المترفة بالطبع) التي لجأ إليها الشاه في مواجهة الأزمة قد أدت إلى تزايد معدل البطالة وانخفاض الأجور الحقيقية للعمال الصناعيين، بما في ذلك المهرة منهم. إن هذا الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتأزم، بجانب التناقضات السياسية الحادة لنظام الشاه، قد أشعل المعارضة العمالية ضد النظام. وصار صيف 1978 الساخن نقطة تحول في مسار الصراع.
في مواجهة هذا الوضع المنذر بالخطر، لجأ الشاه إلى سلاحه التقليدي: القمع. حيث أعلن الأحكام العرفية وقامت قواته بقتل آلاف المتظاهرين يوم “الجمعة السوداء”، 8 سبتمبر 1978. وبدلاً من أن يخمد الحريق، زاد القمع من درجة الغليان وراحت الإضرابات تنتشر كالنار في الهشيم، وامتدت لتشمل لا العمال الصناعيين وعمال البترول فحسب، وإنما أيضًا عمال الخدمات والعمال المكتبيين وأفرزت الكثير من الإضرابات لجان إضراب منتخبة ديمقراطيًا من قبل العمال. وفي قلب حركة الإضراب هذه كانت إضرابات عمال البترول الطويلة على مدى شهور أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1987، والتي أسفرت عن خسائر هائلة للاقتصاد الإيراني. وهكذا فمع نهاية 1987 كانت الإضرابات العمالية قد أصابت الاقتصاد بالشلل التام. ولم تفلح الإجراءات الإصلاحية المتواضعة التي أقدم عليها الشاه متأخرًا – مثل زيادة الأجور والقبض على بعض المسئولين المشهورين بالفساد وتعيين السياسي “النزيه” شهبور باختيار رئيسًا للوزراء – في تهدئة الموقف، بل إنها زادت من ثقة الثوار.
يجدر بنا أن نشير هنا إلى الطابع العلماني على الحركة العمالية، حيث دارت المطالب التي أفرزتها الإضرابات حول زيادة الأجور وطرد الإدارة وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية للعمال وإنهاء العمل بالأحكام العرفية وحل السافاك (البوليس السياسي) والإفراج عن السجناء السياسيين. هكذا جمعت حركة العمال بين المطالب الاقتصادية والسياسية، ولم يظهر عليها تأثير كبير بالمطالب “الأخلاقية” لحركة رجال الدين (كارتداء المرأة الحجاب مثلاً).
تحت وطأة الإضرابات والمظاهرات وحركات العصيان في صفوف الجيش والشرطة، اضطر الشاه لمغادرة إيران في 16 يناير 1979، حيث استضافه صديقه السادات في مصر. وعندما عاد الإمام الخميني إلى إيران مظفرًا في أول فبراير 1979 (وكان قد انتقل من العراق إلى باريس في أواخر 1978 بناءًا على طلب الشاه من السلطات العراقية) كان الصراع لا يزال محتدمًا بين أنصار الشاه وخصومه في القوات المسلحة. وأدى استخدام بختيار – آخر رؤساء وزراء الشاه – للشرطة العسكرية والحرس الإمبراطوري ضد الثورة لانفجار الموقف في وجه حكومته. فقد تزايد السخط ونجحت حركتا “فدائيي خلق” اليسارية و”مجاهدي خلق” المعبرة عن اليسار الإسلامي في إشعال تمردات واسعة النطاق داخل القوات المسلحة، وهو ما عجل بإطاحة حكومة باختيار وانهيار النظام القديم.
كيف انتصر الملالي؟
خلال السنوات الطويلة التي قضاها في المنفى، أصبح الزعيم الديني آية الله الخميني رمزًا لمعارضة نظام الشاه في إيران. وأثناء الشهور القليلة الحرجة السابقة على سقوط الشاه، صار منزله قرب العاصمة الفرنسية باريس ملتقى لممثلي مختلف القوى المنخرطة في الحركة – البازاريون والملالي القريبون منهم، والمعارضة البرجوازية الليبرالية، والجمعيات المهنية، والطلاب، بل وأيضًا المنظمات الفدائية اليسارية. ومع عودته لطهران صار رمزًا للثورة وزعيمًا روحيًا لها.
خلال السنوات الطويلة التي قضاها في المنفى، أصبح الزعيم الديني آية الله الخميني رمزًا لمعارضة نظام الشاه في إيران. وأثناء الشهور القليلة الحرجة السابقة على سقوط الشاه، صار منزله قرب العاصمة الفرنسية باريس ملتقى لممثلي مختلف القوى المنخرطة في الحركة – البازاريون والملالي القريبون منهم، والمعارضة البرجوازية الليبرالية، والجمعيات المهنية، والطلاب، بل وأيضًا المنظمات الفدائية اليسارية. ومع عودته لطهران صار رمزًا للثورة وزعيمًا روحيًا لها.
لكن الخميني في هذا الوقت – وبالرغم من نفوذه الشخصي – كان أبعد ما يكون عن السيطرة على مقاليد الحكم. فأهم الأحداث التي أطاحت بالشاه – انتشار الإضرابات وحركة التمرد داخل القوات المسلحة – وقعت بمعزل عنه تمامًا. وخلال الشهور التي تلت الثورة لم يكن بوسعه أن يفرض سيطرته على سير الأمور. فالسلطة الفعلية داخل المدن كانت في أيدي العديد من اللجان المحلية التي كونها الجماهير بمبادرتهم. وكانت الجامعات تحت سيطرة اليسار و”مجاهدي خلق”. أما في المصانع، فقد انتشرت “المجالس المصنعية” (اشتهرت باسمها الفارسي “شورى”) وراحت تتحدى الإدارة وتنتزع منها السيطرة على تنظيم الإنتاج لصالح سيطرة العمال. وفي المناطق التي سكنتها الأقليات العرقية – كردستان في الشمال الغربي وخوزستان في الجنوب الغربي المتحدث بالعربية – ظهرت حركات سياسية تناضل من أجل تقرير المصير. وعلى قمة السلطة كانت هناك قوتان، لا قوة واحدة، تتنازعان الإشراف على عملية الاختمار الثوري تلك من جهة، أدار مهدي بزرجان الحكومة المؤقتة التي تشكلت بعد سقوط حكومة بختيار، وهو إسلامي “معتدل” على صلة وثيقة بأقسام حديثة من البرجوازية (وكان قد أسس جمعيات الطلاب الإسلامية في الخمسينات ثم جمعية المهندسين الإسلامية). وإلى جوار الحكومة المؤقتة كان هناك مجلس ثوري عينه الخميني وعمل كمركز بديل للسلطة التفت حوله مجموعة من الملالي والمثقفين الإسلاميين المرتبطين بالبازار.
في نهاية الأمر استطاعت المجموعة المحيطة بالخميني أن تحوز سلطة شبه مطلقة من خلال “حزب الجمهورية الإسلامية”. إلا أن تحقق ذلك استغرق سنيتين ونصف من المناورات السياسية المعقدة وسط أمواج عاتية. وعلى امتداد الجزء الأكبر من عام 1979، تعاون الخمينيون مع حكومة بزرجان في محاولة لسحق المجالس المصنعية والحركات القومية الانفصالية. واستخدموا خطابًا إسلاميًا لتعبئة قطاعات من “البروليتاريا الرثة” (المقصود فقراء المدن من العمال الموسميين والعاطلين والعاملين في مهن هامشية وبعض صغار الحرفيين والتجار الذين تعرضوا لإفقار قاسي) في عصابات، أطلقوا عليها أسم “حزب الله”، مهمتها الاعتداء على اليسار وتعزيز “الأخلاق الإسلامية” (ضد مثلاً النساء الرافضات لارتداء الحجاب) والتعاون مع الجيش في ضرب الحركات الانفصالية. ومثلما هو الحال في كل محاولة لـ “إعادة الأمور إلى سيرها الطبيعي” بعد انتفاضة ثورية عظيمة، فقد ارتكبت عصابات حزب الله جرائم بشعة، منها على سبيل المثال إعدام حوالي مائة شخص عقابًا لهم على الجرائم الجنسية”، وقتل عدد من المناضلين اليساريين، إطلاق النار على المتظاهرين المنتمين للأقليات القومية.
شن الخمينيون حملة تشويه وقمع شرسة ضد كافة نزعات التمرد الحقيقي في المجتمع: الحركة النسائية الطامحة إلى تحدي الإرث الثقيل المتمثل في قرون من امتهان المرأة، وحركات تقرير المصير الساعية للمساواة والاستقلال، وغير ذلك من الاتجاهات الحرة التي أفرزتها نسمات الاختمار الثوري. وكان طبيعيًا أن تنال الطبقة العاملة النصيب الأوفر من القمع. في مايو 1979 صدر قانون يحظر تدخل المجالس المصنعية، في عمل الإدارة المعينة من قبل الحكومة. وفي يونيو صدر دستور الجمهورية الإسلامية واضعًا القيود على نشاط المجالس المصنعية، وفي أغسطس أعلن الخميني عن قيام منظمة إسلامية جديدة هي “الجهاد من أجل إعادة البناء”، حيث أكد أن الإضرابات ستعامل على أنها عمل إجرامي حيث أن الوقت قد حان “لإعادة البناء”. وبات واضحًا أن “إعادة البناء” على الطريقة الإسلامية لا تتضمن أدنى مساس بعلاقات الاستغلال الرأسمالية، تلك العلاقات التي اهتزت بشدة في ظل مناخ الحرية الذي وفرته الثورة وتعرضت لتهديد حقيقي من جانب المجالس المصنعية.
رغم القمع المنظم، السافر والقانوني على السواء، فإن “حزب الجمهورية الإسلامية” (ممثل الخمينيين أو الإسلاميين الراديكاليين) وجد نفسه في وضع حرج في خريف 1979. من جهة، كان الاختمار الثوري في المجتمع أقوى من أن يتم سحقه ببساطة. فعلى الرغم من المحاولات الدءوبة لقمع اليسار، ظل اليسار العلماني والإسلامي على السواء مسيطرًا على الجامعات، بل تعاظمت قوته ونفوذه أيضًا. أما المجالس المصنعية، فإن القمع ذاته أضعفها إلا أنه لم يقض عليها. ولمدة سنة أخرى، ظلت أغلب المجالس المصنعية على قيد الحياة. والمؤكد هو أن إرادة النضال لدى العمال لم تتحطم – وقع 360 تحركًا نضاليًا ما بين إضراب واعتصام واحتلال لأماكن العمل في 1979 – 1980، ثم 180 تحركًا في 1980 – 1981 ثم 82 في عام 1981 – 1982. ومن جهة أخرى، فإن النجاحات التي حققها الخمينيون فيما يتصل بفرملة المد الثوري قد أدت إلى تقوية نفوذ المجموعة المحيطة ببزرجان من إسلاميين معتدلين و”ليبراليين” الذين أخذ التناقض يشتد بينهم وبين الخميني وأنصاره. فقد تمثلت القاعدة الاجتماعية الأساسية لمجموعة بزرجان في الشرائح العليا من الطبقة الوسطى التي حازت تعليمًا حديثًا غربي التوجه رفيع المستوى، وكانت ترغب في عودة الهدوء واستتباب الأمور سريعًا بعد الخلاص من الشاه وأعوانه. أما المجموعة المحيطة بالخميني فقد استندت إلى الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وبعض شرائح المهمشين من البروليتاريا الرثة. وهؤلاء وإن كانوا مستعدين باسم الإسلام للتصدي للحركات العماليات ونضالات النساء والقوميات المقهورة، إلا أنهم يودون أيضًا أن يروا تغييرًا اجتماعيًا ملموسًا يحسن أوضاعهم البائسة. هكذا، واجه الخميني مشكلتين في خريف 1979 استمرار الاختمار الثوري في المجتمع بشكل يهدد سيطرته على مقاليد الأمور، وتفتت القوى الإسلامية ما بين معتدلين غير خاضعين لسيطرته ولديهم نفوذ ضخم في وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم فضلاً عن مواقع حساسة من جهاز الدولة، وراديكاليين يدينون له بالولاء لكنهم يرغبون في رؤية إصلاحات مهمة لم تتحقق لهم بعد.
بحنكته السياسية وقدرته على فهم طبيعة اللحظة ومتطلباتها، أدرك الخميني أن الوقت قد حان لتغيير جذري في سياسته إذا كان له أن يحكم سيطرته على الأمور. وفي نوفمبر 1979 قام “حزب الجمهورية الإسلامية” بدفع الطلاب الموالين له (وكانوا في ذلك الوقت أقلية صغيرة بالمقارنة بالطلاب المؤيدين لليسار) لعملية احتلال السفارة الأمريكية واحتجاز الرهائن داخلها، مسببين بذلك مواجهة كبرى مع القوة الإمبريالية الأعظم في العالم. واقترن بهذا التحول نمو موقف جذري معادي للإمبريالية وتجذير لسياسات حزب الجمهورية الإسلامية داخل أماكن العمل. فبعد أن كان الحزب يدافع عن أغلب المديرين القائمين ضد المجالس المصنعية التي كونها العمال، أصبح يحرض على التخلص منهم – ليس بالطبع لكي تنتزع المجالس المصنعية سلطتهم، وإنما لكي يتم استبدالهم بمديرين إسلاميين مستعدين للتعاون مع “المجالس الإسلامية” التي تأسست لتفويض المجالس المصنعية المنتخبة ديمقراطيًا من جانب العمال.
وفر هذا التحول “الجذري” شعبية أكبر بكثير لحزب الجمهورية الإسلامية. فقد بدا أن هذا الحزب يرفع لواء العداء للإمبريالية، ذلك العداء الذي كان أنصار بزرجان قد روجوا له خلال سنوات معارضتهم الطويلة للشاه، إلا أنهم تخلوا عنه إذ بدأوا يدعون لتحسين العلاقات الإيرانية – الأمريكية. وصار ينظر للطلاب الإسلاميين المتشددين الموالين للملالي الذين اقتحموا أبواب السفارة الأمريكية كأبطال يقودون العمل الثوري، بعد أن كانوا يعتبرون رجعيين على هامش الحركة الطلابية اليسارية الميول.
لم يكسب الخمينيون فقط شعبية متزايدة، وإنما كانوا أيضًا يخلقون قاعدة اجتماعية أوسع كثيرًا لهم من خلال سياسات استبدال، أو حتى التهديد باستبدال، المديرين والمسئولين “غير الإسلاميين” القدامى. فقد بدأت شريحة جديدة من الناس من أصول طبقية برجوازية صغيرة تحتل مواقع السيطرة والمناصب المرموقة في الصناعة ووسائل الإعلام والقوات المسلحة والشرطة. وارتبط الصعود الطبقي لهؤلاء بقدرتهم على التحريض لصالح الصيغة الخمينية للإسلام. كما أن من بقوا من هياكل السلطة القديمة راحوا يتسابقون على إثبات ولائهم لخط الخميني من أجل الاحتفاظ بمواقعهم. وهكذا، نجحت المجموعة المحيطة بالخميني في أن توجد خلفها قطاع واسع من الطبقة الوسطى – البرجوازية الصغيرة التقليدية المنظمة في البازار وكثير من أبناء الطبقة الوسطى الجديدة على حد سواء – في معركة السيطرة على مواقع السلطة. وتمثل سر النجاح في قدرتها على أن تكفل لأتباعها في كل مستويات المجتمع الجمع بين الحماسة الدينية والصعود الشخصي. فالشخص الذي كان مثلاً نائبًا لمدير شركة مملوكة لأجانب صار بوسعه الآن أن يديرها وأن يشعر في الوقت نفسه أنه يؤدي واجبه الديني نحو أمته، كما صار ممكنًا أيضًا لشخص عاش في فقر مدقع كجزء من البروليتاريا الرثة أن يصعد طبقيًا محققًا الأمان المادي فضلاً عن الشعور بالتحقق في المجتمع من خلال قيادة عصابة من عصابات حزب الله الساعية لتطهير المجتمع من “الإباحية” و”الشيوعيين الخونة”.
ولا بد أن نذكر هنا أن الفرص المتاحة لمن اتبعوا خط الخميني كانت هائلة. إن فرار المديرين والتقنيين المحليين والأجانب من إيران خلال شهور الثورة الأولى قد خلق 130 ألف من المواقع الشاغرة. ثم أضاف تطهير المسئولين “غير الإسلاميين” الكثير لهذا الرقم. وكان معنى ذلك هو وجود فرص كبيرة للحراك الاجتماعي والصعود الطبقي استغلها الخمينيون بمهارة لصالحهم. والأمر اللافت في الطريقة التي وطد بها أنصار الخميني سلطتهم هو أنه لم تتضمن أية خصوصية “إسلامية”. فقد تماثلت إلى حد كبير مع طرق صعود الأحزاب ذات القواعد البرجوازية الصغيرة في مختلف أنحاء العالم.
هل كان هناك بديل آخر؟
ليس بوسع الحزب السياسي الذي ينظم قطاعًا من البرجوازية الصغيرة حول الصراع على المناصب والمواقع أن يصل للسلطة ويوطد سلطته في أية ظروف. بل أن أغلب تلك المحاولات تنتهي إلى لا شيء لأن البرجوازية الصغيرة تكون عادة أضعف من أن تهدد سلطة الطبقة الحاكمة القديمة دون تعبئة جماهير المجتمع بشكل يجعل هذه الجماهير تتجاوز السيطرة البرجوازية الصغيرة عليها. إن ما يسمح للبرجوازية الصغيرة وممثليها السياسيين أن يفعلوا ذلك هو تحديدًا ضعف الطبقتين الأساسيتين في المجتمع في ظروف بعينها. فإذا كانت الطبقة الحاكمة القديمة أضعف من أن تحافظ على سلطتها في ظل الأزمة الاقتصادية والتمرد من أسفل، وكانت الطبقة العاملة في الوقت نفسه غير قادرة على أخذ المبادرة وتولي قيادة الحركة بسبب افتقارها إلى التنظيم المستقل أو القيادة السياسية الثورية، فإن النتيجة تكون فراغًا سياسيًا تستطيع قطاعات من الانتلجنسيا (المثقفين) أن تملأه على أساس قاعدة برجوازية صغيرة. وهذا بالضبط ما حدث في إيران.
ليس بوسع الحزب السياسي الذي ينظم قطاعًا من البرجوازية الصغيرة حول الصراع على المناصب والمواقع أن يصل للسلطة ويوطد سلطته في أية ظروف. بل أن أغلب تلك المحاولات تنتهي إلى لا شيء لأن البرجوازية الصغيرة تكون عادة أضعف من أن تهدد سلطة الطبقة الحاكمة القديمة دون تعبئة جماهير المجتمع بشكل يجعل هذه الجماهير تتجاوز السيطرة البرجوازية الصغيرة عليها. إن ما يسمح للبرجوازية الصغيرة وممثليها السياسيين أن يفعلوا ذلك هو تحديدًا ضعف الطبقتين الأساسيتين في المجتمع في ظروف بعينها. فإذا كانت الطبقة الحاكمة القديمة أضعف من أن تحافظ على سلطتها في ظل الأزمة الاقتصادية والتمرد من أسفل، وكانت الطبقة العاملة في الوقت نفسه غير قادرة على أخذ المبادرة وتولي قيادة الحركة بسبب افتقارها إلى التنظيم المستقل أو القيادة السياسية الثورية، فإن النتيجة تكون فراغًا سياسيًا تستطيع قطاعات من الانتلجنسيا (المثقفين) أن تملأه على أساس قاعدة برجوازية صغيرة. وهذا بالضبط ما حدث في إيران.
من جهة أطاحت الثورة بالطبقة الحاكمة القديمة التي فر أغلب أركانها وعناصرها إلى الخارج. ومن جهة أخرى، فإن الطبقة العاملة التي لعبت دورًا مركزيًا في الإطاحة بالنظام القديم افتقدت القيادة السياسية الثورية التي تستطيع أن تكون بمثابة البوصلة التي تضيء الطريق وتكفل صحة المسار. ولكي يتبين لنا ذلك يتعين أن ننظر لسياسات اليسار الإيراني قبل الثورة وخلالها.
تمثل اليسار الإيراني عند قيام الثورة في كل من حزب “تودة” الشيوعي، ومنظمتي فدائيي خلق ومجاهدي خلق. كانت استراتيجية حزب تودة تقوم على أساس نظرية المراحل التي حدد الحزب في ضوءها طبيعة الثورة الممكنة في إيران بأنها الثورة “الوطنية الديمقراطية” التي تقوم البرجوازية خلالها بقيادة صراع يستهدف القضاء على السيطرة الاستعمارية، وإقرار حقوق ديمقراطية مماثلة لتلك القائمة في الدول المتقدمة، وتحقيق تنمية حقيقية. وذهب حزب تودة إلى أن الطبقة العاملة لن تستطيع أن تدفع في اتجاه التحول الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية إلا بعد إتمام هذه المرحلة.
أما منظمة فدائيي خلق – التي تكونت عام 1970 من اندماج مجموعتين ترتد أصولهما إلى شباب حزب تودة النقاد لسلبية الحزب خلال الخمسينات والستينات – فقد رأت أن إيران قد انتقلت في ظل الحكم البهلوي من النظام “الإقطاعي” إلى النظام “البرجوازي الكمبرادوري” (أي العميل للاستعمار) وتمثلت إستراتيجية الفدائيين في شن صراع مسلح وحرب عصابات ريفية بهدف تحرير إيران من العملاء المحليين للإمبريالية. وتعود جذور منظمة المجاهدين (التي تكونت خلال النصف الثاني من الستينات) إلى الجبهة الوطنية التي كان محمد مصدق قد أسسها في أواخر الأربعينات تعبيرًا عن المعارضة البرجوازية الوطنية للشاه. واشتركت مع الفدائيين في موقفهم المعادي للاستعمار، ولم تتميز سوى بموقفها الداعي لقيادة القادة الدينيين لحركة المعارضة وإبراز البعد “الثوري” للإسلام الشيعي.
يمكن إذن القول أن السمة المشتركة لليسار الإيراني بمختلف فصائله عشية الثورة كانت تبنيه لاستراتيجيات سياسية تستبدل دور الطبقة العاملة بقوى اجتماعية وسياسية أخرى – البرجوازية الوطنية في حالة تودة؛ والفلاحين والصراع المسلح بالنسبة للفدائيين والمجاهدين. وحيث أن الطبقة العاملة الإيرانية لعبت الدور الرئيسي في الإطاحة بالشاه، فقد كان طبيعيًا أن يفاجأ اليسار الإيراني بالأحداث وأن يعجز عن دفع الأمور للأمام. والواقع أن هذا اليسار – الذي اتسم خلال شهور الثورة الأولى بالتردد والتذبذب وافتقاد المبادرة – قد سقط في أحضان الخميني على أثر أحداث احتلال السفارة الأمريكية وبروز الجانب “المضاد للإمبريالية” في الخمينية.
تواصلت أخطاء اليسار بعد ذلك بشكل ساعد الخميني على توطيد سلطته. ولأن الخميني اعتمد على قاعدة برجوازية صغيرة وعلى التوازن المشلول بين الطبقتين الرئيستين فقد كان عليه أن ينتقل ذهابًا وإيابًا ما بين التفاتة لليسار وأخرى لليمين. وكما رأينا، تحالف الخمينيون في البداية مع بزرجان ممثل الإسلاميين المعتدلين ضد اليسار من أجل وقف الموجة الثورية، ثم أقدموا على ضرب وتهميش حليفهم القديم أثناء تحولهم نحو اليسار في نهاية 1979. وبعد ذلك أعاد الخمينيون الكرة حيث سمحوا لشخصية معتدلة أخرى ومرتبطة بالبرجوازية القديمة (أبو الحسن بني صدر) يتولى رئاسة الجمهورية مؤقتًا وتعاونوا معه على ضرب اليسار مجددًا. وبعدها في يونيو – يوليو 1981، وعندما تأكد الخميني من أنه يملك القوة الكافية، انقض مرة أخرى على المعتدلين قاضيًا على كافة خصومه ومرسخًا سلطته الشمولية.
وبالطبع ساعد الخميني في ذلك سلسلة من الأحداث التاريخية أهمها غزو العراق لإيران في سبتمبر 1980 وبداية حرب الخليج الأولى التي استمرت ثماني سنوات. إن هذه الحرب قد سمحت للخميني بتصعيد التنكيل بكافة خصومه تحت شعار الخطر الخارجي وضرورة “الوحدة الوطنية” في مواجهته.
وهنا راح اليسار يراوح بين سياستين خاطئتين: الوقوف مع الخميني تارة بسبب “عدائه للإمبريالية”؛ والتحالف مع العناصر الإسلامية المعتدلة و”الليبرالية” المزعومة ذات الروابط مع البرجوازية القديمة تارة أخرى ضد النظام. وفي الحالتين، كان اليسار يفصل نفسه عن القوة الوحيدة القادرة على توفير بديل حقيقي وثوري للخمينية: الطبقة العاملة.
وبحلول صيف 1981 الساخن كانت حرارة المناخ السياسي قد فترت. فقد تم وأد كافة حركات التحرر والتغيير، كما انهارت المجالس المصنعية تحت وطأة القمع والإحباط وافتقاد البوصلة. وترسخت السلطة المطلقة للملالي تحت قيادة الخميني. لم يكن ما حدث ثورة مضادة كلاسيكية حيث أن الطبقة الحاكمة القديمة قد أطيح بها بالفعل. بل جرى إعادة تنظيم للسلطة والثروة في المجتمع لصالح قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى دون المساس بعلاقات الإنتاج الرأسمالية. وهكذا توقف المد الثوري العظيم الذي كان قبل ثلاثين شهرًا قد أطاح بواحد من أعتى نظم القهر. ولأن الطبقة العاملة، لأسباب ذاتية بالأساس (بالتحديد عدم وجود حزب ثوري)، لم تكن جاهزة للعب دور قيادي، فقد حل نظام قهري جديد محل النظام القهري القديم للشاه. وهكذا ففي إيران أيضًا تأكد الدرس التاريخي الذي طالما فرض نفسه طوال القرن العشرين: لا يمكن للطبقة العاملة أن تقضي على الرأسمالية وتخلق سلطتها الثورية من دون وجود حزب عمالي ثوري يقود حركة العمال الثورية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire