mercredi 19 octobre 2011
سفاهة انتخابات عربية // قصة
في الدورة الانتخابيّة الأولى التي أجراها صاحب الفخامة قصد امتحان درجة الوعي المدني لدى الشعب كانت النتيجة فوق كلّ الانتظارات والتوقّعات: انتصار ساحق لصاحب الفخامة على نفسه. والحقّ يقال أنّ سيادته قد تردّد كثيرًا قبل الإقبال على إجراء تلك العمليّة الديمقراطيّة الخطيرة، ذلك أنّه لم يزل بعد في بداية عهده بالرئاسة التي تسلّل إليها في فجر يوم السبت بالطريقة التي نعرفها. لم يكن على يقين بعد من أنّه قد كسب ودّ المرؤوسة وثقتها بما يضمن له عدم حصول المفاجآت غير السارّة من وراء ما كان يقدم عليه. وكان عليه أن يقلّب الأمر ويتفحّصه من كلّ الجهات مع مستـشاره المبجّل أباقيس، وأن يتدارسا في خلوات متكرّرة بعيدة عن أعين وآذان الفضوليبّين معاني الانتخاب وضرورته في مثل تلك الظروف، وكان سيادته في البدء على رأي أنّ المبايعة التي أدّتها له الجماهير في مواكب هازجة بالهتافات والتصفيق والدعاء له بطول العمر قد كانت كافية للتعبير عن رضائها به قائدًا وزعيما، وهي في رأيه ضرب من الانتخاب الجماعي، بل هو أكثر من ذلك، إذ الإجماع المعبّر عنه بتلك الصفة الاحتفاليّة أمتن حجّة من نتائج صناديق الإقتراع التي يتداول الناس عليها في جو من البرودة واللامبالاة. وكاد في لحظة ما أن يتراجع عن هذه الخطة التي تراءت له مبتذلة ورخيصة خاصّة بعد استماعه إلى فتاوي بعض ممّن كان يعتبرهم راسخين في علمي الفراسة وتدبير السياسة الذين أكّدوا له أنّ المنتخَب الحقيقيّ هو ذلك الذي اصطفته السماء دون غيره في ساعات الخطر والحاجة الدّاعية إلى التغيير، وأنّ خطوة فجر يوم السبت ليست شيئا آخر غير تنفيذ لخطّة إلهيّة ارتضته مسيّرًا للعباد ومنقذًا للبلاد. وأثبتوا له بالحجّة الفقهيّة المتينة، بعد نبذ البدع وتفنيد آراء الهراطقة والشيوعيّين والمعتزلة واليعقوبيّين وأتباعهم، بأنّه لا يعدو كونه الامتداد المجسَّد ليد الله الخفيّة التي أرادت بهذه الأمّة خيرًا فاصطفته دون غيره ودفعته رغمًا عنه إلى ذلك المنصب دفعًا، كي يتمّ على يديه المباركتين الخلاص الذي ارتضاه الله للبلاد. وذلك هو الانتخاب الحقّ: أن يكون المرء منتخبًا من السماء لا من الأرض المشوَّشة بشتّى الانحرافات والأباطيل. و بدا له أنّ إرادة السماء فوق كلّ الإرادات وأنّ الإقرار بمبدإ التسيير يفترض منه القبول بالدّور الذي أوكل إليه دون أن يكون ملزمًا بطلب رأي البشر في ذلك وهم مثله مسيَّرين ومجرّد منفّذين.
كان على وشك إصدار الأمر بالانكباب على تحرير بيان سياسيّ جديد يلغي خطّة الانتخاب البشري التي أضحت عديمة الجدوى أمام تجسّد إرادة أعلى وحجّة أصلب، غير أنّ أباقيس قد صدّه عن تلك الفكرة منبّها سيادته إلى ضرورة مراعاة الأعراف الجارية في العالم من حوله كي يظهر بمظهر القائد السياسي العصري الحديث، وكي يجنّب نفسه تهم السفهاء وانتقادات المناوئين الذين لا يقسمون في هذا العصر سوى بالديمقراطيّة في صيغتها الأعجميّة الرومانيّة. توصّل أبو قيس بالنهاية إلى إقناعه بضرورة طرد أولئك المستشارين المشبوهين وتعويضم بمجلس استشاريّ جديد يضمّ وجوها بارزة من رجال القانون والباحثين في علم السياسة ومختصّين في طرق الإتّصال والدعاية الحديثة وبعضًا من محترفي مهنة القلم ذوي القدرة الفائقة على تلبيس القرد حلل الملوك والأمراء. توصّل ذلك المجمع السامي إلى إقناع سيادته بأمر "الاختيار المسيَّر" وتبنّي هذا المبدأ خطّة سياسيّة جديدة لها من فضائل السياسة خصلتان على الأقلّ: المظاهرة بتبنّي مبدإ الاختيار، وضمان نجاعة التأطير و التسيير. والكلّ موظّف لغاية توطيد وفاء المرؤوسة وبقاء الرئاسة للرئيس.
نجحت حملة التوعية والإرشاد التي قام بها رجال الشرطة والأعوان السريّون والمخبرون وأنواع شتّى من المأجورين المستأجَرين لخدمة الديمقراطيّة والذين وقع انتدابهم في صفوف المومسات والقوّادين والمهرّبين ومروّجي المخدّرات وأقراص الوعي المدني السليم. نجحت تلك الحملة التي تواصلت لما يقارب الثلاثة أشهر بأكملها نجاحًا لا مثيل له وحقّقت من النتائج أكثر ممّا كان سيادته ينتظر. والحقّ يقال أنّ مهمّة رجال التوعية لم تكن بالسهولة التي يمكن أن يتوقّعها المرء، فقد كان من الصعب جدًّا على هؤلاء إفهام العوامّ والعجائز والمشرّدين والأميّين قانون التجربة الانتخابيّة الأولى من نوعها كي يتوصّلوا في النهاية عند وقوفهم أمام صناديق الاقتراع إلى اختيار البطاقة المناسبة التي يجب أن يقذفوا بها في الصندوق وهم يدعون لصاحب الفخامة بطول العمر ودوام العافية. كان عليهم أن يختاروا واحدة من البطاقات الثلاثة التي تسلّم لهم في ظروف، وكانت البطاقات كالتالي: اثنتان من الأوراق النقديّة الحقيقيّة بقيمة دينار واحد، والثالثة مزيّفة يمكن تمييزها عن الحقيقيّة بالملمس؛ فهي ملساء وسميكة نسبيًّا الأمر الذي يجعل حتّى العميان قادرين على إجراء العمليّة دون خلط. وكان ذلك الأمر مهمًّا جدًّا حتّى لا تلتبس الأمور عند الفرز على المكلّفين بتلك العمليّة خاصّة وأنّه يتوقّع حضور العديد من المراقبين الأجانب الممثّلين لهيئات أمميّة ومبعوثي صحف أجنبيّة وغيرهم من أولئك الحريصين دومًا على تشويه سمعة الحكّام والتشكيك في صدق نواياهم.
كان مهمًّا جدًّا بالنسبة للناخبين أيضًا أن لا تختلط عليهم الأوراق لأنّ التوفيق في الوقوع على البطاقة المناسبة سيجعلهم يخرجون من قاعات الاقتراع بورقتين نقديّتين بقيمة دينار وهو مبلغ يعدّ محترمًا بالنسبة لعمل بسيط لا يتطلّب منهم سوى دقيقتين من الزّمن. كانت عمليّة مربحة إذًا ممّا أدّى بالكثير إلى التحايل من أجل العودة إلى صناديق الاقتراع أكثر من مرّة إضافيّة. هناك من كان نصيبه في آخر النهار عشرة أوراق نقديّة أو أكثر، وهي أجرة لا يحلم بها غير القليل في هذه البلاد.
بكت العجائز أمام طاولة توزيع البطاقات. بكين بحرقة مقسمات أنّهنّ يحملن لسيادته حبًّا لا يمكن أن تصفه الكلمات، بل هنّ يعبدْنه ولا يكففْن عن الدّعاء له ليل نهار، ولعلّ هذه فرصتهنّ الأخيرة في هذه الحياة للتعبير عن ولائهنّ المطلق له. لذلك أقسمن على أن ينتخبنه خمس مرّات دفعة واحدة ضامنات بذلك ولاءهنّ للخمس وعشرين سنة القادمة. كانت الواحدة منهنّ تضرب بيديها النحيلتين على فخذيها مستاءة ومتفجّعة أمام تشدّد لجنة مراقبة العمليّة الانتخابيّة، ومحتجّة: يا شومي! خمس وعشرون سنة فقط! هل هذا كثير في حقّ سيّدي وفلذة أكبادنا و منقذ بلادنا؟ ليش هل ستجد البلاد من هو مثله أو أحسن منه؟ بل دعوني أضع رقبتي ورقابنا جميعًا في يديه لمدى الحياة، دعوني أنتخبه لخمسين سنة، لمئة سنة... أم ترى عندكم من هو أفضل منه؟ وكنّ يفتعلن البكاء بحرقة والعويل، ومنهنّ من تبرك فوق البلاط وتظلّ تضرب على فخذيها بحسرة وهي تردّد أنّها لن تخرج من هناك حتّى لو قطّعوها إربًا قبل أن تؤدّي الواجب الوطنيّ نيابة عن زوجها المتوفّي قبل سنين وولديها اللذين يقبعان في إحدى السجون وابنتها السائبة في بلاد الله الواسعة...
انتخب الناس بأسمائهم الخاصّة وبأسماء زوجاتهم المريضات وأطفالهم القاصرين وآبائهم العاجزين عن الوقوف. وانتخبت الأرامل لأزواجهنّ الذين أكل السّوس عظامهم ولأحفاد لم يولدوا بعد كنّ يبغين ضمان حياة عزّ ورخاء وأمن لهم بعد ولادتهم.
هنالك من قدم بحمار ادّعى أنّه يبدي ولاء لا مثيل له لصاحب الفخامة هو أيضًا لأنّه ربّاه منذ ولادته على حب الوطن والتفاني في خدمة اقتصاد البلاد. وكان الحمار فعلا يبتسم مكشّرًا عن أسنانه الغليظة عندما يقرّب صاحبه أو أيّ شخص آخر من أنفه الورقة النقديّة التي عليها صورة صاحب الفخامة (بالرغم من ادعاء بعض الألسنة الخبيثة من أنّ الحمار لا يميّز بين تلك لأوراق النقديّة وتبن العلف) فسمحوا له هو أيضًا بتأدية واجبه المدنيّ الذي تولّى صاحبه القيام به نيابة عنه بينما كان هو يقضم طرف جبّة أحد أعوان لجنة المراقبة.
وجيء ببّغاء ظلّ يملأ مكتب الاقتراع صراخًا: يحيا صاحب الفخامة! يعيش! يعيش! مكّنوه من حقّه المدني المستحقّ بجهد الصراخ والنعيق فتردّد صاحبه على صندوق الاقتراع خمس مرّات متتاليات واعدًا لجنة المراقبة بأقنان عديدة من الببغاوات الوطنيّة، والببّغاء يصدح في كلّ مرّة: يحيا صاحب الفخامة! يعيش! يعيش!
وكان أن تحوّلت تلك التجربة الانتخابيّة إلى مهرجان شعبيّ صاخب شبيه بكرنفال خرج إليه الصبية والعجائز والمتوكّئون على العصيّ والعكاكيز والمرضى المحمولون فوق أسرّتهم والمعتوهون والدراويش والحمير والببغاوات والبغال والقطط والكلاب والموتى الذين غادروا مقابرهم بصفة استثنائيّة لإجراء واجب مدنيّ وطنيّ سام لم يسعفهم الحظّ للقيام به أثناء حياتهم المنصرمة.
كانت النتيجة أن فاز صاحب الفخامة بالنهاية بمقعد الرئاسة بنسبة 399 بالمائة من الأصوات، فكان أوّل رئيس على وجه الأرض عامّة ينتخب بهذه النسبة الاجماعيّة من قبل الأحياء والأموات والبقر والكلاب والحمير والببغاوات. عين الحسود فيها عود! وخازوق للصّحافة العالميّة المناوئة! وعشرة خوازيق للمصطادين في الماء العكر!
كان سيادته سكران يراقص خادمات القصر، ويتسلّى في غمرة السكر ونشوة الانتصار بقرصهنّ من مؤخّراتهنّ وبقضم حلماتهنّ متعثّرًا في سطول الغسيل وأواني الطبخ عندما دخل عليه أبو قيس محمّلا برسالة الولاء والتأييد من فصائل القردة والضباع والثعالب والعقارب، مردّدًا بصوت يرنّ بنبرة الانتصار المطلق: ها أنّك تُوّجت رئيسًا كونيًّا للبشر والدواب على السواء يا صاحب الفخامة! بينما كان يضرب بذيله على أفخاذ الخادمات ومؤخّرات العاهرات المعربدات في ممرّات القصر وهنّ يصرخن بعهر: ووه! ووه! يكبّ سعْدكْ يا قرد يافاسد!
وأبو قيس الملعون يقفز ويقهقه: اليوم عيد يا فرْخة، وهل يكتمل العيد من دون لحم
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire