نظام عالمي جديد أم بربرية جديدة
شهدت الأوضاع الدولية خلال الخمس سنوات الأخيرة تغييرات هامة. فقد تفكك "المعسكر الشرقي" بزعامة الاتحاد السوفياتي واختلطت نتيجة لذلك الأوراق في أوروبا وفي العالم. انتهى الاستقطاب الامبريالي الثنائي: الحلف الأطلسي / حلف فرصوفيا واشتدّ من جديد الصراع من أجل إعادة اقتسام أسواق ومناطق استثمار رأس المال ومصادر المواد الأولية بين أهم كبريات الدول والاحتكارات الامبريالية. وفي هذا الظرف تسعى الامبريالية الأمريكية إلى الانفراد بالهيمنة على العالم عن طريق العنف والبربرية وفرض ما تسميه بـ"النظام العالمي الجديد" مما يؤذن بمرحلة جديدة حبلى بالاضطرابات والأخطار الجسيمة على الطبقة العاملة والشعوب والأمم المضطهدة، وعلى مصير الإنسانية قاطبة التوّاقة إلى التحرر والانعتاق.
إن تحليل ظروف نشأة هذا الوضع الدولي الجديد وضبط آفاق تطوره وانعكاساته على المسيرة النضالية لشعوب العالم وللشعوب العربية على وجه الخصوص لهو أمر يكتسي أهمية فائقة بالنسبة إلى القوى الثورية حتى تمسك الخيط الرابط بين كل الأحداث الجارية وترسم مهامها بشكل صائب وتسهم من موقع متقدم في العملية التحررية للشعوب العربية والطبقة العاملة العالمية من أجل تحقيق حلم البشرية في بناء عالم خال من الاستغلال والاضطهاد ومن كل ألوان الميز.
إن هذا الهدف التقدمي لا يزال يغذي الآمال لدى كل الشعوب والثوريين ويحفزهم على النضال. فرغم الانتكاسة الظرفية التي تمرّ بها الحركة الثورية وما ولدته من صلف لدى الرجعية العالمية، لم يتوقف نضال الشعوب من أجل عالم أفضل من العالم الحالي الذي تحكمه قوى رأس المال والطغيان وهو نضال يبشر بنهضة جديدة لقوى الثورة والتقدم بما في ذلك في بلادنا العربية وفي قارتنا الإفريقية التي تشهد أحداثا على غاية من الأهمية.
I. الوضع الدولي الراهن نتاج لعلاقات القوى الجديدة
إن الوضع الدولي الحالي ما هو في الأساس إلا نتاج لعلاقات القوى الجديدة على مستوى عالمي بين قوى الثورة والثورة المضادة من ناحية وفي صلب الدول والقوى الامبريالية نفسها من ناحية ثانية.
إن الحركة الثورية بتيّاريها الأساسيين، الحركة العمالية الاشتراكية وحركة التحرر الوطني المعادية للامبريالية، تشهد انتكاسة مفزعة لم تعرف لها مثيلا منذ ما يزيد عن القرن، نتيجة الخيانات التحريفية المتتالية في بلد الاشتراكية الأول، الاتحاد السوفياتي، وفي الديمقراطيات الشعبية وأهم البلدان الرأسمالية وللتخريب المستمر والمتعدد الأوجه الذي مارسته وتمارسه الدول والاحتكارات الامبريالية ضد الحركة العمالية وحركات التحرر الوطني بوجه عام، مستغلة مصاعبها ونقائصها وأخطاءها. ولئن أدى هذا الوضع إلى إدخال نوع من البلبلة والاضطراب وحتى الشعور بالإحباط وانسداد الأفق لدى شرائح هامة من الطبقة العاملة ولدى معظم فصائل حركة الشعوب التحررية، فإنه بالمقابل جعل القوى الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي قادت الهجوم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الحركة الشيوعية والعمالية وعلى قوى التحرر الوطني، في موقع مريح نسبيا ولو بصورة مؤقتة في مواجهة الأزمة العميقة والحادة التي تعاني منها ويعاني منها النظام الرأسمالي بشكل عام. لقد تخلصت إلى حين، من وجود بديل ملموس عنها، يهدد كيانها ويلهم البروليتاريا العالمية والشعوب والأمم المضطهدة والقوى التقدمية وينير أمامها السبيل. وبعبارة أوضح فقد مالت الكفة لصالح القوى الامبريالية والرجعية العالمية وهو ما يفسر صلفها وشراستها وتخطيطها لمزيد استغلال العمال والكادحين والشعوب على نطاق أوسع وأعمق.
ومن ناحية أخرى فقد اختلت العلاقات بين الدول الامبريالية بفعل قانون التطور اللامتكافئ وغنمت الامبريالية الأمريكية مباشرة من هذا الوضع. لقد تراجعت الامبريالية الاشتراكية السوفياتية تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تنخرها والصراعات القومية والعرقية التي تمزقها وقد أسهمت الامبرياليات الغربية بزعامة الولايات المتحدة في تأجيج هذه الأزمة وتلك الصراعات بألف طريقة وطريقة طيلة ما يزيد عن الثلاثة عقود مستغلة عجز النظام السوفياتي البيروقراطي عن مسايرتها، خاصة على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجي. وهكذا تخلى الاتحاد السوفياتي عن توابعه في أوروبا الشرقية لفائدة كتل بورجوازية ليبرالية مرتبطة بالغرب وبالكنيسة وفسح المجال أمام إعادة وحدة شطري ألمانيا وفقا لشروط الطرف الغربي وتحت زعامته وحلّ حلف فرصوفيا و"الكوميكون" إضافة إلى أنه - أي الاتحاد السوفياتي - وجد نفسه على حافة الانفجار والتقسيم القوميين وواقعا تحت رحمة الطغم المالية الأمريكية والأوروبية واليابانية التي تعمل على ابتزازه وتركيعه وتفكيكه حتى لا تقوم له قائمة في المستقبل وعاجزا عن التأثير في سير الأحداث العالمية رغم قوّته العسكرية التي بقيت على حالها والتي لن تنفعه كثيرا في حالة تفككه واندثاره. ومن البديهي أن تستغل الامبريالية الأمريكية هذا الوضع لتوسيع نفوذها في العالم بحكم قوتها المالية والعسكرية ولأن الدول الامبريالية، في المعسكر الغربي وخارجه ليست بعد في وضع يؤهلها مباشرة للمنافسة على زعامة العالم. فهي إما أن لها المال والقوة الاقتصادية ويعوزها النفوذ السياسي والعسكري (ألمانيا، اليابان) أو أنها واهنة ومتذيلة تقليديا للولايات المتحدة الأمريكية (بريطانيا) أو هي في حالة تراجع وتقهقر (فرنسا). أما الصين، فهي فاقدة للوزن الاقتصادي والعسكري لكي تؤثر في مجريات الأمور بشكل حاسم، بل إن حاجتها للرساميل والتقنية الغربية للنهوض بصناعتها واقتصادها عامة، تجعلها قابلة للضغط من قبل واشنطن وطوكيو وبون وباريس ولندن.
وهكذا فلئن أتاح تراجع الحركة الشيوعية والثورية الفرصة لقوى رأس المال كي تسيطر مجددا على الصعيد العالمي، فإن التطور اللامتكافئ لمختلف البلدان الرأسمالية أتاح الفرصة للولايات المتحدة كي تنفرد مؤقتا بالهيمنة على العالم. وهي تعمل اليوم على تكريس هذه الهيمنة في نطاق ما يسميه زعماؤها بـ"النظام العالمي الجديد". إن الهدف من هذا النظام هو إخضاع شعوب العالم ودوله الصغيرة والضعيفة، لنير الامبريالية الأمريكية خاصة والامبرياليات الغربية عامة عبر فرض نمط من النظام الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي والعلاقات الخارجية عليها. هذا النمط من النظام يتمثل في رأسمالية ليبرالية وحشية وتابعة على الصعيد الاقتصادي وتعددية شكلية فارغة من كل محتوى ديمقراطي فعلي على الصعيد السياسي وكونية (كوسموبوليتزم) فجة تنتفي معها ذاتية كل شعب أو أمة على الصعيد الثقافي وتنفي كل مفهوم للسيادة الوطنية والاستقلال على صعيد العلاقات الخارجية.
ولئن اتخذ هذا الهجوم الرجعي الواسع النطاق للامبريالية طابعا معاديا للشيوعية في الأساس فإنه ليس ذلك فقط، بل هو أيضا هجوم على حركة التحرر الوطني وعلى كل ما هو تقدمي وإنساني بما في ذلك المكتسبات التي تحققت في ظل الثورة البورجوازية. وإذا كان الهدف من الهجوم على الشيوعية هو ضرب معنويات الطبقة العاملة وثنيها عن النضال من أجل القضاء على الاستغلال الرأسمالي وإيهامها بأن الاشتراكية "نظام خيالي" غير قادر على تحقيق الرفاهية والسعادة للإنسانية وأن لا خيار لها غير القبول بالأمر الواقع، فإن الهدف من الهجوم على حركة التحرر الوطني، هو إفقاد الشعوب والأمم الواقعة تحت النير الامبريالي، كل أمل في التحرر والإنعتاق وجعلها تعتقد أن الاستقلال حلم مستحيل المنال، وأن لا مناص من الرضوخ لمشيئة القوى الرأسمالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة وتنفيذ ما تأمر به.
وبعبارة أخرى فإن النظام العالمي الجديد، هو الإطار السياسي العام الذي سطرته الإمبريالية العالمية اليوم وعلى رأسها الولايات المتحدة لضمان هيمنتها المطلقة على الشعوب والأمم المضطهدة وتطويع الطبقة العاملة لخدمة مصالحها الأنانية. ولتحقيق هذا الهدف الرجعي يتداخل العدوان العسكري مع العدوان الاقتصادي (الحصار، التخريب، المقاطعة، الخ.) وإثارة الإضطرابات الداخلية وممارسة إرهاب الدولة إضافة إلى العدوان الإيديولوجي الذي تشنه أجهزة رهيبة محنكة في الميدان. يقول "ديك تشيني" وزير الحرب الأمريكي متحدثا عن دور بلاده في العالم في الظرف الراهن: « نحن نعتقد أن للولايات المتحدة احتياجات دائمة. لذلك ينبغي علينا أن نحافظ على قدرتنا على مراقبة محيطات العالم والإيفاء بالتزاماتنا في أوروبا والمحيط الهندي وعلى قدرتنا أيضا على نشر قوات سواء في غربي جنوب آسيا أو في البنما لمواجهة الطوارئ دفاعا عن حياة الأمريكيين ومصالحهم» (لوموند 1991). وقد كانت حرب الخليج، بما جُرِّبَ فيها من طرق لنقل القوات والعتاد ومن تقنيات عسكرية جديدة وبما تميزت به من وحشية وبربرية لا توصف، الفصل الأول الذي دشنت به الولايات المتحدة نظامها العالمي الجديد. وكانت على وعي من البداية بأن قدرتها على فرض هذا النظام مرتبطة بنتائج تلك الحرب. فقد صرح "ديك تشيني" لجريدة "التريبون" في مطلع فيفري المنقضي بما يلي: « إن الولايات المتحدة بكسبها الحرب في أسرع وقت ممكن ستظهر أقوى في نظر العالم كله وستثبت أن لها الموارد اللازمة لإقامة نظام عالمي جديد» .
وبعبارة أوضح فإن هذا النظام العالمي الجديد الذي تريد فرضه الولايات المتحدة الأمريكية هو النظام الذي يدفع بالبربرية والوحشية الامبرياليتين إلى أقصاهما. وقد تظافرت عدة عوامل جعلت هذا الوضع ممكنا. فبالإضافة إلى أزمة الحركة العمالية والثورية التي زادت الامبريالية صلفا وعنجهية، هنالك أيضا أزمة النظام الرأسمالي العالمي والسعي المحموم لأقطاب الامبريالية من أجل إعادة اقتسام العالم وهو ما يضاعف في عدوانيتها ودوسها لأبسط المبادئ الإنسانية بحثا عن مخرج من الأزمة بأقل الخسائر والتكاليف بالنسبة إلى رأس المال الاحتكاري. أما العامل الثالث فيتمثل في انفراد إحدى الدول الامبريالية بالهيمنة على العالم. فكلما اشتد على الصعيد العالمي، كما على صعيد البلد الواحد، احتكار الثروة والقوة العسكرية من قبل دولة واحدة أو قلة قليلة من الاحتكارات إلا وتضاعفت غطرستها وتعطشها إلى إخضاع كل الأمم لنيرها.
وإنه لمن المفارقات أن يصحب الإعلان عن هذا "النظام العالمي الجديد" حملة واسعة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية والوفاق الدوليين، وهي كلها مفاهيم منافية تماما لطبيعة الامبريالية خاصة في وضعها الحالي. ولكن لا عجب في ذلك. فأي جريمة لم ترتكبها الامبريالية باسم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلام؟ إن الحرية لا تعني في عرف الاحتكارات الامبريالية غير حريتها هي في اختراق كل بلدان العالم لاستغلالها ونهبها بحثا عن الربح الأقصى. وهي ذريعة للتدخل في شؤون هذه البلدان وتمويل العملاء للإطاحة بأنظمتها وافتكاك السلطة فيها أو لتمزيق وحدتها الوطنية وزعزعة استقرارها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حقوق الإنسان التي لا معنى لها في القاموس الامبريالي غير المصلحة الأنانية لرجل الأعمال الغربي حيث لا تتورع الدولة الامبريالية التي تحكمها الاحتكارات عن ارتكاب أبشح الجرائم أو مساندة أفظع الدكتاتوريات وأكثرها دموية للمحافظة عليها. إن النازية والفاشية هما البنتان الشرعيتان للرأسمالية وكذلك الاستعمار الذي ذهب بحياة الملايين من أبناء الشعوب والأمم المضطهدة وحرمها من استقلالها وثرواتها. ثم إن جنرالات البرازيل والأرجنتين والشيلي وأندونيسيا وكولونالات اليونان وكابورالات إفريقيا وغيرها، هم من صنائع الدول "المتحضرة" التي اسمها الولايات المتحدة وفرنسا وانجلترا... كما أن استعمال الاختراعات والبحوث العلمية لغايات بشعة مثل التعذيب والاغتيال وإعدام الأحداث هو من مآثر تلك الدول أيضا. أما مفهوم الامبريالية للشرعية الدولية، فقد تكفلت أزمة الخليج بفضح حقيقته بما لا تقدر عليه آلاف المقالات والمجلدات تماما مثلما عرّت الطابع الزائف لشعار "الوفاق الدولي". فالامبريالية، والامبريالية الأمريكية خاصة، لا تعرف شرعية غير شرعية الغاب ولا سلما غير سلم أسلحة الدمار الشامل.
ومن المظاهر التي تفضح الجوهر الرجعي على طول الخط للنظام العالمي الجديد تحوّل المنظمات الأممية وفي مقدمتها مجلس الأمن إلى مجرد أجهزة لتشريع الأعمال العدوانية للولايات المتحدة. وتمثل هذه الحالة تدهورا خطيرا للعلاقات الدولية التي تطمح شعوب العالم وبلدانه الصغيرة والضعيفة والمحبة للعدل والسلام إلى أن تسودها المساواة والاحترام المتبادل مما يعني القضاء على جميع مظاهر الهيمنة والاعتباطية فيها. إن تحقيق هذه الغاية يقتضي، مثلا مقرطة المنظمات الأممية مما يعني إلغاء الفيتو من مجلس الأمن وإعطاء صلاحيات فعلية وإلزامية للجمعية العامة التي تضم الغالبية العظمى من بلدان العالم. هذه إحدى الركائز الأساسية للنظام العالمي الجديد الذي تريده الشعوب، حيث تلعب كل دولة دورها بقطع النظر عن عدد سكانها أو حجم ثروتها وترسانتها العسكرية وليس نظام الولايات المتحدة الذي جاء ليشدد الغطرسة والتسلط في العلاقات الدولية. إن الامبريالية الأمريكية تريد بهذا النظام ممارسة دكتاتورية إرهابية مفتوحة على شعوب العالم بغطاء أممي.
II. النظام العالمي الجديد يعمّق تناقضات العالم المعاصر
إن النظام العالمي الجديد المزعوم، منظورا إليه من زاوية منطلقاته وأهدافه الحقيقية ومن زاوية الظروف التي جاء فيها وليس من زاوية الدعاية المضللة التي يروجها ساسة الامبريالية وإيديولوجيوها، إنما هو صيغة جديدة من صيغ هيمنة الامبريالية في مرحلة تعفنها القصوى المصحوبة بتراجع الحركة الثورية مما يجعلها - أي الامبريالية - أكثر بربرية ووحشية وعدوانية. وهذا لن يوفر للإنسانية مناخا للتقدم والرقي والتعاون السلمي، بل إن من شأن هذا النظام أن يوتر مختلف التناقضات الأساسية لعصرنا ويفتح الطريق أمام المزيد من الهزات والاضطرابات الخطيرة على مستوى دولي بما تنطوي عليه من تشديد للاستغلال والاضطهاد والعدوان. وبعبارة أخرى فإن النظام العالمي الجديد سيضع أكثر من أي وقت مضى حفنة الدول والاحتكارات الامبريالية الكبرى وجها لوجه مع الأغلبية الساحقة من الإنسانية وخاصة في البلدان التابعة. فتلك الحفنة من الدول والاحتكارات تمركز بشكل رهيب وعن طريق النهب والعنف البربري أهم حصة من الإنتاج الصناعي ومن التجارة العالمية والتكنولوجيا المتقدمة كما أنها تسيطر على وسائل الاتصال والإعلام والنقل سيطرة مطلقة إضافة إلى امتلاكها ترسانة رهيبة من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية. وفي كلمة فإن الغرب الامبريالي الذي لا يمثل سوى خمس سكان العالم يستحوذ وحده على أربعة أخماس موارده.
وبالمقابل فإن الأغلبية الساحقة من الإنسانية تعيش في الفقر والبؤس والجوع والمرض ناهيك أن من 50 إلى 60 مليون نسمة من أبناء "الجنوب" يموتون سنويا من جراء الجوع أو سوء التغذية وأن معدل العمر في بلدان هذه المنطقة لا يتجاوز 23 سنة وأن نسبة الأمية فيها تصل إلى مئات الملايين (حوالي 800 مليون نسمة). ولا يعود سبب هذا الوضع إلى كون هذه البلدان ليست لها ثروات أو أنها مكتوب عليها التخلف، بل لأنها كانت ولا تزال تعاني من القيود الاستعمارية والاستعمارية الجديدة. فهي تجوع وتمرض وتموت وتُحرم من المعرفة والثقافة لكي تعيش حفنة مصاصي الدماء في بحبوحة. وهذه القيود لن يفكها النظام العالمي الجديد، بل إن صانعيه يعملون بألف طريقة وطريقة على مزيد تمتينها وتوثيقها. فبعد أن أحكمت كمشة الدول والاحتكارات الامبريالية قبضتها على تلك البلدان عن طريق المديونية التي تطورت لتصبح وسيلة من أشنع الوسائل المعاصرة لاستعباد الشعوب (1340 مليار دولار سنة 1990 مقابل 1261 مليار دولار سنة 1989 و639 مليار دولار سنة 1980 حسب البنك العالمي) والتفوق التكنولوجي والسيطرة على التجارة العالمية (تحديد أسعار المواد الأولية وبصفة عامة تحديد شروط التبادل) فإنها اليوم أصبحت تتدخل مباشرة عبر أجهزة موضوعة لهذا الغرض رغم طابعها الأممي الرسمي (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي). وبواسطة الضغط الاقتصادي تملي اختياراتها السياسية وتنصب العناصر والأحزاب التي تخدمها على رأس السلطة. وتبعا لذلك فقد أصبحت هذه الأجهزة عبارة عن حكومة عالمية تحدد لتلك البلدان، تحت إشراف أمريكي بالطبع، نمط تنميتها الاقتصادية والاجتماعية ونمط حكمها. فتحولت بموجب ذلك حكومات البلدان المعنية إلى مجرد أدوات تنفيذ أو بالأحرى هيئات موظفين لدى تلك الأجهزة التي تسهر على مصالح الدول والاحتكارات الامبريالية الكبرى، مما أفقد البلدان الضحية كل سيطرة على ثرواتها وأصبحت لا تملك الأجهزة المستقلة لبلورة أسس تنميتها الوطنية.
ولقد وصلت الغطرسة الامبريالية إلى درجة أصبحت معها ثروات البلدان الصغيرة والضعيفة ملكا مشاعا لكبريات الدول والاحتكارات الامبريالية، لها حق التدخل في كيفية إنتاجها والتصرف فيها على نطاق دولي (مثال البترول العربي) كما وصلت هذه الغطرسة إلى حد أن تلك الدول والاحتكارات لم تعد تحتمل خروج أي نظام عن صفها حتى لو تعلق الأمر بحليف أو عميل اختلف معها تكتيكيا أو ظرفيا لاعتبارات محلية أو جهوية فهي تريد الولاء المطلق والانصياع التام لأوامرها. وهي تخطط اليوم لضرب آخر معاقل المقاومة لنظامها العالمي الجديد. فبعد عمليات غرينادا وباناما والعراق، تلوح الآن بالاعتداء على كوبا والجزائر وليبيا وكوريا الشمالية لإلحاقها بالزريبة الأمريكية مفتعلة كالعادة أسبابا واهية لتبرير هذا الاعتداء. ومن التعلات التي صارت مفضوحة ومعروفة الزعم بأن "البلد الضحية" يمتلك معملا نوويا أو مصنعا كيمياويا والبقية معروفة. وتحسبا لكل مقاومة أو نزعة استقلالية ولإمكانية بروز قوى إقليمية، أعدت الامبريالية الأمريكية إستراتيجية كاملة أطلقت عليها اسم "إستراتيجية النزاعات الصغيرة والمتوسطة الكثافة" والتي تم بمقتضاها إعداد قوة تدخل عسكري جاهزة لخوض الحرب في أي نقطة من نقاط العالم. وقد شكل العدوان على العراق نموذجا لهذا النوع من التدخل، بل التدشين الرسمي للنظام العالمي الجديد كما سبق أن قلنا. وإمعانا في عدوانيتها وانتهاكها لسيادة الدول الصغيرة والضعيفة، أصدرت الدول الامبريالية الكبرى، بواسطة مجلس الأمن وباقتراح من فرنسا قرارا يسمح لها بالتدخل المباشر - تحت غطاء الأمم المتحدة - بدعوى "حماية الأقليات المضطهدة". ويكفي لتحقيق هذا الغرض تحريض بعض العملاء في أي بلاد من البلدان التي بها أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو استغلال بعض مطالبها المشروعة والتدخل بعد ذلك تحت "شعارات إنسانية" كما تم في شمال العراق.
ومن البديهي أن هذه السياسة الرجعية على طول الخط تتعارض كليا مع إرادة الشعوب والأمم الصغيرة والضعيفة والمضطهدة في التحرر والإنعتاق وبناء عوامل نهضتها ورقيها المادي والمعنوي. وعلى هذا الأساس فإن "النظام العالمي الجديد" من شأنه أن يعمق التناقض بين الشعوب والأمم المضطهدة من جهة والدول والاحتكارات الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة من جهة ثانية.
ومن ناحية أخرى فلا ينبغي الاعتقاد أن وحدة كبريات الدول والاحتكارات الامبريالية في مواجهة الشعوب وقوى التحرر في العالم هي وحدة خالية من التناقضات والتصادمات بما فيما التصادمات العسكرية . كلا، إنها وحدة ذئاب. والمتمعن في علاقة هذه الدول والاحتكارات ببعضها يلاحظ أنها تمر الآن بمرحلة "صياغة جديدة" إن صح التعبير. فبعد أن انتهى الاستقطاب الثنائي السابق بين الكتلتين الغربية والشرقية بات من الوارد تشكل كتل ومحاور امبريالية جديدة وفقا لعلاقات القوى الجديدة و لمصالح كل دولة من كبريات الدول الامبريالية. فخلف عبارات الوفاق والوئام تجري في الواقع حروب اقتصادية وسياسية عاتية وسباق نحو التسلح لا يهدأ. فالولايات المتحدة تتسابق مع عقارب الساعة كي تحافظ على موقعها الهيمني داخل الزريبة الرأسمالية وتستثمر لنفسها انهيار الكتلة الشرقية، لذلك فإنها بتدخلاتها في كل جهة من جهات العالم وخاصة في مناطقه الإستراتيجية تسعى إلى قطع الطريق أمام منافساتها والسيطرة على العوامل التي تمكنها من التحكم حتى في اقتصاديات الدول الصناعية (البترول، الغاز، الخ.). إلا أن الولايات المتحدة ليست بالقوة التي تتظاهر بها وأن الطريق أمامها ليست مفروشة بالورد لكي تسيطر على مصادر المواد الأولية ومناطق استثمار رأس المال والأسواق التجارية. فهي تشكو من مصاعب كبرى. إن اقتصادها الشديد العسكرة في تراجع وقد سجل في السنة الماضية نسبة نمو سلبية كما سجل إنتاجها الصناعي نسبة نمو سلبية أيضا (-0.3 %) ثم إن سيطرتها على السوق العالمية ما انفكت تتناقص خاصة في مجالات الصناعة ذات التكنولوجيا المتقدمة مثل صناعة الألياف البصرية (من % 73 سنة 1980إلى 42 % سنة 1988) وشبه الموصلات (من % 60 سنة 1980 إلى % 36سنة 1988) والأدوات الآلية (من % 18 سنة 1980 إلى % 7سنة 1988) وفي مجال الفلاحة، إضافة إلى تناقص تحكمها في السوق الداخلية أمام الغزو الياباني. أما وطأة التسلح على ميزانيتها فقد أصبحت لا تطاق وهي اليوم أكبر بلد مدين في العالم (800 مليار دولار) [1] وهي تعاني من تفاقم البطالة ومن مختلف الأمراض الاجتماعية.
وبالمقابل فإن كلاّ من اليابان وألمانيا يشهد نسقا من التطور والنمو يهدد جديا السيطرة والطموحات الأمريكية. فاليابان يحقق سنويا نسبة نمو عامة تقدر بـ 5% . وهو يحتل المركز الأول في مجال التطور الصناعي بنسبة 6.8 % علما وأن استثمارات اليابان في القطاع الصناعي أهم من الاستثمارات الأمريكية وأن اليابان متفوق في 6 قطاعات من بين الـ 22 قطاعا ذات التكنولوجيا المتقدمة جدا. وهو يمثل أول قوة مالية في العالم إذ أنه يملك 8 من بين الـ10 بنوك الأكبر في العالم وتعتبر العاصمة طوكيو أول بورصة على مستوى دولي وقد ارتفعت الاستثمارات اليابانية في الخارج من 36.5 مليار دولار سنة 1980 إلى 281.6 مليار دولار سنة 1990. وقد غزا الرأس مال الياباني الولايات المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة على وجه الخصوص إذ تمثل الاستثمارات اليابانية في أوروبا 17 مرة حجم الاستثمارات الأوروبية في اليابان. وفي المجال التجاري حقق اليابان سنة 1990 نسبة تغطية تقدر بـ 129 %. وقد بلغ الفائض المحقق مع الولايات المتحدة وحدها حوالي 50 أو 60 مليار دولار وهو نصف العجز التجاري الأمريكي ومع دول السوق الأوروبية المشركة 190 مليار دولار. ولا تتجاوز البطالة في هذا البلد 2.1 % وهو معدل ضعيف نسبيا مقارنة بالدول الامبريالية الأخرى [2]. ومن البديهي أن تسعى الامبريالية اليابانية إلى توسيع نفوذها على حساب الولايات المتحدة نفسها وأن تخرج خاصة من تحت نفوذها السياسي والعسكري وتتخلص نهائيا من مخلفات الحرب العالمية الثانية لتحتل "الموقع اللائق بها". وقد بدأت الأصوات تتعالى داخل الأوساط البورجوازية اليابانية للخروج من تحت المظلة الأمريكية وإعادة بناء مجد الإمبراطورية اليابانية بما في ذلك قدراتها العسكرية.
أما العملاق الألماني الذي استعاد وحدته منذ أواخر السنة الماضية فقد سجل نسبة نمو عامة 4.3 % سنة 1989. وهو يحتل المرتبة الثانية في التطور الصناعي بنسبة 5.6 % وتغطي صادراته ووارداته بنسبة 126.6 %. وهو يحقق فائضا هاما في علاقاته التجارية بالولايات المتحدة [3]. وتطمح ألمانيا اليوم إلى احتلال المركز الأول على المستوى الأوروبي وتوسيع نفوذها في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي. وعلى غرار اليابان، تعمل ألمانيا على التخلص نهائيا من مخلفات الحرب العالمية الثانية واستعادة ثقلها السياسي والعسكري على مستوى دولي حتى تلعب دورا مناسبا لوزنها الاقتصادي وتستعيد مجدها الامبريالي في أوروبا وخارجها. وفي هذا الإطار ليس من الغريب أن تتطور النزعة الشوفينية والانتقامية في هذا البلد مجسدة في عودة القوى النازية إلى الظهور بشكل مكثف وأن يعبر هولموت كول عن عزم بلاده على التدخل مستقبلا بصفة مباشرة إذا حصلت أحداثا شبيهة بأحداث الخليج إضافة إلى ما يلمس في مواقفه من تشجيع على تفكيك يوغسلافيا لاحتواء بعض الجمهوريات الصغيرة المنفصلة. ومن ناحية أخرى فإن مشروع أوروبا الموحدة المبرمج للسنة القادمة يندرج، رغم ما ينطوي عليه من تناقضات داخلية، ضمن سعي الاحتكارات الأوروبية الكبيرة، إلى التكتل في وجه الاحتكارات الأمريكية واليابانية وفي وجه القوة العسكرية السوفياتية. ولا يخفي زعماء الدول الأوروبية رغبتهم في توسيع مجال هذا التكتل الاقتصادي والسياسي ليشمل المجال العسكري وهو ما تعارضه الولايات المتحدة وتعرقله انجلترا.
أما الاتحاد السوفياتي فرغم انهياره اقتصاديا ورغم الأزمة السياسية الداخلية التي يعيشها والتي تهدد بتفككه فإنه لم يفقد قدرته على الصعيد العسكري ولا يخفى على أحد النزعة القومية الشوفينية التي تحرك شخصا مثل يلتسين الذي يسعى عبر العديد من المناورات بما فيها تفكيك الاتحاد، إلى إعادة مجد روسيا القيصرية الامبريالي ضمن صيغة جديدة ولن تكون تلك القوة العسكرية سوى أداة من أدوات تحقيق ذلك الحلم [4].
وتسعى الامبريالية الفرنسية من جهتها إلى الحفاظ على مكان تحت الشمس رغم الوهن الذي هي عليه نتيجة ما يشهده اقتصادها من تراجع (نسبة نمو سلبية في القطاع الصناعي: - 2.8 % سنة 1990، تفاقم العجز التجاري والبطالة، الخ.) [5]. وهي تريد خاصة احتلال موقع متقدم في صلب أوروبا الموحدة المعولة على قوتها العسكرية. إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون فرنسا "الاشتراكية" واقعة أكثر من أي وقت مضى تحت التأثير الأمريكي. وهو ما برهنت عليه حرب الخليج. أما انجلترا فإنها تحاول العودة بثقل أهم على الصعيد الدولي واحتلال موقع مناسب ضمن "النظام الدولي الجديد" من خلال التذيل للولايات المتحدة الأمريكية. ومن نفس المنطلق فإنها لا تبدي حماسا كبيرا لمشروع أوروبا الموحدة بل إنها تمثل صوت أمريكا في "النادي الأوروبي" إلا أنها مصابة هي أيضا بالوهن وتواجه مصاعب اقتصادية واجتماعية كثيرة ناجمة عن السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي اتبعتها رئيسة الوزراء "مارغريت تاتشر" وكانت سبب سقوطها في النهاية. ولا تزال الصين عاجزة عن لعب دور القوة العظمى الذي تطمح إليه لتخلفها الاقتصادي والتكنولوجي. وهي تتبع سياسة نفعية (براغماتية) لتجاوز صعوباتها، عين على الولايات المتحدة، وأخرى على الاتحاد السوفياتي وثالثة على أوروبا. وقد عبرت أكثر من مرة عن خشيتها من تنامي العسكريتارية اليابانية.
إن هذه الأوضاع قابلة لأن ترشح موازين قوى وتكتلات جديدة بين الدول الامبريالية التي تمر علاقاتها اليوم كما سبق أن قلنا بمرحلة "صياغة جديدة" لم تتبلور بعد بصفة نهائية وواضحة المعالم. إلا أنه ومهما يكن من أمر ونظرا للأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي فإن التكالب على الأسواق ومناطق استثمار رأس المال ومصادر المواد الأولية سيشتد بين كبريات هذه الدول والاحتكارات وخاصة منها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والسوق الأوروبية المشتركة. ولئن اتخذ هذا التكالب في الوقت الراهن أشكال حرب تجارية واقتصادية مشفوعة بمفاوضات واتصالات وضغوطات وتهديدات متبادلة لإيجاد صيغ اتفاق ووفاق وقتية، فإن ذلك لا يعني أن هذا الصراع لن يتطور في يوم من الأيام، كما تطور في الماضي إلى صراع مسلح. إن الأسلحة التي تكدسها الدول الامبريالية اليوم وتنشرها عبر أنحاء العالم والميزانيات الضخمة التي تخصصها لتطوير أسلحة الدمار الشامل، رغم كثرة الحديث عن الوفاق والسلم، لا تهدف إلى الدفاع عن الوطن كما يزعم ساسة الامبريالية وإيديولوجيوها أو إلى التدخل في هذه النقطة أو تلك من العالم في نطاق صراعات ذات طابع محدود ضمن ما يسمى بـ"إستراتيجية النزاعات الصغيرة والمتوسطة الكثافة" ولكنها أيضا وسيلة ضغط وردع بين مختلف القوى الامبريالية في علاقاتها ببعضها سواء للحفاظ على موازين قوى معينة أو لتغييرها حسب الظروف والمصالح. وليست بؤر التوتر التي قد تدفع نحو صراعات شاملة هي التي تنقص بما في ذلك في أوروبا نفسها التي لم يهدأ دوي المدافع في إحدى مناطقها الحساسة أي يوغسلافيا فضلا عن المصير المجهول الذي يمكن أن تؤول إليه الصراعات القومية في الاتحاد السوفياتي المشرف على التفكك.
وممّا يرجّح صحة هذا الاستنتاج أيضا اشتداد النزعات القومية الشوفينية في مختلف البلدان الرأسمالية بعد انتهاء الصراع غرب / شرق الذي كان يطمس إلى حد ما تلك النزعات باعتبار المصلحة المشتركة لدى أطراف كل كتلة لمواجهة الكتلة الأخرى، وهو ما يذكرنا بوضع البلدان الرأسمالية قبل الحرب العالمية الأولى مع الفارق أن النزعات القومية تنهض اليوم، في ظل ظروف أزمة خانقة مصحوبة بتعفن النظام الامبريالي بشكل لا مثيل له في السابق وبعسكريتارية لم تعهدها البشرية على الإطلاق وبتراجع الحركة الثورية العالمية مما يضاعف غطرسة قوى الطغيان الامبريالي. لذلك فإن الحديث عن السلم والوفاق الدوليين كمرتكز لـ"النظام العالمي الجديد" هو مجرد كذب ورياء. إن هذا النظام قائم في الأساس على العنف والإرهاب والحروب وحتى الحلول التي يبحث عنها أقطاب هذا النظام لهذه القضية أو تلك فإنها محكومة بمصالحهم أولا وأخيرا وتعكس موازين القوى بينهم، وفي اليوم الذي تختل فيه هذه الموازين ويذهب في اعتقاد بعض أطراف ذلك النظام أن لا مفر من استخدام القوة لتغيير الأوضاع لفائدته فإن الحرب ستندلع وتهدد مصير الإنسانية قاطبة ولن يمنع وقوعها سوى وقوف الشعوب ضدها وكبت جماح مشعليها. وهكذا فإن الأوضاع العالمية الجديدة ترشح التناقض في صلب الدول والاحتكارات الامبريالية إلى الاشتداد من جديد ضمن صيغ وتكتلات جديدة.
ثم إن الأوضاع الدولية الجديدة لا تحمل للطبقة العاملة والشعوب الكادحة في البلدان الرأسمالية الرفاهية والطمأنينة على المستقبل. فهي مثلها مثل الشعوب الأخرى تدفع فاتورة الأزمة العامة للنظام الرأسمالي، بل إن تراجع الحركة الشيوعية والعمالية في العالم وفي تلك البلدان بالذات يمثل عاملا من العوامل الهامة التي جعلت الدولة والاحتكار الامبرياليين يشددان وتيرة استغلال العمال والكادحين واضطهادهم. فقد تفشت البطالة والفقر والبؤس في هذه البلدان. ففي أوروبا الغربية وحدها يتجاوز عدد العاطلين عن العمل 30 مليون نسمة وقد وصلت نسبة البطالة في فرنسا 9.1 % من السكان النشيطين في بدايات هذا العام [6] وتفيد الإحصائيات أن بلدان السوق الأوروبية المشتركة يوجد فيها 40 مليون نسمة يعيشون تحت الحاجز الأدنى للفقر. وفي الولايات المتحدة يمثل العاطلون عن العمل 6.1 % من السكان النشيطين في ديسمبر 1990 مقابل 5.9 % في شهر نوفمبر من نفس السنة وهي أعلى نسبة تعرفها الولايات المتحدة منذ سنة 1987. ويبلغ عدد السكان الذين يعيشون تحت الحاجز الأدنى للفقر المحدد قانونيا 32 مليون نسمة وعدد الذين لا يتمتعون بتغطية صحية 40 مليون نسمة [7]. كما يبلغ عدد الأميين في أقوى دولة في العالم أكثر من 20 مليون نسمة. وفي بريطانيا تكثف استغلال الكادحين بألف طريقة وطريقة عن طريق الطرد وزيادة الأسعار والتضخم المالي وكذلك عن طريق الزيادة في الضرائب والأداءات. أما في بلدان أوروبا الشرقية التي دخلت حديثا زريبة الامبريالية الغربية بالاندماج كليا في النظام الرأسمالي العالمي واتباع سياسات ليبرالية تقليدية فإن أوضاع الشغيلة والكادحين عموما أصبحت مفزعة. فقد دفعوا ضريبة هذه التحولات بطالة وتدهور مقدرة شرائية نتيجة الارتفاع الجنوني في الأسعار وفقدانا للمكاسب الاجتماعية. وليس من المنتظر أن يكون هذا الأمر عابرا فالأخصائيون الأكثر تفاؤلا يتكهنون بأن هذا الحال سيدوم سنوات عديدة، مما يهدد بانفجارات اجتماعية وقد بدأت مؤشراتها تظهر في بولونيا والمجر وغيرها حيث لم تصل بعد "الإعانات" و"الهبات" والاستثمارات التي وعد بها الغرب في السابق والأرجح أنها لن تصل أبدا أو على الأقل لن تصل بالقدر المطلوب لانتفاء الأسباب الإيديولوجية والسياسية التي كانت تدفع الغرب الامبريالي إلى تقديم الوعود ولأن هذا الغرب نفسه يعيش أزمة خانقة تحد من قدراته على التدخل. وتهدد البطالة في الاتحاد السوفياتي ملايين العمال إضافة إلى ظواهر تدهور المقدرة الشرائية والنقص في المواد الاستهلاكية وخاصة الغذائية منها رغم أن الجانب الأهم من "الإصلاحات" الليبرالية مثل الخوصصة وتحرير الأسعار نهائيا لم يدخل بعد حيز التنفيذ. إن الكادحين السوفيات من مختلف القوميات بصدد دفع ضريبة "البريسترويكا" الغورباتشوفية وقد يدفعون عن قريب ضريبة "برنامج يلتسين" الليبرالي المتطرف.
ويمتزج اشتداد وتائر الاستغلال في البلدان الرأسمالية بتفاقم مظاهر القمع السياسي ضد الكادحين والعنصرية ضد الأقليات القومية والمهاجرين. ففي هذه البلدان ما انفكت البورجوازية تشدد الخناق على الحريات وتنتهك الحقوق الأساسية للمواطنين. لقد فقدت التعددية التي طالما تغنت بها الأنظمة البورجوازية باعتبارها ركيزة لديمقراطيتها، فقدت بريقها واتضح أكثر فأكثر طابعها الزائف. فالحياة السياسية في هذه البلدان يحتكرها حزب أو حزبان هما على العموم وجهان لعملة واحدة، يتقاسمان النفوذ والمناصب والسلطة والمعارضة مما أفقد الانتخابات البرلمانية والبلدية وغيرها أية قيمة وأصبحت اللامبالاة هي السمة الأساسية المميزة لواقع تلك البلدان بما فيها البلدان الوافدة حديثا على الديمقراطية البورجوازية مثل بولونيا وغيرها [8]. وتسيطر على الإعلام وعلى جميع وسائل الاتصال ومسالك النشر والتوزيع أقلية ضئيلة من كبريات الاحتكارات [9] الأمر الذي دعم الطابع الأحادي لـ"منتوج" تلك الوسائل والأجهزة التي تحولت إلى بوق للكذب والتزييف والتضليل والتخدير وقتل الأذواق ونشر الأفكار اليمينية المتطرفة. وبالإضافة إلى وسائل الضغط المادي الذي يسلط على الأصوات الحرة، لا تتوانى أجهزة الدولة البورجوازية في استخدام أساليب القمع الأخرى مثل الرقابة والسجن والتهديد وحتى القتل لإسكات تلك الأصوات.
ومن ناحية أخرى ما انفكت انتهاكات حقوق الإنسان والأقليات تتزايد في البلدان الرأسمالية مثيرة انشغال المنظمات الإنسانية بما فيها المنظمات القريبة من حكومات تلك البلدان وأنظمتها.
فالزنوج في الولايات المتحدة والأقلية الأسيوية والمهاجرون العرب والقوميون الإيرلنديون في انجلترا والجالية المغاربية في فرنسا يتعرضون إلى حملات قمعية رهيبة واعتداءات عنصرية متكررة ذهبت بحياة العديد منهم. لقد وصل الأمر بـ"أعرق ديمقراطية" في أوروبا أي انجلترا حد إصدار قانون يسمح بإطلاق النار على من يشتبه في أنه من المناضلين الإيرلنديين وقد ذهب المئات من المواطنين ضحية هذا القانون تحت غطاء "مقاومة الإرهاب". وتجدر الملاحظة إلى أن منظمة العفو الدولية التي توجد أمانتها العامة بلندن اتهمت رسميا السلطات البريطانية بانتهاك حقوق الإنسان مشيرة إلى الحالات المذكورة آنفا وإلى حجز المواطنين العرب وطردهم دون وجه قانون أو سبب مقنع. أما في الولايات المتحدة التي تتزعم منذ سنوات الحملة الغربية حول حقوق الإنسان، فإنها بالإضافة إلى ما ذكرنا لا يزال التعذيب والعنف البوليسي فيها الخبز اليومي للأقليات العرقية، ومناهضي حكام واشنطن. ولا يزال حكم الإعدام يذهب حتى بحياة الأحداث [10]. ومن المعلوم أن الدولة الأمريكية هي من بين الدول التي لم تمض على الاتفاقية المناهضة للتعذيب ولا على الميثاق العالمي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وفي فرنسا تتكاثر من يوم إلى آخر الجرائم العنصرية ضد أبناء البلدان المغاربية خاصة. ويلاقي المعتدون التشجيع ضمنيا من قبل قضاء وسلطة سياسية متسامحين مع الجريمة العنصرية. ولا يقل وضع الحريات وحقوق الإنسان سوءا في الاتحاد السوفياتي التي لم تفتح فيها أبواب الديمقراطية سواء عن طريق "غورباتشيف" أو "يلتسين" إلا للعصابات اليمينية المتطرفة ونقابات الإجرام والفساد.
وفي نطاق هذا التدهور المستمر للحريات وحقوق الإنسان في البلدان الرأسمالية، ما فتئت الحركات اليمينية المتطرفة تنمو وتتطور وتزداد تأثيرا في الحياة العامة. فالحركات النازية والفاشية أصبحت تتحرك أكثر من أي وقت مضى بصورة مكشوفة. وهي تحصل على نسب هامة في الانتخابات رغم رفعها جهرا راية الدكتاتورية والعنصرية والشوفينية القومية، مجندة كما في الماضي أكثر عناصر البورجوازية رجعية وتعصبا إضافة إلى بقايا الهتلرية والفاشية وأكثر شرائح المجتمع تخلفا وعرضة إلى الحرمان وبالتالي إلى الانسياق وراء التطرف اليميني الذي يدغدغ نوازعهم البدائية (ألمانيا، النمسا، فرنسا، بلجيكا، بولونيا، رومانيا، الولايات المتحدة، الخ.).
ومن ناحية أخرى وفي إطار تنامي النزعة اليمينية المتطرفة في هذه البلدان، تجدر الإشارة إلى تفسخ الطابع الإصلاحي للأحزاب والحركات الاشتراكية الديمقراطية التي نراها اليوم تنحو منحى اليمين التقليدي متبنية أطروحاته الاقتصادية الليبرالية المتطرفة وبرامجه الاجتماعية المعادية للعمال والكادحين وشعاراته وممارساته المنافية للحريات وحقوق الإنسان فضلا عن ممارساته العنصرية إزاء الأجانب ونزعته العدوانية في الخارج. وهي أينما وصلت إلى الحكم إلا ومهدت لتنامي اليمين العنصري والفاشي. وبالإضافة إلى ذلك فإن التعفن أصاب بشكل كلي وشامل الدولة البورجوازية من أسفلها إلى أعلاها، حتى أصبح من الصعب التفرقة بين الرئيس أو الوزير الأول أو الوزير وبين المافيوزي وتاجر المخدرات أو وسيط الخناء علما وأنه أصبح من الشائع إقالة أو استقالة رئيس الحكومة أو الوزير أو غيره من كبار مسؤولي الدولة لتورطه في السرقة أو الارتشاء أو في الفساد أو انخراطه في نقابات الإجرام. ومن مظاهر التعفن أيضا سيطرة الطابع العسكريتاري والبوليسي على الدولة البورجوازية حتى أن قادة أجهزة المخابرات أصبحوا أكثر حظوظا للفوز برئاستها.
وعلى صعيد آخر فإن البورجوازية لم يعد لها ما تقدم ثقافيا لمواطنيها غير أكثر مظاهر الثقافة انحطاطا وتفسخا واعتداء على الذوق السليم. فلقد انتشرت في كل البلدان الرأسمالية ثقافة الغيب والشعوذة التي تروجها أجهزة محنكة في الكذب والتضليل وتدفع لها الاحتكارات مليارات الدولارات لتقوم بهذا الدور إضافة إلى ما تدفعه لسينما الجنس والعنف والجريمة وفن الصخب والتخدير.
إن مجمل هذه العوامل الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية من شأنها أن تعمق التناقض بين البورجوازية وبين الطبقة العاملة وجموع الكادحين في البلدان الرأسمالية حتى وإن لم يجد ذلك الآن تعبيرته السياسية الواضحة في العديد من الحالات نتيجة هيمنة عقلية الوفاق الطبقي التي رسختها الأحزاب والنقابات الاشتراكية الديمقراطية والتحريفية في أذهان الشغالين. وهكذا فإن التناقضات الأساسية لعصرنا أي التناقض بين رأس المال والعمل والتناقض بين الشعوب والأمم المضطهدة من ناحية والامبريالية من ناحية ثانية والتناقض بين الدول والاحتكارات الامبريالية نفسها، لا ولن تخمد في ظل الأوضاع الدولية الجديدة.
إن هذه التناقضات التي أصبحت ثلاثة بعد أن اختفى رابعها وهو التناقض بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي على إثر التحاق ألبانيا بالزريبة الرأسمالية مرشحة لأن تتعمق وتشهد توترات وانفجارات جديدة. وبهذه الصورة فإن التناقض الجوهري الذي يشق عصرنا بين الرأسمالية التي ولى عهدها موضوعيا وبين الاشتراكية التي تمثل مستقبل الإنسانية سيزداد نضجا وستتكثف العوامل التي تدفع إلى حله لفائدة الطبقة الثورية لعصرنا أي البروليتاريا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire