samedi 25 février 2017
من هو الشهيد ايت الجيد بنعيسي
013
ورقة تعريفية بالشهيد محمد آيت الجيد بنعيسى
الاتحاد الوطني لطلبة المغرب جامعة محمد بن عبد الله
ورقة تعريفية بالشهيد محمد آيت الجيد بنعيسى
ازداد الرفيق آيت الجيد محمد بنعيسى سنة 1964 بدوار تزكي أدوبلول بإقليم طاطا، التحق بمدينة فاس حيث مكان اقامة كبير اخوته، لمتابعة دراسته الابتدائية بمدرسة المعلمين (ابن الخطيب سابقا) بحي عين قادوس فاس، التحق بالتعليم الثانوي في بداية الثمانينات، بثانوية ابن خلدون حيث بدأ نشاطه النضالي في الحركة التلاميذية سنة 1983 ليتم نقله تعسفيا من هذه الثانوية سنة 1984 ويلتحق بثانوية القرويين. هذا الانتقال تزامن والانتفاضة المجيدة ليناير 1984 والتي شارك فيها بقسط وافر ما دفع "إدارة المؤسسة" إلى اتخاد قرارها في حقه وبعض رفاقه وذلك خلال نفس السنة 1984، حينها سيلتحق آيت الجيد محمد بنعيسى بثانوية "مولاي إدريس"، مواصلا ارتباطه المبدئي بقضايا وهموم الجماهير، وتحت ضغط "إدارة الثانوية" على عائلته سينتقل إلى ثانوية "إبن الهيثم" حيث حصل على شهادة الباكالوريا سنة 1986.
كان التحاق الشهيد بالجامعة موسم 86 – 87 التحاقا نضاليا عكسه حضوره النضالي في صفوف الحركة الطلابية، حيث ظهر اسمه إلى جانب مجموعة من رفاقه، ضمن لائحة الموقوفين (39 طالب) خلال موسم 87 – 88 بكلية الآداب، وهو الإجراء الذي عقب تظاهرة 20 يناير 1988 التي استشهد على إثرها كل من زبيدة خليفة وعادل الأجراوي، كما ساهم الرفيق في مجموعة من المعارك النضالية ونذكر على سبيل المثال لا الحصر معركة مقاطعة الامتحانات لسنة 1989.
هذا الخيار كلفه ضريبة السجن سنة 1990، حيث تم اعتقاله في شهر يوليوز، ليتم الحكم عليه بثمانية أشهر نافذة، بعدما كان قد قضى تسعة أشهر "بالسجن المدني" بفاس ليطلق سراحه في أبريل 1991.
بعد الهجوم الظلامي على جامعة فاس في 25 أكتوبر 1991 وبالضبط في بداية نونبر من نفس السنة، فوجئ الشهيد بعصابة ظلامية (مكونة من حوالي 70 شخصا) تحاصر مقر سكناه (حي المصلى – عين قادوس) محاولة اختطافه، لكن التعاطف الذي كان يحظى به من طرف سكان الحي دفع بهؤلاء إلى مواجهة وطرد القوى الظلامية دون تنفيذ إجرامهم المزمع.
يوم الخميس 25 فبراير 1993 بينما كان المناضل آيت الجيد محمد بنعيسى متوجها إلى حي ليراك رفقة أحد رفاقه – الحديوي الخمار- على متن سيارة أجرة (طاكسي صغير) فوجئا بقوى الغدر والظلام تمنع السيارة من المرور وتكسر الزجاج لتخرجهما منها قسرا وتنهال عليهما بالضرب مستعملة العصي المصفحة بالمسامير والسلاسل والسيوف كما استعملت (القوى الظلامية) حجر الرصيف من أجل تصفية الرفيق آيت الجيد.
نقل الرفيقان في حالة غيبوبة تامة إلى مستشفى الغساني بفاس حيث ظلا دون عناية طبية، إلى يوم الجمعة صباحا، فيما ظلت قوى القمع تحاصر المكان الذي يرقد به الرفيقان.
يوم السبت 27 فبراير تم نقل الرفيق آيت الجيد محمد بنعيسى إلى مصحة خاصة للفحص بأشعة سكانير، هذا الفحص أوضح أنه يعاني من كسر عميق بالجهة اليمنى من الرأس ومن نزيف داخلي.
على الساعة الثامنة إلى ربع من صباح يوم الإثنين فاتح مارس 1993 لفظ آيت الجيد محمد بن عيسى آخر أنفاسه.
Blogger.
jeudi 23 février 2017
عاجل تلامبد يضرمون النارفيﻻثانويتهم لهداىالسبب
تلاميذ يضرمون النار في ثانوية بمراكش إحتجاجا على منحهم نقطة ضعيفة في الإمتحان
التحرير بريس – متابعة
أقدم 3 تلاميذ، بثانوية “المغرب العربي” في منطقة المحاميد بمراكش ، على إضرام النار في إحدى القاعات الدراسية ، ما عجل بإعتقالهم من طرف السلطات الأمينة أمس الثلاثاء.
هذا وتعود تفاصيل الواقعة حسب مصادر محلية ، الى إحتجاج التلاميذ على نقطة ضعيفة حصلو عليها كنتيجة لأحد الامتحانات التي تم إجرائها مؤخرا وكذا تشكي الأطر التربوية من شغبهم المتواصل ،حيث إستعملوا مادة مشتعلة، وأضرموا النار في قاعة للدرس، ما تسبب في احتراق الطاولات والسبورة، دون تسجيل اصابات، نظرا لخلو القاعة من التلاميذ لحظة تنفيذ فعلهم.
وأشارت المصادر ذاتها إلى أن عناصر الشرطة انتقلت إلى مكان الحادث، حيث تم فتح تحقيق في النازلة واقتياد المتهمين
التحرير بريس – متابعة
أقدم 3 تلاميذ، بثانوية “المغرب العربي” في منطقة المحاميد بمراكش ، على إضرام النار في إحدى القاعات الدراسية ، ما عجل بإعتقالهم من طرف السلطات الأمينة أمس الثلاثاء.
هذا وتعود تفاصيل الواقعة حسب مصادر محلية ، الى إحتجاج التلاميذ على نقطة ضعيفة حصلو عليها كنتيجة لأحد الامتحانات التي تم إجرائها مؤخرا وكذا تشكي الأطر التربوية من شغبهم المتواصل ،حيث إستعملوا مادة مشتعلة، وأضرموا النار في قاعة للدرس، ما تسبب في احتراق الطاولات والسبورة، دون تسجيل اصابات، نظرا لخلو القاعة من التلاميذ لحظة تنفيذ فعلهم.
وأشارت المصادر ذاتها إلى أن عناصر الشرطة انتقلت إلى مكان الحادث، حيث تم فتح تحقيق في النازلة واقتياد المتهمين
samedi 18 février 2017
هام هدا ما يقوله القانون حول التوظيف بعقود
الرئيسية سياسة كُتّاب وآراء التوظيف بموجب العقود المحددة المدة: تهديد لمبدأ استقرار العمل في غياب الضمانات
التوظيف بموجب العقود المحددة المدة: تهديد لمبدأ استقرار العمل في غياب الضمانات
Mohamedنوفمبر 17, 2016كُتّاب وآراء
بقلمelmaachi.mohamed@gmail.comلكن، وإن كان عقد الشغل من عقود المدة، فهو ليس بعقد أبادي، وهذا ما أكدتها مقتضيات الفصل 728 من ق.ل.ع([1]). وعقود الشغل عادة ما تنقسم إلى عقود الشغل غير محددة المدة، وعقود الشغل محدد المدة، وكل واحد منهما ينتهي بكيفية مختلفة من الناحية القانونية والعملية عن الأخرى.وتعتبر الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المحدثة بمقتضى قانون 07.00([2])، مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، تخضع لوصاية الدولة التي تمارس من لدن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني (المادة1)، والاختصاصات التي تمارسها الأكاديمية مفوضة إليها من لدن الوزارة الوصية في مجال تدبير الموارد البشرية (المادة2)، وعند سد خصاص هذا الأخير تعمل على توظيف الأعوان طبقا لنظام أساسي خاص يحدد بمرسوم (المادة11)، كما يخضع الموظفون والأعوان المنتمون إلى الهيئات التعليمية والإدارية والتقنية لأحكام النظام العام للوظيفة العمومية وكذا لأحكام أنظمتهم الأساسية الخاصة (المادة 10). في غياب المقاربة التشاركية مع النقابات الممثلة لقطاع التعليم، وفي تغييب مبدأ الحرية التعاقدية، وأمام فرض الوزارة لشروطها في شأن توظيف الاساتذة بموجب العقود المحددة المدة، من جهة، ومن جهة أخرى، مادام أن هذه العقود يعده أحد طرفي العلاقة التعاقدية بصورة منفردة، ويعرضه على الطرف الأخر للموافقة عليه أو رفضه، دون أن يكون له الحق في مناقشة الشروط والأحكام التي يتضمنها العقد أو تغيير أو إضافة عبارات أو ينود في العقد، فإننا نكون أمام عقود الإذعان([3]) التي تعتمد في صياغتها على استخدام نموذج نمطي للعقد، حيث حاجة المواطنين الماسة للتعليم العمومي، وكذا إرتفاع عدد العاطين الحاصلين على الشهادات وقلة مناصب الشغل.من خلال ما جاءت به المذكرة الوزارية يتبين أنها لم ترتكز على المرجعية القانونية، بحيث أن مقتضيات الفصل 6 مكرر([4]) من النظام الأساسي العام للوطيفة العمومية، الذي يعتبر من بين ما جاء به إصلاح منظومة الوظيفة العمومية سنة 2011 في ظل حكومة عباس الفاسي، حيث ينص على أنه ((يمكن للإدارة العمومية عند الإقتضاء أن تشغل أعوانا بموجب عقود، وفق الشروط والكيفيات المحددة بموجب مرسوم. لا ينتج عن هذا التشغيل، في أي حال من الأحوال حق الترسيم في أطر الإدارة -15)).غير أن الفصل 6 مكرر لم يتم تفعيله، لكونه كان يتوقف على إصدار مرسوم تطبيقي الذي تأخر لأكثر من 5 سنوات، أي حتى سنة 2016، ليتم في ظل حكومة بنكيران الأولى إصدار المرسوم التطبيقي رقم 2.15.770 بتاريخ 9 أغسطس 2016([5])، الذي يحدد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية. المحددة المدة في تكسير مبدأ استقرار العمل– – – – – غير أن العقود المحددة المدة تعتبر من العقود التي لا يطمئن لها الشخص المتعاقد، نظراً لعدم استقرار العمل، واعتمادها هو تكسير للحماية التي بحث عنها المشرع عندما رغب في ترسيخ مبدأ استقرار العمل وديمومته([6]). إرتباط تجديد عقد محدد المدة بشروط، إذا كانت مذكرة وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني رقم 16-866 تحمل في طياتها مجموعة من المخاطر التي تهدد ترسيخ مبدأ استقرار العمل، فإن عقود الشغل المحددة المدة هي توجه حديث في العلاقات المهنية، التي من شأنها أن تحفز الاقتصاد الوطني، وتخلق حركية في العمل والرفع من قابلية على العمل، لكن هذا لا يتأتى إلا بتحصينها بمجموعة من الضمانات، خاصة وأن سوق الشغل غير قابل على استيعاب العدد الهائل من طالبي الشغل، الذين ما يزالون في حالة الإنتظار، حيث بلغ حجم البطالة 1.148.000 شخص على المستوى الوطني وبمعدل%9.7([7])، وقد ارتفع عدد العاطلين خلال النصف الأول من سنة 2016 بعد أن وصل إلى 1.169.000 شخص على المستوى الوطني وبمعدل
الرباط في 17 نونمبر 2016
[1] محمد كشبور، “إنهاء عقد الشغل، مع تحليل مفصل لأحكام الفصل التعسفي دراسة تشريعية وقضائية مقارنة”، مطبعة النجاح الجديدة الدارالبيضاء، سنة 2008، ص 35..[2] ظهير شريف رقم 1.00.203 صادر في 15 من صفر 1421(19 ماي 200) بتنفيد القانون رقم 07.00 القاضي بإحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. المنشور بالجريدة الرسمية 4798 بتاريخ 25 ماي 2000، كما تم تغييره وتتميمه بمقتضى قانون رقم 71.15 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6437 بتاريخ 8 فبراير 2016.[3] راجع في هذا الجانب، عبد الرزاق السنهوري، النظرية العامة للالتزامات. [4] طهير شريف رقم 1.11.10 صادر في 14 من ربيع الأول 1432( 18 فبراير 2011) بتنفيذ قانون القانون رقم 50.05 بتغيير وتتميم الظهير الشريف رقم 1.58,008 الصادر في شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5944 بتاريخ 19 ماي 2011[5] منشور بالجريدة الرسمية عدد 6491 بتاريخ 15 أغسطس 2016[6] محمد عيد بناني، “قانون الشغل بالمغرب في ضوء مدونة الشغل، علاقات الشغل الفردية”، الجزء الثاني، المجلد الأول، مكتبة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع الرباط، سنة 2007، ص 306.[7] راجع في هذا الصدد مقالات، المعاشي محمد، “التصدي للبطالة: بين إخفاقات البرامج الحكومية المتعاقبة وحماس الوعود الإنتخابية العابرة”، المنشور في المواقع الالكترونية، وكذا “لكل شخص الحق في الشغل: ما مدى قانونية استمرار المتقاعد في مزاولة العمل؟” المنشور على أعمدة جريدة المنعطف عدد 5255، وجريدة المساء 2964 و1965
الدولة و الثورة // لينين
الدولة والثورة
فلاديمير إيليتش لينين
ترجمة: لطفي فطيم
الهيئة المصرية العامة
للتأليف والنشر
تعاليم الماركسية حول الدولة ومهمات البروليتاريا في الثورة
الدولة هي نتاج التناقضات الطبقية التي لا يمكن التوفيق بينهافصائل خاصة من رجال مسلحين، وسجون، الخالدولة إدارة لاستغلال الطبقة المضطهَدة"اضمحلال" الدولة والثورة العنيفة
عشية الثورةخلاصة الثورةعرض ماركس للمسألة في عام 1852
ما هو وجه البطولة في محاولة أصحاب الكومونة؟ماذا سيحل محل آلة الدولة المحطمة؟إلغاء البرلمانية
مشكل الاسكان
عرض ماركس للمسألة
ا جدال بليخانوف مع الفوضويين
ملحق للطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الأولى
تكتسب مسألة الدولة في الوقت الحاضر أهمية خاصة، سواء من الناحية النظرية أم من ناحية السياسة العملية. فقد شدت الحرب الإمبريالية وعجلت لدرجة هائلة عملية تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية. وتزداد فظاعة الظلم الذي تعانيه الجماهير العاملة من قبل الدولة، تلك الدولة التي تلتحم أكثر فأكثر باتحادات الرأسماليين ذات الحول والطول، وتتحول المناطق الداخلية في البلدان المتقدمة بالنسبة للعمال إلى سجون عسكرية للأشغال الشاقة.
إن الفضائع والأهوال التي لم يسبق لها مثيل والناجمة عن الحرب التي طال أمدها، جعلت الجماهير في وضع لا يطاق وزادت من سخطها. إن الثورة البروليتارية العالمية تنضح بوضوح، وتكتسب مسألة علاقتها بالدولة أهمية تطبيقية.
لقد أدى تراكم عناصر الانتهازية خلال عشرات السنين من التطور السلمي النسبي إلى إيجاد تيار الاشتراكية-الشوفينية الذي يسيطر على الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم بأسره. وقد تميز هذا التيار، الاشتراكي قولا والشوفيني فعلا، (بليخانوف، وبوتروسوف، وبريشكوفسكايا، وروبانوفيتش، والذين يرتدون أقنعة شفافة مثل تسيريتيلي، وتشيرنوف وشركاه في روسيا، وشيدمان، وليجين، ودافيد وغيرهم في ألمانيا، ورينوديل، وجسيد، وفاندرفلد في فرنسا وبلجيكا، وهايندمان والفابيون في إنجلترا... الخ .. الخ) بالأسلوب الوضيع الذليل الذي تكيف به "زعماء الاشتراكية" لا وفق مصالح برجوازيتهم الوطنية فحسب وإنما وفق مصالح دولتهم، إذ أن غالبية ما يسمى بالدول الكبرى تستثمر وتستعبد منذ زمن طويل عددا كبيرا من الأمم الصغيرة والضعيفة. وما الحرب الإمبريالية سوى حرب من أجل اقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنائم. ويستحيل النضال من أجل تحرير الشعب العامل من نفوذ البرجوازية بشكل عام والبرجوازية الإمبريالية بشكل خاص دون النضال ضد الأوهام الانتهازية بصدد "الدولة".
وسنعرض أولا لنظرية ماركس وإنجلز في الدولة متناولين بإسهاب خاص نواحي تلك النظرية التي تناستها أو شوهتها الانتهازية. ثم نتناول بخاصة المسؤول الرئيسي عن هذه التشويهات، كارل كاوتسكي، أشهر زعماء الأممية الثانية (سنوات 1889-1914) التي اتضح إفلاسها المشين في الحرب الراهنة. وفي الختام نخلص النتائج الرئيسية لخبرة الثورتين الروسيتين عام 1905 وعام 1917 بوجه خاص. ويبدو أن هذه الثورة الأخيرة تكمل الآن المرحلة الأولى من نموها (أوائل أغسطس 1917). ولكن هذه الثورة في مجموعها لا يمكن فهمها إلاّ باعتبارها حلقة في سلسلة الثورات البروليتارية الاشتراكية التي سببتها الحرب الإمبريالية. وهكذا، فإن مسألة موقف الثورة البروليتارية الاشتراكية من الدولة لا يكتسب أهمية سياسية عملية فحسب وإنما يغدو كذلك إحدى مسائل الساعة الملحة، ألا وهي مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير أن تفعله في المستقبل القريب للخلاص من الاستبداد الرأسمالي.
المؤلف
مقدمة الطبعة الثانية
تصدر هذه الطبعة، الثانية، دون أي تغيير تقريبا فيما عدا إضافة الفقرة الثالثة إلى الفصل الثاني.
المؤلف
موسكو 17 دسيمبر 1918 .
أعلى الصفحة
الصفحة الرئيسية
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
آسيــا
أوروبا
أمريكا الشمالية
أمريكا اللاتينية
Audio & Video
المرأة والماركسية
ثقافة وفن
الفلسفة والعلم
هدفنا
Français
English
Español
اتصل بنا
مواقع
www.struggle.com.pk
www.javaan.net
كارل ماركس // نقد برنامج غوته
نقد برنامج غوتا
مقدمة لفريدريك انجلس1
ان المخطوطة التي تطبع في هذا الكراس، - سواء الرسالة الى براكه او نقد مشروع البرنامج - قد ارسلت الى براكه في عام 1875 ، قبيل انعقاد مؤتمر غوتا التوحيدي2، لكي يعرضها بدوره على غيب وآوير وبيبلوليبكنخت ثم يعيدها الى ماركس. ولما كانت مناقشة برنامج غوتا واردة في جدول اعمال مؤتمر الحزب في هاله3، فاني اعتقد اني اقترف جريمة اذا ما تماهلت زمناً آخر ايضاً بنشر هذه الوثيقة الهامة ، والتي ربما تكون اهم الوثائق التي تتعلق بهذه المناقشة.
ولكن للمخطوطة شأناً آخر ايضاً، واكبر بكثير. فللمرة الاولى نجد فيها الموقف الذي اتخده ماركس ازاء الخطة التي تبناها لاسال منذ بداية نشاطه التحريضي ، نجده معروضاً بوضوح ودقة، شاملاً في آن مبادىء لاسال الاقتصادية وتكتيكه.
فان الصرامة القاطعة التي حلل بها ماركس مشروع البرنامج، والتصلب الذي اورد فيه استنتاجاته، ونقاط الضعف التي كشفها وعرّاها في المشروع ، كل ذلك لو يعد بالامكان ان يجرح اليوم احداً ، بعد مضي خمسة عشر عاماً . فلم يبق من اللاساليين الاصليين الا في الخارج، بصورة انقاض منفردة ، بل ان واضعي برنامج غوتا قد تخلوا عنه في هاله باعتباره غير مرض اطلاقاً.
ورغم ذلك، حذفت، حيث لا يهم الحذف، التعابير والتقديرات القاسية المتعلقة ببعض الشخصيات، واستعضت عنها بنقط. ان ماركس كان فعل الشيء نفسه لو انه نشر مخطوطته اليوم. فان عنف اللهجة الذي نجده فيها احياناً انما نجم عن اعتبارين. الاول، هو اننا كنا، ماركس وانا، ملتحمين في الحركة الالمانية اكثر مما في اية اخرى، فكان لابد للتراجع البين في مشروع البرنامج من ان يبعث فينا بالغ الاشمئزاز. اما الاعتبار الثاني، قهو اننا كنا حينذاك، وما كادت تمضي سنتان على مؤتمر الاممية في لاهاي4، في ذروة المعركة ضد باكونين واتباعه من الفوضويين الذين كانوا يعتبروننا مسؤولين عن كل ما يجري في صفوف الحركة العمالية في المانيا ؛ ولذا كان لابد لنا ان نتوقع ان تنسب الينا ابوة هذا البرنامج السرية. ولكن هذين الاعتبارين قد بطلا اليوم ، كما بطلت في الوقت نفسه ضرورة المقاطع المذكورة آنفاً.
وفضلا عن ذلك ، ثمة جمل استعيض عنها بالنقط ، لاسباب تتعلق برقابة الصحافة. وحيث ترتب علي ان اختار تعبيراً ألطف، وضعته بين معقفين. وما عدا هذا، طبعت المخطوطة بنصها الحرفي.
فريدريك أنجلس
لندن، 6 يناير 1891
نشرت في مجلة "Die Neue Zeit"
(الازمنة الحديثة)
رسالة كارل ماركس الى براكه
لندن، 5 ماي 1875
عزيزي براكه !
بعد مطالعة الملاحظات الانتقادية الواردة ادناه بخصوص البرنامج التوحيدي، تفضل بارسالها الى غيب وآوير وبيبل وليبكنخت للاطلاع عليها. ان لدي من الشغل لما فوق رأسي فأراني مضطراً لأن اتخطى بعيداً حدود وقت العمل الذي يسمح لي به الاطباء. ولذا لم اجد "لذة" خاصة في خربشة هذه الكمية البالغة من الورق. ولكن هذا كان ضرورياً لكي لا يستطيع الاصدقاء الحزبيون الذين حررت من اجلهم هذه الملاحظات ان يفسروا فيما بعد تفسيراً خاطئاً التدابير التي سيترتب علىّ ان اتخدها من جانبي. – اقصد بذلك بياناً موجزاً سننشره انجلس ولنا بعد المؤتمر التوحيدي ونعلن فيه انه لا علاقة لنا اطلاقاً ولا صلة بهذا البرنامج المبدئي المشار اليه.
وهذا المسعى ضروري لأنه تروج في الخارج اشاعة كاذبة تماماً يغذيها اعداء الحزب بامعان وتزعم اننا نوجه من هنا، سرّاً، حركة الحزب المسمى بحزب ايزيناخ5. فان باكونين، مثلاً، قد نشر لأمد قريب كتاباً باللغة الروسيى6 جعلني فيه مسؤولاً، لا عن كل برنامج هذا الحزب وغير ذلك من وثائقه فحسب، بل ايضاً عن كل خطوة خطاها ليبكنخت منذ بداية تعاونه مع حزب الشعب7.
وما عدا ذلك، لا يسمح لي واجبي بان اعترف، وان بصمت ديبلوماسي، ببرنامج انا مقتنع بانه غير صالح اطلاقاً وبانه يهدم من معنويات الحزب.
ان كل خطوة تخطوها الحركة الفعلية لأهم من دزينة من البرامج. ولذا، اذا كان قد تبين انه من المستحيل تجاوز برنامج ايزيناخ – والظروف لم تكن تسمح بذلك – فقد كان من المترتب عقد اتفاق، على الاقل، من اجل العمل ضد العدو المشترك. ولكنهم، اذ عمدوا الى وضع برامج مبدئية (بدلا من تأجيل هذا الامر الى مرحلة يحضره فيها نشاط مشترك اطول)، يقيمون بالتالي امام العالم كله صوى يحكم الناس بالاستناد اليها على المستوى الذي بلغته حركة الحزب.
لقد جاء زعماء اللاساليين الينا بدافع الظروف. فلو قيل لهم منذ البدء بانه لن يقدم احد على اية مساومة حول المبادىء، لكان ترتب عليهم طبعاً الاكتفاء ببرنامج عمل او ببرنامج تنظيم بغية القيام بعمل مشترك. ولكن بدلا من هذا يسمحون لهم بان يأتوا مسلحين بتفويضات ويعترفون بمفعولها الالزامي، وهكذا يستسلمون ويضعون انفسهم تحت رحمة اناس هم انفسهم بحاجة الى المساعدة. وزيادة في الطين بلة، عقد هؤلاء مؤتمرهم قبل المؤتمر التوفيقي في حين عقد الحزب بالذات مؤتمره post festum*.
. ومن الجلي انه كان ثمة سعي الى درء أي انتقاد والى منع الحزب بالذات من الفكير في المسألة. ومعلوم ان واقع الاتحاد بالذات يرضي العمال، ولكنهم يخطئون اولئك الذين يعتقدون ان هذا النجاح العابر لا يكلف غالياً جداً.
وفضلا عن ذلك، فان البرنامج لا قيمة له، حتى ولو لم نأخذ بعين الاعتبار انه يضفي صفة القداسة على قوانين الايمان اللاسالية.
وفي القريب العاجل، سارسل لك الكراريس الاخيرة من الطبعة الفرنسية ل"رأس المال". وقد تأخر طبعها زمناً طويلاً بسبب من منع الحكومة الفرنسية. ان الكتاب سيكون جاهزاً في هذا الاسبوع او في مطلع الاسبوع القادم. فهل تلقيت الكراريس الستة الاولى ؟ ارجوك ايضاً ان ترسل لي عنوان برهارد بيكر الذي يتعين عليّ ان ارسل له ايضاً هذه الكراريس الاخيرة.
ان لدار الطبع"Volksstaat" عاداتها الخاصة. فاني لم استلم مثلا حتى الآن اية نسخة من الطبعة الجديدة لكتاب "محاكمة الشيوعيين في كولونيا"**.
مع اطيب تمنياتي
المخلص كارل ماركس
ملاحظات على برنامج
حزب العمال الالماني
1- "العمل مصدر كل ثروة وكل ثقافة، ولما كان العمل المفيد غير ممكن الا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فان دخل العمل يخص بشكله غير المنقوص، وبالحق المتساوي، جميع اعضاء المجتمع".
القسم اول من هذه الفقرة : "العمل مصدر كل ثروة وكل ثقافة".
ان العمل ليس مصدر كل ثروة. فالطبيعة هي مصدر القيم الاستعمالية (التي هي بالضبط تؤلف الثروة المادية !) بقدر ما هو عليه العمل الذي ليس هو نفسه سوى ظاهرة لقوة من قوى الطبيعة أي لقوة عمل الانسان. وهذه الجملة الواردة اعلاه تعثرون عليها في جميع كتب الالفباء، ولا تصح الا بقدر ما تعني ان العمل يجري عند توافر الاشياء والادوات المناسبة. ولكنه لا يجوز لبرنامج اشتراكي ان يحتوي مثل هذه التعابير والجمل البرجوازية التي تلزم الصمت حول الشروط التي وحدها تستطيع ان تعطيها معنى. فان عمل الانسان لن يصبح مصدر القيم الاستعمالية، وبالتالي مصدر الثروة، الا شرط ان يسلك، منذ البدء، سلوط المالك ازاء الطبيعة، ازاء هذا المصدر الاول لجميع وسائل العمل ومواد العمل، شرط ان يعاملها كأنها شيء يخصه. ان للبرجوازيين اسبابا وجيهة جدا لكي ينسبوا الى العمل هذه القوة الخلاقة الفائقة الطبيعة ؛ اذ ينجم من كون العمل مشروطا بالطبيعة، ان الانسان الذي لا يملك غير قوة عمله، يصبح بالضرورة، مهما كانت احواله الاجتماعية والثقافية، عبد الذين وضعوا ايديهم على شروط العمل المادية. فلا يستطيع ان يعمل، وبالتالي ان يعيش، الا باذن هؤلاء.
ولكن لندع الآن هذه الجملة كما وردت ومهما كانت عيوبها. فاي استنتاج يمكن ان نتوقعه ؟ طبعاً، الاستنتاج التالي :
لما كان العمل مصدر كل ثروة، فما من انسان في المجتمع يستطيع ان يستاتر بالثروة بدون الاستئثار بنتاج العمل. فاذا كان هذا الانسان لا يشتغل بنفسه، فانه يعيش على حساب عمل الآخرين، بل انه يكسب ثقافته ايضاً على حساب عمل الآخرين".
وبدلا من هذا الاستنتاج، يضيفون الى الجملة الاولى جملة ثانية بواسطة التعبير "ولما"، لكي يستخلصوا من الثانية، لا من الاولى، استنتاجاً.
القسم الثاني من الفقرة : "العمل المفيد غير ممكن الا في تامجتمع وبواسطة المجتمع".
وفقاً للموضوعة الاولى، كان العمل مصدر كل ثروة وكل ثقافة، وبالتالي لا يمكن ان يكون ثمة مجتمع دون عمل. ولكن، ها نحن نعتم بالعكس ان العمل "المفيد" غير ممكن بدون المجتمع.
وعلى هذا المنوال، يمكن القول ايضاً ان في المجتمع فقط يمكن للعمل غير المفيد، وحتى الضار اجتماعياً، ان يصبح فرعا من فروع الصناعة، وان في المجتمع فقط للمرء ان يعيش بدون عمل، الخ.، الخ.. – أي انه، بكلمة موجزة، يمكن استنساخ كل روسو.
وما هو العمل "المفيد" ؟ انه ليس العمل الذي يعطي النتيجة المفيدة المرغوب فيها. فالانسان المتوحش – وقد كان الانسان متوحشاً بعد ان كف عن يكون قرداً – الذي يقتل حيواناً بضربة حجر، او يقطف الثمر، الخ.، انما يقوم بعمل "مفيد".
ثالثا. الاستنتاج : "ولما كان العمل المفيد غير ممكن الا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فان دخل العمل يخص بشكله غير المنقوص، وبالحق المتساوي، جميع اعضاء المجتمع".
فيا له من استنتاج ظريف ! فاذا كان العمل المفيد غير ممكن الا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فان دخل العمل يخص المجتمع، ولا يعود الى الشغيل بمفرده من هذا الدخل الا شيء يزيد عما لا غنى عنه لبقاء المجتمع بوصفه "شرط" العمل.
وبالفعل، كان المدافعون عن كل نظام اجتماعي قائم يتقدمون في جميع الازمان بهذه الموضوعة. اولا، ترد ادعاءات الحكومة، مع كل ما ياتصق بها، لأن الحكومة، كما يقال، هي جهاز المجتمع للمحافظة على النظام الاجتماعي ؛ ثم ترد ادعاءات شتى انواع الملكية الخاصة، لأن شتى انواع الملكية الخاصة هي كلها، كما يقال، اساس المجتمع، الخ.. وهكذا نرى ان جميع هذه الجمل الفارغة يمكن قلبها وتفسيرها حسب الرغبة.
ولن يكون ثمة أي ترابط منطقي بين القسم الاول والقسم الثاني من هذه الفقرة الا اذا وضعناها كما يلي :
"ان العمل لا يكون مصدراً للثروة والثقافة الا اذا كان عملا اجتماعياً"، او، بتعبير آخر يؤدي المعنى نفسه، "في المجتمع وبواسطة المجتمع".
ان هذه الموضوعة صحيحة لا جدال فيها لأن العمل المنفرد (هذا اذا افترضنا وجود شروطه المادية)، اذا كان يستطيع ان يخلق قيماً استعمالية، انما لا يستطيع ان يخلق لا الثروة ولا الثقافة.
ولكن الموضوعة الاخرى صحيحة ايضاً ولا جدال فيها :
"وبقدر ما يتطور العمل تطوراً اجتماعياً ويغدو بالتالي مصدراً للثروة والثقافة، بقدر ما يشتد الفقر والاملاق عند العامل، وتتعاظم الثروة والثقافة عند غير العامل".
ذلك هو قانون التاريع برمته حتى الآن. فبدلا من الجمل والتعابير العامة حول "العمل" و"المجتمع"، كان ينبغي اذن ان يوضع هنا بدقة كيف تكوّنت في نهاية الامر، في ظل المجتمع الرأسمالي الحالي، الشروط المادية وغيرها من الشروط التي تجعل العمال قادين على دك هذه اللعنة الاجتماعية وتدفغهم الى تحطيمها.
ولكن كل هذه الفقرة، غير الموفقة شكلا والخاطئة اساساً، لم ترد هنا الا لكي يستطاع كتابة الصيغة اللاسالية "دخل العمل غير المنقوص"، كاول شعار على راية الحزب. وسأعود فيما بعد الى "دخل العمل" و"الحق المتساوي"، الخ..، لأن الشيء نفسه يتكرر فيما بعد على نحو مختلف نوعاً.
2- "ان وسائل العمل في المجتمع الحالي هي احتكار الطبقة الرأسمالية. وتبعية الطبقة العاملة، الناجمة عن هذا الوضع، هي سبب البؤس والاستبداد بكل اشكالهما".
ان هذه الفقرة، المقتبسة من نظام الاممية الداخلي، خاطئة بهذه الصيغة "المحسنة".
فان وسائل العمل في المجتمع الحالي هي احتكار الملاكين العقاريين (بل ان احتكار الملكية العقارية هو ساس الاحتكار الراسمالي) و". ان اضافة كلمتي "مصادر الحياة" تبين كفاية ان الارض هي فب عداد وسائل العمل.
وقد اجري هذا التحسين لأن لاسال، لاسباب غدت معروفة اليوم لدى الجميع، كان يهاجم الطبقة الراسمالية وحدها، دون الملاكين العقاريين. ففي انجلترا، لايكون الرأسمالي، عادة، مالكا حتى للارض التي يقوم عليها مصنعه.
3- "ان تحرير العمل يتطلب رفع وسائل العمل الى مستوى ملكية المجتمع باسره، وضبط العمل الاجمالي بصورة جماعية مع توزيع دخل العمل توزيعا عادلاً".
"ان رفع وسائل العمل الى مستوى ملكية المجتمع باسره" (!) يعني على ما يبدو "تحويلها الى ملكية للمجتمع باسره"، ونقول هذا عرضاً.
ما المقصود ب"دخل العمل ؟" أهو نتاج العمل ام قيمته ؟ فاذا عنيت قيمته، فهل قيمة النتاج الاجمالية او فقط القسم من البقية الذي اضافه العمل الى قيمة وسائل الانتاج المستهلكة ؟
ان "دخل العمل" عبارة عن فكرة غامضة كان لاسال يتخدها بدلا من مفاهيم اقتصادية واضحة.
وما هو "التوزيع العادل" ؟
الا يدّعي البرجوازيون ان التوزيع الحالي "عادل" ؟ وبالفغل، اليس التوزيع الحالي التوزيع "العادل" الوحيد على اساس اسلوب الانتاج الحالي ؟ وهل العلاقات الاقتصادية تنظمها المفاهيم الحقوقية ام الامر على العكس، أي ان العلاقات الحقوقية هي التي تنبثق من العلاقات الاقصادية ؟ ثم، ألا يتبنى اصحاب الشيع الاشتراكية المختلفة، اكثر الآراء تبايناً حول هذا التوزيع "العادل" ؟
فلكي ندرك ما هو المقصود هنا بهاتين الكلمتين : التوزيع "العادل"، ينبغي لنا ان نقارن الفقرة الاولى بالفقرة الثالثة. فالفقرة الثالثة تفترض مجتمعاً "تكون قيه وساءل العمل ملكية المجتمع بأسره، ويضبط فيه العمل الاجمالي بصورة جماعية"، بينما تقول لنا الفقرة الاولى "ان دخل العمل بخص بكليته وبالحق المتساوي، جنيع اعضاء المجتمع".
"جميع اعضاء المجتمع" ؟ حتى اولئك الذين لا يشتغلون ؟ واذ ذاك، اين هو "دخل العمل غير المنقوص" ؟ مجرد اعضاء المجتمع الذين يشتغلون ؟ فاين هو اذن "الحق المتساوي" بين جميع اعضاء المجتمع ؟
ولكن "جميع اعضاء المجتمع" و"الحق المتساوي" ليسا سوى مجرد جملتين. اما الجوهر، فقوامه انه ينبغي في هذا المجتمع الشيوعي ان ينال كل شغيل، كما يقول لاسال، "دخل العمل غير المنقوص".
فاذا اخدنا اولا كلمتي "دخل العمل" بمعنى نتاج العمل، فان دخل العمل الجماعي يعني حينذاك النتاج الاجتماعي الاجمالي.
والآن، ينبغي ان نقتطع منه :
اولاً، ما نستعيض به عن وسائل الانتاج المستهلكة ؛
ثانياً، قسماً اضافياً لتوسيع الانتاج ؛
ثالتاً، اموالا للاحتياط او للتأمين ضد الطوارىء، والكوارث الطبيعية، الخ..
ان هذه الاقتطاعات من "دخل العمل غير المنقوص" تحتمها الضرورة الاقتصادية، وتتحدد مقاديرها وفقاً للوسائل والقوى المتوافرة، وجزئياً بموجب حساب الاتفاق ؛ ولكنها في مطلق الاحوال لا يمكن تحديدها على اساس العدالة.
يبقى القسم الآخر من النتاج الاجمالي، وهو القسم المعد للاستهلاك.
ولكن قبل الشروع بتوزيعه على الافراد منه ايضاً :
اولا، النفقات الادراية العامة، التي لا علاقة مباشرة لها بالانتاج.
ان هذا الجزء سيهبط فوراً هبوطاً ملحوظاً بالقياس الى قدره في المجتمع الحالي، وسيقل بقدر ما يتطور المجتمع الجديد.
ثانياً، ما هو معذّ لتلبية حاجيات المجتمع المشتركة، من مدارس، ومؤسسات صحية، الخ..
ان هذا الجزء سيزداد فوراً زيادة كبيرة بالقياس الى قدره في المجتمع الحالي، وسينمو بقدر ما يتطور المجتمع الجديد.
ثالثاً، الاموال الضرورية لإغاثة العاجزين عن العمل، الخ.، أي، بكلمة موجزة، ما يعود الى ما يسمى اليوم باغاثة الفقراء الرسمية.
وبعد ذلك فقط، نصل الى ذلك "التوزيع" الذي لا يعني البرنامج الا اياه، تحت تأثير لاسال، وبصورة ضيقة، محدودة، أي الى هذا القسم من اشياء الاستهلاك الذي يوزع بصورة افرادية بين منتجي المجتمع
وهكذا تحوّل "دخل العمل غير المنقوص" بصورة غير محسوسة الى "دخل منقوص"، رغم ان ما يؤخذ من المنتج، بوصفه فرداً، انما يعود عليه بالنفع من جديد، مباشرة ام بصورة غير مباشرة، بوصفه عضواً في المجتمع.
وكما ان تعبير "دخل العمل النتقوص" قد ذاب واختفى، كذلك يذوب ويختفي تعبير "دخل العمل" بوجه عام.
في مجتمع قائم على المبادىء الجماعية، قائم على الملكية العامة لوسائل الانتاج، لا يتبادل المنتجون منتجاتهم ؛ ان العمل المبذول على المنتجات لا يظهر في هذا النظام الاجتماعي على انه قيمة هذه المنتجات، على انه صفة مادية تنطوي عليها المنتجات، اذ انه خلافاً لما يجري في المجتمع الرأسمالي، يغدو عمل الفرد بصورة مباشرة، لا بصورة غير مباشرة، جزءاً لا يتجزأ من عمل المجتمع. وهكذا، ان تعبير "دخل العمل"، الذي لا يصمد للنقد حتى في ايامنا هذه بسبب ابهامه، يفقد كل معنى.
ان ما نواجهه هنا، انما هو مجتمع شيوعي لا كما تطور على اسسه الخاصة بل بالعكس، كما يخرج لتوه من المجتمع الرأسمالي، أي مجتمع لا يزال، من جميع النواحي، الاقتصادية والاخلاقية والفكرية، يحمل سمات المجتمع القديم الذي خرج من احشائه. فالمنتج يتلقى اذن بصورة فردية –بعد جميع الاقتطاعات- ما يوازي تماماً ما قدمه للمجتمع. وما قدمه للمجتمع، انما هو نصيبه الفردي من العمل. مثلا، ان يوم العمل الاجتماعي يمثل مجمل ساعات العمل الفردية ؛ ووقت العمل الفردي الذي بذله كل منتج هو النصيب الذي قدمه من يوم العمل الاجتماعي، هو القسط الذي اسهم به في هذا العمل. وهو يتلقى من المجتمع سنداً يثبت انه قدّم قدراً معيناً من العمل (بعد اقتطاعات العمل المبذول من اجل الصناديق الاجتماعية) وبهذا السند، يأخذ من المخزون الاجتماعي كمية من اشياء الاستهلاك تناسب قدر عمله. وهطذا فان نفس النصيب من العمل الذي قدمه للمجتمع بشكل معين، انما يتلقاه من المجتمع بشكل آخر.
ومن الواضح اننا نواجه هنا نفس المبدأ الذي ينظم تبادل البضائع طالما انه تبادل قيم متساوية. ان المحتوى والشكل يتغيران لأنه، نظراً لتغير الاحوال، لا يستطيع احد ان يقدّم شيئاً غير عمله، هذا من جهة، ولأنه، من جهة اخرى، لا يمكن لغير اشياء الاستهلاك الفردي ان يدخل في ملكية الفرد. اما فيما يتعلق بتوزيع هذه الاشياء بين المنتجين بصورة فردية، فان المبدأ الموجه هو نفس المبدأ الذي يسود فيما يتعلق بتبادل البضائع المتعادلة : فان قدراً معيناً من العمل بشكل ما يبادل لقاء نفس القدر من العمل بشكل آخر.
وهكذا فان الحق المتساوي يظل هنا، من حيث المبدأ، الحق البرجوازي، رغم ان المبدأ والتطبيق العملي يكفان عن التناقض هنا، في حين ان تبادل القيم المتعادلة لا يبقى في ظل تبادل البضائع الا بصورة وسطية، لا في كل من الحالات.
ورغم هذا التقدم، يظل هذا الحق المتساوي محصوراً من ناحية واحدة ضمن حدود برجوازية. فان حق المنتج يتناسب مع العمل الذي بذله ؛ والمساواة تتجلى هنا في اتخاذ العمل وحدة مشتركة للقياس.
ولكن، رب فرد يتفوّق جسدياً او فكرياً على فرد آخر، فهو اذن يقدّم، خلال القت نفسه، قدراً اكبر من العمل او انه يستطيع ان يعمل وقتاً أطول ؛ ولكن يكون العمل مقياساً، ينبغي ان يتحدد بمدته او شدّته، والا كفّ عن ان يكون وحدة للقياس. ان هذا الحق المتساوي هو حق غير متساو لقاء عمل غير متساو ؛ فهو لا يقر باي امتياز طبقيلأن كل انسان ليس سوى شغيل كغيره ؛ ولكنه يقرّ ضمناً بعدم المساواة في الملكات الفردية، وبالثالي في الكفاءات الانتاجية بوصفها امتيازات طبيعية. فهو اذن، من حيث المحتوى، حق قائم على عدم المساواة، ككل حق. فالحق، بحكم طبيعته، لا يمكن ان يتجلى الاّ في استعمال نفس الوحدة القياسية ؛ ولكن الافراد غير المتساوين (ولن يكونوا افراداً متمايزين اذا لم يكونوا غير متساوين) لا يمكن قياسهم وفقاً لوحدة مشتركة الا بقدر ما يرى اليهم من وجهة النظر نفسها، الا بقدر ما يرى اليهم من زاوية معينة، واحدة، مثلا، في الحالة المعينة، حيث لا يرى اليهم الا بوصفهم عمالا، لا اكثر، وبصورة مستقلة عن كل الباقي. وبعد : رب عامل متزوج، والآخر عازب ؛ ورب رجل عنده من الاولاد اكثر من رجل آخر ؛ الخ.. وهكذا، لقاء العمل المتساوي، وبالتالي مع الاستفادة المتساوية من الصندوق الاجتماعي للاستهلاك، يتلقى احدهم بالفعل اكثر من الآخر، ويظهر اغنى منه، الخ.. ولإجتناب كل هذا، لا ينبغي ان يكون الحق متساوياً، بل ينبغي ان يكون غير متساو.
ولكنها تلك عيوب محتومة لا مناص منها في الطور الاول من المجتمع الشيوعي كما يخرج من المجتمع الرأسمالي بعد مخاض طويل وعسير.فالحق لا يمكن ابداً ان يكون في مستوى اعلى من النظام الاقتصادي ومن درجة التمدن الثقافي التي تناسب هذا النظام.
وفي الطور الاعلى من المجتمع الشيوعي، بعد ان يزول خضوع الافراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي ؛ وحين يصبح العمل، لا وسيلة للعيش وحسب، بل الحاجة الاولى للحياة ايضاً ؛ وحين تتنامى القوى المنتجة مع تطور الافراد في جميع النواحي، وحين تتدفق جميع ينابيع الثروة العامة بفيض وغزارة، -حينذاك فقط، يصبح بالامكان تجاوز الافق الضيق للحق البرجوازي تجاوزاً تاماً، ويصبح بامكان المجتمع ان يسجل على رايته : من كل حسب كفاءاته، ولكل حسب حاجاته !
لقد توسعت بخاصة حول "دخل العمل غير المنقوص" من جهة، وكذلك حول "الحق المتساوي" و"التوزيع العادل"، من جهة اخرى، لكي ابين اية جريمة كبيرة ترتكب، من جهة، حين يراد من جديد ان تفرض على حزبنا، كعقائد جامدة، مفاهيم كان اها بعض المعنى في مرحلة معينة، ولكنها لم تبق اليوم سوى عبارات مطروقة باطلة، ومن جهة اخرى، حين يراد تشويه النظرة الواقعية التي كلفت جهوداً طائلة لبثها في صفوف الحزب، ولكنها التي رسخت فيه عميقا اليوم، وذلك بواسطة مفاهيم حقوقية خرقاء وغير ذلك من الاضاليل الشائعة بين الديمقراطيين وبين الاشتراكيين الفرنسيين.
وبصرف النظر عما قيل آنفاً، كان من الخطأ على وجه العموم ان يجعل مما يسمى التوزيع الامر الاساسي وان يصار الى ابرازه.
فان توزيع اشياء الاستهلاك، في كل عصر وطور، ليس سوى نتيجة لتوزيع شروط الانتاج نفسها. ولكن توزيع هذه الاخيرة يعبر عن طابع اسلوب الانتاج بالذات.
فان اسلوب الانتاج الرأسمالي، مثلاً، يرتكز على كون شروط الانتاج المادية بشكل ملكية الرأسمال وملكية الارض، تقع في ايدي غير الشغيلة بينما سواد الناس لا يملكون سوى الشرط الشخصي للامناج – قوة العمل. واذا كانت عناصر الانتاج موزعة على هذا النحو، فان التوزيع الحالي لاشياء الاستهلاك ينبع منه تلقائاً. فاذا غدت شروط الانتاج المادية ملكية عامة للعمال انفسهم، تغير توزيع اشياء الاستهلاك عما هو عليه الآن. ان الاشتراكية المبتذلة (ومن خلالها ايضاً قسماً من الديمقراطية) قد اقتبست من الاقتصاديين البرجوازيين عادة اعتبار التوزيع وبحثه بوصفه امراً مستقلاً عن اسلوب الانتاج، وعادة تصوير الاشتراكية بالتالي كأنها تدور في الاساس حول قضايا التوزيع. ولكن حين تكون العلاقات الفعلية قد اتضحت منذ زمن بعيد. فما الفائدة من العودة الى الوراء ؟
4- "ان تحرير العمل ينبغي ان يكون من صنع الطبقة العاملة التي لا تشكل جميع الطبقات الاخرى ازاءها سوى كتلة رجعية واحدة".
ان الجملة الاولى مستقاة من مقدمة نظام الاممية الداخلي، ولكنها واردة بصيغة "محسنة". فان هذه المقدمة تقول : "ان تحرير الطبقة العاملة ينبغي ان يكون من صنع العمال انفسهم"، ولكن "الطبقة العاملة"، هنا، ترى، ماذا عليها ان تحرر ؟ - "العمل". فافهم اذا كنت قادراً على الفهم.
وبالمقابل، يتحفوننا بجملة اضافية موصولة، مستقاة من اعمق ينابيع لاسال : "(الطبقة العاملة) التي لا تشكل جميع الطبقات الاخرى ازاءها سوى كتلة رجعية واحدة".
لقد جاء في "البيان الشيوعي" قوله : "ليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن امام البرجوازية وجهاً لوجه الا طبقة واحدة ثورية حقاً، هي البروليتاريا. فان جميع الطبقات الاخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، اما البروليتاريا فهي، على العكس من ذلك، اخص منتجات هذه الصناعة".
وهكذا يرى في هذا المقطع الى البرجوازية – بوصفها عامل الصناعة الكبيرة – على انها طبقة ثورية بالنسبة للاقطلعيين والفئات المتوسطة، الذين يرغبون في الحفاظ لانفسهم على جميع المراكز الاجتماعية الباقية عن اساليب الانتاج البالية. فالاقطاعيون والفئات المتوسطة لا يشكلون اذن مع البرجوازية كتلة رجعية واحدة.
ومن جهة اخرى، نرى ان البروليتاريا ثورية بالنسبة للبرجوازية’ لأنها، وهي التي نشأت ونمت وترعرعت على اساس الصناعة الكبيرة. تقصد ان تنزع عن الانتاج هذا الطابع الرأسمالي الذي تحاول البرجوازية تخليده. ولكن "البيان الشيوعي" يضيف قائلاً : ان "الفئات المتوسطة" تغدو ثورية "اذ ينتظرها السقوط الى صفوف البروليتاريا".
ومن وجهة النظر هذه، كان خطل الرأي ان يقال عن الفئات المتوسطة انها "تشكل مع البرجوازية"، ومع الاقطاعيين ايضاً، "كتلة رجعية واحدة" بالنسبة للطبقة العاملة.
فابان الانتخابات الاخيرة، ترى، هل قيل للحرفيين وصغار الصناعيين، الخ..، والفلاحين : "انكم لا تشكلون مع البرجوازيين والاقطاعيين سوى كتلة رجعية واحدة بالنسبة الينا" ؟
لقد كان لاسال يعرف "البيان الشيوعي" عن ظهر قلب، كما ان اتباعه الامناء يعرفون الكتابات المقدسة التي دبجها هو بنفسه . فاذا كان قد زوّر "البيان الشيوعي" بمثل هذه الفظاظة، فانه شاء فقط ان يبرر تحالفه مع الاخصام الاقطاعيين والمستبدين ضد البرجوازية.
وفضلا عن ذلك، تبدو الحكمة اللاسالية الواردة في الفقرة المذكورة آنفاً، كأنها ملصوقة لصقا، ولا تمت باية صلة الى الاستشهاد "المحسن" بشكل اخرق من نظام الاممية الداخلي. وهكذا نجد انفسنا هنا امام وقاحة، ووقاحة، في الحقيقة، لا تزعج السيد بيسمارك ابداً، امام فظاظة من هذه الفظاظات الرخيصة التي اشتهر بها مارا برلين9.
5- "ان الطبقة العاملة تعمل على تحرير نفسها اولا في نطاق الدولة القومية الحالية، وهي على علم تام بان النتيجة الضرورية لجهودها التي يشاركها بها عمال جميع البلدان المتمدنة، ستكون تآخي الشعوب العالمي".
خلافا "البيان الشيوعي" ولكل الاشتراكية السابقة، كان لاسال قد رأى الى الحركة العمالية من اضيق وجهات النظر القومية. وها هم يقتفون خطواته في هذا الميدان، وذلك بعد ما قامت به الاممية من اعمال !
وغني عن البيان تماماً انه ينبغي للطبقة العاملة، لكي تستطيع النضال على وجه العموم، ان تنتظم حيثما هي بوصفها طبقة، وان بلادها بالذات هي الميدان المباشر لنضالها. ولهذا كان نضالها الطبقي قومياً، لا من حيث المحتوى، بل، كما يقول "البيان الشيوعي"، "من حيث الشكل". ولكن "نطاق الدولة القومية الحالية"، مثلا، نطاق الامبراطورية الالمانية، يدخل ايضاً بدوره، اقتصادياً "في نطاق السوق العالمية"، وسياسياً "في نطاق نظام الدول". فان اول تاجر تصادفه يعرف ان التجارة الالمانية هي في الوقت نفسه تجارة خارجية، وان عظمة السيد بيسمارك تكمن على وجه الدقة في انتهاجه نوعاً معيناً من السياسة الدولية.
وعلام يقصر حزب العمال الالماني امميته ؟ على ادراك ان نتيجة جهوده ستكون "تآخي الشعوب العالمي". وتلك جملة مقتبسة عن عصبة السلام والحــرية10 البرجوازية، ويقصد منها ان تعني شيئاً يساوي التآخي العالمي بين الطبقات العاملة في البلدان المختلفة في نضالها المشترك ضد الطبقات السائدة وحكوماتها. ولكننا لا نجد كلمة واحدة عن المهمات الاممية للطبقة العاملة الالمانية ! وهذا كل ما يقترحونه على الطبقة العاملة الالمانية لمعارضة برجوازيتها الخاصة التي تآخت ضدها مع برجوازية جميع البلدان الاخرى ولمعارضة سياسة السيد بيسمارك القائمة على التآمر الدولي !
وبالفعل، ان نزعة البرنامج الاممية ادنى الى ما لا حد له، من النزعة الاممية التي يتصف بها حزب التجارة الحرة. قان هذا الحزب ايضا يزعم ان نتيجة عمله ستكون "تآخي الشعوب العالمي". ولكنه على الاقل يعمل شيئاً ما لجعل التجارة عالمية، ولا يكتفي ابدا بأن يعرف ان كل شعب يتعاطى التجارة في بلاده.
ان نشاط الطبقة العاملة في مختلف البلدان لا يتوقف، في حال من الاحوال، على وجود "جمعية الشغيلة العالمية". فان هذه المنظمة كانت فقط اول محاولة لتزويد هذا العمل بجهاز مركزي، محاولة كانت لها نتائج لا تمحى بسبب من الاندفاع الذي بثته، ولكنه لم يبق من الممكن القيام بها، بشكلها التاريخي الاول، بعد سقوط كمونة باريس11.
لقد كانت صحيفة بيسمارك، "Norddeutsche"، على تمام الحق حين اعلنت، لما فيه رضى صاحبها، ان حزب العمال الالماني قد جحد النزعة الاممية في برنامجه الجديد12.
II
"وانطلاقا من هذه المبادىء، يسعى حزب العمال الالماني جهده، بجميع الوسائل المشروعة، الى تاسيس الدولة الحرة - و - المجتمع الاشتراكي ؛ الى الغاء نظام الاجرة مع قانون الاجور الحديدي - و - الى محو الاستثمار بجميع اشكاله ؛ الى القضاء على كل تفاوت اجتماعي وسياسي".
سأعود فيما بعد الى لحديث عن الدولة "الحرة".
وهكذا اذن، ينبغي على حزب العمال الالماني ان يؤمن، من الآن فصاعدا، "بقانون" لاسال "الحديدي" ! ولأجل ايجاد مكان له في البرنامج، يتحدثون بسخافة عن "الغاء نظام الاجرة" (وكان ينبغي القول : نظام العمل المأجور) مع "قانون الاجور الحديدي. فاذا الغيت العمل المأجور الغيت بالطبع قوانينه ايضاً، سواء كانت من "الحديد" او من الاسفنج، ولكن نضال لاسال ضد العمل المأجور يكاد يدور بوجه الحصر حول هذا القانون المزعوم. وعليه، من أجل البرهنة على ان زمرة لاسال هي الظافرة، ينبغي الغاء "نظام الاجرة" "مع قانون الاجر الحديدي"، لا بدونه.
ومن "قانون الاجور الجديدي" هذا، لا شيء، كما هو معروف، يخص لاسال، الاكلمة "الحديدي" المقتبسة من "القوانين الخالدة الحديدية الكبرى" التي قال بها غوته" هي بمثابة لصقة يتعارف بها المؤمنون الحقيقيون. ولكن، اذا قبلت القانون وعليه خاتم لاسال، وبالتالي، بالمعنى الذي يقصده لاسال لهذا القانون. فما هو هذا التعليل ؟ انه، كما اوضح لانغه، بعد وفاة لاسال، النظرية المالتوسية حول نمو السكان (التي يروج بها لانغه بالذات). ولكن، اذا كانت النظرية صحيحة، تعذر علي إطلاقاً الغاء "القانون الحديدي"، حتى ولو الغيت العمل المأجور مئة مرة، لان هذا القانون لا يشمل حينذاك نظام العمل المأجور وحسب، انما يشمل ايضاً كل نظام اجتماعي. وبالاستناد الى هذه النظرية على وجه الدقة، يحاول الاقتصاديون منذ خمسين سنة ونيف ان يثبتوا ان الاشتراكية لا يمكنها الغاء الفقر الموجود بحكم الطبيعة، انما تستطيع فقط ان تعممه، وتنشره على كل سطح المجتمع !
ولكن كل هذا ليس بالامر الرئيسي. فبصرف النظر اطلاقاً عن خظأ لاسال في فهم هذا القانون، يتجلى التراجع الذي يثير الاستياء حقاً فيما يلي.
منذ وفاة لاسال هذا المفهوم العلمي القائل ان اجرة العمل ليست ما تبدو عليه، أي قيمة (أو ثمن) العمل، بل هي فقط شكل مموه لقيمة (أو ثمن) قوة العمل. وهكذا رمي مرة واحدة في سلة المهملات بالمفهوم البرجوازي حول اجرة العمل، كما رمي في الوقت نفسه بكل الانتقاد الذي كان موجهاً ضد هذا المفهوم فيما مضى، وكان من الواضح والثابت انه غير مسموح للعامل الاجير بان يشتغل لتأمين معيشته بالذات، أي، ان يعيش، الاّ اذا اشتغل مجانا بعض الوقت للرأسمالي (وايضا لشركائه في ابتزاز القيمة الزائدة) ؛ وان المحور الذي يدور حوله كل نظام الانتاج الرأسمالي هو السعي الى زيادة العمل المجاني بإطالة يوم العمل او بزيادة انتاجية العمل، أي بالمزيد من الجهد الذي تبذله قوة العمل، الخ.. ؛ وان نظام العمل المأجور هو بالتالي نظام رق واستعباد، وهو في الحقيقة استعباد تشتد وطأته بقدر ما تتطور قوة العمل الاجتماعية المنتجة، مهما كانت عليه الاجرة التي يتقاضاها العامل، سواء كانت احسن ام اسوأ بعض الشيء. وبعد ما شرع هذا المفهوم العلمي ينتشر اكثر فأكثر في حزبنا، يعودون الى عقائد لااسال، في حين ينبغي لهم ان يعرفوا ان لااسال كان يجهل ما هي اجرة العمل، وكان، على غرار الاقتصاديين البرجوازيين، يعتبر مظهر الشيء انه الشيء بالذات.
فكأن يقوم العبيد بثورة بعد ان يدركوا سر عبوديتهم، ويعمد عبد غارق في لجة المفاهيم البنلية، ويسجل في برنامج الثورة : ينبغي الغاء العبودية لان اعالة العبيد لا يمكن ان تتجاوز في نظام العبودية حداً أعلى معيناً قليل الارتفاع !
ان مجرد كون ممثلي حزبنا قد استطاعوا ان يقترفوا مثل هدا العدوان الفظيع على المفهوم الشائع بين جماهير حزبنا، ليثبت باية خفة اجرامية واي انعدام في الوجدان عملوا في صياغة برنامج المساومة هذا !
فبدلا من الصيغة الغامضة التي تنتهي بها الفقرة : "القضاء على كل تفاوت اجتماعي وسياسي"، كان ينبغي القول انه مع الغاء الفوارق الطبقية، يزول من تلقاء مفسه كل تفاوت اجتماعي وسياسي ناجم عن هذه الفوارق.
III
"لأجل تمهيد السبيل الى حل المسألة الاجتماعية، يطالب حزب العمال الالماني بانشاء جمعيات للانتاج بمساعدة الدولة، وتحت رقابة الشعب الشغيل الديموقراطية. وينبغي استثارة نشوء جمعيات الانتاج في الصناعة والزراعة الى حد ان ينجم عنها التنظيم الاشتراكي للعمل الاجمالي".
بعد "قانون الاجور الحديدي" للاسال الاجتماعية" التي "تُمهِّد السبيل" من اجل "حلها" الدولة، لا العمال. ان لاسال وحده، بغروره وخياله، قادر على الاعتقاد انه من الممكن، بواسطة منح الدولة، بناء مجتمع جديد بنفس السهولة التي يبنى بها خط حديدي جديد !
وبدافع من بقايا حس الحياء يضعون "مساعدة الدولة"... تحت رقابة "الشعب الشغيل" الديموقراطية.
اولا، يتألف "الشعب الشغيل" باكثريته في المانيا من فلاحين لا من بروليتاريين.
ثانيا، تعني كلمة "ديموقراطي" بالالمانية "بواسطة حكم الشعب". وفي هذه الحال، ماذا تعني "رقابة الشعب الشغيل بواسطة حكم الشعب" ؟ وخصوصاً بالنسبة لشعب يتقدم من الدولة بمثل هذه المطالب، ويعترف بالتالي بانه لا يتسلم زمام الحكم ولم ينضج لتسلم زمام الحكم !
ومن نافل الكلام ان نتطرق هنا الى انتقاد الوصفة التي وصفها بوشه في عهد لويس فيليب على النقيض من الاشتـراكيين الفرنسيين والتــي تبناها عمــال "Atelier" الرجعيون. ولا تنحصر المصيبة الكبرى في وردود هذا العلاج العجائبي الخاص في البرنامج، بل في التراجع على العموم من مقهوم الحركة الطبقية الى مفهوم الحركة الانعزالية.
وعندما يسعى العمال الى توفير شروط الانتاج الجماعي على نطاق المجتمع بأسره، في بادىء الامر، على النطاق الوطني في بلادهم، فان هذا يعني فقط انهم يناضلون في سبيل اجراء انقلاب في شروط الانتاج الحالية ؛ فيما يتعلق بالجمعيات التعاونية الحالية، فانها لا تتسم باية قيمة الا بقدر ما تكون مؤسسات مستقلة، من صنع العمال انفسهم، ولا تتمتع لا بحماية الحكومات ولا بحماية البرجوازية.
IV
وانتقل الآن الى القسم الديموقراطي :
أ – "اساس حر للدولة".
اولا : وفقاً لما جاء في الفصل الثاني، يسعى الحزب الالماني الى تحقيق "الدولة الحرة".
الدولة الحرة – ولكن ما هي ؟
ان جعل تادولة حرة ليس مطلقاً هدف العمال الذين تحرروا من عقلية الخضوع والذل الضيقة المحدودة. فان "الدولة" في الامبراطورية الالمانية تكاد تكون "حرة" كما هي عليه في روسيا. ان الحرية هي في تحويل الدولة من جهاز فوق المجتمع الى جهاز خاضع بكليته لهذا المجتمع ؛ وحتى في ايامنا، تتفاوت اشكال الدولة حرية بقدر ما تحد من "حرية الدولة".
ان حزب العمال الالماني، - اذا تبنى هذا البرنامج على الاقل، - يكشف مدى النقص في استيعابه الاقكار الاشتراكية ؛ وهو، بدلا من ان يعتبر المجتمع الحالي (وهذا القول يصح بالنسبة لكل مجتمع مقبل ايضا) "اساس الحالية (أو المجتمع المقبل اساساً للدولة المقبلة)، يعتبر الدولة، على العكس، واقعاً مستقلاً له "اسسه الروحية والاخلاقية والحرة" الخاصة.
ثم أي سوء استعمال فظ في البرنامج لكلمات "الدولة الحالية"، وكذلك أي سوء فهم، اخشن ايضاً، لتلك الدولة التي يتقدم منها بمطالبه !
ان "المجتمع الحالي"، انما هو المجتمع الرأسمالي القائم في جميع البلدان المتمدنة وقد تطهر الى هذا الحد او ذاك من عناصر القرون الوسطى وعدلته الى هذا الحد او ذاك خصائص التطور التاريخي في كل بلد من البلدان، وتطور الى هذا الحد او ذاك. اما "الدولة الحالية"، فانها، على العكس، تتغير مع الحدود. فهي في الامراطورية البروسية الالمانية غيرها في سويسرا، وهي في انجلترا غيرها في الولايات المتحدة. "فالدولة الحالية" اذن مجرد وهم من الاوهام.
ومع ذلك فان مختلف الدول في مختلف البلدان المتمدنة تتصف جميعها بطابع مشترك، رغم تنوع اشكالها، هو انها تقوم في ارض المجتمع البرجوازي الحديث، المتطور رأسمالياً الى هذا الحد او ذاك. ولذا فانها تشترك ببعض الصفات الجوهرية. وبهذا المعنى يمكن الحديث عن "الدولة الحالية" خلافا لدولة المستقبل حيث يزول المجتمع البرجوازي الذي تنبثق منه الآن.
ثم يوضع السؤال التالي : أي تحول يطرأ على الدولة في المجتمع الشيوعي ظ وبتعبير آخر : اية وظائف اجتماعية مماثلة للوظائف الحالية للدولة تظل قائمة في المجتمع الشيوعي ؟ العلم وحده يستطيع الجواب عن هذا السؤال ؛ ولن ندفع القضية الى امام قيد شعرة ولو قرنا بالف طريقة كلمة "الشعب" بكلمة "الدولة".
بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولا ثورياً الى المجتمع الشيوعي. وتناسبها مرحلة انتقال سياسي لا يمكن ان تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا.
ولكن البرنامج لا يعالج قضية هذه الديكتاتورية ولا طبيعة الدولة المقبلة في المجتمع الشيوعي.
ان مطالب البرنامج السياسية لا تنطوي على غير الترداد الديموقراطي الذي يعرفه الجميع : الحق الانتخابي العام، التشريع المباشر، حقوق الشعب، تسليح الشعب، الخ.. وهي مجرد صدى لحزب الشعب البرجوازي، لعصبة السلام والحرية. وهذه كلها مطالب قد تحققت، بقدر ما لم يبالغ بها لحد الغرابة. الا ان الدولة التي حققتها لا تقوم في داخل حدود الامبراطورية الالمانية، بل في سويسرا، والولايات المتحدة، الخ.. ان هذا النوع من "دولة المستقبل"، انما هو دولة حالية، رغم انها تقوم خارج "نطاق" الامبراطورية الالمانية.
ولكنهم نسوا امراً واحداً. فيما ان حزب العمال الالماني يعلن بصراحة ووضوح انه يعمل في داخل "الدولة القومية الحالية" وبالتالي في داخل دولته الخاصة، الامبراطورية البروسية-الالمانية – وإلاكانت مطالبه، بمعظمها، خرقاء، اذ لا يطالب المرء الا بما هو ليس بحاصل عليه – لذن، كان عليه الا ينسى النقطة الرئيسية التالية، وهي ان جميع هذه الاشياء الجميلة تفترض الاعتراف بما يسمى سيادة الشعب، وانها لا تجد مكانها بالتالي الا في جمهورية ديموقراطية.
وبما انه لم يكن ليديهم الشجاعة الكافية – وحسنا فعلوا، لان الوضع يتطلب الحذر – للمطالبة بالجمهورية الديموقراطية كما فعل العمال الفرنسيون في برلمجهم في عهد لويس فيليب ولويس نابوليون، فقد كان عليهم اذ ذاك ايضاً ألا يلجؤوا الى هذه الحيلة، التي ليست "شريفة" ولا لائقة، أي الى المطالبة باشياء لا معنى لها الا في جمهورية ديموقراطية، وذلك من دولة ليست سوى استبداد عسكري، مصنوع بطريقة بيروقراطية ومحافظ عليه بطريقة بوليسية، مزين باشكال برلمانية، متسم بمجيز من العناصر الاقطاعية، وخاضع في الوقت نفسه للثأثيرات البرجوازية. وكان عليهم علاوة على ذلك الاّ يُقنعوا مثل هذه الدولة، بكل مهابة ورصانة، بأنهم يأملون الحصول منها على شيء مماثل "بوسائل شرعية" !
بل ان الديموقراطية المبتذلة، التي ترى فردوسها الارضي في الجمهورية الديموقراطية والتي لا تظن ان النضال الطبقي يجب ان يجد حلا له بقوة السلاح في ظل هذا الشكل الاخير للدولة في المجتمع البرجوازي، حتى هذه الديموقراطية بالذات اعلى بكثير من هذا الضرب من الديموقراطية المحصورة في نطاق ما يسمح به البوليس وما يحرمه المنطق.
فقد كان عليهم اذ ذاك ايضاً ألا يلجؤوا الى هذه الحيلة، التي ليست "شريفة" ولا لائقة، أي الى المطالبة باشياء لا معنى لها الا في جمهورية ديموقراطية، وذلك من دولة ليست سوى استبداد عسكري، مصنوع بطريقة بيروقراطية ومحافظ عليه بطريقة بوليسية، مزين باشكال برلمانية، متسم بمجيز من العناصر الاقطاعية، وخاضع في الوقت نفسه للثأثيرات البرجوازية. وكان عليهم علاوة على ذلك الاّ يُقنعوا مثل هذه الدولة، بكل مهابة ورصانة، بأنهم يأملون الحصول منها على شيء مماثل "بوسائل شرعية" !
بل ان الديموقراطية المبتذلة، التي ترى فردوسها الارضي في الجمهورية الديموقراطية والتي لا تظن ان النضال الطبقي يجب ان يجد حلا له بقوة السلاح في ظل هذا الشكل الاخير للدولة في المجتمع البرجوازي، حتى هذه الديموقراطية بالذات اعلى بكثير من هذا الضرب من الديموقراطية المحصورة في نطاق ما يسمح به البوليس وما يحرمه المنطق.
وبالفعل، سواء كان القصد من كلمة "الدولة" الآلة الحكومية ام الدولة بوصفها تشكل، بسبب تقسيم العمل، جهازاً خاصاً، منفصلاً عن المجتمع، فان ذلك واضح من الكلمات التالية : "ان حزب العمال الالماني يطالب بان يكون اساس الدولة الاقتصادي ضريبة موحدة تصاعدية على الدخل"، الخ.. فالضرائب هي الاساس الاقتصادي للآلة الحكومية، ولا أي شيء آخر. وهذا المطلب يكاد يكون محققاً في "دولة المستقبل" القائمة في سويسرا. فان ضريبة الدخل تفترض موارد للدخل تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية، أي انها تفترض بالتالي المجتمع الرأسمالي. فلا عجب اذن اذا كان دعاة الاصلاح المالي في ليفربول Financial Reformer de Liverpool – وهم جماعة من البرجوازيين على رأسهم اخو غلادستون – قد صارعوا نفس المطالب التي وردت في البرنامج.
ب- "ان حزب العمال الالماني يطالب بان يكون اساس الدولة الروحي والاخلاقي :
1- التربية الشعبية العامة والمتساوية للجميع بواسطة الدولة. الزامية التمدرس، مجانية التعليم".
التربية الشعبية المتساوية للجميع ؟ ماذا يقصدون بهذه الكلمات ؟ أيضنون ان التربية في المجتمع الحالي (ولا يقصد هنا الا هذا المجتمع) يمكن ان تكون متساوية بالنسبة لجميع الطبقات ؟ ام انهم يريدون اكراه الطبقات العليا بالقوة على ان تتلقى ايضاً هذه التربية المتواضعة، أي المدرسة الابتدائية، التي تتلاءم وحدها، لا مع اوضاع العمال الاجراء الاقتصادية وحسب، بل ايضاً مع اوضاع الفلاحين الاقتصادية ؟
"الزامية التمدرس، مجانية التعليم". ان الاول موجود حتى في المانيا، والثاني في سويسرا والولايات المتحدة فيما يتعلق بالمدارس الابتدائية. واذا كان التعليم في مؤسسات التعليم الثانوي في بعض الولايات من امريكا الشمالية "مجانا" ايضاً، فهذا يعني فعلا فقط ان الطبقات العليا تسدد نفقلت تربيتها من الضرائب النترتبة على الجميع. وعرضاً نقول ان الحال هي نفسها فيما يتعلق "بمجانية القضاء"، التي يطالب بها البند الخامس من الفصل أ. فالقضاء الجزائي في كل مكان ؛ اما القضاء المدني فان صلاحيته تشمل كلياً تقريباً النزاعات حول الملكية، وهو بالتالي يتعلق تماماً تقريبا بالطبقات المالكة. فهل نقترح عليها ان تلاحق قضاياها على حساب اموال الشعب ؟
ولقد كان يترتب على لبفقرة تامتعلقة بالمدارس ان تطالب على الاقل بانشاء المدارس التقنية (النظرية والتطبيقية) الى جانب المدارس الابتدائية.
ان"التربية الشعبية بواسطة الدولة" لأمرغير مقبول اطلاقاً. فان سن قانون عام يحدد نفقات المدارس الابتدائية، والكفاءات المطلوبة من رجال التعليم، والمواد المدرسّة، الخ.. ومراقبة تنفيذ هذه الاجراءات القانونية بواسطة مفتشي الدولة كما هو الحال عليه في الولايات المتحدة، انما هو أمر يختلف تماماً عن جعل الدولة مربية الشعب ! بل انه ينبغي، بالعكس، استبعاد المدرسة عن أي تأثير حكومي وديني. ويقيناً ان الدولة في الامبراطورية الالمانية-البروسية (ولا يلجأنّ احد الى هذا المهرب التافه بان الحديث يدور حول "دولة المستقبل" : فلقد رأينا ما يعني ذلك) هي التي تحتاج الى تربية قاسية جداً من قبل الشعب.
وفضلا عن ذلك، فان البرنامجكله، رغم كل قرقعته الديموقراطية، مشبع برمته بالايمان الذليل الذي تكنه الزمرة اللاسالية للدولة، او بالايمان بالعجائب الديموقراطية – وهذا الايمان الاخير ليس خيرا من الاول – او انه بالاحرى عبارة عن شيء وسط بين هذين النوعين من الايمان بالعجائب، وكل منهما غريب عن الاشتراكية نفس الغرابة.
"حرية العلم" – هكذا جاء في احدى فقرات الدستور البروسي. فلماذا اذن نراها هنا ؟
"حرية الاعتقاد" ! اذا كان يُراد بهذا ايام Kulturkamph ("النضال من اجل الثقافة")14 هذه، تذكير الليبيراليين بشعاراتهم القديمة، فلم يكن بالامكان تحقيق هذه الرغبة الا على النحو التالي : " ينبغي ان يكون في وسع كل امرىء ان يلبي حاجاته الدينية والجسدية على السواء دون ان يحشر البوليس انفه في الموضوع." ولكنه كان على الحزب ان ينتهز هذه الفرصة ويعرب عن اقتناعه بان "حرية الاعتقاد" البرجوازية لا تعني بالفعل سوى التساهل بجميع الانواع الممكنة من "حرية المعتقد الديني" وان يعلن انه بالعكس يسعى جاهدا الى تحرير الضنائر من الاوهام والخرافات الدينية. ولكن بعضهم عندنا يمتنع عن تجاوز المستوى "البرجوازي".
ها انا على وشك ان ابلغ النهاية، لان الملحق المرفق بالبرنامج لا يشكل جزءاً جوهرياً منه. ولذا اكتفي هنا بملاحظات وجيزة.
2- "يوم العمل الطبيعي".
ان حزب العمال، في بلد من البلدان، لم يقتصر على طلب غامض كهذا الطلب، انما عين دائماً بدقة ليوم العمل مدة يعتبرها طبيعية، بالنظر الى الاحوال المعينة.
3- "الحد [limitation] من عمل النساء ومنع عمل الاولاد".
ان تحديد يوم العمل يفترض سلفاً الحد [limitation] من عمل النساء، باعتبار انه يتناول مدة يوم العمل، وفترات الراحة، الخ.. والا، فان هذا التحديد لن يلعني الا منع عمل النساء في الفروع الصناعية التي تضر خاصة بصحتهن او التي تفسد اخلاقهن من حيث انهن نساء. فاذا كان ذلك هو المقصود، فقد كان ينبغي قوله.
"منع عمل الاطفال" ! كان من الضروري اطلاقاً تحديد العمر.
فان منع عمل الاطفال منعا تاماً لايتفق مع وجود الصناعة الكبيرة، وهو بالتالي مجرد رغبة سادجة لا شأن لها.
وتحقيق هذا المطلب – اذا كان ممكنا – يكون عملا رجعياً اذ انه في حال تأمين تحديد لمدة العمل حسب الاعمار وغير ذلك من التدابير لحماية الاطفال، يكون تنسيق العمل المنتج مع التعليم في مرحلة العمر المبكرة وسيلة من اقوى الوسائل لتحويل المجتمع الحالي.
4- "رقابة الدولة على العمل في المصانع والاوراش والبيوت".
لما كان المطلب يتعلق بالدولة البروسية-الالمانية، فقد كان ينبغي ان يطلب بكل دقة ووضوح ان تكون اقالة المفتشين في المصانع من صلاحية المحاكم وحدها، وان يستطيع كل عامل مقاضاتهم امام المحاكم لتخلفهم عن القيام بواجباتهم ؛ وان ينتقوا من الهيئة الطبية.
5- "تنظيم العمل في السجون".
انه لمطلب زهيد في برنامج عمالي عام. وفي مطلق الاحوال، كان ينبغي القول بوضوح ان العمال لا يريدون ان يسمح بمعاملة مجرمي الحق العام معاملة المواشي، وخشية من مزاحمتهم، ولا سيما ان يحرموهم من الوسيلة الوحيدة لصلاحهم، أي العمل المنتج. ويقيناً ان هذا اقل ما كان يمكن توقعه من الاشتراكيين.
6- "قانون فعال حول المسؤولية".
كان ينبغي القول ما هو المقصود بقانون "فعال" حول المسؤولية
ملاحضة عابرة : في الفقرة عن يوم العمل الطبيعي، نسي القسم من تشريع المصانع الذي بتعلق بالانظمة الصحية، والتدابير الواجب اتخادها لتجنب الطوارىء، الخ.. فان القانون حول المسؤولية يصبح ساري المفعول ما ان تخالف هذه الاحكام.
وبكلمة، ان هذه الاضافة سيئة الصيغة ايضاً.
Dixi et salvavi animam meam.
[قلت وخلصت ضميري]
كارل ماركس
كتب باللغة الالمانية
في ابريل - مطلع ماي 1875
نشر مع بعض الاقتطاعات في
Die Neue Zeit Bd. 1
no. 18, 1890-1891.
رسالة15 فريدريك انجلس الى بيبل
لندن، 18-28 مارس 1875
عزيزي بيبل !
تلقيت رسالتك المؤزخة في 23 فبراير وقد سررت جداً لانك في صحة وعافية.
تسألني رأينا في كل حكاية التوحيد هذه، ولكن نصيبنا منها، لسوء الحظ، هو كنصيبك تماماً.فلا ليبكنخت ولا أي كان ابلغنا أي شيء، ولذا فنحن ايضاً لا نعرف الا ما تقيدنا الصحف ولكنها قبل نشر المشروع، منذ ثمانية ايام، لم تنشر شيئا وبالطبع اثار هذا المشروع بالع دهشتنا
فان حزبنا غالبا ما مد يده الى اللاساليين وعرض عليهم المصالحة او على الاقل التعاون، وغالباً ما صده بوقاحة هازينكليفر وهاسلمان وتولكه ومن لف لفهم الى حد ان أي طفل كان بوسعه ان يستنتج انه اذا كان هؤلاء السادة يأتون الينا عاؤضين المصالحة، فلأنهم واقعون في مأزق. وبما ان طابع هؤلاء الجماعة اصبح معروفا جيداً، فانه من واجبنا ان نستغل المأزق الذي آلوا اليه، لكي نحصل على جميع الضمانات الممكنة بصورة يستحيل معها عللى هؤلاء السادة ان يعززوا من جديد مواقعهم المتزعزعة في عيون العمال على حساب حزبنا. ولذا كان ينبغي ان نستقبلهم باشد ما يكون من البرودة والحذر، وان نعلق قضية التوحيد على درجة الاستعداد التي يبدونها للتخلي عن شعاراتهم الانعزالية وعن "مساعدة الدولة"، ولقبول برنامج أيزيناخ لعام 1869 بخطوطه الاساسية او لقبول طبعة جديدة من هذا البرنامج محسنة ومنطبقة على الوضع الراهن. فمن الناحية النظرية، أي فيما يتعلق بما هو حاسم بالنسبة للبرنامج، ليس حزبنا اطلاقاً ما يتعلمه من اللاساليين ؛ اما اللاساليون فمن المفيد لهم، طبعاً، ان يتعلموا من حزبنا. فالشرط الاول للتوحيد كان ان يكفوا عن ان يكونوا انعزاليين، أي لاساليين ؛ وهذا يعني انه ينبغي عليهم، إن لم يتخلوا تماما عن هذا الترياق الشافي الوافي الذي يسمونه مساعدة الدولة، ان يعتبروه على الاقل تدبيرا انتقائياً وثانوياً، بين كثير من غيره من التدابير الممكنة. ان مشروع البرنامج يثبت ان اصحابنا متفقون كثيرا على قادة اللاساليين من الناحية النظرية، ولكنهم بالمقابل، ليسوا اطلاقاً في مستواهم من حيث حبك الحيل السياسية. وهكذا فان "الشرفاء" [الايزيناخيين] قد تلقوا هذه المرة ايضا درساً قاسياً من غير الشرفاء.
اولاً، اقر هذا البرنامج جملة لاسال الطنانة، ولكنها الخاطئة تاريخياً، القائلة بأنه ازاء الطبقة العاملة، لا تشكل جميع الطبقات الاخرى سوى كتلة رجعية واحدة. ان هذه الومضوعة غير صحيحة الا في بعض الحالات الاستثنائية، مثلا، في حال ثورة بروليتارية ككمونة باريس، او في بلد ليست البرجوازية وحدها التي كيفت الدولة والمجتمع على صورتها ومثالها، بل حيث جاءت البرجوازية الصغيرة الديموقراطية بعدها وانهت هذا التحويل حتى نتائجه الاخيرة. فاذا كانت البرجوازية الصغيرة الديموقراطية، في المانيا مثلا، من عداد هذه الكتلة الرجعية الواحدة، فكيف استطاع حزب العمال الاشتراكي-الديموقراطي ان يسير طوال سنوات، يداً بيد معها، مع حزب الشعب ؟ وكيف استطاعت صحيفة Volksstaat ان تستمد كل محتواها السياسي تقريبا من صحيفة Frankfurter Zeitung ("جريدة فرانكفورت")16 البرجوازية الصغيرة الديموقراطية ؟ وكيف حدث ان سبعة من مطالب هذا البرنامج بالذات ظهرت منطبقة، كلمة كلمة، مع برنامج حزب الشعب والديموقراطية البرجوازية الصغيرة ؟ اني اقصد بهذه المطالب المطالب السياسية السبعة المرقمة من 1 الى 5 ومن 1 الى 2، والتي ليس بينها مطلب غير برجوازي ديموقراطي17.
ثانياً، ان مبدأ اممية الحركة العمالية هو، فعلا، مبدأ مرفوض تماماً في الوقت الحاضر، مبدأ ينكره اناس كانوا، طوال سنوات وفي اصعب الاحوال، يطبقون هذا المبدأ باروع ما يكون. ان كون العمال الالمان يسيرون اليوم على رأس الحركة الاوروبية انما يرتكز قبل كا شيء على الموقف الاممي حقاً الذي وقفوه ابان الحرب18 ؛ وليس ثمة بروليتاريا اخرى كان بوسعها ان تسلك مثل هذا السلوك القويم. والآن، وقد اصبح العمال في البلدان الاجنبية يتمسكون في كل مكان بهذا المبدأ بنفس الحزم والقوة اللذين تسعى الحكومات بهما الى كبت كل محاولة لتحقيقه في منظمة من المنظمات، يقترح عليهم الآن ان يتخلوا عنه في هذا الوقت بالذات ! وما عساه ان يبقى اذن من اممية الحركة العمالية ؟ لن يبقى حتى ذلك الامل الضعيف بتعاون مقبل بين عمال اوروبا في النضال من اجل تحررهم، لن يبقى على الاكثر سوى ذلك الأمل الضعيف "بتآخي الشعوب العالمي" في المستقبل، و"بالولايات المتحدة الاوروبية" التي يقول بها برجوازيو عصبة السلام !
وبديهي انه لم يكن من الضروري التحدث عن الاممية بوصفها منظمة. ولكنه كان ينبغي على الاقل عدم التراجع عن برنامج 1869 والقول بهذا الصدد على النحو التالي تقريباً : بالرغم من ان حزب العمال الالماني يعملقبل كل شيء ضمن حدود الدولة (فليس من حقه ان يتحدث باسم البروليتاريا الاوروبية، وليس من حقه بالاحرى ان يدلي بآراء خاطئة)، فانه يدرك، مع ذلك، تضامنه مع عمال جميع البلدان وسيكون مستعداً على الدوام لأن ينفذ في المستقبل ايضاً، كما نفذ حتى الآن، الواجبات المترتبة عن هذا التضامن. ومثل هذه الواجبات موجودة حتى ولو لم يعلن الحزب نفسه عضواً في الاممية او يقل عن نفسه انه منتسب اليها. وهذه الواجبات هي مثلا تقديم المعونة ومنع كسر الاضرابات، واتخاد التدابير اللازمة لكي تطلع هيئات الحزب العمال الالمان على احوال الحركة في الخارج، والتحريض ضد الحروب التي يثيرها الملوك او قد يثيرونها، والتزام موقف ابان هذه الحروب كموقف العمال الالمان في 1870 و1871، الذي اصبح قدوة يقتدى بها، الخ..
ثالثاً، لقد سمح اصحابنا بان يفرض عليهم اللاساليون "قانون الاجور الحديدي" الذي يرتكز على مفهوم في الاقتصاد السياسي ولى عهده تماماً، ونعني به ذلك المفهوم القائل ان العامل لا يتلقى، بوجه عام، سوى الحد الادنى من الاجرة وذلك بالضبط لأن ثمة دائماً فيضاً من العمال، حسب النظرية المالتوسية لنمو السكان (وتلك كانت حجة لاسال). لكن ماركس قد اثبت بالتفصيل في "رأس المال" ان القوانين التي تحدد الاجور معقدة كثيراً وان هذا القانون او ذاك هو الذي يسود حسب الظروف، وان هذه القوانين ليست حديدية اطلاقاً بل هي على العكس مطاطية جداً، وانه يستحيل بوجه عام حل هذه المسألة ببضع كلمات كما يتصور لاسال. ان المبررات المالتوسية للقانون الذي نقله لاسال عن مالتوس وريكاردو (مع تحريف ريكاردو)، كما وردت، مثلا، في الصفحة 5 من "كتاب القراءة للعمال"، وهي مأخودة من كراس آخر للاسال، انما دحضها ماركس بالتفصيل في فصل "تراكم الرأسمال". وهكذا فانهم بتبني "القانون الحديدي" الذي قال به لاسال، انما تبنوا فكرة خاطئة ومبررات خاطئة.
رابعاً، ان المطلب الاجتماعي الوحيد الوارد في البرنامج هو مساعدة الدولة التي قال بها لاسال، وقد ورد بأقل الاشكال تيسراً وكما سرقة لاسال عن بوشه. وهذا بعدما اثبت براكه بروعة كل تفاهة هذا المطلب19، بعدما اضطر جميع خطباء حزبنا تقريبا او جميعهم بالضبط الى محاربة "مساعدة الدولة" هذه في غمرة نضالهم ضد اللاساليين ! حقاً، لم يكن بوسع حزبنا ان يحقر نفسه اكثر مما فعل. لقد هبط بالاممية الى مستوى اماند غوغ، وبالاشتراكية الى مستوى الجمهورية الربجوازية الي قال بوشه الذي كان يعارض الاشتراكيين بهذا المطلب قصد محاربتهم !
وفي احسن الاحوال، ليست "مساعدة الدولة"، بالمعنى الذي يقصده لاسال، سوى تدبير في جملة غيره من التدابير، من اجل بلوغ الهدف الذي تعنيه هنا، في مشروع البرنامج، الكلمات العرجاء التالية : "تمهيد السبيل الى حل المسألة الاجتماعية" كأنما لا تزال ثمة، بالنسبة الينا، وفي المجال النظري، مسألة اجتماعية لم تحل ! ولذا، عندما يقال : "ان حزب العمال الالماني يرمي الى الغاءالعمل المأجور، وبالتالي الى محو الفوارق الطبقية، وذلك بتنظيم الانتاج الجماعي في الصناعة والزراعة وفي عموم البلاد وانه يؤيد كل تدبير من شأنه ان يسهم في بلوغ هذا الهدف"، - فلن يكون بمستطاع أي لاسالي ان يعارض هذا القول بوجه من الوجوه.
خامساً، ليس ثمة اية اشارة الى تنظيم الطبقة العاملة، بوصفها طبقة، عن طريق النقابات. وتلك نقطة جوهرية بالغة، اذ أن هذه بالضبط منظمة طبقية حقيقية للبروليتاريا تخوض البروليتاريا في صفوفها نضالاتها اليومية ضد الرأسمال، وتكون لها بمثابة مدرسة، منظمة لا تستطيع خنقها اية رجعية مهما بلغت قساوتها (كما هي الحال الآن في باريس). وبالنظر الى الاهمية التي تتخدها هذه المنظمة ايضاً في المانيا، نرى من الضروري اطلاقاً التنويه بها في البرنامج ومنحها مكاناً في تنظيم الحزب بقدر الامكان.
ذلك ما فعله اصحابنا ارضاءً للاساليين. ولكن عما تنازل هؤلاء ؟ ان حاصل هذا التنازل هو انه يبرز في البرنامج عدد كبير من المطالب الديموقراطية الصرف المشوشة جداً والتي قسم منها لمجرد انه على الموضة، "كالتشريع الشعبي" القائم، مثلا، في سويسرا، والذي شرّه في هذا البلد اكثر من خيره، هذا اذا كان له أي تأثير بوجه عام. ولو انهم قالوا : "ادارة بواسطة الشعب" لكان لكلامهم معنى. ثم انه ليس ثمة اية اشارة الى الشرط الاول لكل حرية ونعني به ان يكون كل موظف مسؤولا عن كل اعماله الرسمية ازاء كل مواطن امام المحاكم العادية وطبقاً للقانون العام. ولن اسهب في القول بان مطالب كحرية التعليم وحرية الاعتقاد ترد في كل برنامج ليبيرالي برجوازي وانها تبدو هنا غريبة نوعاً.
ان الدولة الشعبية الحرة قد تحولت الى دولة حرة. والحال، ان الدولة الحرة، بمعنى هاتين الكلمتين النحوي، هي دولة حرة ازاء مواطنيها، وبالتالي دولة تقوم فيها حكومة استبدادية. ولذا ينبغي الاقلاع عن كل هذه الثرثرة حول الدولة، ولا سيما بعد كومونة باريس التي لم تكن دولة، بمعنى الكلمة الاصلي. فلطالما انتقدنا الفوضويون بصدد "الدولة الشعبية"، رغم ان مؤلف ماركس20 ضد برودون ثم "البيان الشيوعي" قد اوضحا صراحة ان الدولة ستنحل من تلقاء نفسها sich auflöst وتزول عند اقامة النظام الاجتماعي الاشتراكي. وبما ان الدولة ليست سوى منظمة مؤقتة تستخدم في النضال، في الثورة من اجل تحطيم الاعداء بالعنف، فان من الخرق والتناقض القول بدولة شعبية حرة. وما دامت البروليتاريا تحتاج الى الدولة، فانها لا تحتاج اليها من اجل الحرية، بل لقمع اعدائها، وما ان يصبح بالامكان التحدث عن الحرية حتى تزول الدولة بوصفها دولة. ولذا نقترح لاستعاضة في كل مكلن عن كلمة "الدولة" بكلمة "المشاعة" Gemeinwesen وهي كلمة المانية قديمة ملائمة تعادل كلمة Commune(كومونة) الفرنسية.
ان استعمال تعبير "القضاء على كل تفاوت اجتماعي وسياسي" بدلا من تعبير "الغاء جميع الفوارق الطبقية" يفسح المجال للتساؤل والشك. فبين بلد وآخر، وبين واقليم وآخر، وحتى بين محلة وأخرى سيظل ابداً بعضالتفاوت في ظروف المعيشة، تفاوت قد يمكن تخفيفه الى الحد الادنى ولمكنه لن يمكن ابداً ازالته تماماً. فان سكان جبال الالب، ستختلف دائماً ظروف معيشتهم عن ظروف معيشة سكان السهول. ان التفكير بان المجتمع الاشتراكي يعني سيادة المساواة انما هو تفكير فرنسي وحيد الجانب، يرتكز على شعار "الحرية، المساواة، الاخاء" القديم، وكان له ما يبرره في زمانه ومكانه، لأنه كان يستجيب لدرجة معينة من التطور، ولكنه ينبغي الآن تجاوزه، شأنه شأن كل المفاهيم الوحيدة الجانب التي قالت بها المدارس الاشتراكية السابقة، لأنه لا يؤدي الا الى التشويش ولأنه توجد الآن اساليب ادق لبسط هذه المسألة.
سأتوقف عن البحث، رغم ان كل كلمة تقريباً في هذا البرنامج، المكتوب علاوة على ذلك بلغة ركيكة، تفسح المجال للانتقاد. ولقد صيغ بنحو لن نوافق معه اطلاقاً، ماركس وأنا، في حال اقراره، على ان ننتسب الى الحزب الجديد، القائم على هذا الاساس، فنضطر الى التفكير جدياً بالموقف الذي نتخده منه (وعلناً ايضاً). حذ علماً انهم في الخارج، يجعلوننا نحن مسؤولين عن جميع اقوال واعمال حزب العمال الاشتراكي-الديموقراطي الالماني. فهذا ما فعله باكونين مثلاً في مؤلفه "الدولة والفوضى" حيث جعلنا مسؤولين عن كل كلمة طائشة قالها او كتبها ليبكنخت منذ تأسيس صحيفة Demokratisches Wochenblatt ("الجريدة الاسبوعية الديموقراطية،")21. ان الناس يتصورون اننا نمسك من هنا بكل خيوط الحركة، في حين انك تعلم مثلي اننا لم نتدخل قط تقريباً في شؤون الحزب الداخلية، واننا اذا كنا تدخلنا، فقد كان ذلك لمجرد ان نصلح بقدر الامكان ما كنا نعتبره اخطاء، الاخطاء النظرية فقط. انك سترى بنفسك ان هذا البرنامج هو نقطة انعطاف قد تحملنا بكل سهولة على ان نرفع عن انفسنا كل مسؤولية عن الحزب الذي اقرّ هذا البرنامج.
ان البرنامج الرسمي لحزب من الاحزاب يتسم على وجه العموم، باهمية اقل مما تتسم به اعماله. ولكن البرنامج الجديد هو دائماً بمثابة راية ترفع امام انظار الجميع، وعلى اساسها يرى العالم الخارجي الى الحزب. ولذا ينبغي في مطلق للاحوال الا يكون البرنامج خطوة الى الوراء. اما مشروع البرنامج هذا فهو بالضبط خطوة الى الوراء بالنسبة لبرنامج ايزيناخ. وكان ينبغي التفكير فيما سيقوله عن هذا البرنامج عمال البلدان الاخرى وفي التأثير الذي سيحدثه استسلام البروليتاريا الاشتراكية الالمانية برمتها الاساليين.
وفضلا عن ذلك، انا مقتنع بأن توحيداً على مثل هذا الاساس لن يدوم سنة واحدة. فهل يقبل خيرة رجال حزبنا بأن يرردوا في خطبهم جمل لااسال حول قانون الاجور الحديدي ومساعدة الدولة، تلك الجمل التي حفظوها عن ظهر قلب ؟ اني اود لو اراك انت، مثلا، منصرفا الى هذا العمل ! واذا ما فعلوا ذلك، فان سامعيهم سيصفرون لهم. والحال، اني على ثقة بأن اللاساليين يصرون، بالدقة، على هذه النقاط من البرنامج كما كان المرابي شيلوك يصر على رطله من اللحم البشري. ان الانشقاق آت، ولكننا نكون قد جعلنا هاسلمان وهازينكليفر وتولكه ومن لف لفهم في اعداد "الشرفاء" من جديد ؛ وسنخرج من الانشقاق اضعف مما مضى ويخرج اللاساليون اقوى ؛ وسيفقد حزبنا نقاوته السياسية، ولن يستطيع ابداً ان يناضل بتفان ضد جمل لاسال، فانه لم يسهم فيه الا بمطالب الديموقراطية البرجوازية الصغيرة، التي وصفها هو بالذات في نفس البرنامج بأنها جزء من "الكتلة الرجعية".
لقد اجلت ارسال هذه الرسالة لك، لاني كنت اعلم انه لن يخلى سبيلك الا في ابريل، على شرف عيد ميلاد بيسمارك، ولم اشأ ان اجازف بها واعرّضها للمصادرة اثناء محاولة تهريبها لك. ولكني تلقيت للتو رسالة من براكهيعرب فيها، هو ايضاً، عن شكوكه الكبيرة بصدد البرنامج ويريد ان يعرف رأينا في الموضوع. وبقصد التعجيل، ارسل هذه الرسالة اليه، لكي يقرأها هو ولكي لا اضطر الى تكرير كل الحكاية. واضيف قائلاً اني كتبت صراحة ايضاً الى رامّ. اما ليبكنخت، فقد كتبت له بايجاز. واني لا استطيع ان اغفر له عدم كتابته لنا اية كلمة عن كل الحكاية قبل ان بفوت الاوان نوعاً (في حين ان رامّ وغيره كانوا يعتقدون انه ابلغنا). ولكن ليست تلك هي المرة الاولى التي يتصرف فيها على هذا النحو، والدليل على ذلك الرسائل العديدة المزعجة التي تبادلناها معه – ماركس وانا - غير انه تجاوز الحدود هذه المرة، وعليه فاننا نرفض السير معه في هذه الطريق رفضاً قاطعاً.
اما انت، فحاول ان تدبر الامور بصورة تستطيع معها المجيء الى هنا في هذا الصيف. وستحل، بالطبع، ضيفا عليّ، واذا ما سمح لنا الطقس، مضينا لقضاء بضعة ايام على شاطىء البحر، ولا شك انك ستستفيد من هذه الراحة بعد ان
كارل ماركس و فريدريك انجلس / الصفحة الرئيسية
مقدمة لفريدريك انجلس1
ان المخطوطة التي تطبع في هذا الكراس، - سواء الرسالة الى براكه او نقد مشروع البرنامج - قد ارسلت الى براكه في عام 1875 ، قبيل انعقاد مؤتمر غوتا التوحيدي2، لكي يعرضها بدوره على غيب وآوير وبيبلوليبكنخت ثم يعيدها الى ماركس. ولما كانت مناقشة برنامج غوتا واردة في جدول اعمال مؤتمر الحزب في هاله3، فاني اعتقد اني اقترف جريمة اذا ما تماهلت زمناً آخر ايضاً بنشر هذه الوثيقة الهامة ، والتي ربما تكون اهم الوثائق التي تتعلق بهذه المناقشة.
ولكن للمخطوطة شأناً آخر ايضاً، واكبر بكثير. فللمرة الاولى نجد فيها الموقف الذي اتخده ماركس ازاء الخطة التي تبناها لاسال منذ بداية نشاطه التحريضي ، نجده معروضاً بوضوح ودقة، شاملاً في آن مبادىء لاسال الاقتصادية وتكتيكه.
فان الصرامة القاطعة التي حلل بها ماركس مشروع البرنامج، والتصلب الذي اورد فيه استنتاجاته، ونقاط الضعف التي كشفها وعرّاها في المشروع ، كل ذلك لو يعد بالامكان ان يجرح اليوم احداً ، بعد مضي خمسة عشر عاماً . فلم يبق من اللاساليين الاصليين الا في الخارج، بصورة انقاض منفردة ، بل ان واضعي برنامج غوتا قد تخلوا عنه في هاله باعتباره غير مرض اطلاقاً.
ورغم ذلك، حذفت، حيث لا يهم الحذف، التعابير والتقديرات القاسية المتعلقة ببعض الشخصيات، واستعضت عنها بنقط. ان ماركس كان فعل الشيء نفسه لو انه نشر مخطوطته اليوم. فان عنف اللهجة الذي نجده فيها احياناً انما نجم عن اعتبارين. الاول، هو اننا كنا، ماركس وانا، ملتحمين في الحركة الالمانية اكثر مما في اية اخرى، فكان لابد للتراجع البين في مشروع البرنامج من ان يبعث فينا بالغ الاشمئزاز. اما الاعتبار الثاني، قهو اننا كنا حينذاك، وما كادت تمضي سنتان على مؤتمر الاممية في لاهاي4، في ذروة المعركة ضد باكونين واتباعه من الفوضويين الذين كانوا يعتبروننا مسؤولين عن كل ما يجري في صفوف الحركة العمالية في المانيا ؛ ولذا كان لابد لنا ان نتوقع ان تنسب الينا ابوة هذا البرنامج السرية. ولكن هذين الاعتبارين قد بطلا اليوم ، كما بطلت في الوقت نفسه ضرورة المقاطع المذكورة آنفاً.
وفضلا عن ذلك ، ثمة جمل استعيض عنها بالنقط ، لاسباب تتعلق برقابة الصحافة. وحيث ترتب علي ان اختار تعبيراً ألطف، وضعته بين معقفين. وما عدا هذا، طبعت المخطوطة بنصها الحرفي.
فريدريك أنجلس
لندن، 6 يناير 1891
نشرت في مجلة "Die Neue Zeit"
(الازمنة الحديثة)
رسالة كارل ماركس الى براكه
لندن، 5 ماي 1875
عزيزي براكه !
بعد مطالعة الملاحظات الانتقادية الواردة ادناه بخصوص البرنامج التوحيدي، تفضل بارسالها الى غيب وآوير وبيبل وليبكنخت للاطلاع عليها. ان لدي من الشغل لما فوق رأسي فأراني مضطراً لأن اتخطى بعيداً حدود وقت العمل الذي يسمح لي به الاطباء. ولذا لم اجد "لذة" خاصة في خربشة هذه الكمية البالغة من الورق. ولكن هذا كان ضرورياً لكي لا يستطيع الاصدقاء الحزبيون الذين حررت من اجلهم هذه الملاحظات ان يفسروا فيما بعد تفسيراً خاطئاً التدابير التي سيترتب علىّ ان اتخدها من جانبي. – اقصد بذلك بياناً موجزاً سننشره انجلس ولنا بعد المؤتمر التوحيدي ونعلن فيه انه لا علاقة لنا اطلاقاً ولا صلة بهذا البرنامج المبدئي المشار اليه.
وهذا المسعى ضروري لأنه تروج في الخارج اشاعة كاذبة تماماً يغذيها اعداء الحزب بامعان وتزعم اننا نوجه من هنا، سرّاً، حركة الحزب المسمى بحزب ايزيناخ5. فان باكونين، مثلاً، قد نشر لأمد قريب كتاباً باللغة الروسيى6 جعلني فيه مسؤولاً، لا عن كل برنامج هذا الحزب وغير ذلك من وثائقه فحسب، بل ايضاً عن كل خطوة خطاها ليبكنخت منذ بداية تعاونه مع حزب الشعب7.
وما عدا ذلك، لا يسمح لي واجبي بان اعترف، وان بصمت ديبلوماسي، ببرنامج انا مقتنع بانه غير صالح اطلاقاً وبانه يهدم من معنويات الحزب.
ان كل خطوة تخطوها الحركة الفعلية لأهم من دزينة من البرامج. ولذا، اذا كان قد تبين انه من المستحيل تجاوز برنامج ايزيناخ – والظروف لم تكن تسمح بذلك – فقد كان من المترتب عقد اتفاق، على الاقل، من اجل العمل ضد العدو المشترك. ولكنهم، اذ عمدوا الى وضع برامج مبدئية (بدلا من تأجيل هذا الامر الى مرحلة يحضره فيها نشاط مشترك اطول)، يقيمون بالتالي امام العالم كله صوى يحكم الناس بالاستناد اليها على المستوى الذي بلغته حركة الحزب.
لقد جاء زعماء اللاساليين الينا بدافع الظروف. فلو قيل لهم منذ البدء بانه لن يقدم احد على اية مساومة حول المبادىء، لكان ترتب عليهم طبعاً الاكتفاء ببرنامج عمل او ببرنامج تنظيم بغية القيام بعمل مشترك. ولكن بدلا من هذا يسمحون لهم بان يأتوا مسلحين بتفويضات ويعترفون بمفعولها الالزامي، وهكذا يستسلمون ويضعون انفسهم تحت رحمة اناس هم انفسهم بحاجة الى المساعدة. وزيادة في الطين بلة، عقد هؤلاء مؤتمرهم قبل المؤتمر التوفيقي في حين عقد الحزب بالذات مؤتمره post festum*.
. ومن الجلي انه كان ثمة سعي الى درء أي انتقاد والى منع الحزب بالذات من الفكير في المسألة. ومعلوم ان واقع الاتحاد بالذات يرضي العمال، ولكنهم يخطئون اولئك الذين يعتقدون ان هذا النجاح العابر لا يكلف غالياً جداً.
وفضلا عن ذلك، فان البرنامج لا قيمة له، حتى ولو لم نأخذ بعين الاعتبار انه يضفي صفة القداسة على قوانين الايمان اللاسالية.
وفي القريب العاجل، سارسل لك الكراريس الاخيرة من الطبعة الفرنسية ل"رأس المال". وقد تأخر طبعها زمناً طويلاً بسبب من منع الحكومة الفرنسية. ان الكتاب سيكون جاهزاً في هذا الاسبوع او في مطلع الاسبوع القادم. فهل تلقيت الكراريس الستة الاولى ؟ ارجوك ايضاً ان ترسل لي عنوان برهارد بيكر الذي يتعين عليّ ان ارسل له ايضاً هذه الكراريس الاخيرة.
ان لدار الطبع"Volksstaat" عاداتها الخاصة. فاني لم استلم مثلا حتى الآن اية نسخة من الطبعة الجديدة لكتاب "محاكمة الشيوعيين في كولونيا"**.
مع اطيب تمنياتي
المخلص كارل ماركس
ملاحظات على برنامج
حزب العمال الالماني
1- "العمل مصدر كل ثروة وكل ثقافة، ولما كان العمل المفيد غير ممكن الا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فان دخل العمل يخص بشكله غير المنقوص، وبالحق المتساوي، جميع اعضاء المجتمع".
القسم اول من هذه الفقرة : "العمل مصدر كل ثروة وكل ثقافة".
ان العمل ليس مصدر كل ثروة. فالطبيعة هي مصدر القيم الاستعمالية (التي هي بالضبط تؤلف الثروة المادية !) بقدر ما هو عليه العمل الذي ليس هو نفسه سوى ظاهرة لقوة من قوى الطبيعة أي لقوة عمل الانسان. وهذه الجملة الواردة اعلاه تعثرون عليها في جميع كتب الالفباء، ولا تصح الا بقدر ما تعني ان العمل يجري عند توافر الاشياء والادوات المناسبة. ولكنه لا يجوز لبرنامج اشتراكي ان يحتوي مثل هذه التعابير والجمل البرجوازية التي تلزم الصمت حول الشروط التي وحدها تستطيع ان تعطيها معنى. فان عمل الانسان لن يصبح مصدر القيم الاستعمالية، وبالتالي مصدر الثروة، الا شرط ان يسلك، منذ البدء، سلوط المالك ازاء الطبيعة، ازاء هذا المصدر الاول لجميع وسائل العمل ومواد العمل، شرط ان يعاملها كأنها شيء يخصه. ان للبرجوازيين اسبابا وجيهة جدا لكي ينسبوا الى العمل هذه القوة الخلاقة الفائقة الطبيعة ؛ اذ ينجم من كون العمل مشروطا بالطبيعة، ان الانسان الذي لا يملك غير قوة عمله، يصبح بالضرورة، مهما كانت احواله الاجتماعية والثقافية، عبد الذين وضعوا ايديهم على شروط العمل المادية. فلا يستطيع ان يعمل، وبالتالي ان يعيش، الا باذن هؤلاء.
ولكن لندع الآن هذه الجملة كما وردت ومهما كانت عيوبها. فاي استنتاج يمكن ان نتوقعه ؟ طبعاً، الاستنتاج التالي :
لما كان العمل مصدر كل ثروة، فما من انسان في المجتمع يستطيع ان يستاتر بالثروة بدون الاستئثار بنتاج العمل. فاذا كان هذا الانسان لا يشتغل بنفسه، فانه يعيش على حساب عمل الآخرين، بل انه يكسب ثقافته ايضاً على حساب عمل الآخرين".
وبدلا من هذا الاستنتاج، يضيفون الى الجملة الاولى جملة ثانية بواسطة التعبير "ولما"، لكي يستخلصوا من الثانية، لا من الاولى، استنتاجاً.
القسم الثاني من الفقرة : "العمل المفيد غير ممكن الا في تامجتمع وبواسطة المجتمع".
وفقاً للموضوعة الاولى، كان العمل مصدر كل ثروة وكل ثقافة، وبالتالي لا يمكن ان يكون ثمة مجتمع دون عمل. ولكن، ها نحن نعتم بالعكس ان العمل "المفيد" غير ممكن بدون المجتمع.
وعلى هذا المنوال، يمكن القول ايضاً ان في المجتمع فقط يمكن للعمل غير المفيد، وحتى الضار اجتماعياً، ان يصبح فرعا من فروع الصناعة، وان في المجتمع فقط للمرء ان يعيش بدون عمل، الخ.، الخ.. – أي انه، بكلمة موجزة، يمكن استنساخ كل روسو.
وما هو العمل "المفيد" ؟ انه ليس العمل الذي يعطي النتيجة المفيدة المرغوب فيها. فالانسان المتوحش – وقد كان الانسان متوحشاً بعد ان كف عن يكون قرداً – الذي يقتل حيواناً بضربة حجر، او يقطف الثمر، الخ.، انما يقوم بعمل "مفيد".
ثالثا. الاستنتاج : "ولما كان العمل المفيد غير ممكن الا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فان دخل العمل يخص بشكله غير المنقوص، وبالحق المتساوي، جميع اعضاء المجتمع".
فيا له من استنتاج ظريف ! فاذا كان العمل المفيد غير ممكن الا في المجتمع وبواسطة المجتمع، فان دخل العمل يخص المجتمع، ولا يعود الى الشغيل بمفرده من هذا الدخل الا شيء يزيد عما لا غنى عنه لبقاء المجتمع بوصفه "شرط" العمل.
وبالفعل، كان المدافعون عن كل نظام اجتماعي قائم يتقدمون في جميع الازمان بهذه الموضوعة. اولا، ترد ادعاءات الحكومة، مع كل ما ياتصق بها، لأن الحكومة، كما يقال، هي جهاز المجتمع للمحافظة على النظام الاجتماعي ؛ ثم ترد ادعاءات شتى انواع الملكية الخاصة، لأن شتى انواع الملكية الخاصة هي كلها، كما يقال، اساس المجتمع، الخ.. وهكذا نرى ان جميع هذه الجمل الفارغة يمكن قلبها وتفسيرها حسب الرغبة.
ولن يكون ثمة أي ترابط منطقي بين القسم الاول والقسم الثاني من هذه الفقرة الا اذا وضعناها كما يلي :
"ان العمل لا يكون مصدراً للثروة والثقافة الا اذا كان عملا اجتماعياً"، او، بتعبير آخر يؤدي المعنى نفسه، "في المجتمع وبواسطة المجتمع".
ان هذه الموضوعة صحيحة لا جدال فيها لأن العمل المنفرد (هذا اذا افترضنا وجود شروطه المادية)، اذا كان يستطيع ان يخلق قيماً استعمالية، انما لا يستطيع ان يخلق لا الثروة ولا الثقافة.
ولكن الموضوعة الاخرى صحيحة ايضاً ولا جدال فيها :
"وبقدر ما يتطور العمل تطوراً اجتماعياً ويغدو بالتالي مصدراً للثروة والثقافة، بقدر ما يشتد الفقر والاملاق عند العامل، وتتعاظم الثروة والثقافة عند غير العامل".
ذلك هو قانون التاريع برمته حتى الآن. فبدلا من الجمل والتعابير العامة حول "العمل" و"المجتمع"، كان ينبغي اذن ان يوضع هنا بدقة كيف تكوّنت في نهاية الامر، في ظل المجتمع الرأسمالي الحالي، الشروط المادية وغيرها من الشروط التي تجعل العمال قادين على دك هذه اللعنة الاجتماعية وتدفغهم الى تحطيمها.
ولكن كل هذه الفقرة، غير الموفقة شكلا والخاطئة اساساً، لم ترد هنا الا لكي يستطاع كتابة الصيغة اللاسالية "دخل العمل غير المنقوص"، كاول شعار على راية الحزب. وسأعود فيما بعد الى "دخل العمل" و"الحق المتساوي"، الخ..، لأن الشيء نفسه يتكرر فيما بعد على نحو مختلف نوعاً.
2- "ان وسائل العمل في المجتمع الحالي هي احتكار الطبقة الرأسمالية. وتبعية الطبقة العاملة، الناجمة عن هذا الوضع، هي سبب البؤس والاستبداد بكل اشكالهما".
ان هذه الفقرة، المقتبسة من نظام الاممية الداخلي، خاطئة بهذه الصيغة "المحسنة".
فان وسائل العمل في المجتمع الحالي هي احتكار الملاكين العقاريين (بل ان احتكار الملكية العقارية هو ساس الاحتكار الراسمالي) و". ان اضافة كلمتي "مصادر الحياة" تبين كفاية ان الارض هي فب عداد وسائل العمل.
وقد اجري هذا التحسين لأن لاسال، لاسباب غدت معروفة اليوم لدى الجميع، كان يهاجم الطبقة الراسمالية وحدها، دون الملاكين العقاريين. ففي انجلترا، لايكون الرأسمالي، عادة، مالكا حتى للارض التي يقوم عليها مصنعه.
3- "ان تحرير العمل يتطلب رفع وسائل العمل الى مستوى ملكية المجتمع باسره، وضبط العمل الاجمالي بصورة جماعية مع توزيع دخل العمل توزيعا عادلاً".
"ان رفع وسائل العمل الى مستوى ملكية المجتمع باسره" (!) يعني على ما يبدو "تحويلها الى ملكية للمجتمع باسره"، ونقول هذا عرضاً.
ما المقصود ب"دخل العمل ؟" أهو نتاج العمل ام قيمته ؟ فاذا عنيت قيمته، فهل قيمة النتاج الاجمالية او فقط القسم من البقية الذي اضافه العمل الى قيمة وسائل الانتاج المستهلكة ؟
ان "دخل العمل" عبارة عن فكرة غامضة كان لاسال يتخدها بدلا من مفاهيم اقتصادية واضحة.
وما هو "التوزيع العادل" ؟
الا يدّعي البرجوازيون ان التوزيع الحالي "عادل" ؟ وبالفغل، اليس التوزيع الحالي التوزيع "العادل" الوحيد على اساس اسلوب الانتاج الحالي ؟ وهل العلاقات الاقتصادية تنظمها المفاهيم الحقوقية ام الامر على العكس، أي ان العلاقات الحقوقية هي التي تنبثق من العلاقات الاقصادية ؟ ثم، ألا يتبنى اصحاب الشيع الاشتراكية المختلفة، اكثر الآراء تبايناً حول هذا التوزيع "العادل" ؟
فلكي ندرك ما هو المقصود هنا بهاتين الكلمتين : التوزيع "العادل"، ينبغي لنا ان نقارن الفقرة الاولى بالفقرة الثالثة. فالفقرة الثالثة تفترض مجتمعاً "تكون قيه وساءل العمل ملكية المجتمع بأسره، ويضبط فيه العمل الاجمالي بصورة جماعية"، بينما تقول لنا الفقرة الاولى "ان دخل العمل بخص بكليته وبالحق المتساوي، جنيع اعضاء المجتمع".
"جميع اعضاء المجتمع" ؟ حتى اولئك الذين لا يشتغلون ؟ واذ ذاك، اين هو "دخل العمل غير المنقوص" ؟ مجرد اعضاء المجتمع الذين يشتغلون ؟ فاين هو اذن "الحق المتساوي" بين جميع اعضاء المجتمع ؟
ولكن "جميع اعضاء المجتمع" و"الحق المتساوي" ليسا سوى مجرد جملتين. اما الجوهر، فقوامه انه ينبغي في هذا المجتمع الشيوعي ان ينال كل شغيل، كما يقول لاسال، "دخل العمل غير المنقوص".
فاذا اخدنا اولا كلمتي "دخل العمل" بمعنى نتاج العمل، فان دخل العمل الجماعي يعني حينذاك النتاج الاجتماعي الاجمالي.
والآن، ينبغي ان نقتطع منه :
اولاً، ما نستعيض به عن وسائل الانتاج المستهلكة ؛
ثانياً، قسماً اضافياً لتوسيع الانتاج ؛
ثالتاً، اموالا للاحتياط او للتأمين ضد الطوارىء، والكوارث الطبيعية، الخ..
ان هذه الاقتطاعات من "دخل العمل غير المنقوص" تحتمها الضرورة الاقتصادية، وتتحدد مقاديرها وفقاً للوسائل والقوى المتوافرة، وجزئياً بموجب حساب الاتفاق ؛ ولكنها في مطلق الاحوال لا يمكن تحديدها على اساس العدالة.
يبقى القسم الآخر من النتاج الاجمالي، وهو القسم المعد للاستهلاك.
ولكن قبل الشروع بتوزيعه على الافراد منه ايضاً :
اولا، النفقات الادراية العامة، التي لا علاقة مباشرة لها بالانتاج.
ان هذا الجزء سيهبط فوراً هبوطاً ملحوظاً بالقياس الى قدره في المجتمع الحالي، وسيقل بقدر ما يتطور المجتمع الجديد.
ثانياً، ما هو معذّ لتلبية حاجيات المجتمع المشتركة، من مدارس، ومؤسسات صحية، الخ..
ان هذا الجزء سيزداد فوراً زيادة كبيرة بالقياس الى قدره في المجتمع الحالي، وسينمو بقدر ما يتطور المجتمع الجديد.
ثالثاً، الاموال الضرورية لإغاثة العاجزين عن العمل، الخ.، أي، بكلمة موجزة، ما يعود الى ما يسمى اليوم باغاثة الفقراء الرسمية.
وبعد ذلك فقط، نصل الى ذلك "التوزيع" الذي لا يعني البرنامج الا اياه، تحت تأثير لاسال، وبصورة ضيقة، محدودة، أي الى هذا القسم من اشياء الاستهلاك الذي يوزع بصورة افرادية بين منتجي المجتمع
وهكذا تحوّل "دخل العمل غير المنقوص" بصورة غير محسوسة الى "دخل منقوص"، رغم ان ما يؤخذ من المنتج، بوصفه فرداً، انما يعود عليه بالنفع من جديد، مباشرة ام بصورة غير مباشرة، بوصفه عضواً في المجتمع.
وكما ان تعبير "دخل العمل النتقوص" قد ذاب واختفى، كذلك يذوب ويختفي تعبير "دخل العمل" بوجه عام.
في مجتمع قائم على المبادىء الجماعية، قائم على الملكية العامة لوسائل الانتاج، لا يتبادل المنتجون منتجاتهم ؛ ان العمل المبذول على المنتجات لا يظهر في هذا النظام الاجتماعي على انه قيمة هذه المنتجات، على انه صفة مادية تنطوي عليها المنتجات، اذ انه خلافاً لما يجري في المجتمع الرأسمالي، يغدو عمل الفرد بصورة مباشرة، لا بصورة غير مباشرة، جزءاً لا يتجزأ من عمل المجتمع. وهكذا، ان تعبير "دخل العمل"، الذي لا يصمد للنقد حتى في ايامنا هذه بسبب ابهامه، يفقد كل معنى.
ان ما نواجهه هنا، انما هو مجتمع شيوعي لا كما تطور على اسسه الخاصة بل بالعكس، كما يخرج لتوه من المجتمع الرأسمالي، أي مجتمع لا يزال، من جميع النواحي، الاقتصادية والاخلاقية والفكرية، يحمل سمات المجتمع القديم الذي خرج من احشائه. فالمنتج يتلقى اذن بصورة فردية –بعد جميع الاقتطاعات- ما يوازي تماماً ما قدمه للمجتمع. وما قدمه للمجتمع، انما هو نصيبه الفردي من العمل. مثلا، ان يوم العمل الاجتماعي يمثل مجمل ساعات العمل الفردية ؛ ووقت العمل الفردي الذي بذله كل منتج هو النصيب الذي قدمه من يوم العمل الاجتماعي، هو القسط الذي اسهم به في هذا العمل. وهو يتلقى من المجتمع سنداً يثبت انه قدّم قدراً معيناً من العمل (بعد اقتطاعات العمل المبذول من اجل الصناديق الاجتماعية) وبهذا السند، يأخذ من المخزون الاجتماعي كمية من اشياء الاستهلاك تناسب قدر عمله. وهطذا فان نفس النصيب من العمل الذي قدمه للمجتمع بشكل معين، انما يتلقاه من المجتمع بشكل آخر.
ومن الواضح اننا نواجه هنا نفس المبدأ الذي ينظم تبادل البضائع طالما انه تبادل قيم متساوية. ان المحتوى والشكل يتغيران لأنه، نظراً لتغير الاحوال، لا يستطيع احد ان يقدّم شيئاً غير عمله، هذا من جهة، ولأنه، من جهة اخرى، لا يمكن لغير اشياء الاستهلاك الفردي ان يدخل في ملكية الفرد. اما فيما يتعلق بتوزيع هذه الاشياء بين المنتجين بصورة فردية، فان المبدأ الموجه هو نفس المبدأ الذي يسود فيما يتعلق بتبادل البضائع المتعادلة : فان قدراً معيناً من العمل بشكل ما يبادل لقاء نفس القدر من العمل بشكل آخر.
وهكذا فان الحق المتساوي يظل هنا، من حيث المبدأ، الحق البرجوازي، رغم ان المبدأ والتطبيق العملي يكفان عن التناقض هنا، في حين ان تبادل القيم المتعادلة لا يبقى في ظل تبادل البضائع الا بصورة وسطية، لا في كل من الحالات.
ورغم هذا التقدم، يظل هذا الحق المتساوي محصوراً من ناحية واحدة ضمن حدود برجوازية. فان حق المنتج يتناسب مع العمل الذي بذله ؛ والمساواة تتجلى هنا في اتخاذ العمل وحدة مشتركة للقياس.
ولكن، رب فرد يتفوّق جسدياً او فكرياً على فرد آخر، فهو اذن يقدّم، خلال القت نفسه، قدراً اكبر من العمل او انه يستطيع ان يعمل وقتاً أطول ؛ ولكن يكون العمل مقياساً، ينبغي ان يتحدد بمدته او شدّته، والا كفّ عن ان يكون وحدة للقياس. ان هذا الحق المتساوي هو حق غير متساو لقاء عمل غير متساو ؛ فهو لا يقر باي امتياز طبقيلأن كل انسان ليس سوى شغيل كغيره ؛ ولكنه يقرّ ضمناً بعدم المساواة في الملكات الفردية، وبالثالي في الكفاءات الانتاجية بوصفها امتيازات طبيعية. فهو اذن، من حيث المحتوى، حق قائم على عدم المساواة، ككل حق. فالحق، بحكم طبيعته، لا يمكن ان يتجلى الاّ في استعمال نفس الوحدة القياسية ؛ ولكن الافراد غير المتساوين (ولن يكونوا افراداً متمايزين اذا لم يكونوا غير متساوين) لا يمكن قياسهم وفقاً لوحدة مشتركة الا بقدر ما يرى اليهم من وجهة النظر نفسها، الا بقدر ما يرى اليهم من زاوية معينة، واحدة، مثلا، في الحالة المعينة، حيث لا يرى اليهم الا بوصفهم عمالا، لا اكثر، وبصورة مستقلة عن كل الباقي. وبعد : رب عامل متزوج، والآخر عازب ؛ ورب رجل عنده من الاولاد اكثر من رجل آخر ؛ الخ.. وهكذا، لقاء العمل المتساوي، وبالتالي مع الاستفادة المتساوية من الصندوق الاجتماعي للاستهلاك، يتلقى احدهم بالفعل اكثر من الآخر، ويظهر اغنى منه، الخ.. ولإجتناب كل هذا، لا ينبغي ان يكون الحق متساوياً، بل ينبغي ان يكون غير متساو.
ولكنها تلك عيوب محتومة لا مناص منها في الطور الاول من المجتمع الشيوعي كما يخرج من المجتمع الرأسمالي بعد مخاض طويل وعسير.فالحق لا يمكن ابداً ان يكون في مستوى اعلى من النظام الاقتصادي ومن درجة التمدن الثقافي التي تناسب هذا النظام.
وفي الطور الاعلى من المجتمع الشيوعي، بعد ان يزول خضوع الافراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي ؛ وحين يصبح العمل، لا وسيلة للعيش وحسب، بل الحاجة الاولى للحياة ايضاً ؛ وحين تتنامى القوى المنتجة مع تطور الافراد في جميع النواحي، وحين تتدفق جميع ينابيع الثروة العامة بفيض وغزارة، -حينذاك فقط، يصبح بالامكان تجاوز الافق الضيق للحق البرجوازي تجاوزاً تاماً، ويصبح بامكان المجتمع ان يسجل على رايته : من كل حسب كفاءاته، ولكل حسب حاجاته !
لقد توسعت بخاصة حول "دخل العمل غير المنقوص" من جهة، وكذلك حول "الحق المتساوي" و"التوزيع العادل"، من جهة اخرى، لكي ابين اية جريمة كبيرة ترتكب، من جهة، حين يراد من جديد ان تفرض على حزبنا، كعقائد جامدة، مفاهيم كان اها بعض المعنى في مرحلة معينة، ولكنها لم تبق اليوم سوى عبارات مطروقة باطلة، ومن جهة اخرى، حين يراد تشويه النظرة الواقعية التي كلفت جهوداً طائلة لبثها في صفوف الحزب، ولكنها التي رسخت فيه عميقا اليوم، وذلك بواسطة مفاهيم حقوقية خرقاء وغير ذلك من الاضاليل الشائعة بين الديمقراطيين وبين الاشتراكيين الفرنسيين.
وبصرف النظر عما قيل آنفاً، كان من الخطأ على وجه العموم ان يجعل مما يسمى التوزيع الامر الاساسي وان يصار الى ابرازه.
فان توزيع اشياء الاستهلاك، في كل عصر وطور، ليس سوى نتيجة لتوزيع شروط الانتاج نفسها. ولكن توزيع هذه الاخيرة يعبر عن طابع اسلوب الانتاج بالذات.
فان اسلوب الانتاج الرأسمالي، مثلاً، يرتكز على كون شروط الانتاج المادية بشكل ملكية الرأسمال وملكية الارض، تقع في ايدي غير الشغيلة بينما سواد الناس لا يملكون سوى الشرط الشخصي للامناج – قوة العمل. واذا كانت عناصر الانتاج موزعة على هذا النحو، فان التوزيع الحالي لاشياء الاستهلاك ينبع منه تلقائاً. فاذا غدت شروط الانتاج المادية ملكية عامة للعمال انفسهم، تغير توزيع اشياء الاستهلاك عما هو عليه الآن. ان الاشتراكية المبتذلة (ومن خلالها ايضاً قسماً من الديمقراطية) قد اقتبست من الاقتصاديين البرجوازيين عادة اعتبار التوزيع وبحثه بوصفه امراً مستقلاً عن اسلوب الانتاج، وعادة تصوير الاشتراكية بالتالي كأنها تدور في الاساس حول قضايا التوزيع. ولكن حين تكون العلاقات الفعلية قد اتضحت منذ زمن بعيد. فما الفائدة من العودة الى الوراء ؟
4- "ان تحرير العمل ينبغي ان يكون من صنع الطبقة العاملة التي لا تشكل جميع الطبقات الاخرى ازاءها سوى كتلة رجعية واحدة".
ان الجملة الاولى مستقاة من مقدمة نظام الاممية الداخلي، ولكنها واردة بصيغة "محسنة". فان هذه المقدمة تقول : "ان تحرير الطبقة العاملة ينبغي ان يكون من صنع العمال انفسهم"، ولكن "الطبقة العاملة"، هنا، ترى، ماذا عليها ان تحرر ؟ - "العمل". فافهم اذا كنت قادراً على الفهم.
وبالمقابل، يتحفوننا بجملة اضافية موصولة، مستقاة من اعمق ينابيع لاسال : "(الطبقة العاملة) التي لا تشكل جميع الطبقات الاخرى ازاءها سوى كتلة رجعية واحدة".
لقد جاء في "البيان الشيوعي" قوله : "ليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن امام البرجوازية وجهاً لوجه الا طبقة واحدة ثورية حقاً، هي البروليتاريا. فان جميع الطبقات الاخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، اما البروليتاريا فهي، على العكس من ذلك، اخص منتجات هذه الصناعة".
وهكذا يرى في هذا المقطع الى البرجوازية – بوصفها عامل الصناعة الكبيرة – على انها طبقة ثورية بالنسبة للاقطلعيين والفئات المتوسطة، الذين يرغبون في الحفاظ لانفسهم على جميع المراكز الاجتماعية الباقية عن اساليب الانتاج البالية. فالاقطاعيون والفئات المتوسطة لا يشكلون اذن مع البرجوازية كتلة رجعية واحدة.
ومن جهة اخرى، نرى ان البروليتاريا ثورية بالنسبة للبرجوازية’ لأنها، وهي التي نشأت ونمت وترعرعت على اساس الصناعة الكبيرة. تقصد ان تنزع عن الانتاج هذا الطابع الرأسمالي الذي تحاول البرجوازية تخليده. ولكن "البيان الشيوعي" يضيف قائلاً : ان "الفئات المتوسطة" تغدو ثورية "اذ ينتظرها السقوط الى صفوف البروليتاريا".
ومن وجهة النظر هذه، كان خطل الرأي ان يقال عن الفئات المتوسطة انها "تشكل مع البرجوازية"، ومع الاقطاعيين ايضاً، "كتلة رجعية واحدة" بالنسبة للطبقة العاملة.
فابان الانتخابات الاخيرة، ترى، هل قيل للحرفيين وصغار الصناعيين، الخ..، والفلاحين : "انكم لا تشكلون مع البرجوازيين والاقطاعيين سوى كتلة رجعية واحدة بالنسبة الينا" ؟
لقد كان لاسال يعرف "البيان الشيوعي" عن ظهر قلب، كما ان اتباعه الامناء يعرفون الكتابات المقدسة التي دبجها هو بنفسه . فاذا كان قد زوّر "البيان الشيوعي" بمثل هذه الفظاظة، فانه شاء فقط ان يبرر تحالفه مع الاخصام الاقطاعيين والمستبدين ضد البرجوازية.
وفضلا عن ذلك، تبدو الحكمة اللاسالية الواردة في الفقرة المذكورة آنفاً، كأنها ملصوقة لصقا، ولا تمت باية صلة الى الاستشهاد "المحسن" بشكل اخرق من نظام الاممية الداخلي. وهكذا نجد انفسنا هنا امام وقاحة، ووقاحة، في الحقيقة، لا تزعج السيد بيسمارك ابداً، امام فظاظة من هذه الفظاظات الرخيصة التي اشتهر بها مارا برلين9.
5- "ان الطبقة العاملة تعمل على تحرير نفسها اولا في نطاق الدولة القومية الحالية، وهي على علم تام بان النتيجة الضرورية لجهودها التي يشاركها بها عمال جميع البلدان المتمدنة، ستكون تآخي الشعوب العالمي".
خلافا "البيان الشيوعي" ولكل الاشتراكية السابقة، كان لاسال قد رأى الى الحركة العمالية من اضيق وجهات النظر القومية. وها هم يقتفون خطواته في هذا الميدان، وذلك بعد ما قامت به الاممية من اعمال !
وغني عن البيان تماماً انه ينبغي للطبقة العاملة، لكي تستطيع النضال على وجه العموم، ان تنتظم حيثما هي بوصفها طبقة، وان بلادها بالذات هي الميدان المباشر لنضالها. ولهذا كان نضالها الطبقي قومياً، لا من حيث المحتوى، بل، كما يقول "البيان الشيوعي"، "من حيث الشكل". ولكن "نطاق الدولة القومية الحالية"، مثلا، نطاق الامبراطورية الالمانية، يدخل ايضاً بدوره، اقتصادياً "في نطاق السوق العالمية"، وسياسياً "في نطاق نظام الدول". فان اول تاجر تصادفه يعرف ان التجارة الالمانية هي في الوقت نفسه تجارة خارجية، وان عظمة السيد بيسمارك تكمن على وجه الدقة في انتهاجه نوعاً معيناً من السياسة الدولية.
وعلام يقصر حزب العمال الالماني امميته ؟ على ادراك ان نتيجة جهوده ستكون "تآخي الشعوب العالمي". وتلك جملة مقتبسة عن عصبة السلام والحــرية10 البرجوازية، ويقصد منها ان تعني شيئاً يساوي التآخي العالمي بين الطبقات العاملة في البلدان المختلفة في نضالها المشترك ضد الطبقات السائدة وحكوماتها. ولكننا لا نجد كلمة واحدة عن المهمات الاممية للطبقة العاملة الالمانية ! وهذا كل ما يقترحونه على الطبقة العاملة الالمانية لمعارضة برجوازيتها الخاصة التي تآخت ضدها مع برجوازية جميع البلدان الاخرى ولمعارضة سياسة السيد بيسمارك القائمة على التآمر الدولي !
وبالفعل، ان نزعة البرنامج الاممية ادنى الى ما لا حد له، من النزعة الاممية التي يتصف بها حزب التجارة الحرة. قان هذا الحزب ايضا يزعم ان نتيجة عمله ستكون "تآخي الشعوب العالمي". ولكنه على الاقل يعمل شيئاً ما لجعل التجارة عالمية، ولا يكتفي ابدا بأن يعرف ان كل شعب يتعاطى التجارة في بلاده.
ان نشاط الطبقة العاملة في مختلف البلدان لا يتوقف، في حال من الاحوال، على وجود "جمعية الشغيلة العالمية". فان هذه المنظمة كانت فقط اول محاولة لتزويد هذا العمل بجهاز مركزي، محاولة كانت لها نتائج لا تمحى بسبب من الاندفاع الذي بثته، ولكنه لم يبق من الممكن القيام بها، بشكلها التاريخي الاول، بعد سقوط كمونة باريس11.
لقد كانت صحيفة بيسمارك، "Norddeutsche"، على تمام الحق حين اعلنت، لما فيه رضى صاحبها، ان حزب العمال الالماني قد جحد النزعة الاممية في برنامجه الجديد12.
II
"وانطلاقا من هذه المبادىء، يسعى حزب العمال الالماني جهده، بجميع الوسائل المشروعة، الى تاسيس الدولة الحرة - و - المجتمع الاشتراكي ؛ الى الغاء نظام الاجرة مع قانون الاجور الحديدي - و - الى محو الاستثمار بجميع اشكاله ؛ الى القضاء على كل تفاوت اجتماعي وسياسي".
سأعود فيما بعد الى لحديث عن الدولة "الحرة".
وهكذا اذن، ينبغي على حزب العمال الالماني ان يؤمن، من الآن فصاعدا، "بقانون" لاسال "الحديدي" ! ولأجل ايجاد مكان له في البرنامج، يتحدثون بسخافة عن "الغاء نظام الاجرة" (وكان ينبغي القول : نظام العمل المأجور) مع "قانون الاجور الحديدي. فاذا الغيت العمل المأجور الغيت بالطبع قوانينه ايضاً، سواء كانت من "الحديد" او من الاسفنج، ولكن نضال لاسال ضد العمل المأجور يكاد يدور بوجه الحصر حول هذا القانون المزعوم. وعليه، من أجل البرهنة على ان زمرة لاسال هي الظافرة، ينبغي الغاء "نظام الاجرة" "مع قانون الاجر الحديدي"، لا بدونه.
ومن "قانون الاجور الجديدي" هذا، لا شيء، كما هو معروف، يخص لاسال، الاكلمة "الحديدي" المقتبسة من "القوانين الخالدة الحديدية الكبرى" التي قال بها غوته" هي بمثابة لصقة يتعارف بها المؤمنون الحقيقيون. ولكن، اذا قبلت القانون وعليه خاتم لاسال، وبالتالي، بالمعنى الذي يقصده لاسال لهذا القانون. فما هو هذا التعليل ؟ انه، كما اوضح لانغه، بعد وفاة لاسال، النظرية المالتوسية حول نمو السكان (التي يروج بها لانغه بالذات). ولكن، اذا كانت النظرية صحيحة، تعذر علي إطلاقاً الغاء "القانون الحديدي"، حتى ولو الغيت العمل المأجور مئة مرة، لان هذا القانون لا يشمل حينذاك نظام العمل المأجور وحسب، انما يشمل ايضاً كل نظام اجتماعي. وبالاستناد الى هذه النظرية على وجه الدقة، يحاول الاقتصاديون منذ خمسين سنة ونيف ان يثبتوا ان الاشتراكية لا يمكنها الغاء الفقر الموجود بحكم الطبيعة، انما تستطيع فقط ان تعممه، وتنشره على كل سطح المجتمع !
ولكن كل هذا ليس بالامر الرئيسي. فبصرف النظر اطلاقاً عن خظأ لاسال في فهم هذا القانون، يتجلى التراجع الذي يثير الاستياء حقاً فيما يلي.
منذ وفاة لاسال هذا المفهوم العلمي القائل ان اجرة العمل ليست ما تبدو عليه، أي قيمة (أو ثمن) العمل، بل هي فقط شكل مموه لقيمة (أو ثمن) قوة العمل. وهكذا رمي مرة واحدة في سلة المهملات بالمفهوم البرجوازي حول اجرة العمل، كما رمي في الوقت نفسه بكل الانتقاد الذي كان موجهاً ضد هذا المفهوم فيما مضى، وكان من الواضح والثابت انه غير مسموح للعامل الاجير بان يشتغل لتأمين معيشته بالذات، أي، ان يعيش، الاّ اذا اشتغل مجانا بعض الوقت للرأسمالي (وايضا لشركائه في ابتزاز القيمة الزائدة) ؛ وان المحور الذي يدور حوله كل نظام الانتاج الرأسمالي هو السعي الى زيادة العمل المجاني بإطالة يوم العمل او بزيادة انتاجية العمل، أي بالمزيد من الجهد الذي تبذله قوة العمل، الخ.. ؛ وان نظام العمل المأجور هو بالتالي نظام رق واستعباد، وهو في الحقيقة استعباد تشتد وطأته بقدر ما تتطور قوة العمل الاجتماعية المنتجة، مهما كانت عليه الاجرة التي يتقاضاها العامل، سواء كانت احسن ام اسوأ بعض الشيء. وبعد ما شرع هذا المفهوم العلمي ينتشر اكثر فأكثر في حزبنا، يعودون الى عقائد لااسال، في حين ينبغي لهم ان يعرفوا ان لااسال كان يجهل ما هي اجرة العمل، وكان، على غرار الاقتصاديين البرجوازيين، يعتبر مظهر الشيء انه الشيء بالذات.
فكأن يقوم العبيد بثورة بعد ان يدركوا سر عبوديتهم، ويعمد عبد غارق في لجة المفاهيم البنلية، ويسجل في برنامج الثورة : ينبغي الغاء العبودية لان اعالة العبيد لا يمكن ان تتجاوز في نظام العبودية حداً أعلى معيناً قليل الارتفاع !
ان مجرد كون ممثلي حزبنا قد استطاعوا ان يقترفوا مثل هدا العدوان الفظيع على المفهوم الشائع بين جماهير حزبنا، ليثبت باية خفة اجرامية واي انعدام في الوجدان عملوا في صياغة برنامج المساومة هذا !
فبدلا من الصيغة الغامضة التي تنتهي بها الفقرة : "القضاء على كل تفاوت اجتماعي وسياسي"، كان ينبغي القول انه مع الغاء الفوارق الطبقية، يزول من تلقاء مفسه كل تفاوت اجتماعي وسياسي ناجم عن هذه الفوارق.
III
"لأجل تمهيد السبيل الى حل المسألة الاجتماعية، يطالب حزب العمال الالماني بانشاء جمعيات للانتاج بمساعدة الدولة، وتحت رقابة الشعب الشغيل الديموقراطية. وينبغي استثارة نشوء جمعيات الانتاج في الصناعة والزراعة الى حد ان ينجم عنها التنظيم الاشتراكي للعمل الاجمالي".
بعد "قانون الاجور الحديدي" للاسال الاجتماعية" التي "تُمهِّد السبيل" من اجل "حلها" الدولة، لا العمال. ان لاسال وحده، بغروره وخياله، قادر على الاعتقاد انه من الممكن، بواسطة منح الدولة، بناء مجتمع جديد بنفس السهولة التي يبنى بها خط حديدي جديد !
وبدافع من بقايا حس الحياء يضعون "مساعدة الدولة"... تحت رقابة "الشعب الشغيل" الديموقراطية.
اولا، يتألف "الشعب الشغيل" باكثريته في المانيا من فلاحين لا من بروليتاريين.
ثانيا، تعني كلمة "ديموقراطي" بالالمانية "بواسطة حكم الشعب". وفي هذه الحال، ماذا تعني "رقابة الشعب الشغيل بواسطة حكم الشعب" ؟ وخصوصاً بالنسبة لشعب يتقدم من الدولة بمثل هذه المطالب، ويعترف بالتالي بانه لا يتسلم زمام الحكم ولم ينضج لتسلم زمام الحكم !
ومن نافل الكلام ان نتطرق هنا الى انتقاد الوصفة التي وصفها بوشه في عهد لويس فيليب على النقيض من الاشتـراكيين الفرنسيين والتــي تبناها عمــال "Atelier" الرجعيون. ولا تنحصر المصيبة الكبرى في وردود هذا العلاج العجائبي الخاص في البرنامج، بل في التراجع على العموم من مقهوم الحركة الطبقية الى مفهوم الحركة الانعزالية.
وعندما يسعى العمال الى توفير شروط الانتاج الجماعي على نطاق المجتمع بأسره، في بادىء الامر، على النطاق الوطني في بلادهم، فان هذا يعني فقط انهم يناضلون في سبيل اجراء انقلاب في شروط الانتاج الحالية ؛ فيما يتعلق بالجمعيات التعاونية الحالية، فانها لا تتسم باية قيمة الا بقدر ما تكون مؤسسات مستقلة، من صنع العمال انفسهم، ولا تتمتع لا بحماية الحكومات ولا بحماية البرجوازية.
IV
وانتقل الآن الى القسم الديموقراطي :
أ – "اساس حر للدولة".
اولا : وفقاً لما جاء في الفصل الثاني، يسعى الحزب الالماني الى تحقيق "الدولة الحرة".
الدولة الحرة – ولكن ما هي ؟
ان جعل تادولة حرة ليس مطلقاً هدف العمال الذين تحرروا من عقلية الخضوع والذل الضيقة المحدودة. فان "الدولة" في الامبراطورية الالمانية تكاد تكون "حرة" كما هي عليه في روسيا. ان الحرية هي في تحويل الدولة من جهاز فوق المجتمع الى جهاز خاضع بكليته لهذا المجتمع ؛ وحتى في ايامنا، تتفاوت اشكال الدولة حرية بقدر ما تحد من "حرية الدولة".
ان حزب العمال الالماني، - اذا تبنى هذا البرنامج على الاقل، - يكشف مدى النقص في استيعابه الاقكار الاشتراكية ؛ وهو، بدلا من ان يعتبر المجتمع الحالي (وهذا القول يصح بالنسبة لكل مجتمع مقبل ايضا) "اساس الحالية (أو المجتمع المقبل اساساً للدولة المقبلة)، يعتبر الدولة، على العكس، واقعاً مستقلاً له "اسسه الروحية والاخلاقية والحرة" الخاصة.
ثم أي سوء استعمال فظ في البرنامج لكلمات "الدولة الحالية"، وكذلك أي سوء فهم، اخشن ايضاً، لتلك الدولة التي يتقدم منها بمطالبه !
ان "المجتمع الحالي"، انما هو المجتمع الرأسمالي القائم في جميع البلدان المتمدنة وقد تطهر الى هذا الحد او ذاك من عناصر القرون الوسطى وعدلته الى هذا الحد او ذاك خصائص التطور التاريخي في كل بلد من البلدان، وتطور الى هذا الحد او ذاك. اما "الدولة الحالية"، فانها، على العكس، تتغير مع الحدود. فهي في الامراطورية البروسية الالمانية غيرها في سويسرا، وهي في انجلترا غيرها في الولايات المتحدة. "فالدولة الحالية" اذن مجرد وهم من الاوهام.
ومع ذلك فان مختلف الدول في مختلف البلدان المتمدنة تتصف جميعها بطابع مشترك، رغم تنوع اشكالها، هو انها تقوم في ارض المجتمع البرجوازي الحديث، المتطور رأسمالياً الى هذا الحد او ذاك. ولذا فانها تشترك ببعض الصفات الجوهرية. وبهذا المعنى يمكن الحديث عن "الدولة الحالية" خلافا لدولة المستقبل حيث يزول المجتمع البرجوازي الذي تنبثق منه الآن.
ثم يوضع السؤال التالي : أي تحول يطرأ على الدولة في المجتمع الشيوعي ظ وبتعبير آخر : اية وظائف اجتماعية مماثلة للوظائف الحالية للدولة تظل قائمة في المجتمع الشيوعي ؟ العلم وحده يستطيع الجواب عن هذا السؤال ؛ ولن ندفع القضية الى امام قيد شعرة ولو قرنا بالف طريقة كلمة "الشعب" بكلمة "الدولة".
بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولا ثورياً الى المجتمع الشيوعي. وتناسبها مرحلة انتقال سياسي لا يمكن ان تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا.
ولكن البرنامج لا يعالج قضية هذه الديكتاتورية ولا طبيعة الدولة المقبلة في المجتمع الشيوعي.
ان مطالب البرنامج السياسية لا تنطوي على غير الترداد الديموقراطي الذي يعرفه الجميع : الحق الانتخابي العام، التشريع المباشر، حقوق الشعب، تسليح الشعب، الخ.. وهي مجرد صدى لحزب الشعب البرجوازي، لعصبة السلام والحرية. وهذه كلها مطالب قد تحققت، بقدر ما لم يبالغ بها لحد الغرابة. الا ان الدولة التي حققتها لا تقوم في داخل حدود الامبراطورية الالمانية، بل في سويسرا، والولايات المتحدة، الخ.. ان هذا النوع من "دولة المستقبل"، انما هو دولة حالية، رغم انها تقوم خارج "نطاق" الامبراطورية الالمانية.
ولكنهم نسوا امراً واحداً. فيما ان حزب العمال الالماني يعلن بصراحة ووضوح انه يعمل في داخل "الدولة القومية الحالية" وبالتالي في داخل دولته الخاصة، الامبراطورية البروسية-الالمانية – وإلاكانت مطالبه، بمعظمها، خرقاء، اذ لا يطالب المرء الا بما هو ليس بحاصل عليه – لذن، كان عليه الا ينسى النقطة الرئيسية التالية، وهي ان جميع هذه الاشياء الجميلة تفترض الاعتراف بما يسمى سيادة الشعب، وانها لا تجد مكانها بالتالي الا في جمهورية ديموقراطية.
وبما انه لم يكن ليديهم الشجاعة الكافية – وحسنا فعلوا، لان الوضع يتطلب الحذر – للمطالبة بالجمهورية الديموقراطية كما فعل العمال الفرنسيون في برلمجهم في عهد لويس فيليب ولويس نابوليون، فقد كان عليهم اذ ذاك ايضاً ألا يلجؤوا الى هذه الحيلة، التي ليست "شريفة" ولا لائقة، أي الى المطالبة باشياء لا معنى لها الا في جمهورية ديموقراطية، وذلك من دولة ليست سوى استبداد عسكري، مصنوع بطريقة بيروقراطية ومحافظ عليه بطريقة بوليسية، مزين باشكال برلمانية، متسم بمجيز من العناصر الاقطاعية، وخاضع في الوقت نفسه للثأثيرات البرجوازية. وكان عليهم علاوة على ذلك الاّ يُقنعوا مثل هذه الدولة، بكل مهابة ورصانة، بأنهم يأملون الحصول منها على شيء مماثل "بوسائل شرعية" !
بل ان الديموقراطية المبتذلة، التي ترى فردوسها الارضي في الجمهورية الديموقراطية والتي لا تظن ان النضال الطبقي يجب ان يجد حلا له بقوة السلاح في ظل هذا الشكل الاخير للدولة في المجتمع البرجوازي، حتى هذه الديموقراطية بالذات اعلى بكثير من هذا الضرب من الديموقراطية المحصورة في نطاق ما يسمح به البوليس وما يحرمه المنطق.
فقد كان عليهم اذ ذاك ايضاً ألا يلجؤوا الى هذه الحيلة، التي ليست "شريفة" ولا لائقة، أي الى المطالبة باشياء لا معنى لها الا في جمهورية ديموقراطية، وذلك من دولة ليست سوى استبداد عسكري، مصنوع بطريقة بيروقراطية ومحافظ عليه بطريقة بوليسية، مزين باشكال برلمانية، متسم بمجيز من العناصر الاقطاعية، وخاضع في الوقت نفسه للثأثيرات البرجوازية. وكان عليهم علاوة على ذلك الاّ يُقنعوا مثل هذه الدولة، بكل مهابة ورصانة، بأنهم يأملون الحصول منها على شيء مماثل "بوسائل شرعية" !
بل ان الديموقراطية المبتذلة، التي ترى فردوسها الارضي في الجمهورية الديموقراطية والتي لا تظن ان النضال الطبقي يجب ان يجد حلا له بقوة السلاح في ظل هذا الشكل الاخير للدولة في المجتمع البرجوازي، حتى هذه الديموقراطية بالذات اعلى بكثير من هذا الضرب من الديموقراطية المحصورة في نطاق ما يسمح به البوليس وما يحرمه المنطق.
وبالفعل، سواء كان القصد من كلمة "الدولة" الآلة الحكومية ام الدولة بوصفها تشكل، بسبب تقسيم العمل، جهازاً خاصاً، منفصلاً عن المجتمع، فان ذلك واضح من الكلمات التالية : "ان حزب العمال الالماني يطالب بان يكون اساس الدولة الاقتصادي ضريبة موحدة تصاعدية على الدخل"، الخ.. فالضرائب هي الاساس الاقتصادي للآلة الحكومية، ولا أي شيء آخر. وهذا المطلب يكاد يكون محققاً في "دولة المستقبل" القائمة في سويسرا. فان ضريبة الدخل تفترض موارد للدخل تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية، أي انها تفترض بالتالي المجتمع الرأسمالي. فلا عجب اذن اذا كان دعاة الاصلاح المالي في ليفربول Financial Reformer de Liverpool – وهم جماعة من البرجوازيين على رأسهم اخو غلادستون – قد صارعوا نفس المطالب التي وردت في البرنامج.
ب- "ان حزب العمال الالماني يطالب بان يكون اساس الدولة الروحي والاخلاقي :
1- التربية الشعبية العامة والمتساوية للجميع بواسطة الدولة. الزامية التمدرس، مجانية التعليم".
التربية الشعبية المتساوية للجميع ؟ ماذا يقصدون بهذه الكلمات ؟ أيضنون ان التربية في المجتمع الحالي (ولا يقصد هنا الا هذا المجتمع) يمكن ان تكون متساوية بالنسبة لجميع الطبقات ؟ ام انهم يريدون اكراه الطبقات العليا بالقوة على ان تتلقى ايضاً هذه التربية المتواضعة، أي المدرسة الابتدائية، التي تتلاءم وحدها، لا مع اوضاع العمال الاجراء الاقتصادية وحسب، بل ايضاً مع اوضاع الفلاحين الاقتصادية ؟
"الزامية التمدرس، مجانية التعليم". ان الاول موجود حتى في المانيا، والثاني في سويسرا والولايات المتحدة فيما يتعلق بالمدارس الابتدائية. واذا كان التعليم في مؤسسات التعليم الثانوي في بعض الولايات من امريكا الشمالية "مجانا" ايضاً، فهذا يعني فعلا فقط ان الطبقات العليا تسدد نفقلت تربيتها من الضرائب النترتبة على الجميع. وعرضاً نقول ان الحال هي نفسها فيما يتعلق "بمجانية القضاء"، التي يطالب بها البند الخامس من الفصل أ. فالقضاء الجزائي في كل مكان ؛ اما القضاء المدني فان صلاحيته تشمل كلياً تقريباً النزاعات حول الملكية، وهو بالتالي يتعلق تماماً تقريبا بالطبقات المالكة. فهل نقترح عليها ان تلاحق قضاياها على حساب اموال الشعب ؟
ولقد كان يترتب على لبفقرة تامتعلقة بالمدارس ان تطالب على الاقل بانشاء المدارس التقنية (النظرية والتطبيقية) الى جانب المدارس الابتدائية.
ان"التربية الشعبية بواسطة الدولة" لأمرغير مقبول اطلاقاً. فان سن قانون عام يحدد نفقات المدارس الابتدائية، والكفاءات المطلوبة من رجال التعليم، والمواد المدرسّة، الخ.. ومراقبة تنفيذ هذه الاجراءات القانونية بواسطة مفتشي الدولة كما هو الحال عليه في الولايات المتحدة، انما هو أمر يختلف تماماً عن جعل الدولة مربية الشعب ! بل انه ينبغي، بالعكس، استبعاد المدرسة عن أي تأثير حكومي وديني. ويقيناً ان الدولة في الامبراطورية الالمانية-البروسية (ولا يلجأنّ احد الى هذا المهرب التافه بان الحديث يدور حول "دولة المستقبل" : فلقد رأينا ما يعني ذلك) هي التي تحتاج الى تربية قاسية جداً من قبل الشعب.
وفضلا عن ذلك، فان البرنامجكله، رغم كل قرقعته الديموقراطية، مشبع برمته بالايمان الذليل الذي تكنه الزمرة اللاسالية للدولة، او بالايمان بالعجائب الديموقراطية – وهذا الايمان الاخير ليس خيرا من الاول – او انه بالاحرى عبارة عن شيء وسط بين هذين النوعين من الايمان بالعجائب، وكل منهما غريب عن الاشتراكية نفس الغرابة.
"حرية العلم" – هكذا جاء في احدى فقرات الدستور البروسي. فلماذا اذن نراها هنا ؟
"حرية الاعتقاد" ! اذا كان يُراد بهذا ايام Kulturkamph ("النضال من اجل الثقافة")14 هذه، تذكير الليبيراليين بشعاراتهم القديمة، فلم يكن بالامكان تحقيق هذه الرغبة الا على النحو التالي : " ينبغي ان يكون في وسع كل امرىء ان يلبي حاجاته الدينية والجسدية على السواء دون ان يحشر البوليس انفه في الموضوع." ولكنه كان على الحزب ان ينتهز هذه الفرصة ويعرب عن اقتناعه بان "حرية الاعتقاد" البرجوازية لا تعني بالفعل سوى التساهل بجميع الانواع الممكنة من "حرية المعتقد الديني" وان يعلن انه بالعكس يسعى جاهدا الى تحرير الضنائر من الاوهام والخرافات الدينية. ولكن بعضهم عندنا يمتنع عن تجاوز المستوى "البرجوازي".
ها انا على وشك ان ابلغ النهاية، لان الملحق المرفق بالبرنامج لا يشكل جزءاً جوهرياً منه. ولذا اكتفي هنا بملاحظات وجيزة.
2- "يوم العمل الطبيعي".
ان حزب العمال، في بلد من البلدان، لم يقتصر على طلب غامض كهذا الطلب، انما عين دائماً بدقة ليوم العمل مدة يعتبرها طبيعية، بالنظر الى الاحوال المعينة.
3- "الحد [limitation] من عمل النساء ومنع عمل الاولاد".
ان تحديد يوم العمل يفترض سلفاً الحد [limitation] من عمل النساء، باعتبار انه يتناول مدة يوم العمل، وفترات الراحة، الخ.. والا، فان هذا التحديد لن يلعني الا منع عمل النساء في الفروع الصناعية التي تضر خاصة بصحتهن او التي تفسد اخلاقهن من حيث انهن نساء. فاذا كان ذلك هو المقصود، فقد كان ينبغي قوله.
"منع عمل الاطفال" ! كان من الضروري اطلاقاً تحديد العمر.
فان منع عمل الاطفال منعا تاماً لايتفق مع وجود الصناعة الكبيرة، وهو بالتالي مجرد رغبة سادجة لا شأن لها.
وتحقيق هذا المطلب – اذا كان ممكنا – يكون عملا رجعياً اذ انه في حال تأمين تحديد لمدة العمل حسب الاعمار وغير ذلك من التدابير لحماية الاطفال، يكون تنسيق العمل المنتج مع التعليم في مرحلة العمر المبكرة وسيلة من اقوى الوسائل لتحويل المجتمع الحالي.
4- "رقابة الدولة على العمل في المصانع والاوراش والبيوت".
لما كان المطلب يتعلق بالدولة البروسية-الالمانية، فقد كان ينبغي ان يطلب بكل دقة ووضوح ان تكون اقالة المفتشين في المصانع من صلاحية المحاكم وحدها، وان يستطيع كل عامل مقاضاتهم امام المحاكم لتخلفهم عن القيام بواجباتهم ؛ وان ينتقوا من الهيئة الطبية.
5- "تنظيم العمل في السجون".
انه لمطلب زهيد في برنامج عمالي عام. وفي مطلق الاحوال، كان ينبغي القول بوضوح ان العمال لا يريدون ان يسمح بمعاملة مجرمي الحق العام معاملة المواشي، وخشية من مزاحمتهم، ولا سيما ان يحرموهم من الوسيلة الوحيدة لصلاحهم، أي العمل المنتج. ويقيناً ان هذا اقل ما كان يمكن توقعه من الاشتراكيين.
6- "قانون فعال حول المسؤولية".
كان ينبغي القول ما هو المقصود بقانون "فعال" حول المسؤولية
ملاحضة عابرة : في الفقرة عن يوم العمل الطبيعي، نسي القسم من تشريع المصانع الذي بتعلق بالانظمة الصحية، والتدابير الواجب اتخادها لتجنب الطوارىء، الخ.. فان القانون حول المسؤولية يصبح ساري المفعول ما ان تخالف هذه الاحكام.
وبكلمة، ان هذه الاضافة سيئة الصيغة ايضاً.
Dixi et salvavi animam meam.
[قلت وخلصت ضميري]
كارل ماركس
كتب باللغة الالمانية
في ابريل - مطلع ماي 1875
نشر مع بعض الاقتطاعات في
Die Neue Zeit Bd. 1
no. 18, 1890-1891.
رسالة15 فريدريك انجلس الى بيبل
لندن، 18-28 مارس 1875
عزيزي بيبل !
تلقيت رسالتك المؤزخة في 23 فبراير وقد سررت جداً لانك في صحة وعافية.
تسألني رأينا في كل حكاية التوحيد هذه، ولكن نصيبنا منها، لسوء الحظ، هو كنصيبك تماماً.فلا ليبكنخت ولا أي كان ابلغنا أي شيء، ولذا فنحن ايضاً لا نعرف الا ما تقيدنا الصحف ولكنها قبل نشر المشروع، منذ ثمانية ايام، لم تنشر شيئا وبالطبع اثار هذا المشروع بالع دهشتنا
فان حزبنا غالبا ما مد يده الى اللاساليين وعرض عليهم المصالحة او على الاقل التعاون، وغالباً ما صده بوقاحة هازينكليفر وهاسلمان وتولكه ومن لف لفهم الى حد ان أي طفل كان بوسعه ان يستنتج انه اذا كان هؤلاء السادة يأتون الينا عاؤضين المصالحة، فلأنهم واقعون في مأزق. وبما ان طابع هؤلاء الجماعة اصبح معروفا جيداً، فانه من واجبنا ان نستغل المأزق الذي آلوا اليه، لكي نحصل على جميع الضمانات الممكنة بصورة يستحيل معها عللى هؤلاء السادة ان يعززوا من جديد مواقعهم المتزعزعة في عيون العمال على حساب حزبنا. ولذا كان ينبغي ان نستقبلهم باشد ما يكون من البرودة والحذر، وان نعلق قضية التوحيد على درجة الاستعداد التي يبدونها للتخلي عن شعاراتهم الانعزالية وعن "مساعدة الدولة"، ولقبول برنامج أيزيناخ لعام 1869 بخطوطه الاساسية او لقبول طبعة جديدة من هذا البرنامج محسنة ومنطبقة على الوضع الراهن. فمن الناحية النظرية، أي فيما يتعلق بما هو حاسم بالنسبة للبرنامج، ليس حزبنا اطلاقاً ما يتعلمه من اللاساليين ؛ اما اللاساليون فمن المفيد لهم، طبعاً، ان يتعلموا من حزبنا. فالشرط الاول للتوحيد كان ان يكفوا عن ان يكونوا انعزاليين، أي لاساليين ؛ وهذا يعني انه ينبغي عليهم، إن لم يتخلوا تماما عن هذا الترياق الشافي الوافي الذي يسمونه مساعدة الدولة، ان يعتبروه على الاقل تدبيرا انتقائياً وثانوياً، بين كثير من غيره من التدابير الممكنة. ان مشروع البرنامج يثبت ان اصحابنا متفقون كثيرا على قادة اللاساليين من الناحية النظرية، ولكنهم بالمقابل، ليسوا اطلاقاً في مستواهم من حيث حبك الحيل السياسية. وهكذا فان "الشرفاء" [الايزيناخيين] قد تلقوا هذه المرة ايضا درساً قاسياً من غير الشرفاء.
اولاً، اقر هذا البرنامج جملة لاسال الطنانة، ولكنها الخاطئة تاريخياً، القائلة بأنه ازاء الطبقة العاملة، لا تشكل جميع الطبقات الاخرى سوى كتلة رجعية واحدة. ان هذه الومضوعة غير صحيحة الا في بعض الحالات الاستثنائية، مثلا، في حال ثورة بروليتارية ككمونة باريس، او في بلد ليست البرجوازية وحدها التي كيفت الدولة والمجتمع على صورتها ومثالها، بل حيث جاءت البرجوازية الصغيرة الديموقراطية بعدها وانهت هذا التحويل حتى نتائجه الاخيرة. فاذا كانت البرجوازية الصغيرة الديموقراطية، في المانيا مثلا، من عداد هذه الكتلة الرجعية الواحدة، فكيف استطاع حزب العمال الاشتراكي-الديموقراطي ان يسير طوال سنوات، يداً بيد معها، مع حزب الشعب ؟ وكيف استطاعت صحيفة Volksstaat ان تستمد كل محتواها السياسي تقريبا من صحيفة Frankfurter Zeitung ("جريدة فرانكفورت")16 البرجوازية الصغيرة الديموقراطية ؟ وكيف حدث ان سبعة من مطالب هذا البرنامج بالذات ظهرت منطبقة، كلمة كلمة، مع برنامج حزب الشعب والديموقراطية البرجوازية الصغيرة ؟ اني اقصد بهذه المطالب المطالب السياسية السبعة المرقمة من 1 الى 5 ومن 1 الى 2، والتي ليس بينها مطلب غير برجوازي ديموقراطي17.
ثانياً، ان مبدأ اممية الحركة العمالية هو، فعلا، مبدأ مرفوض تماماً في الوقت الحاضر، مبدأ ينكره اناس كانوا، طوال سنوات وفي اصعب الاحوال، يطبقون هذا المبدأ باروع ما يكون. ان كون العمال الالمان يسيرون اليوم على رأس الحركة الاوروبية انما يرتكز قبل كا شيء على الموقف الاممي حقاً الذي وقفوه ابان الحرب18 ؛ وليس ثمة بروليتاريا اخرى كان بوسعها ان تسلك مثل هذا السلوك القويم. والآن، وقد اصبح العمال في البلدان الاجنبية يتمسكون في كل مكان بهذا المبدأ بنفس الحزم والقوة اللذين تسعى الحكومات بهما الى كبت كل محاولة لتحقيقه في منظمة من المنظمات، يقترح عليهم الآن ان يتخلوا عنه في هذا الوقت بالذات ! وما عساه ان يبقى اذن من اممية الحركة العمالية ؟ لن يبقى حتى ذلك الامل الضعيف بتعاون مقبل بين عمال اوروبا في النضال من اجل تحررهم، لن يبقى على الاكثر سوى ذلك الأمل الضعيف "بتآخي الشعوب العالمي" في المستقبل، و"بالولايات المتحدة الاوروبية" التي يقول بها برجوازيو عصبة السلام !
وبديهي انه لم يكن من الضروري التحدث عن الاممية بوصفها منظمة. ولكنه كان ينبغي على الاقل عدم التراجع عن برنامج 1869 والقول بهذا الصدد على النحو التالي تقريباً : بالرغم من ان حزب العمال الالماني يعملقبل كل شيء ضمن حدود الدولة (فليس من حقه ان يتحدث باسم البروليتاريا الاوروبية، وليس من حقه بالاحرى ان يدلي بآراء خاطئة)، فانه يدرك، مع ذلك، تضامنه مع عمال جميع البلدان وسيكون مستعداً على الدوام لأن ينفذ في المستقبل ايضاً، كما نفذ حتى الآن، الواجبات المترتبة عن هذا التضامن. ومثل هذه الواجبات موجودة حتى ولو لم يعلن الحزب نفسه عضواً في الاممية او يقل عن نفسه انه منتسب اليها. وهذه الواجبات هي مثلا تقديم المعونة ومنع كسر الاضرابات، واتخاد التدابير اللازمة لكي تطلع هيئات الحزب العمال الالمان على احوال الحركة في الخارج، والتحريض ضد الحروب التي يثيرها الملوك او قد يثيرونها، والتزام موقف ابان هذه الحروب كموقف العمال الالمان في 1870 و1871، الذي اصبح قدوة يقتدى بها، الخ..
ثالثاً، لقد سمح اصحابنا بان يفرض عليهم اللاساليون "قانون الاجور الحديدي" الذي يرتكز على مفهوم في الاقتصاد السياسي ولى عهده تماماً، ونعني به ذلك المفهوم القائل ان العامل لا يتلقى، بوجه عام، سوى الحد الادنى من الاجرة وذلك بالضبط لأن ثمة دائماً فيضاً من العمال، حسب النظرية المالتوسية لنمو السكان (وتلك كانت حجة لاسال). لكن ماركس قد اثبت بالتفصيل في "رأس المال" ان القوانين التي تحدد الاجور معقدة كثيراً وان هذا القانون او ذاك هو الذي يسود حسب الظروف، وان هذه القوانين ليست حديدية اطلاقاً بل هي على العكس مطاطية جداً، وانه يستحيل بوجه عام حل هذه المسألة ببضع كلمات كما يتصور لاسال. ان المبررات المالتوسية للقانون الذي نقله لاسال عن مالتوس وريكاردو (مع تحريف ريكاردو)، كما وردت، مثلا، في الصفحة 5 من "كتاب القراءة للعمال"، وهي مأخودة من كراس آخر للاسال، انما دحضها ماركس بالتفصيل في فصل "تراكم الرأسمال". وهكذا فانهم بتبني "القانون الحديدي" الذي قال به لاسال، انما تبنوا فكرة خاطئة ومبررات خاطئة.
رابعاً، ان المطلب الاجتماعي الوحيد الوارد في البرنامج هو مساعدة الدولة التي قال بها لاسال، وقد ورد بأقل الاشكال تيسراً وكما سرقة لاسال عن بوشه. وهذا بعدما اثبت براكه بروعة كل تفاهة هذا المطلب19، بعدما اضطر جميع خطباء حزبنا تقريبا او جميعهم بالضبط الى محاربة "مساعدة الدولة" هذه في غمرة نضالهم ضد اللاساليين ! حقاً، لم يكن بوسع حزبنا ان يحقر نفسه اكثر مما فعل. لقد هبط بالاممية الى مستوى اماند غوغ، وبالاشتراكية الى مستوى الجمهورية الربجوازية الي قال بوشه الذي كان يعارض الاشتراكيين بهذا المطلب قصد محاربتهم !
وفي احسن الاحوال، ليست "مساعدة الدولة"، بالمعنى الذي يقصده لاسال، سوى تدبير في جملة غيره من التدابير، من اجل بلوغ الهدف الذي تعنيه هنا، في مشروع البرنامج، الكلمات العرجاء التالية : "تمهيد السبيل الى حل المسألة الاجتماعية" كأنما لا تزال ثمة، بالنسبة الينا، وفي المجال النظري، مسألة اجتماعية لم تحل ! ولذا، عندما يقال : "ان حزب العمال الالماني يرمي الى الغاءالعمل المأجور، وبالتالي الى محو الفوارق الطبقية، وذلك بتنظيم الانتاج الجماعي في الصناعة والزراعة وفي عموم البلاد وانه يؤيد كل تدبير من شأنه ان يسهم في بلوغ هذا الهدف"، - فلن يكون بمستطاع أي لاسالي ان يعارض هذا القول بوجه من الوجوه.
خامساً، ليس ثمة اية اشارة الى تنظيم الطبقة العاملة، بوصفها طبقة، عن طريق النقابات. وتلك نقطة جوهرية بالغة، اذ أن هذه بالضبط منظمة طبقية حقيقية للبروليتاريا تخوض البروليتاريا في صفوفها نضالاتها اليومية ضد الرأسمال، وتكون لها بمثابة مدرسة، منظمة لا تستطيع خنقها اية رجعية مهما بلغت قساوتها (كما هي الحال الآن في باريس). وبالنظر الى الاهمية التي تتخدها هذه المنظمة ايضاً في المانيا، نرى من الضروري اطلاقاً التنويه بها في البرنامج ومنحها مكاناً في تنظيم الحزب بقدر الامكان.
ذلك ما فعله اصحابنا ارضاءً للاساليين. ولكن عما تنازل هؤلاء ؟ ان حاصل هذا التنازل هو انه يبرز في البرنامج عدد كبير من المطالب الديموقراطية الصرف المشوشة جداً والتي قسم منها لمجرد انه على الموضة، "كالتشريع الشعبي" القائم، مثلا، في سويسرا، والذي شرّه في هذا البلد اكثر من خيره، هذا اذا كان له أي تأثير بوجه عام. ولو انهم قالوا : "ادارة بواسطة الشعب" لكان لكلامهم معنى. ثم انه ليس ثمة اية اشارة الى الشرط الاول لكل حرية ونعني به ان يكون كل موظف مسؤولا عن كل اعماله الرسمية ازاء كل مواطن امام المحاكم العادية وطبقاً للقانون العام. ولن اسهب في القول بان مطالب كحرية التعليم وحرية الاعتقاد ترد في كل برنامج ليبيرالي برجوازي وانها تبدو هنا غريبة نوعاً.
ان الدولة الشعبية الحرة قد تحولت الى دولة حرة. والحال، ان الدولة الحرة، بمعنى هاتين الكلمتين النحوي، هي دولة حرة ازاء مواطنيها، وبالتالي دولة تقوم فيها حكومة استبدادية. ولذا ينبغي الاقلاع عن كل هذه الثرثرة حول الدولة، ولا سيما بعد كومونة باريس التي لم تكن دولة، بمعنى الكلمة الاصلي. فلطالما انتقدنا الفوضويون بصدد "الدولة الشعبية"، رغم ان مؤلف ماركس20 ضد برودون ثم "البيان الشيوعي" قد اوضحا صراحة ان الدولة ستنحل من تلقاء نفسها sich auflöst وتزول عند اقامة النظام الاجتماعي الاشتراكي. وبما ان الدولة ليست سوى منظمة مؤقتة تستخدم في النضال، في الثورة من اجل تحطيم الاعداء بالعنف، فان من الخرق والتناقض القول بدولة شعبية حرة. وما دامت البروليتاريا تحتاج الى الدولة، فانها لا تحتاج اليها من اجل الحرية، بل لقمع اعدائها، وما ان يصبح بالامكان التحدث عن الحرية حتى تزول الدولة بوصفها دولة. ولذا نقترح لاستعاضة في كل مكلن عن كلمة "الدولة" بكلمة "المشاعة" Gemeinwesen وهي كلمة المانية قديمة ملائمة تعادل كلمة Commune(كومونة) الفرنسية.
ان استعمال تعبير "القضاء على كل تفاوت اجتماعي وسياسي" بدلا من تعبير "الغاء جميع الفوارق الطبقية" يفسح المجال للتساؤل والشك. فبين بلد وآخر، وبين واقليم وآخر، وحتى بين محلة وأخرى سيظل ابداً بعضالتفاوت في ظروف المعيشة، تفاوت قد يمكن تخفيفه الى الحد الادنى ولمكنه لن يمكن ابداً ازالته تماماً. فان سكان جبال الالب، ستختلف دائماً ظروف معيشتهم عن ظروف معيشة سكان السهول. ان التفكير بان المجتمع الاشتراكي يعني سيادة المساواة انما هو تفكير فرنسي وحيد الجانب، يرتكز على شعار "الحرية، المساواة، الاخاء" القديم، وكان له ما يبرره في زمانه ومكانه، لأنه كان يستجيب لدرجة معينة من التطور، ولكنه ينبغي الآن تجاوزه، شأنه شأن كل المفاهيم الوحيدة الجانب التي قالت بها المدارس الاشتراكية السابقة، لأنه لا يؤدي الا الى التشويش ولأنه توجد الآن اساليب ادق لبسط هذه المسألة.
سأتوقف عن البحث، رغم ان كل كلمة تقريباً في هذا البرنامج، المكتوب علاوة على ذلك بلغة ركيكة، تفسح المجال للانتقاد. ولقد صيغ بنحو لن نوافق معه اطلاقاً، ماركس وأنا، في حال اقراره، على ان ننتسب الى الحزب الجديد، القائم على هذا الاساس، فنضطر الى التفكير جدياً بالموقف الذي نتخده منه (وعلناً ايضاً). حذ علماً انهم في الخارج، يجعلوننا نحن مسؤولين عن جميع اقوال واعمال حزب العمال الاشتراكي-الديموقراطي الالماني. فهذا ما فعله باكونين مثلاً في مؤلفه "الدولة والفوضى" حيث جعلنا مسؤولين عن كل كلمة طائشة قالها او كتبها ليبكنخت منذ تأسيس صحيفة Demokratisches Wochenblatt ("الجريدة الاسبوعية الديموقراطية،")21. ان الناس يتصورون اننا نمسك من هنا بكل خيوط الحركة، في حين انك تعلم مثلي اننا لم نتدخل قط تقريباً في شؤون الحزب الداخلية، واننا اذا كنا تدخلنا، فقد كان ذلك لمجرد ان نصلح بقدر الامكان ما كنا نعتبره اخطاء، الاخطاء النظرية فقط. انك سترى بنفسك ان هذا البرنامج هو نقطة انعطاف قد تحملنا بكل سهولة على ان نرفع عن انفسنا كل مسؤولية عن الحزب الذي اقرّ هذا البرنامج.
ان البرنامج الرسمي لحزب من الاحزاب يتسم على وجه العموم، باهمية اقل مما تتسم به اعماله. ولكن البرنامج الجديد هو دائماً بمثابة راية ترفع امام انظار الجميع، وعلى اساسها يرى العالم الخارجي الى الحزب. ولذا ينبغي في مطلق للاحوال الا يكون البرنامج خطوة الى الوراء. اما مشروع البرنامج هذا فهو بالضبط خطوة الى الوراء بالنسبة لبرنامج ايزيناخ. وكان ينبغي التفكير فيما سيقوله عن هذا البرنامج عمال البلدان الاخرى وفي التأثير الذي سيحدثه استسلام البروليتاريا الاشتراكية الالمانية برمتها الاساليين.
وفضلا عن ذلك، انا مقتنع بأن توحيداً على مثل هذا الاساس لن يدوم سنة واحدة. فهل يقبل خيرة رجال حزبنا بأن يرردوا في خطبهم جمل لااسال حول قانون الاجور الحديدي ومساعدة الدولة، تلك الجمل التي حفظوها عن ظهر قلب ؟ اني اود لو اراك انت، مثلا، منصرفا الى هذا العمل ! واذا ما فعلوا ذلك، فان سامعيهم سيصفرون لهم. والحال، اني على ثقة بأن اللاساليين يصرون، بالدقة، على هذه النقاط من البرنامج كما كان المرابي شيلوك يصر على رطله من اللحم البشري. ان الانشقاق آت، ولكننا نكون قد جعلنا هاسلمان وهازينكليفر وتولكه ومن لف لفهم في اعداد "الشرفاء" من جديد ؛ وسنخرج من الانشقاق اضعف مما مضى ويخرج اللاساليون اقوى ؛ وسيفقد حزبنا نقاوته السياسية، ولن يستطيع ابداً ان يناضل بتفان ضد جمل لاسال، فانه لم يسهم فيه الا بمطالب الديموقراطية البرجوازية الصغيرة، التي وصفها هو بالذات في نفس البرنامج بأنها جزء من "الكتلة الرجعية".
لقد اجلت ارسال هذه الرسالة لك، لاني كنت اعلم انه لن يخلى سبيلك الا في ابريل، على شرف عيد ميلاد بيسمارك، ولم اشأ ان اجازف بها واعرّضها للمصادرة اثناء محاولة تهريبها لك. ولكني تلقيت للتو رسالة من براكهيعرب فيها، هو ايضاً، عن شكوكه الكبيرة بصدد البرنامج ويريد ان يعرف رأينا في الموضوع. وبقصد التعجيل، ارسل هذه الرسالة اليه، لكي يقرأها هو ولكي لا اضطر الى تكرير كل الحكاية. واضيف قائلاً اني كتبت صراحة ايضاً الى رامّ. اما ليبكنخت، فقد كتبت له بايجاز. واني لا استطيع ان اغفر له عدم كتابته لنا اية كلمة عن كل الحكاية قبل ان بفوت الاوان نوعاً (في حين ان رامّ وغيره كانوا يعتقدون انه ابلغنا). ولكن ليست تلك هي المرة الاولى التي يتصرف فيها على هذا النحو، والدليل على ذلك الرسائل العديدة المزعجة التي تبادلناها معه – ماركس وانا - غير انه تجاوز الحدود هذه المرة، وعليه فاننا نرفض السير معه في هذه الطريق رفضاً قاطعاً.
اما انت، فحاول ان تدبر الامور بصورة تستطيع معها المجيء الى هنا في هذا الصيف. وستحل، بالطبع، ضيفا عليّ، واذا ما سمح لنا الطقس، مضينا لقضاء بضعة ايام على شاطىء البحر، ولا شك انك ستستفيد من هذه الراحة بعد ان
كارل ماركس و فريدريك انجلس / الصفحة الرئيسية
كارل ماركس //'بيان الحزب الشيوعي
بيان الحزب الشيوعي
كارل ماركس و فريدريك انجلس
فهرس
برجوازيون و بروليتاريون
بروليتاريون و شيوعيون
الأدب الاشتراكي و الشيوعي
موقف الشيوعيين من مختلف أحزاب المعارضة
شبحٌ ينتاب أوروبا - شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدت في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا و القيصر, مترنيخ و غيزو, الراديكاليون الفرنسيون و البوليس الألماني.
فأي حزب معارض لم يتهمه خصومه في السلطة بالشيوعية؟
و أي حزب معارض لم يرد, بدوره, تهمة الشيوعية الشائنة, إلى أقسام المعارضة الأكثر تقدمية, و إلى خصومه الرجعيين؟
و من هذا الواقع يُستنتج أمران:
إن قوى أوروبا كلها أصبحت تعترف بالشيوعية كـقوة.
إن الشيوعيين قد آن لهم أن يعرضوا, أمام العالم كله, طرق تفكيرهم, و أهدافهم, و اتجاهاتهم, و أن يواجهوا خرافة شبح الشيوعية ببيان من الحزب نفسه.
و لهذه الغاية, إجتمع في لندن شيوعيون من مختلف القوميات, و وضعوا البيان الآتي, الذي سيصدر باللغات: الإنكليزية, و الفرنسية, و الألمانية, و الإيطالية, و الفلمنكية, و الدانماركية.
الفصل الأول
برجوازيون و بروليتاريون(1)
إن تاريخ أي مجتمع (2) حتى الآن, ليس سوى تاريخ صراعات طبقية .
حر و عبد, نبيل و عامي, بارون و قن, معلم و صانع (3), و بكلمة ظالمون و مظلومون, في تعارض دائم, خاضوا حربا متواصلة, تارة معلنة و طورا مستترة, حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله, إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين .
و في العهود التاريخية الأولى نجد, في كل مكان تقريبا, تقسيما كاملا للمجتمع إلى مراتب متمايزة, (نلقى) تدرجا متفاوتا للمنزلة المجتمعية. ففي روما القديمة, كان ثمة نبلاء, و فرسان, و عامة, و عبيد, و في القرون الوسطى, أسياد و إقطاعيون, و مقطعون, و معلمون و صناع, و أقنان. و إضافة إلى ذلك نجد, في كل طبقة من هذه الطبقات, تراتبية فارقة .
و المجتمع البرجوازي العصري, الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي, لم يلغ التناحرات الطبقية, بل أحل فقط محل الطبقات القديمة طبقات جديدة, و حالات اضطهاد جديدة, و أشكالا جديدة للنضال .
غير أن عصرنا, عصر البرجوازية, يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين, إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية و البروليتاريا.
فمن أقنان القرون الوسطى تحدّر سكان أولى البلدات. و من هؤلاء السكان تكونت الأصول الأولى للبرجوازية .
فاكتشاف أمريكا و الطواف البحري حول إفريقيا أوجد للبرجوازية الناشئة مرتعا جديدا. إن سوق الهند الشرقية و الصين, و استعمار أمريكا, و التبادل مع المستعمرات, و ازدياد وسائل التبادل, و السِّلع عموما, وفرت للتجارة و الملاحة و الصناعة دفعا لم يسبق له مثيل, و بالتالي وفرت نموا سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي المتداعي .
و مع الأسواق الجديدة لم يعد نمط الإنتاج الإقطاعي, أو المشغل الحرفي في الصناعة, يسدُّ الحاجة المتنامية, فحلّت المانيفاتورة محل هذ النمط, و أزاح الصناعيون المتوسطون أصحاب المشاغل الحرفية, و زال تقسيم العمل بين الجمعيات الحرفية المختلفة أمام تقسيم العمل في الورشة الواحدة.
بيد أن الأسواق كانت تـتسع و الطلب كان يزداد باستمرار فأمست المانيفاتورة عاجزة بدورها؛ و عندئذٍ, ثوَّر البخار و الآلة الإنتاج الصناعي, و حلت الصناعة الكبيرة الحديثة محل المانيفاتورة, و حل الصناعيون أصحاب الملايين, أساطين جيوش صناعة بأكملها, أي البرجوازيون العصريون, محل الصناعيين المتوسطين .
و الصناعة الكبيرة أوجدت السوق العالمية التي مهد لها اكتشاف أمريكا. و السوق العالمية أنمت, بما لا يُـقاس, التجارة و الملاحة و المواصلات البرية. و هذا النمو أثّر بدوره في توسيع الصناعة, فبقدر ما كانت الصناعة و التجارة و الملاحة و السكك الحديدية تتوسع, كانت البرجوازية تتطور, و تُـنمّي رساميلها, و تدفع إلى المؤخرة بكل الطبقات الموروثة عن القرون الوسطى.
و هكذا نرى كيف أن البرجوازية العصرية نفسها, هي نتاج مسار تطور طويل, و سلسلة تحولات في نمط الإنتاج و المواصلات.
فكل مرحلة, من مراحل تطور البرجوازية تلك, كانت مشفوعة بتقدم سياسي متطابق. فالبرجوازية: فئة مقهورة تحت سيطرة الإقطاعيين, و عُصبة مسلحة تسوس نفسها بنفسها في -الكمونة(4)- جمهورية مدينية مستقلة هنا, و طبقة عوامٍ مُـلزمة بدفع الضرائب للنظام الملكي هناك - و قوة موازنة للنبالة زمن المانيفاتورة في النظام الملكي المقيَّد أو المطلَق, و حجر الزاوية للأنظمة الملكية الكبيرة بوجه عام, (هذه البرجوازية) انتَزعت أخيرا, بقيام الصناعة الكبيرة و السوق العالمية, السلطة السياسية كاملة في الدولة التمثيلية العصرية. و سلطة الدولة الحديثة ليست سوى هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها .
فالبرجوازية لعبت, في التاريخ, دورا ثوريا بارزا كل البروز .
و البرجوازية حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون, التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين, و لم تُـبق على أية رابطة بين الإنسان و الإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة, و الإلزام القاسي بـ "الدفع نقدا". و أغرقت الرعشة القدسية للورع الديني, و الحماسة الفروسية, و عاطفة البرجوازية الصغيرة, في أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة, و حولت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية, و أحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها, محل الحريات المُـثـبَتة و المكتسبَة التي لا تحصى. و بكلمة أحلّت استغلالا مباحا وقحا مباشرا و dir=rtl)شرسا, محل الإستغلال المُغلَّف بأوهام دينية .
فالبرجوازية جرّدت كل الفعاليات, التي كان يُنظر إليها حتى ذلك الحين بمنظار الهيبة و الخشوع, من هالتها. فحوّلت الطبيب و رجل القانون و الكاهن و الشاعر و العالم, إلى أجراء في خدمتها .
و البرجوازية نزعت حجاب العاطفية عن العلاقات العائلية و قَصَرتها (العلاقات) على علاقات مالية بحتة .
و البرجوازية كشفت كيف أنّ عرض القوة الشرسة, الذي كانت الرجعية تُعجَب به في القرون الوسطى, قد وجد تتـمّـته المؤاتية في التكاسل إلى أبعد حدود الكسل. فهي الأولى, التي بيَّـنت ما يستطيع النشاط الإنساني إتيانه. فأتت بعجائب تختلف كليا عن أهرامات مصر, و الأقنية الرومانية, و الكتدرائيات القوطية, و قامت بحملات تختلف كليا عن الإجتياحات و الحملات الصليبية.
و البرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج, و بالتالي علاقات الإنتاج المجتمعية. بخلاف ذلك, كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم, بدون تبديل, الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. و هذا الإنقلاب المتواصل في الإنتاج, و هذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية, و القلق و التحرك الدائمان, هذا كله يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من عصور. فالعلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما يستتبعها من تصوُّرات و أفكار قديمة موقّرة, تتفكك كلها, و كل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده, و التقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء, و كل ما هو مقدّس يدنّس, و الناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي, و في علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة .
و حاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها, متسع باستمرار, تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تُعشعش في كل مكان, و من أن تنغرز في كل مكان, و من أن تقيم علاقات في كل مكان.
و البرجوازية, باستثمارها السوق العالمية, طبَّعت الإنتاج و الإستهلاك, في جميع البلدان, بطابع كوسموبوليتي, و انتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد. فالصناعات القومية الهرمة دُمّرت و تدمَّـر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة, أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة, صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية, بل المواد الأولية من أقصى المناطق, صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب, بل أيضا في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة, التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها, تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان و الأقاليم. و محل الإكتفاء الذاتي الإقليمي و القومي و الإنعزال القديم, تقوم علاقات شاملة في كل النواحي, و تقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم. و ما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. فالنتاجات الفكرية لكل أمة على حدة تصبح ملكا مشتركا. و التعصب و التقوقع القوميّان يُصبحان مستحيلين أكثر فأكثر. و من الآداب القومية و الإقليمية ينشأ أدب عالميّ .
و البرجوازية, بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج, و بالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات, تـشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة. و الأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها, و تـُرغم البرابرة الأكثر حقدا و تعنتا تجاه الأجانب على الإستسلام, و تجبر كل الأمم, إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك, على تـبنّي نمط الإنتاج البرجوازي, و ترغمها على تقـبّـل الحضارة المزعومة, أي على أن تصبح برجوازية. و بكلمة هي تخلق عالما على صورتها .
و البرجوازية أخضعت الريف لسيطرة المدينة. و أنشأت مدنا ضخمة, و زادت بدرجة هائلة عدد سكان المدن إزاء سكان الريف, منتزعة بذلك قسما كبيرا من السكان من سذاجة الحياة الريفية, و مثلما أخضعت الريف للمدينة, و البلدان الهمجية و شبه الهمجية للبلدان المتحضرة, أخضعت الشعوب الفلاحية للشعوب البرجوازية, و الشرق للغرب .
و البرجوازية تقضي, أكثر فأكثر, على تشتت وسائل الإنتاج و الملكية و السكان. و قد حشرت السكان, و مركزت وسائل الإنتاج, و ركزت الملكية في أيد قليلة. فكانت المركزية السياسية, النتيجة الحتمية لذلك. فإنّ مقاطعات مستقلة, تكاد تكون متّحدة لها مصالح و قوانين و حكومات و جمارك مختلفة, حشرت في أُمة واحدة, ذات حكومة واحدة, و قانون واحد, و مصلحة قومية طبقية واحدة, و سياسة جمركية واحدة .
فالبرجوازية, في غضون سيطرتها الطبقية التي لم يَكد يمضي عليها قرن من الزمن, خَلقت قوى منتجة تفوق بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيال السابقة كلّها مجتمعة. فالآلة, و إخضاع قوى الطبيعة, و استخدام الكيمياء في الصناعة و الزراعة, و الملاحة البخارية, و سكك الحديد, و التلغراف الكهربائي, و استصلاح أراضي قارّات بأكملها, و تسوية مجاري الأنهار لجعلها صالحة للملاحة, و بروز عوامر كاملة من الأرض - أيّ عصر سالف كان يتصوّر أنّ مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعيّ؟
إذن لقد رأينا: أنّ وسائل الإنتاج و التبادل, التي انبنت البرجوازية على أساسها قد اسـتُحدثت في المجتمع الإقطاعي. و عند درجة معينة من تقدّم وسائل الإنتاج و التبادل, لم تعد الشروط التي كان المجتمع الإقاطاعي ينتج فيها و يبادل, لم يعد التنظيم الإقطاعي للزراعة و المانيفاتورة, بكلمة لم تعد علاقات الملكية الإقطاعية تتلاءم مع القوى المنتجة في تمام نموّها. فكانت تُعيق الإنتاج بدلا من دفعه نحو التقدّم, و لذا تحولت غلى قيود كان لا بُدّ من تحطيمها و قد حُطّمت .
و محلها حلت المزاحمة الحرة, مع هيكلية مجتمعية و سياسية ملائمة, مع السيطرة الإقتصادية و السياسية لطبقة البرجوازيين.
و اليوم نشهد حركة مماثلة. فإنّ علاقات الإنتاج و التبادل البرجوازية, و علاقات الملكية البرجوازية - إن هذا المجتمع البرجوازي الحديث الذي أبدع كما في السِّحر وسائل الإنتاج و التبادل الضخمة, يُشبه المشعوذ الذي فقد سيطرته على التحكُّم بالقوى الجهنمية التي استحضرها - فمنذ عشرات السنين, ليس تاريخ الصناعة و التجارة سوى تاريخ تمرُّد القوى المنتجة الحديثة على علاقات الإنتاج الحديثة, على علاقات الملكية, قوام حياة البرجوازية و سيطرتها. و يكفي ذكر الأزمات التجارية الدورية, التي تهدد أكثر فأكثر وجود المجتمع البرجوازي بأسره. ففي الأزمات التجارية, لا يُـتـلَف بانتظام جزء كبير من المنتجات فحسب, بل يـُتـلَف أيضا قسم من القوى المنتجة القائمة. و في الأزمات يتـفـشّى وباء مجتمعيّ ما كان ليبدو, في كل العصور السالفة, إلاّ مستحيلا, و هو وباء فائض الإنتاج. فإن المجتمع يجد نفسه فجأة و قد رُدَّ إلى وضع من الهمجية المؤقتة, حتى ليُخيَّل أنّ مجاعة و حرب إبادة شاملة قد قطعتاه عن وسائل العيش؛ فتبدو الصناعة و التجارة و كأنهما أثر بعد عين, و لماذا؟ لأن المجتمع يملك المزيد من الحضارة, و المزيد من وسائل لعيش, و المزيد من الصناعة, و المزيد من التجارة. و لم تعد القوى المنتجة, الموجودة تحت تصرّف المجتمع, تدفع ينمو علاقات الملكية البرجوازية قُدُما, بل بخلاف ذلك, أصبحت أقوى جدا من هذه العلاقات التي باتت تعيقها؛ و كلما تغلبت على هذا العائق جرّت المجتمع البرجوازي بأسره إلى الفوضى, و هددت وجود الملكية البرجوازية. فالعلاقات البرجوازية غدت أضيق من أن تستوعب الثروة, التي تُحدثها. فكيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات؟ من جهة بتدمير كتلة من القوى المنتجة بالعنف, و من جهة أخرى بغزو أسواق جديدة, و باستثمار الأسواق القديمة كليّا. و ما هي عاقبة هذا الأمر؟ الإعداد لأزمات أشمل و أشدّ و التقليل من وسائل تدارُكها.
فالأسلحة, التي صَرَعت بها البرجوازية الإقطاع, ترتد الآن على البرجوازية نفسها .
بَيْد أنّ البرجوازية لم تصنع, فحسب, الأسلحة التي تؤدي بحياتها, بل أنجبت أيضا الرجال الذين سيستعملون هذه الأسلحة: العمال العصريين أو البروليتاريين .
و بقدر ما تنمو البرجوازية أي رأس المال, تنمو أيضا البروليتاريا, أي طبقة العمال العصريين, الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملا. و لا يجدون عملا إلا إذا كان عملهم ينمي رأس المال. و هؤلاء العمال المُكرهون على بيع أنفسهم قطعة قطعة هم سلعة كأي صنف تجاري آخر, و لذا هم معرَّصون لكل صروف المزاحمة, و لكل تقلبات السوق .
و من جراء توسع استعمال الآلة, و تقسيم العمل, فـقـد عمل البروليتاريين كليا طابع استقلاله الذاتي, و بالتالي فـقـد كل جاذبية بالنسبة إلى العمال. فالعامل أصبح مجرّد مُلحق بالآلة, لا يُطلب منه سوى الحركة اليدوية الأكثر بساطة و رتابة و سهولة و امتهان. و من ثم, فإن ما يُكلفه العامل يكاد يقتصر على كلفة ما يلزمه للعيش, و لمواصلة نسله. و بالتالي فإنّ ثمن العامل شأن ثمن كل سلعة يُساوي كلفة إنتاجه. إذن, كلما أصبح العمل منفرا, تدنى الأجر. و فضلا عن ذلك, بقدر ما يتسع استعمال الآلة و تقسيم العمل, تشتد أيضا وطأة العمل, سواء من جرّاء زيادة ساعات العمل, أو مُضاعفة العمل المطلوب إنجازه في وقت معيّن أو تسريع حركة الآلة, الخ ..
و الصناعة الحديثة حوّلت المشغل الصغير للمعلّم الحرفي البطريكي إلى فبركة كبيرة للرأسمالي الصناعي. و جموع العمال المحشورة في الفبركة تنظَّم تنظيما عسكريا. فالعمّال, جنود الصناعة البسطاء, يُوضعون تحت رقابة تراتبية كاملة, من ضبّاط و صفّ ضبّاط. و هم ليسو عبيد طبقة البرجوازيين و دولة البرجوازيين فحسب, بل هم أيضا, في كل يوم و كل ساعة, عبيد للآلة, و لمراقب العمل, و خصوصا للبرجوازي صاحب الفبركة نفسه, و هذا الإستبداد, كلما أعلن بمزيد من الصراحة أنّ الكسب هو هدفه, إزداد دناءة و بشاعة و قسوة.
و العمل اليدوي كلما تطـلب قدرا أقل من المهارة و القسوة, أي كلما تقدمت الصناعة الحديثة, ازداد إحلال عمل النساء محلّ عمل الرجال. فالفروق في الجنس و السن لم يعد لها شأن مجتمعيّ بالنسبة إلى الطبقة العاملة, لم يعد هناك سوى أدوات عمل تختلف كلفتها باختلاف السن و الجنس .
و العامل, ما أن يستغلّه صاحب العمل, و ما أن يدفع له أجره, حتى تنقضّ عليه القطاعات الأخرى من البرجوازية: مالك البيت و البـقّـال و المرتهن إلخ ..
و المراتب الدنيا للطبقات الوسطى, التي كانت قائمة حتى الآن - صغار الصناعيين و التجار و أصحاب الرّيع و الحرفيون و الفلاحون - تصبّ في البروليتاري لأن رأسمالها الصغير لا يكفي لتشغيل الصناعة الكبيرة, فتهلك في مزاحمة كبار الرأسماليين, من جهة, و من جهة أخرى, لأن الطرائق الجديدة للإنتاج تحطّ من قيمة مهارتها, و هكذا تتكون البروليتاريا من جميع طبقات السكان.
و البروليتاريا تمرّ بدرجات تطور مختلفة. و نضالها ضد البرجوازية يبدأ مع وجودها نفسه .
ففي البدء يناضل العمال فُرادى, ثم يناضل عمال فبركة واحدة, ثم عمال فرع صناعي في منطقة واحدة, ضد البرجوازي الفرد الذي يستغلهم مباشرة. و هم لا يوجّهون هجماتهم إلى علاقات الإنتاج البرجوازية فحسب, بل أيضا إلى أدوات الإنتاج نفسها, فيتلفون السلع الأجنبية المضاربة , و يُحطِّمون الماكينات, و يُضرمون النار في الفبارك, و يَسعون إلى استعادة الموقع المفقود, موقع الصانع في القرون الوسطى .
و في هذا التطور يُشكّل العمال جموعا مبعثرة في البلاد كلها تُـشتـتها المُزاحمة. فتآزر العمال الواسع-الجماهيري, ليس بعدُ نتيجة اتحادهم الذاتي, بل هو نتيجة اتّحاد البرجوازية التي عليها, لبلوغ أغراضها السياسية الخاصة, أن تحرّك البروليتاريا بأسرها طالما هي قادرة على ذلك. و الحالة هذه فإنّ البروليتاريين في هذا الطور لا يُحاربون أعداءهم, بل أعداء أعدائهم, أي بقايا الحكم الملَكي المُطلق, و الملاكين العقاريين, و البرجوازيين غير الصناعيين و البرجوازيين الصغار. و هكذا تتركـز الحركة التاريخية كلها في أيدي البرجوازية, و كل انتصار يتحقق على هذا النحو هو انتصار للبرجوازية .
لكن مع تقدم الصناعة لا تتسع البروليتاريا فحسب, بل تحتشد في حشود أكثر ضخامة و تمو قوَّتها, و تعي هي هذه القوة وعيا أفضل. فالمصالح و الأوضاع المعيشية داخل البروليتاريا تتماثل باطراد, بقدر ما تمحو الآلة الفوارق في العمل, و تنخفض الأجرة, في كل مكان تقريبا, إلى مستوى مُتماثل في الإنخفاض. فإن المضاربة المتعاظمة بين البرجوازيين أنفسهم, و الأزمات التجارية الناتجة عنها, تجعل أجور العمال أكثر تقلبا باستمرار؛ و التحسين المتسارع المتنامي, و المتواصل للآلة, يزعزع باستمرار الوضع المعيشي للعمال؛ و المصادمات بين العامل الفرد و البرجوازي الفرد, تَتَّخذأكثر فأكثر طابع مُصادمات بين طبقتين. و عندئذ يبدأ العمّال في تأليف اتحادات نقابية ضد البرجوازيين؛ و يتكاتفون للحفاظ على أجر عملهم, و يؤلّفون جمعيات دائمة للتمّون تحسُّيا لانتفاضات مُحتملة. و هنا و هناك, ينفجر النضال شَغَبا .
و من وقت إلى آخر ينتصر العمال لكن انتصارهم هو إلى حين. و النتيجة الحقة لنضالاتهم ليست في النجاح المباشر بل في اتّحاد العمل المتعاظم باستمرار. و هذا الاتحاد يعززه نمو وسائل المواصلات التي تبتدعها الصناعة الكبرى, و التي تربط بين عمّال مختلف النواحي. و الحال لا بُدّ من الرابط لجعل النضالات المحليّة و المتعددة, ذات الطابع الواحد في كل مكان, تتمركز في نضال وطني, في نضال طبقيّ. غير أنّ كل نضال طبقي هو نضال سياسي. و الإتحاد الذي اقتضى سكان بلدان القرون الوسطى قرونا لتحقيقه, نظرا إلى طُرقاتهم البدائية, تحقّـقه البروليتاريا العصرية في سنوات قليلة بفضل السكك الحديدية .
و انتظام البروليتاريين في طبقة, و بالتالي في حزب سياسي, تنسفه مجددا و في كل لحظة المزاحمة بين العمال أنفسهم؛ لكنه ينهض مرارا و تكرارا قوى و أمتن و أشدّ يأسا, و يستفيد من الإنقسامات في صفوف البرجوازية, فينتزع الإعتراف على وجه قانوني ببعض مصالح العمال, مثل قانون العمل عشر ساعات (يوميا) في انكلترا .
و عموما فإنّ صدامات المجتمع القديم تدفع بطرق شتى بتطور البروليتاريا قدُما. فالبرجوازية تعيش في صراع دائم: في البدء, ضدّ الأرستقراطية, ثم ضدّ تلك الأقسام, من البرجوازية نفسها, التي تتناقض مصالحها مع تَقدُّم الصناعة, ثم بصورة دائمة ضدّ برجوازية جميع البلدان الأجنبية. و في كل هذه الصراعات تجد البرجوازية نفسها مضطرة إلى الإستنجاد بالبروليتاريا, و طلب معنوتها, و بذلك تَجرّها إلى المعترك السياسي. و هكذا فإنّ البرحوازية نفسها هي التي تزوّد البروليتاريا بعناصرها التثقيفية أي بالأسلحة التي ترتدّ عليها.
و إضافة إلى ذلك و كما رأينا قبلا, فإن أقساما بكاملها من الطبقة السائدة تنحدر, بفعل تَقدُّم الصناعة, إلى البروليتاريا, أو تتهدد على الأقل بأوضاعها المعيشية. و هذه الأقسام تمدّ البروليتاريا أيضا بطائفة من العناصر التـثـقيـفية .
و أخيرا, عندما يقترب الصراع الطبقي من الحسم, تتخذ عملية التـفسّخ داخل الطبقة السائدة, و داخل المجتمع القديم بأسره, طابعا عنيفا و حادا, إلى حد أنّ قسما صغيرا من الطبقة السائدة يَنسلخ عنها و ينضمّ إلى الطبقة الثورية, إلى الطبقة التي تحمل بين يديها المستقبل. و مثلما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية, ينتقل الآن قسم من البرجوازية إلى البروليتاريا, لا سيما هذا القسم من الإيديولوجيين البرجوازيين, الذين ارتفعوا إلى مستوى الفَهم النظري لمُجمل الحركة التاريخية .
ومن بين جميع الطبقات, التي تُـناهض البرجوازية اليوم, فإنّ البروليتاريا وحدها هي الطبقة الثورية حقا. فالطبقات الأخرى تنهار و تتلاشى أمام الصناعة الكبيرة, و البروليتاريا هي نِتاجُها الخاص.
و الطبقات الوسطى - الصناعي الصغير و التاجر الصغير و الحِرفيّ الصغير و الفلاّح الصغير - كلها تحارب البرجوازية للحفاظ على وجودها كطبقات وسطى من التلاشي. فهي إذن ليست ثورية بل مُحافظة, و فضلا عن ذلك, إنها رجعية تسعى إلى جعل عَجَلة التاريخ ترجع القهقرى. و إذا وقع لها أن تكون ثوريّة فذلك نظرا إلى انتقالها الوشيك الوقوع, إلى البروليتاريا, و هي بذلك لا تدافع عن مصالحها الراهنة, بل عن مصالحها المقبلة, فتتخلى عن موقعها الخاص, لتَتَبنّى وجهة نظر البروليتاريا .
أما اللومبنبروليتريا Lumpenproletariat (دون, أو تحت البروليتاريا), هذا النتن المُستسلم, حثالة الفئات الدنيا من المجتمع القديم, فإنها قد تنجرف هنا و هناك في الحركة بفعل ثورة بروليتارية, لكنها بحكم وضعها الحياتي كله تصبح أكثر استعدادا لبيع نفسها لمكائد لرجعية.
ففي شروط حياة البروليتاريا تمّ تـقويض شروط حياة المجتمع القديم. فالبروليتاري لا ملكيّة له, و علاقته بالزوجة و الأطفال لم يبق جامع يجمعها بعلاقات الأسرة البرجوازية؛ و العمل الصناعي الحديث و الإستذلال الحديث, في ظل رأس المال, جرّداه سواء في إنكلترا أو في فرنسا, و في أميركا أو في ألمانيا, من كل طابع قومي؛ و القوانين و الأخلاق و الدين هي و الأحكام البرجوازية المغرضة الكثيرة, سواسية بالنسبة إليه, تتستر وراءها مصالح برجوازية كثيرة.
فالطبقات السالفة كلها, التي استولت على السلطة, كانت تسعى إلى توطيد مركزها المكتسب بإخضاعها المجتمع بأسره لشروط كسبها. و البروليتاريون لا يستطيعون الإستيلاء على القوى المجتمعية المنتجة, إلاّ بإلغاء النمط السالف الخاص بهم لامتلاك المال, و بالتالي بالقضاء على كل نمط للإمتلاك قائم حتى الآن. و البروليتاريون لا يملكون شيئا يحافضون عليه, و عليهم أن يقوضوا كل الضمانات الخاصّة, و كل الحمايات الخاصّة, و القائمة حتى الآن.
فحتى الآن كانت الحركات كلها إمّا حركات أقليات, و إمّا لمصلحة الأقليات. و الحركة البروليتارية, هي الحركة القائمة بذاتها, للأغلبية الساحقة, في سبيل الأغلبية الساحقة. و البروليتاريا, الفئة الدنيا في المجتمع الراهن, لا يمكنها أن تنهض و تنتصب, بدون أن تنسف البنية الفوقية كلها للفئات التي تؤلّف المجتمع الرسمي .
و مع أنّ نضال البروليتاري ضد البرجوازية ليس قوميا في محتواه, فإنه يتّخذ في البداية الشكل القومي, و لا حاجة إلى القول إنّ على البروليتاريا في كل بلد أن تتخلص من برجوازيتها الخاصة.
و بإجمالنا أطوار نمو البروليتاريا في خطوطها الكبرى, تتـبّعنا أيضا الحروب الأهلية الكامنة تقريبا داخل المجتمع القائم, حتى الحين الذي تنفجر فيه هذه الحروب ثورة علنيّة, تُرسي البروليتاريا سيطرتها بإطاحة البرجوازية بالعنف .
و قد رأينا أنّ كل مجتمع حتى الآن قام على التناحر بين الطبقات العسفية و الطبقات المضطهَدَة. و للتمكن من اضطهاد طبقة ينبغي أن تؤمّن لها شروط معبشية تمكنها, على الأقل, من مواصلة وجودها العبودي. فالقنّ, في عهد القنانة توصّل إلى أن يغدو عضوا في كمونة, و كذلك ارتفع البرجوازي الصغير إلى برجوازي تحت نير الحكم الإقطاعي الإستبدادي. بخلاف ذلك, فإنّ العامل العصري, بدلا من أن يرتفع مع تقدّم الصناعة, لا ينفك ينحط عميقا دون أوضاع طبقته نفسها. فالعامل يغدو مدقعا, و العَوَز يزداد بسرعة تفوق سرعة نُمو السكان و الثروة. و بناءً عليه يتضح أن البرجوازية عاجزة عن أن تبقي زمنا أطول الطبقة السائدة, و أن تَفرض على المجتمع شروط وجود طبقتها كقانون أعلى. فهي عاجزة عن أن تسيطر, لأنها عاجزة عن تأمين عيش عبدها, حتى في إطار عبوديته, لأنها مرغمة على تركه ينحطّ إلى وضع يُلزِمها بأن تُعيله, بدلا من أن يُعيلها. فالمجتمع لم يعد يستطيع أن يحيا تحت سيطرتها, أو بعبارة أخرى, لم يعد وجود البرجوازية يلائم المجتمع .
فالشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية و لسيطرتها, هو تكديس الثروة في أيدي خواص, تكوين الرأسمال و إنماؤه. و شرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. و العمل المأجور يقوم, حصرا, على المزاحمة بين العمّال. و تقدّم الصناعة, الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها و بلا مقاومة, يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. و هكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِل تحت أقدام البرجوازية, الأساس الذي تُنتج عليه و تتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج, قبل كل شيء, حفّاري قبرها. فانهيارها و انتصار البروليتاريا, أمران حتميّان .
___________________
(1) نعني بالبرجوازية طبقة الرأسماليين العصريين, مالكي وسائل الإنتاج المجتمعي, الذين يستخدمون العمل المأجور. و نعني بالبروليتاريا طبقة العمال الأجراء العصريين, الذين يُضطرون, لعدم امتلاكهم وسائل إنتاح, إلى بيع قوة عملهم ليتمكنوا من العيش (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية عام 1888 ).
(2) ضبطا, التاريخ المكتوب المتوارَث. ففي عام 1847. كان تاريخ النظام المجتمعي, الذي سبق التاريخ المكتوب كله, أي غير التاريخي, مجهولا تقريبا. و منذ ذلك الحين (منذ عام 1847), إكتشف هاكستهاوزن الملكية العامة للأرض في روسيا, و برهن ماورر علىأن هذه الملكية كانت الأساس المجتمعي الذي خرجت منه تاريخيا جميع القبائل الألمانية, ثم تبين تدريجيا أن المشاعية الريفية, مع الملكية الجماعية للأرض, كانت الشكل البدائي للمجتمع, من الهند إلى ايرلندا, و أخيرا تم الكشف عن البنية الداخلية لهذا المجتمع الشيوعي البدائي, بشكلها المميز, من خلال الإكتشاف المجيد لمورغان: إكتشاف الطبيعة الحقّـة للعشيرة (BENS) و موقعها في القبيلة. و بانحلال هذا المتَّحدالبدائي يبدأ انقسام المجتمع إلى طبقات متمايزة تصبح, في النهاية متعارضة (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888, و الطبعة الألمانية 1890). و قد حاولت تتبُّع عملية الإنحلال في مؤلفي "أصل العائلة, و الملكية الخاصة و الدولة". الطبعة الثانية, شتوتغارت (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888 ).
(3) المعلِّم عضو كامل الحقوق في الحرفة, معلِّم في داخل المشغل, لا رئيسه (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888).
(4) تحت إسم الكمونات كان يُشار إلى المدن, التي كانت تنشأ في فرنسا, حتى قبل أن تنتزع, من أسيادها الإقطاعيين, الإدارة المحلية الذاتية و الحقوق السياسية لطبقة العوام. و بوجه عام, تظهر إنكلترا, هنا, كنموذج للتطور الإقتصادي للبرجوازية, و تظهر فرنسا كنموذج لتطورها السياسي (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888).
الفصل الثاني
بروليتاريون و شيوعيون
ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريين عموما؟
إنّ الشيوعيين ليسوا حزبا منفصلا في مواجهة الأحزاب العمالية الاخرى و ليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح عموم البروليتاريا.
و هم لا يطرحون مبادئ خاصة يريدون قَولَبَة الحركة البروليتارية بقالبها.
إن الشيوعيين لا يتميزون عن الأحزاب البروليتارية الأخرى إلاّ في أنّهم: من ناحية, يُبرزون و يُغلِّبون المصالح المشتركة في الصراعات القومية المختلف للبروليتاريين, بصرف النظر عن تابعية عموم البروليتاريا, و من ناحية أخرى, يمثِّلون دائما مصلحة مُجمل الحركة في مختلف أطوار التطور, التي يمر بها الصراع بين البروليتاريا و البرجوازية.
إذن الشيوعيون عمليّا هم الفريق الأكثر حزما من الأحزاب العمالية في جميع البلدان, و الدافع دوما إلى الأمام, و نظريا هم متميزون عن سائر جُموع البروليتاريا, بالتبصّر في وضع الحركة البروليتارية, و في مسيرتها و نتائجها العامّة.
و الهدف الأول للشيوعيين هو الهدف نفسه لكل الأحزاب البروليتارية الأخرى: تشكّل البروليتاريا في طبقة, إسقاط هيمنة البرجوازية, و استيلاء البروليتاريا عن السّلطة السياسية.
و طروحات الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار, على مبادئ, ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مُصلحي العالم.
إنّها فقط تعبير عام عن الشروط الحقيقية لصراع طبقيّ قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا. و إلغاء علاقات الملكية القائمة حتى الآن, ليس هو إطلاقا السِّمة المميزة للشيوعية.
فعلاقات الملكية كلها, كانت خاضعة لتغيّر تاريخي مستمر لتحوّل تاريخي مُتواصل. فالثورة الفرنسية, مثلا, قضت على الملكية الإقطاعية لمصلحة الملكية البرجوازية.
و إنّ ما يميّز الشيوعية, ليس القضاء على الملكية بشكل عام, بل إلغاء الملكية البرجوازية.
غير أن الملكية الخاصة للبرجوازية االعصرية هي آخر تعبير و أكمله عن الإنتاج و تملّك المنتجات القائم على التناحرات الطبقية, و على استغلال البعض للبعض الآخر.
و الحالة هذه يستطيع الشيوعيون أن يلخّصوا نظريتهم بعبارة وحيدة: إلغاء الملكية الخاصة.
و نحن الشيوعيون, أُخذ علينا أنّنا نريد إلغاء الملكية المكتسبة شخصيا بجهد فردي, هذه الملكية التي تشكّـل, كما يُزعم, أساس كل حرية شخصية و كل فعالية و كل استقلال فردي.
ملكية مكتسبة بالجهد و الإستحقاق الشخصيين! فهل تتحدثون عن الملكية البرجوازية الصغيرة, و الفلاحية الصغيرة, التي سبقت الملكية البرجوازية؟ إننا لسنا بحاجة إلى إلغائها. فإنّ تطور الصناعة قضى و يقضي عليها يوميا.
أم أنّكم تتحدثون عن الملكية الخاصة للبرجوازية الحديثة؟
و لكن, هل يخلق العمل المأجور, أيْ عمل البروليتاري, ملكية له؟ قطعا لا. إنه يخلق رأس المال أي الملكية التي تَستَغل العمل المأجور, و التي لا يسعها أن تنمو إلاّ شرط أن تنتج عملا مأجورا جديدا, لتستغلّه مرة ثانية.
فالملكية, في شكلها الحاليّ, تتحرك في التناقض بين رأس المال و العمل المأجور. فلنمعن النظر في طرفي هذا التناقض.
إنّ كون المرء رأسماليا لا يعني أنه يشغل مركزا شخصيا فحسب. بل يشغل أيضا مركزا مجتمعيا في الإنتاج. فرأس المال هو نتاج جماعي, لا يمكن تحريكه إلا بنشاط مشترك لأعضاء كثيرين, بل إنه, في التحليل الأخير, لا يحرَّك إلاّ بالنشاط المشترك لجميع أعضاء المجتمع.
فرأس المال إذن ليس فاعليّة شخصية, بل فاعليّة مجتمعية.
و من ثم, إذا تحوّل رأس المال إلى ملكية مشتركة تخص جميع أعضاء المجتمع, فهذا التحول هو فقط الذي يتحول, (أي) أنّ الملكية تفقد طابعها الطبقي.
و لننتقل إلى العمل المأجور: فإن الثمن الوسط للعمل المأجور هو الحدّ الأدنى لأجر العمل, أي جملة وسائل العيش الضرورية لبقاء العامل كعامل على قيد الحياة. و من ثم, فإنّ ما يتملّكه العامل المأجور بجهده يكفي فقط لإعادة إنتاج حياته.
و نحن لا نريد, على الإطلاق, إلغاء هذا التملك الشخصي لمنتجات العمل من أجل إعادة إنتاج الحياة الشخصية, فهذا التملّك لا يترك حاصلا (ربحا) صافيا يُخوّل السيطرة على عمل الغير. نحن نريد فقط إلغاء الطابع المقيت لهذا التملك, الذي لا يحيا فيه العامل إلاّ لتنمية رأس المال, و لا يحيا إلاّ بالقدر الذي تتطلبه مصلحة الطبقة السائدة.
فالعمل الحرّ, في المجتمع البرجوازي, ليس سوى وسيلة لزيادة العمل المتراكم, و العمل المتراكم, في المجتمع الشيوعي, ليس سوى وسيلة لتوسيع السيرورة الحياتية للعمال, و لإغنائها و ترقيتها.
ففي المجتمع البرجوازي إذن يتسلط الماضي على الحاضر, و في المجتمع الشيوعي يتسلط الحاضر على الماضي. و في المجتمع البرجوازي رأس المال مستـقـل و له ذاتية مميزة, في حين أن الفرد الفاعل لا استـقلال له, و لا ذاتية مميزة.
و إلغاء هذا الوضع تسمّيه البرجوازية إلغاء الشخصية الفردية و الحرية! و هي على حق. فإنّ الأمر يتعلق فعلا بإلغاء فردانية البرجوازي و استقلاله و حريته.
و في نطاق علاقات الإنتاج البرجوازية الراهنة يُـقصد بالحرية: التجارة الحرّة, و البيع الحرّ, و الشراء الحرّ.
و لكن إذا انتفى الإتجار الجشع انتفى أيضا الإتّجار الحرّ. فالتبجحات بالإتّجار الحرّ, شأن كل التبجّحات الأخرى لبرجوازيتنا حول الحرية, لا معنى لها إلاّ بالمقابلة بالإتجار المقيّد, و بالمقابلة بالبرجوازي المُستعبَد في القرون الوسطى, و لا معنى لها إطلاقا بالمقبلة بالإلغاء الشيوعي للإتجار, و لعلاقات الإنتاج البرجوازية, و للبرجوازية نفسها.
لقد أصِبتم بالذعر لأنّـنا نريد إلغاء الملكية الخاصة. و لكن الملكية الخاصة, في مجتمعكم الراهن, مُلغاة بالنسبة إلى تسعة أعشار أعضائه. إنّها ضبطا موجودة لأنها غير موجودة بالنسبة إلى الأعشار التسعة. فأنتم إذن تلوموننا لأننا نريد إلغاء ملكية تَفرض, كشرط ضروري لوجودها, إنعدام الملكية بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من المجتمع.
و بكلمة, فإنكم تتهموننا بأننا نريد إلغاء ملكيتكم, و هذا بالتأكيد ما نريده.
و ما أن يتعذر على العمل أن يتحول إلى رأس مال, إلى نقد, إلى ريع عقاري, و باختصار إلى سلطة مجتمعية قادرة على الإحتكار, أي في اللحظة التي لا تبقى فيها الملكية الشخصية قادرة على أن تتحول إلى ملكية برجوازية, في هذه اللحظة بالذات تعلنون أنّ الفرد قد أُزيل.
إذن, أنتم تعرفون بأنكم لا تَعنون بالفرد إلاّ البرجوازي (أي) المالك البرجوازي. و هذا الفرد لا بُدّ من أن يُزال حقّا.
فالشيوعية لا تجرِّد أحدا من القدرة على تملّك منتجات مجتمعية, بل تنتزع فقط القدرة على استعباد عمل الغير بواسطة هذا التملّك.
و ثمة اعتراض علينا يقول: بإلغاء الملكية الخاصة سـينتهي كلّ نشاط و سـيَسـتشري كسل عام.
فلَو صحّ ذلك, لكان المجتمع البرجوازي قد تردّى منذ زمن بعيد في الخمول, إذ أن أولئك الذين يعملون, في المجتمع, لا يمتلكون, و أولائك الذين يمتلكون, لا يعملون. فهذا الوسواس كله يُؤوّل إلى هذا الحشو: حين لا يبقى للرأسمال وجود لا يبقى للعمل المأجور وجود.
و الإعتراضات كلها, التي توجّه إلى النمط الشيوعي في إنتاج المنتجات المادية و تملكها, تشمل أيضا إنتاج النتاجات الفكرية و تملكها. و كما أنّ زوال الملكية الطبقية يعادل, في نظر البرجوازي, زوال الإنتاج نفسه, فإنّ زوال الثقافة الطبقية يماثل, في تظره, زوال الثقافة إطلاقا.
و الثقافة التي ينوح البرجوازي على ضياعها ليست, بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة, إلا تدريبا يجعل منها ماكينات.
و لكن لا تجادلونا و أنتم تقيسون إلغاء الملكية البرجوازية بمفاهيمكم البرجوازية عن الحرية و الثـقافة و الحق إلخ.. فإنّ أفكاركم نفسها هي نِتاج علاقات الإنتاج البرجوازية و الملكية البرجوازية, شأن حقكم, الذي ليس هو سوى إرادة طبقتكم, التي سُـنّـت قانونا, إرادة حدَّدت الشروط المادية لحياة طبقتكم, مضمونها.
فنظرتكم المنفعيّة, التي تحوّلون بها علاقات إنتاجكم و ملكيتكم, من علاقات تاريخية عابرة في مجرى الإنتاج إلى قوانين أبديّة (ثابتة) للطبيعة و العقل, هذه النظرة تتشاطرونها و جميع الطبقات السائدة التي بادت. فإن ما تفهمونه بالملكية القديمة, و ما تفهمونه بالملكية الإقطاعية, لم يعد بعد الآن معقولا بالنسبة إلى الملكية البرجوازية.
و إلغاء العائلة! حتى أكثر الراديكاليين تطرفا تثور ثائرتهم على هذا القصد الدنيء للشيوعيين.
فَعلامَ ترتكز العائلة الراهنة, العائلة البرجوازية؟ على رأس المال و التملك الخاص. و هي لا توجد بتمام تطورها إلاّ بالنسبة إلى البرجوازية, لكنّها تَجد تكملتها في الحرمان القسري من العائلة, بالنسبة إلى البروليتاري, و في البغاء العلني.
و العائلة البرجوازية تضمحلّ طبعا باضمِحلال تكملتها, فكلتاهما تزولان بزوال رأس المال.
أتأخذون علينا أنّنا نريد إلغاء استغلال الآباء لأبنائهم؟ هذه الجريمة نعترف بها, لكن تقولون إننا, بإحلال التربية المجتمعية محلّ التربية البيتـيّة, نقضي على أكثر العلاقات حميمية.
أليس المجتمع هو الذي يحدد تربيتكم أنتم, أيضا؟ ألا تحددها العلاقات المجتمعية التي تربون في إطارها؟ ألا يحددها تدخل المجتمع المباشر و غير المباشر بواسطة المدرسة, إلخ..؟ فالشيوعيون لا يبتدعون فعل المجتمع في التربية. إنهم فقط يغيّرون خاصيّـته و ينتزعون التربية من تأثير الطبقة السائدة.
فكلما تمزقت, نتيجة للصناعة الكبيرة, كلّ روابط البروليتاري العائلية, و تحوّل الأولاد إلى مجرّد سلع تجارية و مجرّد أدوات عمل, تصبح التشدقات البرجوازية بالعائلة و التربية و بعلاقات الإلفة بين الآباء و الأبناء, أكثر إثارة للتـقـزز.
و "لكنكم, أيها الشيوعيون, تريدون إدخال إشاعة النساء". كذا تزعق بنا بصوت واحد البرجوازية كلها.
فالبرجوازي يرى في امرأته مجرَّد أداة إنتاج. و هو يسمع أن أدوات الإنتاج يجب أن تشتغل جماعيا. و طبعا, لا يسعه إلاّ أن يعتقد بأنّ قدَر الإشتراكية سيصيب النساء أيضا.
و لا يدور في خلده أنّ الأمر يتعلق, ضبطا, بإلغاء وضع النساء كمجرّد أدوات إنتاج.
و للمناسبة, لا شيء أكثر إثارة للسخرية من ذعر برجوازيتنا الأخلاقي المسرف في أخلاقيته, من إشاعة النساء الرسمية, المدَّعَى بها على الشيوعيين. فالشيوعيون ليسوا بحاجة إلى إدخال إشاعة النساء, فقد وُجدت على الدوام تقريبا.
فبرجوازيّونا, غير القنوعين بأن تكون تحت تصرّفهم, نساء بروليتاريتهم و بناتهم, ناهيك عن البغاء الرسمي, يجدون متعة خاصة في أن يتداينوا باتفاق متبادل.
فالزواج البرجوازي, في الحقيقة, هو إشاعة النساء المتزوجات. و قصارى ما يمكن أن يُلام عليه الشيوعيون, هو أنهم يريدون إحلال إشاعة رسمية و صريحة للنساء محل إشاعة مستترة نفاقا.
و للمناسبة, من البديهي أنه بإلغاء علاقات الإنتاج الراهمة تزول أيضا إشاعة النساء الناجمة عنها, أي (يزول) البغاء الرسمي و غير الرسمي.
و فوق ذلك, يُـتَّهم الشيوعيون بأنهم يريدون إلغاء الوطن و القومية.
فالعمّال لا وطن لهم. فلا يمكن أن يُسلب منهم ما لا يملكونه. و بما أنه ينبغي على البروليتاريا أن تستولي, أولا, على السلطة السياسية, و أن تنصّب نفسها طبقة قومية, و أن تتـقوَّم كأمّة, فإنّها ما تزال وطنية, لكن ليس قطعا بالمعنى البرجوازي للكلمة.
فمع نمو البرجوازية, مع حرية التجارة, مع السوق العالمية, مع التماثل في الإنتاج الصناعي و الأوضاع الحياتية الملائمة لذلك, تزول الفواصل القوميّة و التناقضات بين الشعوب, أكثر فأكثر.
و سيطرة البروليتاريا ستُـزيلها أكثر فأكثر. و عمل البروليتاريا الموحّد, في البلدان المتحضّرة على الأقل, هو أحد الشروط الأولية لتحررها.
و بقدر ما يُقضي على استغلال الفرد للفرد يُقضى على استغلال أُمّة لأمّة أخرى.
و مع زوال التناحر بين الطبقات داخل الأمّة يزول موقف العَدَاء من الأمم.
و التهم الموجّهة إلى الشيوعية, من وُجُهات نظر دينية فلسفية إيديولوجية, عموما, لا تستحق نقاشا أكثر تفصيلا.
و هل من حاجة إلى نظر ثاقب لإدراك أنه مع تغير أوضاع الناس المعيشية و علاقاتهم المجتمعية, و حياتهم الإجتماعية, تتغير أيضا تصوراتهم و معتقداتهم و مفاهيمهم, و بكلمة: وعيهم؟
و هل يُبرهن تاريخ الأفكار على شيء سوى أنّ الإنتاج الفكري يتحوّل بتحوّل الإنتاج المادي؟ فالأفكار التي سادت عصرا من العصور, لم تكن قطّ إلاّ افكار الطبقة السائدة.
فعندما يجري الحديث عن أفكار تُـثـوِّر مجتمعا بأسره, يُعبَّر فحسب عن واقع, و هو أنّ عناصر مجتَمع جديد قد تكونت في عقر المجتمع القديم, و أنّ انحلال الأوضاع المعيشية القديمة يواكبه انحلال الأفكار القديمة.
فحينما كان العالم القديم يتهاوى انتصر الدين المسيحي على الأديان القديمة, و حينما غُلبت الأفكار المسيحية على أمرها, في القرن الثامن عشر أمام أفكار التنوير, كان المجتمع الإقطاعي يلفظ أنفاسه الأخيرة في صراعه مع البرجوازية, الثوريّة آنـئـذٍ. و لم تكن أفكار حرية المعتقد و الحرية الدينية إلاّ تعبيرا عن نظام المزاحمة الحرة في مجال المعرفة.
و قد يُقال: "إن الأفكار الدينية و الأخلاقية و الفلسفية و السياسية و الحقوقية" إلخ.. قد تعدّلت بلا شك في مجرى التطور التاريخي, لكن الدين و الأخلاق و الفلسفة و السياسة و الحقوق ظلّت قائمة وسط هذا التحوّل.
"و فوق ذلك هناك حقائق ثابتة مثل الحريّة و العدالة إلخ.. هي واحدة في جميع الأوضاع المجتمعية.
و الحال أنّ الشيوعية تلغي الحقائق الثابتة, تلغي الأديان و الأخلاق بدلا من تجديد تشكيلهما, فهي تـناقض, إذن, التطورات التاريخية السابقة كلّها". فإلام تؤول هذه التهمة؟ إنّ تاريخ كل مجتمع, حتى الآن, كان يتحرك في تناحرات طبقية, إتخذت أشكالا مختلفة حسب العهود المختلفة.
و لكن مهما كان الشكل الذي اتخذته هذه التناحرات على الدوام, فإنّ استغلال قسم من المجتمع للقسم الآخر هو واقع واحد لجميع العصور السالفة. و لا عجب إذن إن كان الوعي المجتمعي, في كل العصور, يتحرك, رغم التنوع و التباين, في أشكال مشتَركة (واحدة) معينة, في أشكال من الوعي لا تنحلّ تماما إلاّ بزوال التـناحر الطبقي كليا.
فالثورة الشيوعية, هي القطيعة الأكثر جذرية مع علاقات الملكية المُتوارثَة, و لا غرابة في أن تقطع في مجرى نموها, بجذرية أشدّ, صلتها بالأفكار المتوارثة.
و لكن, دعونا من اعتراضات البرجوازية على الشيوعية.
فقبلا رأينا أنّ الخطوة الأولى في ثورة العمّال هي ترفيع البروليتاريا إلى طبقة سائدة و الفوز بالديمقراطية.
فالبروليتاريا ستستخدم سلطتها السياسية لتَنتَزع من البرجوازية تدريجيا, رأس المال كله, و لِـتُمركز أدوات الإنتاج كلّها في أيدي الدولة, أي في أيدي البروليتاريا المنظَّمة في طبقة سائدة, و لتزيد حجم القوى المنتجة بأقصى سرعة ممكنة.
و في البداية, لا يمكن حدوث ذلك طبعا, إلاّ بالانتهاك الاستبدادي لحقّ الملكية و لعلاقات الإنتاج البرجوازية, أي بتدابير تبدو, إقتصاديا ناقصة و غير مأمونة البقاء, لكنّها تتجاوز نفسها في مجرى الحركة, و هي لا غنى عنها كوسيلة لقلب نمط الإنتاج بأسره.
و طبعا تختلف هذه التدابير تبعا لاختلاف البلدان.
غير أنّ تطبيق التدابير الآتية ممكن, بصورة عامة تقريبا, بالنسبة إلى البلدان الأكثر تقدما:
1- نزع الملكية العقارية و تخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة.
2- (فرض) ضريبة تصاعدية مرتفعة.
3- إلغاء قانون الوراثة.
4- مصادرة ملكية جميع المهاجرين و العُصاة.
5- مركزة التسليف في أيدي الدولة بواسطة مصرف وطني رأسماله للدولة و الإحتكار له وحده.
6- مركزة وسائل النقل في أيدي الدولة.
7- تكثير الفبارك الوطنية و أدوات الإنتاج, و استصلاح الأراضي الموات و تحسين الأراضي المزروعة, و فق تخطيط عام.
8- عمل إلزامي متكافئ للجميع, و تنظيم جيوش صناعية, لا سيما للزراعة.
9- التوفيق بين العمل الزراعي و الصناعي, و العمل تدريجيا على إزالة الفارق بين المدينة و الريف.
10- تربية عامة و مجانية لجميع الأطفال, و إلغاء عمل الأولاد في الفبارك بشكله الراهن, و التوفيق بين التربية و الإنتاج المادي, إلخ..
و ما أن تختفي, في سياق التطور, الفوارق الطبقية, و ما أن يتجمع الإنتاج كلّه في أيدي الأفراد المتشاركين, حتى تفقد السلطة العامة طابعها السياسي. فالسلطة العامة طابعها السياسي. فالسلطة السياسية, بمعناها الحقيقي, هي العنف المنظَّم لطبقة في سبيل قمع طبقة أخرى.
فعندما تتوحد البروليتاريا وجوباً في طبقة إبّان كفاحها ضد البرجوازية, و عندما تـنصّب نفسها بثورة طبقة سائدة, و تلغي علاقات الإنتاج القديمة بالعنف, بصفتها طبقة سائدة, فإنها تلغي أسباب وجود التناحر الطبقي و تلغي بالتالي الطبقات عامة, تلغي سيطرتها الخاصة كطبقة.
و محل المجتمع البرجوازي القديم, بطبقاته و تناحراته الطبقية, يحلّ تجمُّع تشارُكيّ, يكون فيه التبسُّط الحر لكل فرد شرطا للتبسُّط الحر للجميع.
الأدب الاشتراكي و الشيوعي
موقف الشيوعيين من مختلف أحزاب المعارضة
*********************************************
الفصل الثالث
الأدب الاشتراكي و الشيوعي
1 - الإشتراكية الرجعية
أ - الإشتراكية الإقطاعية
وَجدت الأرستقراطية الفرنسية و الإنكليزية نفسها مدعوّة, بحكم موقعها التاريخي, إلى كتابة قطع هجائية ضدّ المجتمع البرجوازي الحديث. ففي ثورة تموز (يوليو) الفرنسية عام 1830, و في حركة الإصلاح الإنكليزية, كانت قد انهزمت مرة أخرى, أمام هذا الوصوليّ المقيت, فلم يعد ممكنا الحيث عن نضال سياسي جديّ. لقد بقي لها النضال الأدبي فقط. و لكن التشدقات الكلامية القديمة, عهد إعادة المَلَكية (1) , غدت في ميدان الأدب أيضا مستحيلة. و لتستدرَّ العطف اضطرت الأرستقراطية إلى التظاهر بالتخلّي عن مصالحها, و إلى وضع قرارها الإتهامي ضد البرجوازية لمصلحة الطبقة العاملة المستَغلَّة فقط. و على هذا الوجه وفرت لنفسها لذة هجاء سيّدها الجديد بواسطة الأغاني, و الغمغمة في أذنه بتنبؤات مشحونة بفيض من النذر.
و هكذا نشأت الإشتراكية الإقطاعية مزيجا من نحيب و هجاء من صدى الماضي و وعيد المستقبل, مصيبة أحيانا البرجوازية في الصميم بحُكم قاس ثاقب, و مُثيرة السخرية باستمرار لعجزها التام عن إدراك مسيرة التاريخ الحديث.
فعوضا عن التلويح بالرّاية لوَّح الأرستقراطيون بمخلاة التسوّل البروليتارية, ليحشروا الشعب خلفهم, لكنه ما أن تبعهم حتى لمح على عجيزتهم شارات النَّسَب الإقطاعية القديمة, فانفضَّ عنهم بقهقهات وقحة مستخفة.
و قد أجاد في تمثيل هذا المشهد قسم من الشرعيين الفرنسيين و من إنكلترا الفتاة.
و عندما يبرهن الإقطاعيون على أنّ نمط استغلالهم كان يختلف عن نمط الإستغلال البرجوازي, ينسَون فقط أنهم كانوا يستغلون في أوضاع و شروط مختلفة كليا ولّى اليوم عهدها. و عندما يُثبتون أنّ البروليتاريا الحديثة لم تكن موجودة في ظل سيطرتهم, ينسَون فقط أنّ البرجوازية الحديثة كانت, ضبطا, وليدا واجب الوجود لنظامهم المجتمعي.
و زد على ذلك أنهم قلّما يُخفون الطابع الرجعي لانتقادهم, إذ أنّ مأخذهم الرئيسي على البرجوازية يَكمُن, ضبطا, في القول إنّ الطبقة التي تتبسط في ظلّ نظامها, ستنسف التظام المجتمعي القديم برُمّته.
و هم لا يلومون البرجوازية, أكثر ما يلومونها, لأنها أنجبت البروليتاريا بشكل عام, بل لأنها أنجبت البروليتاريا الثورية.
و لذا فإنهم في الممارسة السياسية يشتركون في جميع التدابير القمعية ضد الطبقة العاملة, و رغما عن تشدقاتهم الجوفاء فإنهم في حياتهم الإعتيادية يَرتضون التقاط التفاحات الذهبية, و مقايضة الوفاء و الحب و الكرامة بالمتاجرة بالصوف و الشمندر و العرق (2).
و مثلما سار الكاهن و الإقطاعي دوما يدا بيد تَسير الإشتراكية الكهنوتية و الإشتراكية الإقطاعية.
فلا شيء أسهل من إضفاء صبغة الإشتراكية على التنسّك المسيحي. ألم تُـلغِ المسيحية أيضا الملكية الخاصة و الزواج و الدولة؟ و بدلا منها ألم تعظ بالصدقة و التسول و التبتل و أمانة الجسد, و الحياة الرهبانية و الكنسية؟ فالإشتراكية المسيحية ليست إلاّ الماء المقدّس الذي يكرِّس به الكاهن حقد الأرستقراطي.
ب - الإشتراكية البرجوازية الصغيرة
الأرستقراطية الإقطاعية ليست الطبقة الوحيدة التي أطاحتها البرجوازية, و التي ذبُـلت شروط حياتها و هلكت في المجتمع البرجوازي الحديث. فإنّ برجوازيي المدن و فئة الفلاحين الصغار في القرون الوسطى كانوا طلائع البرجوازية الحديثة.
و هذه الطبقة لا تزال, في البلدان الأقل تطورا صناعيا و تجاريا, تعيش حياة خاملة إلى جانب البرجوازية الصاعدة.
و في البلدان, التي نمت فيها الحضارة الحديثة, تكونت برجوازية صغيرة جديدة تتأرجح بين البروليتاريا و البرجوازية. و هي كجزء مكمل للمجتمع البرجوازي لا تفتأ تعيد تشكيل نفسها؛ و من جرّاء المزاحمة ينحدر أفرادها باستمرار إلى (صفوف) البروليتاريا؛ بالإضافة إلى ذلك يرون, مع نمو الصناعة الكبيرة, اقتراب الساعة التي سيضمحلّون فيها كليّا, بوصفهم قسما مستقلا عن المجتمع الحديث, ليحُلّ محلهم, في التجارة و المانيفاتورة و الزراعة, نُظّار العمل و المستخدمين.
و كان طبيعيا, في بلدان مثل فرنسا, حيث تُشكّل طبقة الفلاحين أكثر من نصف السكان, أن يَعمد الكُـتّاب, الذين يناصرون البروليتاريا ضد البرجوازية, إلى استخدام معيار برجوازي صغير و فلاحي صغير في نقدهم النظام البرجوازي, و أن ينحازوا إلى العمال من وجهة نظر البرجوازية الصغيرة. و على هذا الوجه تكونت الإشتراكية البرجوازية الصغيرة.
و سيسموندي هو زعيم هذا الأدب لا في فرنسا فحسب بل في إنكلترا أيضا.
فهذه الإشتراكية حلّلت, بكثير من الفطنة, التناقضات في علاقات الإنتاح الحديثة, و فضحت تبريرات الإقتصاديين المنافقة, و أثبتت, بشكل لا يُدحض, التأثيرات المدمِّرة للمكننة, و تقسيم العمل, و حصر رؤوس الأموال و الملكية العقارية, و الإنتاج الزائد, و الأزمات و الإنحلال المحتم للبرجوازيين الصغار و الفلاحين الصغار, و بؤس البروليتاريا, و الفوضى في الإنتاج, و التفاوت الصارخ في توزيع الثروة, و الحرب الصناعية الماحقة بين الأمم و انحلال العادات القديمة, و العلاقات العائلية القديمة, و القوميات القديمة.
و هذه الإشتراكية, بحسب مضمونها الوضعي, تريد إمّا إعادة وسائل الإنتاج و التبادل القديمة, و بذلك تعيد علاقات الملكية القديمة و المجتمع القديم, و إمّا حصر وسائل الإنتاج و التبادل الحديثة بالقوة في إطار علاقات الملكية القديمة الذي نَسفته, و الذي لا بدّ من نسفه. و هي في كلتا الحالتين رجعيّة و طوباوية في آن واحد.
النظام الحرفي في المانيفاتورة, و الإقتصاد البطريركي في الريف: تلك هي كلمتها الأخيرة, و هذا الإتجاه إنتهى, في تطوره اللاحق, إلى مُواءٍ جبان.
ج - الإشتراكية الألمانية أو الإشتراكية "الصحيحة"
إنّ الأدب الإشتراكي و الشيوعي في فرنسا, الذي نشأ تحت ضغط برجوازية مسيطرة, تعبيرا أدبيا عن النضال ضد هذه السيطرة, أُدخِل إلى ألمانيا في وقت كانت البرجوازية (الألمانية) تستهلّ نضالها ضد الإقطاعية الإستبدادية.
و بشراهة تخاطف الفلاسفة, و أدعياء الفلسفة, و الأدباتية الألمان, هذا الأدب. و لكنهم نسوا أنّ نزوح تلك الكتابات, من فرنسا إلى ألمانيا, لم يرافقه في الوقت نفسه نزوح أوضاع الحياة الفرنسية. فـفقد الأدب الفرنسي, في الأوضاع الألمانية, كل أهمية عملية مباشرة و اتخذ وجها أدبيا بحتا. و من ثم كان لا بد من أن يبدو كتأمل لا نفع فيه حول تحقيق الجوهر الإنساني. و هكذا, لم تكن مطالب الثورة الفرنسية الأولى, في نظر الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر, سوى مطالب "العقل المعياري" بصورة عامة, و تجليات إرادة البرجوازية الثورية الفرنسية, لم تكن تعني في نظرهم, سوى قوانين الإرادة البحتة, الإرادة كما ينبغي أن تكون, الإرادة الإنسانية الحقة.
و العمل الوحيد للأدباء الألمان كان ينحصر في التوفيق بين الأفكار الفرنسية الجديدة و وجدانهم الفلسفي القديم, أو بالأحرى في انتحال الأفكار الفرنسية انطلاقا من آرائهم الفلسفية؛ و هذا الإنتحال تم بالطريقة نفسها التي يتعلم بها المرء عادة لغة أجنبية, أي بواسطة الترجمة.
و معروف كيف استبدل الرهبان عناوين المخطوطات, المنطوية على الأعمال الكلاسيكية للعهد الوثني القديم, بعناوين حكايات سمجة لقدّيسين كاثوليك. أمّا الأدباء الألمان فقد تصرفوا حيال الأدب الفرنسي الدنيوي على عكس ذلك, لقد ذيَّلوا الأصل الفرنسي بهرائهم الفلسفي, فكتبوا, مثلا تحت النقد الفرنسي للعلاقات المالية: "تجريد الكائن البشري", و تحت النقد الفرنسي للدولة البرجوازية: "إلغاء سيطرة الكلّي المجرَّد" إلخ..
إن دسّ هذه العبارات الفلسفية الجوفاء, تحت التطويرات الفرنسية, عمَّدوه بأسماء, مثل "فلسفة الفعل", و "الإشتراكية الحقّة", و "علم الإشتراكية الألمانية", و "التعليل الفلسفي للإشتراكية", إلخ..
و بهذه الطريقة خُصي الأدب الإشتراكي-الشيوعي الفرنسي خصيا واضحا. و بما أن هذا الأدب كفَّ في أيدي الألمان, عن التعبير عن نضال طبقة ضد أخرى, تصوّر الألمان أنهم تجاوزوا "المحدودية الفرنسية", و أنّهم دافعوا لا عن الحاجات الحقيقية, بل عن الحاجة إلى الحقيقة, و لا عن مصالح البروليتاري, بل عن مصالح الكائن البشري, مصالح الإنسان على العموم, الإنسان الذي لا ينتمي إلى أي طبقة, و لا إلى الواقع إطلاقا, بل ينتمي فحسب إلى سماء الخيال الفلسفي المضبَّبة.
و هذه الإشتراكية الألمانية, التي حملت تمارينها المدرسية الحمقاء على محمل الجد و المهابة الكبيرين, و زمَّرت لها و طبّلت بمثل هذا الزعيق, فقدت شيئا فشيئا براءتها الدعية.
فإنّ نضال البرجوازية الألمانية لا سيّما البرجوازية البروسية, و بكلمة نضال الحركة الليبيرالية ضد الإقطاعيين و الملكية المطلقة, أصبح أكثر جديّة.
و بهذا الشكل أتيحت للإشتراكية "الحقّة" الفرصة المنشودة لمواجهة الحركية السياسية بالمطالب الإشتراكية, و لصبّ اللعنات التقليدية على الليبرالية, و النظام التمثيلي, و المزاحمة البرجوازية, و حرية الصحافة البرجوازية, و القانون البرجوازي, و الحرية و المساواة البرجوازيتين, و لتحذير الجماهير من أنها لا تكسب شيئا من هذه الحركة البرجوازية, بل بالعكس ستخسر فيها كل شيء فـسَها عن الإشتراكية الألمانية, ضبطا, أنّ النقد الفرنسي الذي كانت هي صداه البليد يستلزم وُجود المجتمع البرجوازي الحديث مع الشروط الحياتية المادية المُطابقة له, و مع الدستور السياسي المُناسب, تلك المستلزمات التي كان العمل يجري في ألمانيا لتحقيقها
فالإشتراكية خَدمت الحكومات الألمانية المُطلقة و حاشيتها, من كهنة و علماء تربية و إقطاعيين بُلداء و بيروقراطيين, كفزّاعة منشودة ضد وعيد البرجوازية المتصاعد.
و الإشتراكية شكّلت التكملة المتكلفة الحلاوة, لمرارة لذع السياط و طلقات البنادق, التي تصدَّت بها الحكومات نفسها للإنتفاضات العمّالية الألمانية.
و إن كانت الإشتراكية "الحقّة" قد غدت, بهذه الصورة, سلاحا في أيدي الحكومات ضد البرجوازية الألمانية, فإنّها كانت تُمثّل مباشرة مصلحة رجعية, مصلحة البرجوازية الألمانية الصغيرة و (هذه) البرجوازية الصغيرة, التي خلّفها القرن السادس عشر و التي ما انفكت تظهر بأشكال مختلفة, تشكل في ألمانيا الأساس المجتمعي الفعليّ للأوضاع القائمة.
فالحفاظ عليها هو الحفاظ على الأوضاع الألمانية القائمة. و هي تخاف من الهلاك المبين أمام السيطرة الصناعية و السياسية للبرجوازية, نتيجة لتمركز رأس المال من ناحية, و لبروز بروليتاريا ثورية من ناحية أخرى؛ و قد تراءى لها أنّ الإشتراكية "الحقّة" قادرة على إصابة عصفورين بحجر واحد. فـتـفشّت (الإشتراكية) تفشّي الوباء.
و الحُـلّة المصنوعة من شفافية النظريات التجريدية, و المطرَّزة بمحسِّنات لفظيّة, و المسبقة بندى الوجد الدافئ - هذه الحُـلّة, التي غلَّف بها الإشتراكيون الألمان بِضْعا من "حقائقهم الخالدة" (الثابتة) الهزيلة, لم تَزد إلاّ في رواج بضاعتهم لدى الجمهور.
و أكثر فأكثر أدركت الإشتراكية الألمانية من جهتها, أن مهمتها هي أن تكون المثل الطنّان لهذه البرجوازية الصغيرة.
فأعلنت أنّ الأمة الألمانية هي الأمة السوية, و أنّ البرجوازي الألماني الصغير هو الإنسان السوي. و أضفت على نذالته كلها معنى غامضا ساميا و اشتراكيا, جعلها تدل على عكس واقعها. و آل بها المطاف إلى التصدي مباشرة للإتجاه الشيوعي "الهدّام الفظّ", و أعلنت أنها تحلّـق بتجرّد فوق كل الصراعات الطبقية. و عدا استثناءات قليلة جدا فإنّ كل الكتابات الإشتراكية و الشيوعية المزعومة, المتداولة في ألمانيا, تنتمي إلى قطاع هذا الأدب القذر المثير للأعصاب(3).
2 - الإشتراكية المحافظة أو الإشتراكية البرجوازية
يرغب قسم من البرجوازية في معالجة الأوضاع المجتمعية السيئة لضمان بقاء المجتمع البرجوازي.
و يندرج في هذا القسم: إقتصاديون و خيِّرون و إنسانيون و محسّنو وضع الطبقات الكادحة, و منظِّموا أعمال البر و الإحسان و جمعيات الرفق بالحيوان, و جمعيات الإعتدال و القناعة, و مصلحون ضيقو الأفق من كل الأصناف. و اشتراكية البرجوازيين هذه صيغت في مذاهب كاملة.
و نورد, مثالا على ذلك, "فلسفة البؤس" لبرودون.
فالبرجوازيون الإشتراكيون يريدون شروط حياة المجتمع الحديث, (لكن) بدون النضالات و الأخطار الناجمة عنها بالضرورة. إنّهم يريدون المجتمع القائم منقى من العناصر التي تثوِّره و تهدمه. إنّهم يريدون البرجوازية بدون البروليتاريا. و بالطبع تتصور البرجوازية العالم الذي تسود فيه كأفضل العوالم. و اشتراكية البرجوازيين تصوغ من هذا التصوّر المعزّي نصف مذهب أو مذهبا كاملا. و هي, بدعوتها البروليتاريا إلى تحقيق مذاهبها و الدخول إلى أورشليم الجديدة, تطالب في الحقيقة فقط بأن تتشبّث (البروليتاريا) بالمجتمع الراهن, على أن تنفض عنها تصورات كراهيتها لهذا المجتمع.
و هناك شكل آخر لهذه الإشتراكية, عمليا أكثر و أقل تمذهبا, سعى إلى جعل الطبقة العاملة تنفر من كل حركة ثورية, بالبرهنة على أنّ ما يسعه أن يُفيدها, ليس هذا التغيير السياسي أو ذاك, و إنّما فقط تغيير أوضاع الحياة المادية, أي الأوضاع الإقتصادية. و هذه الإشتراكية لا تفهم إطلاقا أنّ تغيير أوضاع الحياة المادية يقتضي إلغاء علاقات الإنتاج البرجوازية, الذي لا يتمّ إلاّ بالطريق الثوري, بل تعني إصلاحات إدارية تستند إلى أساس علاقات الإنتاج هذه, أي أنها لا تغير شيئا في العلاقة بين رأس المال و العمل المأجور, بل تـقلل, في أفضل الأحوال, نفقات سيطرة البرجوازية و تخفف ميزانية الدولة.
فاشتراكية البرجوازيين لا تبلغ تعبيرها المُلائم إلاّ عندما تسمي مجرد تعبير بياني. فحرية التجارة, لمصلحة الطبقة العاملة, و الحماية الجمركية, لمصلحة الطبقة العاملة, و السجون الإنفرادية, لمصلحة الطبقة العاملة: هذه هي الكلمة الأخيرة و الوحيدة الجادة, التي تقصدها اشتراكية البرجوازيين.
فاشتراكية البرجوازية لا تكمن إلاّ في الإدعاء القائل إنّ البرجوازيين هم برجوازيون - لمصلحة الطبقة العاملة.
3 - الإشتراكية و الشيوعية النقديتان الطوباويتان
و هنا لا نتحدث عن الأدب الذي أعرب, في كل الثورات الكبرى الحديثة, عن مطالب البروليتاريا (كتابات بابوف, إلخ..)
فالمحاولات الأولى للبروليتاريا, لتغليب مصالحها الطبقية مباشرة في زمن غليان عام عهد انهار المجتمع الإقطاعي, أخفقت بالضرورة نظرا إلى جنينية البروليتاريا نفسها, و إلى فقدان الشروط المادية لتحرّرها, التي هي, قبل كل شيء, حصيلة العصر البرجوازي. و الأدب الثوري, الذي كان يرافق هذه الحركات الأولى للبروليتاريا, هو بالضرورة رجعي المحتوى. فهو يدعو إلى تقشف عام, إلى مساواتية فجة.
و في الحقيقة فإنّ المذاهب الإشتراكية و الشيوعية, مذاهب سان سيمون, و فورييه, و أوين, إلخ.. ظهرت في الحقبة الأولى الجنينية من الصراع بين البروليتاريا و البرجوازية, أي في الحقبة التي ذكرناها آنفا (راجع: برجوازية و بروليتاريا).
إنّ مبتدعي هذه المذاهب يستبينون حقا التناحر بين الطبقات, مثلما يستبينون تأثير العناصر الهدّامة في المجتمع السائد نفسه, لكنهم لا يتبيَّـنون في إتّجاه البروليتاريا أيّ فعل تاريخي تلقائي, أو أيّة حركة سياسية خاصة بها.
و لما كان نمو التناحر الطبقي يواكب نمو الصناعة, فإنّهم كذلك لا يعثرون على الشروط المادية لتحرّر البروليتاريا, و يأخذون في البحث عن علم مجتمعي, عن قوانين مجتمعية, لخلق هذه الشروط.
فعن النشاط المجتمعي يستعيضون بنشاط حذاقتهم الشخصية, و عن الشروط التاريخية للتحرر (يستعيضون) بشروط كيفية, و عن تنظيم البروليتاريا في طبقة تنظيما تدريجيا متصاعدا (يستعيضون) بتنظيم للمجتمع يختلقونه. و في نظرهم, فإنّ تاريخ العالم المقبل ينحلّ في الدعاية و في التنفيذ العملي لتصاميمهم المجتمعية.
و لكنهم يعون أنّهم بتصاميمهم يُدافعون بالدرجة الأولى عن مصالح الطبقة العاملة, بوصفها الطبقة الأكثر معاناة. فالبروليتاريا بالنسبة إليهم لا تكون إلا بهيئة الطبقة الأكثر معاناة.
و عن الشكل الأوَّلي للصراع الطبقي, و كذلك عن وضعهم المعيشي, ينتج اعتقادهم بأنهم فوق كل تناحر طبقي. فهم يريدون أن يُحسِّنوا الوضع الحياتي لكل أعضاء المجتمع, حتى لأكثرهم يسرا. و لذا يتوجهون باستمرار إلى المجتمع بأسره بدون تمييز, بل (يتوجهون) بالأحرى إلى الطبقة السائدة. فحَسْب المرء أن يفهم مذهبهم كي يعترف بأنّه أفضل خطة ممكنة لأفضل مجتمع ممكن.
فهم إذن, ينبذون كل نشاط سياسي, و خصوصا كل نشاط ثوري, و يريدون بلوغ هدفهم بطريقة سلمية, و يحاولون أن يشقوا الطريق للإنجيل المجتمعي الجديد بتجارب صغيرة فاشلة بالطبع و بقوة المثال.
و هذا الوصف الخياليّ للمجتمع المقبل, في ومن ما زالت فيه البروليتاريا, الضعيفة النمو إلى حدّ بعيد تَنظر في وضعها بكيفية هي ذاتها خياليّة, ينبثق من اندفاعاتها السليقية الأولى نحو تحويل المجتمع تحويلا شاملا.
بَيْد أنّ الكتابات الإشتراكية و الشيوعية تشتمل أيضا على عناصر نقدية. فهي تهاجم المجتمع القائم بكل أسسه. و من ثم فإنّها تُـقدِّم مادة قيّمة جدا لتنوير العمال. فإنّ موضوعاتها الإيجابية عن مجتمع المستقبل, مثل إزالة التناقض بين المدينة و الريف, و إلغاء العائلة, و الربح الخاص, و العمل المأجور, و المناداة بالإنسجام المجتمعي, و بتحويل الدولة إلى مجرّد إدارة للإنتاج, هذه الموضوعات كلُّها لا تعبّر إلاّ عن إلغاء التناحر الطبقي الذي ابتدأ ينمو, و الذي لا تعرف هذه الكتابات إلاّ شكله الأوّلي المبهم غير المحدد - و لذا ليس لهذه الموضوعات حتى الآن سوى معنى طوباوي صرف.
فأهمية الإشتراكية و الشيوعية النقديتين - الطوباويتين تتناسب عكسا و التطور التاريخي. فبقدر ما ينمو الصراع الطبقي و يتجسم, يفقد هذا الترفُّع الخيالي عن هذا الصراع, و (تفقد) مكافحته المتخيلة, كل قيمة عملية, و كل تبرير نظري. و لهذا, إذا كان واضعوا هذه المذاهب ثوريين في كثير من النواحي, فإنّ مريديهم يؤلفون في كل حين شيعا رجعية. فهم يتشبّثون بآراء أساتذتهم القديمة تجاه التطور التاريخي المطّرد للبروليتاريا. و لذا يسعَون بإصرار إلى إخماد الصراع الطبقي الجديد, و إلى التوفيق بين التناقضات. فهم لا يزالون يحلمون بأن يحققوا تجريبيا طوباوياتهم المجتمعية - إقامة الفالانستيرات (4) المعزولة, و تأسيس مستوطنات داخلية (5), و تأسيس إيكارية (6) صغيرة - طبعة مُصغَّرة عن أورشليم الجديدة - و لبناء هذه القصور كلها على الرمال توجب عليهم أن يُناشدوا رأفة القلوب و الجيوب البرجوازية. و شيئا فشيئا ينحدرون إلى مصاف فصيلة الإشتراكيين الرجعيين أو المحافظين الذين جرى وصفهم آنفا, و هم لا يختلفون عنهم إلاّ بحذلقة أكثر منهجية, و باعتقاد خرافيّ متعصّب بالمفعول العجائبي لعملهم المجتمعي.
و لذا يتصدّون بضراوة لكل حركة سياسية عُمّالية, إذ لا يُمكن أن تصدر إلاّ عن كفر أعمى بالإنجيل الجديد.
الأوينيون في إنكلترا, و الفورييويون في فرنسا, يقاومون هناك الشارتيين و هنا الإصلاحيين.
__________________________
(1) المقصود هنا, ليس إعادة المَلَكية في إنكلترا 1660 - 1689 , بل في فرنسا 1814 - 1830. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888)
(2) هذا ينطبق بالدرجة الأولى على ألمانيا, حيث الأرستقراطيون الزراعيون و كبار أصحاب الأراضي الألمان, يشرفون على إدارة الشؤون الاقتصادية في القسم الأكبر من أراضيهم, على حسابهم الخاص بواسطة الوكلاء, و حيث يملكون علاوة على ذلك معامل كبير للسكر و العرق. أمّا أغنى الأرستقراطيين الإنكليز فلم تبلغ بهم الحال بعد هذه الدرجة, إلاّ أنهم يعرفون هم أيضا كيف يُعوّضون عن هبوط الريع بإعطاء أسمائهم لمؤسسي شركات مساهمة, مشكوك فيها إلى هذا الحد أو ذاك. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888)
(3) عاصفة ثورة عام 1848 كنست هذا الإتجاه الرث كله, و أفقدت داعامة الرغبة في مواصلة الانشغال بالاشتراكية. و المثل الرئيسي, بل النمط الكلاسيكي لهذا الإتجاه, هو السيد كارل غرون (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
(4) فلانستير, إسم القصور الإجتماعية التي تخيّلها فورييه. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
(5) المستوطنات الداخلية Home - Colonies. هكذا سمى أوين مجتمعاته الشيوعية النموذجية. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
(6) إيكارية Icarie . إسم أطلقه كابه على بلد تخيّله, ثم على مستعمرة شيوعية, أنشأها في أمريكا. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888) أسم بلد خيالي طوباوي وصف به كابه مؤسساته الشيوعية. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
الفصل الرابع
وفقا للفصل الثاني يتضح بالبداهة موقف الشيوعيين من الأحزاب العمالية القائمة, و بالتالي موقفهم من الشارتيين في إنكلترا, و الإصلاحيين الزراعيين في أمريكا الشمالية.
فهم (الشيوعيون) يناضلون لتحقيق الأهداف و المصالح المباشرة للطبقة العاملة, لكنهم في الوقت نفسه يمثلون, في الحركة الراهنة, مستقبل الحركة. ففي فرنسا ينضم الشيوعيون إلى الحزب الإشتراكي - الديمقراطي (1) ضدّ البرجوازية المحافظة و الراديكالية, بدون أن يتخلوا عن حق اتّخاذ موقف نقدي من الجُمل الرنانة و الأوهام التي خلفها التقليد الثوري.
و في سويسرا, يساندون الراديكاليين, بدون أن يَغيب عن بالهم أنّ هذا الحزب يتكوّن من عناصر متناقضة, متَّسم (مُؤلَّف) من إشتراكيين و ديمقراطيين بالمفهوم الفرنسي للكلمة, و قسم من برجوازيين راديكاليين.
و في بولونيا (بولندا) يساند الشيوعيون الحزب الذي يجعل من الثورة الزراعية شرطا للتحرر الوطني, أي ذلك الحزب الذي بثّ الحياة في انتفاضة كراكاو عام 1846.
و في ألمانيا يُناضل الحزب الشيوعي مع البرجوازية كلما قاومت البرجوازية مقاومة ثورية, النظام الملكي المطلق, و الملكية العقارية الإقطاعية, و البرجوازية الصغيرة الضيقة الأفق.
بيد أنّه لا يتغافل لحظة عن خلق وعي, واضح قدر الإمكان, لدى العمال حول التناقض العدائي بين البرجوازية و البروليتاريا, حتى يستطيع العمال الألمان أن يوجّهوا فورا الشروط المجتمعية و السياسية التي توجدها البرجوازية و سلطتها, كأسلحة عديدة, ضد البرجوازية, كي يبدأ النضال ضد البرجوازية نفسها فور إسقاط الطبقات الرجعية في ألمانيا.
فإلى ألمانيا يُوجِّه الشيوعيون اهتمامهم الرئيسي, لأنّ ألمانيا على أعتاب ثورة برجوازية, لأنّها ستـنجز هذا التحول في شروط الحضارة الأوروبية الأكثر تقدما, و مع بروليتاريا نامية للغاية, أكثر منها في إنكلترا في القرن السابع عشر, و في فرنسا في القرن الثامن عشر, لأنّ الثورة البرجوازية الألمانية بالتالي لا يمكنها إلاّ أن تكون استهلالا مباشرا لثورة بروليتارية.
و باختصار يُساند الشيوعيون, في كل مكان, كل حركة ثورية ضد الأوضاع المجتمعية و السياسية القائمة.
و في كل هذه الحركات يُبرزون مسألة الملكية, مهما كانت درجة تطور الشكل الذي تتخذه, المسألة الأساسية للحركة.
و أخيرا يعمل الشيوعيون, في كل مكان, على إقامة العلاقات, و على تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
و يأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم و مقاصدهم, و يُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلاّ بإسقاط النظام المجتمعي القائم, بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم و أمامهم عالما يكسبونه. أيّها البروليتاريون, في جميع البلدان, إتحدوا(2).
_______________________
(1) هذا الحزب كان يمثّله في البرلمان حينئذ ليدرو رولان, و في الأدب لوي بلان, و في الصحافة اليومية جريدة "لا ريفورم" (الإصلاح). و كانوا يشيرون بالإشتراكي الديمقراطي, هذا الإسم الذي اخترعه, إلى هذا القسم من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري الذي كان يتصف, إلى هذه الدرجة أو تلك, باللون الإشتراكي (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888). ما كان يُسمَّى حينئذ في فرنسا بالحزب الإشتراكي الديمقراطي, كان يُمثـله في السياسة ليدرو رولان, و في الأدب لوي بلان, و بالتالي كان بعيدا جدا عن الإشتراكية الديمقراطية الألمانية الحالية (ملاحظة إنجلس للطبعة الألمانية 1890).
(2) هذا النداء درج على ترجمته بـ "يا عمّال العالم, إتحدوا".
كارل ماركس و فريدريك انجلس / الصفحة الرئيسية
كارل ماركس و فريدريك انجلس
فهرس
برجوازيون و بروليتاريون
بروليتاريون و شيوعيون
الأدب الاشتراكي و الشيوعي
موقف الشيوعيين من مختلف أحزاب المعارضة
شبحٌ ينتاب أوروبا - شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدت في طراد رهيب قوى أوروبا القديمة كلها: البابا و القيصر, مترنيخ و غيزو, الراديكاليون الفرنسيون و البوليس الألماني.
فأي حزب معارض لم يتهمه خصومه في السلطة بالشيوعية؟
و أي حزب معارض لم يرد, بدوره, تهمة الشيوعية الشائنة, إلى أقسام المعارضة الأكثر تقدمية, و إلى خصومه الرجعيين؟
و من هذا الواقع يُستنتج أمران:
إن قوى أوروبا كلها أصبحت تعترف بالشيوعية كـقوة.
إن الشيوعيين قد آن لهم أن يعرضوا, أمام العالم كله, طرق تفكيرهم, و أهدافهم, و اتجاهاتهم, و أن يواجهوا خرافة شبح الشيوعية ببيان من الحزب نفسه.
و لهذه الغاية, إجتمع في لندن شيوعيون من مختلف القوميات, و وضعوا البيان الآتي, الذي سيصدر باللغات: الإنكليزية, و الفرنسية, و الألمانية, و الإيطالية, و الفلمنكية, و الدانماركية.
الفصل الأول
برجوازيون و بروليتاريون(1)
إن تاريخ أي مجتمع (2) حتى الآن, ليس سوى تاريخ صراعات طبقية .
حر و عبد, نبيل و عامي, بارون و قن, معلم و صانع (3), و بكلمة ظالمون و مظلومون, في تعارض دائم, خاضوا حربا متواصلة, تارة معلنة و طورا مستترة, حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله, إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين .
و في العهود التاريخية الأولى نجد, في كل مكان تقريبا, تقسيما كاملا للمجتمع إلى مراتب متمايزة, (نلقى) تدرجا متفاوتا للمنزلة المجتمعية. ففي روما القديمة, كان ثمة نبلاء, و فرسان, و عامة, و عبيد, و في القرون الوسطى, أسياد و إقطاعيون, و مقطعون, و معلمون و صناع, و أقنان. و إضافة إلى ذلك نجد, في كل طبقة من هذه الطبقات, تراتبية فارقة .
و المجتمع البرجوازي العصري, الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي, لم يلغ التناحرات الطبقية, بل أحل فقط محل الطبقات القديمة طبقات جديدة, و حالات اضطهاد جديدة, و أشكالا جديدة للنضال .
غير أن عصرنا, عصر البرجوازية, يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين, إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة: البرجوازية و البروليتاريا.
فمن أقنان القرون الوسطى تحدّر سكان أولى البلدات. و من هؤلاء السكان تكونت الأصول الأولى للبرجوازية .
فاكتشاف أمريكا و الطواف البحري حول إفريقيا أوجد للبرجوازية الناشئة مرتعا جديدا. إن سوق الهند الشرقية و الصين, و استعمار أمريكا, و التبادل مع المستعمرات, و ازدياد وسائل التبادل, و السِّلع عموما, وفرت للتجارة و الملاحة و الصناعة دفعا لم يسبق له مثيل, و بالتالي وفرت نموا سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي المتداعي .
و مع الأسواق الجديدة لم يعد نمط الإنتاج الإقطاعي, أو المشغل الحرفي في الصناعة, يسدُّ الحاجة المتنامية, فحلّت المانيفاتورة محل هذ النمط, و أزاح الصناعيون المتوسطون أصحاب المشاغل الحرفية, و زال تقسيم العمل بين الجمعيات الحرفية المختلفة أمام تقسيم العمل في الورشة الواحدة.
بيد أن الأسواق كانت تـتسع و الطلب كان يزداد باستمرار فأمست المانيفاتورة عاجزة بدورها؛ و عندئذٍ, ثوَّر البخار و الآلة الإنتاج الصناعي, و حلت الصناعة الكبيرة الحديثة محل المانيفاتورة, و حل الصناعيون أصحاب الملايين, أساطين جيوش صناعة بأكملها, أي البرجوازيون العصريون, محل الصناعيين المتوسطين .
و الصناعة الكبيرة أوجدت السوق العالمية التي مهد لها اكتشاف أمريكا. و السوق العالمية أنمت, بما لا يُـقاس, التجارة و الملاحة و المواصلات البرية. و هذا النمو أثّر بدوره في توسيع الصناعة, فبقدر ما كانت الصناعة و التجارة و الملاحة و السكك الحديدية تتوسع, كانت البرجوازية تتطور, و تُـنمّي رساميلها, و تدفع إلى المؤخرة بكل الطبقات الموروثة عن القرون الوسطى.
و هكذا نرى كيف أن البرجوازية العصرية نفسها, هي نتاج مسار تطور طويل, و سلسلة تحولات في نمط الإنتاج و المواصلات.
فكل مرحلة, من مراحل تطور البرجوازية تلك, كانت مشفوعة بتقدم سياسي متطابق. فالبرجوازية: فئة مقهورة تحت سيطرة الإقطاعيين, و عُصبة مسلحة تسوس نفسها بنفسها في -الكمونة(4)- جمهورية مدينية مستقلة هنا, و طبقة عوامٍ مُـلزمة بدفع الضرائب للنظام الملكي هناك - و قوة موازنة للنبالة زمن المانيفاتورة في النظام الملكي المقيَّد أو المطلَق, و حجر الزاوية للأنظمة الملكية الكبيرة بوجه عام, (هذه البرجوازية) انتَزعت أخيرا, بقيام الصناعة الكبيرة و السوق العالمية, السلطة السياسية كاملة في الدولة التمثيلية العصرية. و سلطة الدولة الحديثة ليست سوى هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها .
فالبرجوازية لعبت, في التاريخ, دورا ثوريا بارزا كل البروز .
و البرجوازية حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون, التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين, و لم تُـبق على أية رابطة بين الإنسان و الإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة, و الإلزام القاسي بـ "الدفع نقدا". و أغرقت الرعشة القدسية للورع الديني, و الحماسة الفروسية, و عاطفة البرجوازية الصغيرة, في أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة, و حولت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية, و أحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها, محل الحريات المُـثـبَتة و المكتسبَة التي لا تحصى. و بكلمة أحلّت استغلالا مباحا وقحا مباشرا و dir=rtl)شرسا, محل الإستغلال المُغلَّف بأوهام دينية .
فالبرجوازية جرّدت كل الفعاليات, التي كان يُنظر إليها حتى ذلك الحين بمنظار الهيبة و الخشوع, من هالتها. فحوّلت الطبيب و رجل القانون و الكاهن و الشاعر و العالم, إلى أجراء في خدمتها .
و البرجوازية نزعت حجاب العاطفية عن العلاقات العائلية و قَصَرتها (العلاقات) على علاقات مالية بحتة .
و البرجوازية كشفت كيف أنّ عرض القوة الشرسة, الذي كانت الرجعية تُعجَب به في القرون الوسطى, قد وجد تتـمّـته المؤاتية في التكاسل إلى أبعد حدود الكسل. فهي الأولى, التي بيَّـنت ما يستطيع النشاط الإنساني إتيانه. فأتت بعجائب تختلف كليا عن أهرامات مصر, و الأقنية الرومانية, و الكتدرائيات القوطية, و قامت بحملات تختلف كليا عن الإجتياحات و الحملات الصليبية.
و البرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج, و بالتالي علاقات الإنتاج المجتمعية. بخلاف ذلك, كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم, بدون تبديل, الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. و هذا الإنقلاب المتواصل في الإنتاج, و هذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية, و القلق و التحرك الدائمان, هذا كله يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من عصور. فالعلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما يستتبعها من تصوُّرات و أفكار قديمة موقّرة, تتفكك كلها, و كل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده, و التقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء, و كل ما هو مقدّس يدنّس, و الناس يُجبرون في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي, و في علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة .
و حاجة البرجوازية إلى تصريف دائم لمنتجاتها, متسع باستمرار, تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تُعشعش في كل مكان, و من أن تنغرز في كل مكان, و من أن تقيم علاقات في كل مكان.
و البرجوازية, باستثمارها السوق العالمية, طبَّعت الإنتاج و الإستهلاك, في جميع البلدان, بطابع كوسموبوليتي, و انتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد. فالصناعات القومية الهرمة دُمّرت و تدمَّـر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة, أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة, صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية, بل المواد الأولية من أقصى المناطق, صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب, بل أيضا في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة, التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها, تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتَجات أقصى البلدان و الأقاليم. و محل الإكتفاء الذاتي الإقليمي و القومي و الإنعزال القديم, تقوم علاقات شاملة في كل النواحي, و تقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم. و ما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على النتاج الفكري. فالنتاجات الفكرية لكل أمة على حدة تصبح ملكا مشتركا. و التعصب و التقوقع القوميّان يُصبحان مستحيلين أكثر فأكثر. و من الآداب القومية و الإقليمية ينشأ أدب عالميّ .
و البرجوازية, بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج, و بالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات, تـشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة. و الأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها, و تـُرغم البرابرة الأكثر حقدا و تعنتا تجاه الأجانب على الإستسلام, و تجبر كل الأمم, إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك, على تـبنّي نمط الإنتاج البرجوازي, و ترغمها على تقـبّـل الحضارة المزعومة, أي على أن تصبح برجوازية. و بكلمة هي تخلق عالما على صورتها .
و البرجوازية أخضعت الريف لسيطرة المدينة. و أنشأت مدنا ضخمة, و زادت بدرجة هائلة عدد سكان المدن إزاء سكان الريف, منتزعة بذلك قسما كبيرا من السكان من سذاجة الحياة الريفية, و مثلما أخضعت الريف للمدينة, و البلدان الهمجية و شبه الهمجية للبلدان المتحضرة, أخضعت الشعوب الفلاحية للشعوب البرجوازية, و الشرق للغرب .
و البرجوازية تقضي, أكثر فأكثر, على تشتت وسائل الإنتاج و الملكية و السكان. و قد حشرت السكان, و مركزت وسائل الإنتاج, و ركزت الملكية في أيد قليلة. فكانت المركزية السياسية, النتيجة الحتمية لذلك. فإنّ مقاطعات مستقلة, تكاد تكون متّحدة لها مصالح و قوانين و حكومات و جمارك مختلفة, حشرت في أُمة واحدة, ذات حكومة واحدة, و قانون واحد, و مصلحة قومية طبقية واحدة, و سياسة جمركية واحدة .
فالبرجوازية, في غضون سيطرتها الطبقية التي لم يَكد يمضي عليها قرن من الزمن, خَلقت قوى منتجة تفوق بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيال السابقة كلّها مجتمعة. فالآلة, و إخضاع قوى الطبيعة, و استخدام الكيمياء في الصناعة و الزراعة, و الملاحة البخارية, و سكك الحديد, و التلغراف الكهربائي, و استصلاح أراضي قارّات بأكملها, و تسوية مجاري الأنهار لجعلها صالحة للملاحة, و بروز عوامر كاملة من الأرض - أيّ عصر سالف كان يتصوّر أنّ مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعيّ؟
إذن لقد رأينا: أنّ وسائل الإنتاج و التبادل, التي انبنت البرجوازية على أساسها قد اسـتُحدثت في المجتمع الإقطاعي. و عند درجة معينة من تقدّم وسائل الإنتاج و التبادل, لم تعد الشروط التي كان المجتمع الإقاطاعي ينتج فيها و يبادل, لم يعد التنظيم الإقطاعي للزراعة و المانيفاتورة, بكلمة لم تعد علاقات الملكية الإقطاعية تتلاءم مع القوى المنتجة في تمام نموّها. فكانت تُعيق الإنتاج بدلا من دفعه نحو التقدّم, و لذا تحولت غلى قيود كان لا بُدّ من تحطيمها و قد حُطّمت .
و محلها حلت المزاحمة الحرة, مع هيكلية مجتمعية و سياسية ملائمة, مع السيطرة الإقتصادية و السياسية لطبقة البرجوازيين.
و اليوم نشهد حركة مماثلة. فإنّ علاقات الإنتاج و التبادل البرجوازية, و علاقات الملكية البرجوازية - إن هذا المجتمع البرجوازي الحديث الذي أبدع كما في السِّحر وسائل الإنتاج و التبادل الضخمة, يُشبه المشعوذ الذي فقد سيطرته على التحكُّم بالقوى الجهنمية التي استحضرها - فمنذ عشرات السنين, ليس تاريخ الصناعة و التجارة سوى تاريخ تمرُّد القوى المنتجة الحديثة على علاقات الإنتاج الحديثة, على علاقات الملكية, قوام حياة البرجوازية و سيطرتها. و يكفي ذكر الأزمات التجارية الدورية, التي تهدد أكثر فأكثر وجود المجتمع البرجوازي بأسره. ففي الأزمات التجارية, لا يُـتـلَف بانتظام جزء كبير من المنتجات فحسب, بل يـُتـلَف أيضا قسم من القوى المنتجة القائمة. و في الأزمات يتـفـشّى وباء مجتمعيّ ما كان ليبدو, في كل العصور السالفة, إلاّ مستحيلا, و هو وباء فائض الإنتاج. فإن المجتمع يجد نفسه فجأة و قد رُدَّ إلى وضع من الهمجية المؤقتة, حتى ليُخيَّل أنّ مجاعة و حرب إبادة شاملة قد قطعتاه عن وسائل العيش؛ فتبدو الصناعة و التجارة و كأنهما أثر بعد عين, و لماذا؟ لأن المجتمع يملك المزيد من الحضارة, و المزيد من وسائل لعيش, و المزيد من الصناعة, و المزيد من التجارة. و لم تعد القوى المنتجة, الموجودة تحت تصرّف المجتمع, تدفع ينمو علاقات الملكية البرجوازية قُدُما, بل بخلاف ذلك, أصبحت أقوى جدا من هذه العلاقات التي باتت تعيقها؛ و كلما تغلبت على هذا العائق جرّت المجتمع البرجوازي بأسره إلى الفوضى, و هددت وجود الملكية البرجوازية. فالعلاقات البرجوازية غدت أضيق من أن تستوعب الثروة, التي تُحدثها. فكيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات؟ من جهة بتدمير كتلة من القوى المنتجة بالعنف, و من جهة أخرى بغزو أسواق جديدة, و باستثمار الأسواق القديمة كليّا. و ما هي عاقبة هذا الأمر؟ الإعداد لأزمات أشمل و أشدّ و التقليل من وسائل تدارُكها.
فالأسلحة, التي صَرَعت بها البرجوازية الإقطاع, ترتد الآن على البرجوازية نفسها .
بَيْد أنّ البرجوازية لم تصنع, فحسب, الأسلحة التي تؤدي بحياتها, بل أنجبت أيضا الرجال الذين سيستعملون هذه الأسلحة: العمال العصريين أو البروليتاريين .
و بقدر ما تنمو البرجوازية أي رأس المال, تنمو أيضا البروليتاريا, أي طبقة العمال العصريين, الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملا. و لا يجدون عملا إلا إذا كان عملهم ينمي رأس المال. و هؤلاء العمال المُكرهون على بيع أنفسهم قطعة قطعة هم سلعة كأي صنف تجاري آخر, و لذا هم معرَّصون لكل صروف المزاحمة, و لكل تقلبات السوق .
و من جراء توسع استعمال الآلة, و تقسيم العمل, فـقـد عمل البروليتاريين كليا طابع استقلاله الذاتي, و بالتالي فـقـد كل جاذبية بالنسبة إلى العمال. فالعامل أصبح مجرّد مُلحق بالآلة, لا يُطلب منه سوى الحركة اليدوية الأكثر بساطة و رتابة و سهولة و امتهان. و من ثم, فإن ما يُكلفه العامل يكاد يقتصر على كلفة ما يلزمه للعيش, و لمواصلة نسله. و بالتالي فإنّ ثمن العامل شأن ثمن كل سلعة يُساوي كلفة إنتاجه. إذن, كلما أصبح العمل منفرا, تدنى الأجر. و فضلا عن ذلك, بقدر ما يتسع استعمال الآلة و تقسيم العمل, تشتد أيضا وطأة العمل, سواء من جرّاء زيادة ساعات العمل, أو مُضاعفة العمل المطلوب إنجازه في وقت معيّن أو تسريع حركة الآلة, الخ ..
و الصناعة الحديثة حوّلت المشغل الصغير للمعلّم الحرفي البطريكي إلى فبركة كبيرة للرأسمالي الصناعي. و جموع العمال المحشورة في الفبركة تنظَّم تنظيما عسكريا. فالعمّال, جنود الصناعة البسطاء, يُوضعون تحت رقابة تراتبية كاملة, من ضبّاط و صفّ ضبّاط. و هم ليسو عبيد طبقة البرجوازيين و دولة البرجوازيين فحسب, بل هم أيضا, في كل يوم و كل ساعة, عبيد للآلة, و لمراقب العمل, و خصوصا للبرجوازي صاحب الفبركة نفسه, و هذا الإستبداد, كلما أعلن بمزيد من الصراحة أنّ الكسب هو هدفه, إزداد دناءة و بشاعة و قسوة.
و العمل اليدوي كلما تطـلب قدرا أقل من المهارة و القسوة, أي كلما تقدمت الصناعة الحديثة, ازداد إحلال عمل النساء محلّ عمل الرجال. فالفروق في الجنس و السن لم يعد لها شأن مجتمعيّ بالنسبة إلى الطبقة العاملة, لم يعد هناك سوى أدوات عمل تختلف كلفتها باختلاف السن و الجنس .
و العامل, ما أن يستغلّه صاحب العمل, و ما أن يدفع له أجره, حتى تنقضّ عليه القطاعات الأخرى من البرجوازية: مالك البيت و البـقّـال و المرتهن إلخ ..
و المراتب الدنيا للطبقات الوسطى, التي كانت قائمة حتى الآن - صغار الصناعيين و التجار و أصحاب الرّيع و الحرفيون و الفلاحون - تصبّ في البروليتاري لأن رأسمالها الصغير لا يكفي لتشغيل الصناعة الكبيرة, فتهلك في مزاحمة كبار الرأسماليين, من جهة, و من جهة أخرى, لأن الطرائق الجديدة للإنتاج تحطّ من قيمة مهارتها, و هكذا تتكون البروليتاريا من جميع طبقات السكان.
و البروليتاريا تمرّ بدرجات تطور مختلفة. و نضالها ضد البرجوازية يبدأ مع وجودها نفسه .
ففي البدء يناضل العمال فُرادى, ثم يناضل عمال فبركة واحدة, ثم عمال فرع صناعي في منطقة واحدة, ضد البرجوازي الفرد الذي يستغلهم مباشرة. و هم لا يوجّهون هجماتهم إلى علاقات الإنتاج البرجوازية فحسب, بل أيضا إلى أدوات الإنتاج نفسها, فيتلفون السلع الأجنبية المضاربة , و يُحطِّمون الماكينات, و يُضرمون النار في الفبارك, و يَسعون إلى استعادة الموقع المفقود, موقع الصانع في القرون الوسطى .
و في هذا التطور يُشكّل العمال جموعا مبعثرة في البلاد كلها تُـشتـتها المُزاحمة. فتآزر العمال الواسع-الجماهيري, ليس بعدُ نتيجة اتحادهم الذاتي, بل هو نتيجة اتّحاد البرجوازية التي عليها, لبلوغ أغراضها السياسية الخاصة, أن تحرّك البروليتاريا بأسرها طالما هي قادرة على ذلك. و الحالة هذه فإنّ البروليتاريين في هذا الطور لا يُحاربون أعداءهم, بل أعداء أعدائهم, أي بقايا الحكم الملَكي المُطلق, و الملاكين العقاريين, و البرجوازيين غير الصناعيين و البرجوازيين الصغار. و هكذا تتركـز الحركة التاريخية كلها في أيدي البرجوازية, و كل انتصار يتحقق على هذا النحو هو انتصار للبرجوازية .
لكن مع تقدم الصناعة لا تتسع البروليتاريا فحسب, بل تحتشد في حشود أكثر ضخامة و تمو قوَّتها, و تعي هي هذه القوة وعيا أفضل. فالمصالح و الأوضاع المعيشية داخل البروليتاريا تتماثل باطراد, بقدر ما تمحو الآلة الفوارق في العمل, و تنخفض الأجرة, في كل مكان تقريبا, إلى مستوى مُتماثل في الإنخفاض. فإن المضاربة المتعاظمة بين البرجوازيين أنفسهم, و الأزمات التجارية الناتجة عنها, تجعل أجور العمال أكثر تقلبا باستمرار؛ و التحسين المتسارع المتنامي, و المتواصل للآلة, يزعزع باستمرار الوضع المعيشي للعمال؛ و المصادمات بين العامل الفرد و البرجوازي الفرد, تَتَّخذأكثر فأكثر طابع مُصادمات بين طبقتين. و عندئذ يبدأ العمّال في تأليف اتحادات نقابية ضد البرجوازيين؛ و يتكاتفون للحفاظ على أجر عملهم, و يؤلّفون جمعيات دائمة للتمّون تحسُّيا لانتفاضات مُحتملة. و هنا و هناك, ينفجر النضال شَغَبا .
و من وقت إلى آخر ينتصر العمال لكن انتصارهم هو إلى حين. و النتيجة الحقة لنضالاتهم ليست في النجاح المباشر بل في اتّحاد العمل المتعاظم باستمرار. و هذا الاتحاد يعززه نمو وسائل المواصلات التي تبتدعها الصناعة الكبرى, و التي تربط بين عمّال مختلف النواحي. و الحال لا بُدّ من الرابط لجعل النضالات المحليّة و المتعددة, ذات الطابع الواحد في كل مكان, تتمركز في نضال وطني, في نضال طبقيّ. غير أنّ كل نضال طبقي هو نضال سياسي. و الإتحاد الذي اقتضى سكان بلدان القرون الوسطى قرونا لتحقيقه, نظرا إلى طُرقاتهم البدائية, تحقّـقه البروليتاريا العصرية في سنوات قليلة بفضل السكك الحديدية .
و انتظام البروليتاريين في طبقة, و بالتالي في حزب سياسي, تنسفه مجددا و في كل لحظة المزاحمة بين العمال أنفسهم؛ لكنه ينهض مرارا و تكرارا قوى و أمتن و أشدّ يأسا, و يستفيد من الإنقسامات في صفوف البرجوازية, فينتزع الإعتراف على وجه قانوني ببعض مصالح العمال, مثل قانون العمل عشر ساعات (يوميا) في انكلترا .
و عموما فإنّ صدامات المجتمع القديم تدفع بطرق شتى بتطور البروليتاريا قدُما. فالبرجوازية تعيش في صراع دائم: في البدء, ضدّ الأرستقراطية, ثم ضدّ تلك الأقسام, من البرجوازية نفسها, التي تتناقض مصالحها مع تَقدُّم الصناعة, ثم بصورة دائمة ضدّ برجوازية جميع البلدان الأجنبية. و في كل هذه الصراعات تجد البرجوازية نفسها مضطرة إلى الإستنجاد بالبروليتاريا, و طلب معنوتها, و بذلك تَجرّها إلى المعترك السياسي. و هكذا فإنّ البرحوازية نفسها هي التي تزوّد البروليتاريا بعناصرها التثقيفية أي بالأسلحة التي ترتدّ عليها.
و إضافة إلى ذلك و كما رأينا قبلا, فإن أقساما بكاملها من الطبقة السائدة تنحدر, بفعل تَقدُّم الصناعة, إلى البروليتاريا, أو تتهدد على الأقل بأوضاعها المعيشية. و هذه الأقسام تمدّ البروليتاريا أيضا بطائفة من العناصر التـثـقيـفية .
و أخيرا, عندما يقترب الصراع الطبقي من الحسم, تتخذ عملية التـفسّخ داخل الطبقة السائدة, و داخل المجتمع القديم بأسره, طابعا عنيفا و حادا, إلى حد أنّ قسما صغيرا من الطبقة السائدة يَنسلخ عنها و ينضمّ إلى الطبقة الثورية, إلى الطبقة التي تحمل بين يديها المستقبل. و مثلما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية, ينتقل الآن قسم من البرجوازية إلى البروليتاريا, لا سيما هذا القسم من الإيديولوجيين البرجوازيين, الذين ارتفعوا إلى مستوى الفَهم النظري لمُجمل الحركة التاريخية .
ومن بين جميع الطبقات, التي تُـناهض البرجوازية اليوم, فإنّ البروليتاريا وحدها هي الطبقة الثورية حقا. فالطبقات الأخرى تنهار و تتلاشى أمام الصناعة الكبيرة, و البروليتاريا هي نِتاجُها الخاص.
و الطبقات الوسطى - الصناعي الصغير و التاجر الصغير و الحِرفيّ الصغير و الفلاّح الصغير - كلها تحارب البرجوازية للحفاظ على وجودها كطبقات وسطى من التلاشي. فهي إذن ليست ثورية بل مُحافظة, و فضلا عن ذلك, إنها رجعية تسعى إلى جعل عَجَلة التاريخ ترجع القهقرى. و إذا وقع لها أن تكون ثوريّة فذلك نظرا إلى انتقالها الوشيك الوقوع, إلى البروليتاريا, و هي بذلك لا تدافع عن مصالحها الراهنة, بل عن مصالحها المقبلة, فتتخلى عن موقعها الخاص, لتَتَبنّى وجهة نظر البروليتاريا .
أما اللومبنبروليتريا Lumpenproletariat (دون, أو تحت البروليتاريا), هذا النتن المُستسلم, حثالة الفئات الدنيا من المجتمع القديم, فإنها قد تنجرف هنا و هناك في الحركة بفعل ثورة بروليتارية, لكنها بحكم وضعها الحياتي كله تصبح أكثر استعدادا لبيع نفسها لمكائد لرجعية.
ففي شروط حياة البروليتاريا تمّ تـقويض شروط حياة المجتمع القديم. فالبروليتاري لا ملكيّة له, و علاقته بالزوجة و الأطفال لم يبق جامع يجمعها بعلاقات الأسرة البرجوازية؛ و العمل الصناعي الحديث و الإستذلال الحديث, في ظل رأس المال, جرّداه سواء في إنكلترا أو في فرنسا, و في أميركا أو في ألمانيا, من كل طابع قومي؛ و القوانين و الأخلاق و الدين هي و الأحكام البرجوازية المغرضة الكثيرة, سواسية بالنسبة إليه, تتستر وراءها مصالح برجوازية كثيرة.
فالطبقات السالفة كلها, التي استولت على السلطة, كانت تسعى إلى توطيد مركزها المكتسب بإخضاعها المجتمع بأسره لشروط كسبها. و البروليتاريون لا يستطيعون الإستيلاء على القوى المجتمعية المنتجة, إلاّ بإلغاء النمط السالف الخاص بهم لامتلاك المال, و بالتالي بالقضاء على كل نمط للإمتلاك قائم حتى الآن. و البروليتاريون لا يملكون شيئا يحافضون عليه, و عليهم أن يقوضوا كل الضمانات الخاصّة, و كل الحمايات الخاصّة, و القائمة حتى الآن.
فحتى الآن كانت الحركات كلها إمّا حركات أقليات, و إمّا لمصلحة الأقليات. و الحركة البروليتارية, هي الحركة القائمة بذاتها, للأغلبية الساحقة, في سبيل الأغلبية الساحقة. و البروليتاريا, الفئة الدنيا في المجتمع الراهن, لا يمكنها أن تنهض و تنتصب, بدون أن تنسف البنية الفوقية كلها للفئات التي تؤلّف المجتمع الرسمي .
و مع أنّ نضال البروليتاري ضد البرجوازية ليس قوميا في محتواه, فإنه يتّخذ في البداية الشكل القومي, و لا حاجة إلى القول إنّ على البروليتاريا في كل بلد أن تتخلص من برجوازيتها الخاصة.
و بإجمالنا أطوار نمو البروليتاريا في خطوطها الكبرى, تتـبّعنا أيضا الحروب الأهلية الكامنة تقريبا داخل المجتمع القائم, حتى الحين الذي تنفجر فيه هذه الحروب ثورة علنيّة, تُرسي البروليتاريا سيطرتها بإطاحة البرجوازية بالعنف .
و قد رأينا أنّ كل مجتمع حتى الآن قام على التناحر بين الطبقات العسفية و الطبقات المضطهَدَة. و للتمكن من اضطهاد طبقة ينبغي أن تؤمّن لها شروط معبشية تمكنها, على الأقل, من مواصلة وجودها العبودي. فالقنّ, في عهد القنانة توصّل إلى أن يغدو عضوا في كمونة, و كذلك ارتفع البرجوازي الصغير إلى برجوازي تحت نير الحكم الإقطاعي الإستبدادي. بخلاف ذلك, فإنّ العامل العصري, بدلا من أن يرتفع مع تقدّم الصناعة, لا ينفك ينحط عميقا دون أوضاع طبقته نفسها. فالعامل يغدو مدقعا, و العَوَز يزداد بسرعة تفوق سرعة نُمو السكان و الثروة. و بناءً عليه يتضح أن البرجوازية عاجزة عن أن تبقي زمنا أطول الطبقة السائدة, و أن تَفرض على المجتمع شروط وجود طبقتها كقانون أعلى. فهي عاجزة عن أن تسيطر, لأنها عاجزة عن تأمين عيش عبدها, حتى في إطار عبوديته, لأنها مرغمة على تركه ينحطّ إلى وضع يُلزِمها بأن تُعيله, بدلا من أن يُعيلها. فالمجتمع لم يعد يستطيع أن يحيا تحت سيطرتها, أو بعبارة أخرى, لم يعد وجود البرجوازية يلائم المجتمع .
فالشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية و لسيطرتها, هو تكديس الثروة في أيدي خواص, تكوين الرأسمال و إنماؤه. و شرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. و العمل المأجور يقوم, حصرا, على المزاحمة بين العمّال. و تقدّم الصناعة, الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها و بلا مقاومة, يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. و هكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِل تحت أقدام البرجوازية, الأساس الذي تُنتج عليه و تتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج, قبل كل شيء, حفّاري قبرها. فانهيارها و انتصار البروليتاريا, أمران حتميّان .
___________________
(1) نعني بالبرجوازية طبقة الرأسماليين العصريين, مالكي وسائل الإنتاج المجتمعي, الذين يستخدمون العمل المأجور. و نعني بالبروليتاريا طبقة العمال الأجراء العصريين, الذين يُضطرون, لعدم امتلاكهم وسائل إنتاح, إلى بيع قوة عملهم ليتمكنوا من العيش (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية عام 1888 ).
(2) ضبطا, التاريخ المكتوب المتوارَث. ففي عام 1847. كان تاريخ النظام المجتمعي, الذي سبق التاريخ المكتوب كله, أي غير التاريخي, مجهولا تقريبا. و منذ ذلك الحين (منذ عام 1847), إكتشف هاكستهاوزن الملكية العامة للأرض في روسيا, و برهن ماورر علىأن هذه الملكية كانت الأساس المجتمعي الذي خرجت منه تاريخيا جميع القبائل الألمانية, ثم تبين تدريجيا أن المشاعية الريفية, مع الملكية الجماعية للأرض, كانت الشكل البدائي للمجتمع, من الهند إلى ايرلندا, و أخيرا تم الكشف عن البنية الداخلية لهذا المجتمع الشيوعي البدائي, بشكلها المميز, من خلال الإكتشاف المجيد لمورغان: إكتشاف الطبيعة الحقّـة للعشيرة (BENS) و موقعها في القبيلة. و بانحلال هذا المتَّحدالبدائي يبدأ انقسام المجتمع إلى طبقات متمايزة تصبح, في النهاية متعارضة (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888, و الطبعة الألمانية 1890). و قد حاولت تتبُّع عملية الإنحلال في مؤلفي "أصل العائلة, و الملكية الخاصة و الدولة". الطبعة الثانية, شتوتغارت (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888 ).
(3) المعلِّم عضو كامل الحقوق في الحرفة, معلِّم في داخل المشغل, لا رئيسه (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888).
(4) تحت إسم الكمونات كان يُشار إلى المدن, التي كانت تنشأ في فرنسا, حتى قبل أن تنتزع, من أسيادها الإقطاعيين, الإدارة المحلية الذاتية و الحقوق السياسية لطبقة العوام. و بوجه عام, تظهر إنكلترا, هنا, كنموذج للتطور الإقتصادي للبرجوازية, و تظهر فرنسا كنموذج لتطورها السياسي (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888).
الفصل الثاني
بروليتاريون و شيوعيون
ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريين عموما؟
إنّ الشيوعيين ليسوا حزبا منفصلا في مواجهة الأحزاب العمالية الاخرى و ليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح عموم البروليتاريا.
و هم لا يطرحون مبادئ خاصة يريدون قَولَبَة الحركة البروليتارية بقالبها.
إن الشيوعيين لا يتميزون عن الأحزاب البروليتارية الأخرى إلاّ في أنّهم: من ناحية, يُبرزون و يُغلِّبون المصالح المشتركة في الصراعات القومية المختلف للبروليتاريين, بصرف النظر عن تابعية عموم البروليتاريا, و من ناحية أخرى, يمثِّلون دائما مصلحة مُجمل الحركة في مختلف أطوار التطور, التي يمر بها الصراع بين البروليتاريا و البرجوازية.
إذن الشيوعيون عمليّا هم الفريق الأكثر حزما من الأحزاب العمالية في جميع البلدان, و الدافع دوما إلى الأمام, و نظريا هم متميزون عن سائر جُموع البروليتاريا, بالتبصّر في وضع الحركة البروليتارية, و في مسيرتها و نتائجها العامّة.
و الهدف الأول للشيوعيين هو الهدف نفسه لكل الأحزاب البروليتارية الأخرى: تشكّل البروليتاريا في طبقة, إسقاط هيمنة البرجوازية, و استيلاء البروليتاريا عن السّلطة السياسية.
و طروحات الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار, على مبادئ, ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مُصلحي العالم.
إنّها فقط تعبير عام عن الشروط الحقيقية لصراع طبقيّ قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا. و إلغاء علاقات الملكية القائمة حتى الآن, ليس هو إطلاقا السِّمة المميزة للشيوعية.
فعلاقات الملكية كلها, كانت خاضعة لتغيّر تاريخي مستمر لتحوّل تاريخي مُتواصل. فالثورة الفرنسية, مثلا, قضت على الملكية الإقطاعية لمصلحة الملكية البرجوازية.
و إنّ ما يميّز الشيوعية, ليس القضاء على الملكية بشكل عام, بل إلغاء الملكية البرجوازية.
غير أن الملكية الخاصة للبرجوازية االعصرية هي آخر تعبير و أكمله عن الإنتاج و تملّك المنتجات القائم على التناحرات الطبقية, و على استغلال البعض للبعض الآخر.
و الحالة هذه يستطيع الشيوعيون أن يلخّصوا نظريتهم بعبارة وحيدة: إلغاء الملكية الخاصة.
و نحن الشيوعيون, أُخذ علينا أنّنا نريد إلغاء الملكية المكتسبة شخصيا بجهد فردي, هذه الملكية التي تشكّـل, كما يُزعم, أساس كل حرية شخصية و كل فعالية و كل استقلال فردي.
ملكية مكتسبة بالجهد و الإستحقاق الشخصيين! فهل تتحدثون عن الملكية البرجوازية الصغيرة, و الفلاحية الصغيرة, التي سبقت الملكية البرجوازية؟ إننا لسنا بحاجة إلى إلغائها. فإنّ تطور الصناعة قضى و يقضي عليها يوميا.
أم أنّكم تتحدثون عن الملكية الخاصة للبرجوازية الحديثة؟
و لكن, هل يخلق العمل المأجور, أيْ عمل البروليتاري, ملكية له؟ قطعا لا. إنه يخلق رأس المال أي الملكية التي تَستَغل العمل المأجور, و التي لا يسعها أن تنمو إلاّ شرط أن تنتج عملا مأجورا جديدا, لتستغلّه مرة ثانية.
فالملكية, في شكلها الحاليّ, تتحرك في التناقض بين رأس المال و العمل المأجور. فلنمعن النظر في طرفي هذا التناقض.
إنّ كون المرء رأسماليا لا يعني أنه يشغل مركزا شخصيا فحسب. بل يشغل أيضا مركزا مجتمعيا في الإنتاج. فرأس المال هو نتاج جماعي, لا يمكن تحريكه إلا بنشاط مشترك لأعضاء كثيرين, بل إنه, في التحليل الأخير, لا يحرَّك إلاّ بالنشاط المشترك لجميع أعضاء المجتمع.
فرأس المال إذن ليس فاعليّة شخصية, بل فاعليّة مجتمعية.
و من ثم, إذا تحوّل رأس المال إلى ملكية مشتركة تخص جميع أعضاء المجتمع, فهذا التحول هو فقط الذي يتحول, (أي) أنّ الملكية تفقد طابعها الطبقي.
و لننتقل إلى العمل المأجور: فإن الثمن الوسط للعمل المأجور هو الحدّ الأدنى لأجر العمل, أي جملة وسائل العيش الضرورية لبقاء العامل كعامل على قيد الحياة. و من ثم, فإنّ ما يتملّكه العامل المأجور بجهده يكفي فقط لإعادة إنتاج حياته.
و نحن لا نريد, على الإطلاق, إلغاء هذا التملك الشخصي لمنتجات العمل من أجل إعادة إنتاج الحياة الشخصية, فهذا التملّك لا يترك حاصلا (ربحا) صافيا يُخوّل السيطرة على عمل الغير. نحن نريد فقط إلغاء الطابع المقيت لهذا التملك, الذي لا يحيا فيه العامل إلاّ لتنمية رأس المال, و لا يحيا إلاّ بالقدر الذي تتطلبه مصلحة الطبقة السائدة.
فالعمل الحرّ, في المجتمع البرجوازي, ليس سوى وسيلة لزيادة العمل المتراكم, و العمل المتراكم, في المجتمع الشيوعي, ليس سوى وسيلة لتوسيع السيرورة الحياتية للعمال, و لإغنائها و ترقيتها.
ففي المجتمع البرجوازي إذن يتسلط الماضي على الحاضر, و في المجتمع الشيوعي يتسلط الحاضر على الماضي. و في المجتمع البرجوازي رأس المال مستـقـل و له ذاتية مميزة, في حين أن الفرد الفاعل لا استـقلال له, و لا ذاتية مميزة.
و إلغاء هذا الوضع تسمّيه البرجوازية إلغاء الشخصية الفردية و الحرية! و هي على حق. فإنّ الأمر يتعلق فعلا بإلغاء فردانية البرجوازي و استقلاله و حريته.
و في نطاق علاقات الإنتاج البرجوازية الراهنة يُـقصد بالحرية: التجارة الحرّة, و البيع الحرّ, و الشراء الحرّ.
و لكن إذا انتفى الإتجار الجشع انتفى أيضا الإتّجار الحرّ. فالتبجحات بالإتّجار الحرّ, شأن كل التبجّحات الأخرى لبرجوازيتنا حول الحرية, لا معنى لها إلاّ بالمقابلة بالإتجار المقيّد, و بالمقابلة بالبرجوازي المُستعبَد في القرون الوسطى, و لا معنى لها إطلاقا بالمقبلة بالإلغاء الشيوعي للإتجار, و لعلاقات الإنتاج البرجوازية, و للبرجوازية نفسها.
لقد أصِبتم بالذعر لأنّـنا نريد إلغاء الملكية الخاصة. و لكن الملكية الخاصة, في مجتمعكم الراهن, مُلغاة بالنسبة إلى تسعة أعشار أعضائه. إنّها ضبطا موجودة لأنها غير موجودة بالنسبة إلى الأعشار التسعة. فأنتم إذن تلوموننا لأننا نريد إلغاء ملكية تَفرض, كشرط ضروري لوجودها, إنعدام الملكية بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من المجتمع.
و بكلمة, فإنكم تتهموننا بأننا نريد إلغاء ملكيتكم, و هذا بالتأكيد ما نريده.
و ما أن يتعذر على العمل أن يتحول إلى رأس مال, إلى نقد, إلى ريع عقاري, و باختصار إلى سلطة مجتمعية قادرة على الإحتكار, أي في اللحظة التي لا تبقى فيها الملكية الشخصية قادرة على أن تتحول إلى ملكية برجوازية, في هذه اللحظة بالذات تعلنون أنّ الفرد قد أُزيل.
إذن, أنتم تعرفون بأنكم لا تَعنون بالفرد إلاّ البرجوازي (أي) المالك البرجوازي. و هذا الفرد لا بُدّ من أن يُزال حقّا.
فالشيوعية لا تجرِّد أحدا من القدرة على تملّك منتجات مجتمعية, بل تنتزع فقط القدرة على استعباد عمل الغير بواسطة هذا التملّك.
و ثمة اعتراض علينا يقول: بإلغاء الملكية الخاصة سـينتهي كلّ نشاط و سـيَسـتشري كسل عام.
فلَو صحّ ذلك, لكان المجتمع البرجوازي قد تردّى منذ زمن بعيد في الخمول, إذ أن أولئك الذين يعملون, في المجتمع, لا يمتلكون, و أولائك الذين يمتلكون, لا يعملون. فهذا الوسواس كله يُؤوّل إلى هذا الحشو: حين لا يبقى للرأسمال وجود لا يبقى للعمل المأجور وجود.
و الإعتراضات كلها, التي توجّه إلى النمط الشيوعي في إنتاج المنتجات المادية و تملكها, تشمل أيضا إنتاج النتاجات الفكرية و تملكها. و كما أنّ زوال الملكية الطبقية يعادل, في نظر البرجوازي, زوال الإنتاج نفسه, فإنّ زوال الثقافة الطبقية يماثل, في تظره, زوال الثقافة إطلاقا.
و الثقافة التي ينوح البرجوازي على ضياعها ليست, بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة, إلا تدريبا يجعل منها ماكينات.
و لكن لا تجادلونا و أنتم تقيسون إلغاء الملكية البرجوازية بمفاهيمكم البرجوازية عن الحرية و الثـقافة و الحق إلخ.. فإنّ أفكاركم نفسها هي نِتاج علاقات الإنتاج البرجوازية و الملكية البرجوازية, شأن حقكم, الذي ليس هو سوى إرادة طبقتكم, التي سُـنّـت قانونا, إرادة حدَّدت الشروط المادية لحياة طبقتكم, مضمونها.
فنظرتكم المنفعيّة, التي تحوّلون بها علاقات إنتاجكم و ملكيتكم, من علاقات تاريخية عابرة في مجرى الإنتاج إلى قوانين أبديّة (ثابتة) للطبيعة و العقل, هذه النظرة تتشاطرونها و جميع الطبقات السائدة التي بادت. فإن ما تفهمونه بالملكية القديمة, و ما تفهمونه بالملكية الإقطاعية, لم يعد بعد الآن معقولا بالنسبة إلى الملكية البرجوازية.
و إلغاء العائلة! حتى أكثر الراديكاليين تطرفا تثور ثائرتهم على هذا القصد الدنيء للشيوعيين.
فَعلامَ ترتكز العائلة الراهنة, العائلة البرجوازية؟ على رأس المال و التملك الخاص. و هي لا توجد بتمام تطورها إلاّ بالنسبة إلى البرجوازية, لكنّها تَجد تكملتها في الحرمان القسري من العائلة, بالنسبة إلى البروليتاري, و في البغاء العلني.
و العائلة البرجوازية تضمحلّ طبعا باضمِحلال تكملتها, فكلتاهما تزولان بزوال رأس المال.
أتأخذون علينا أنّنا نريد إلغاء استغلال الآباء لأبنائهم؟ هذه الجريمة نعترف بها, لكن تقولون إننا, بإحلال التربية المجتمعية محلّ التربية البيتـيّة, نقضي على أكثر العلاقات حميمية.
أليس المجتمع هو الذي يحدد تربيتكم أنتم, أيضا؟ ألا تحددها العلاقات المجتمعية التي تربون في إطارها؟ ألا يحددها تدخل المجتمع المباشر و غير المباشر بواسطة المدرسة, إلخ..؟ فالشيوعيون لا يبتدعون فعل المجتمع في التربية. إنهم فقط يغيّرون خاصيّـته و ينتزعون التربية من تأثير الطبقة السائدة.
فكلما تمزقت, نتيجة للصناعة الكبيرة, كلّ روابط البروليتاري العائلية, و تحوّل الأولاد إلى مجرّد سلع تجارية و مجرّد أدوات عمل, تصبح التشدقات البرجوازية بالعائلة و التربية و بعلاقات الإلفة بين الآباء و الأبناء, أكثر إثارة للتـقـزز.
و "لكنكم, أيها الشيوعيون, تريدون إدخال إشاعة النساء". كذا تزعق بنا بصوت واحد البرجوازية كلها.
فالبرجوازي يرى في امرأته مجرَّد أداة إنتاج. و هو يسمع أن أدوات الإنتاج يجب أن تشتغل جماعيا. و طبعا, لا يسعه إلاّ أن يعتقد بأنّ قدَر الإشتراكية سيصيب النساء أيضا.
و لا يدور في خلده أنّ الأمر يتعلق, ضبطا, بإلغاء وضع النساء كمجرّد أدوات إنتاج.
و للمناسبة, لا شيء أكثر إثارة للسخرية من ذعر برجوازيتنا الأخلاقي المسرف في أخلاقيته, من إشاعة النساء الرسمية, المدَّعَى بها على الشيوعيين. فالشيوعيون ليسوا بحاجة إلى إدخال إشاعة النساء, فقد وُجدت على الدوام تقريبا.
فبرجوازيّونا, غير القنوعين بأن تكون تحت تصرّفهم, نساء بروليتاريتهم و بناتهم, ناهيك عن البغاء الرسمي, يجدون متعة خاصة في أن يتداينوا باتفاق متبادل.
فالزواج البرجوازي, في الحقيقة, هو إشاعة النساء المتزوجات. و قصارى ما يمكن أن يُلام عليه الشيوعيون, هو أنهم يريدون إحلال إشاعة رسمية و صريحة للنساء محل إشاعة مستترة نفاقا.
و للمناسبة, من البديهي أنه بإلغاء علاقات الإنتاج الراهمة تزول أيضا إشاعة النساء الناجمة عنها, أي (يزول) البغاء الرسمي و غير الرسمي.
و فوق ذلك, يُـتَّهم الشيوعيون بأنهم يريدون إلغاء الوطن و القومية.
فالعمّال لا وطن لهم. فلا يمكن أن يُسلب منهم ما لا يملكونه. و بما أنه ينبغي على البروليتاريا أن تستولي, أولا, على السلطة السياسية, و أن تنصّب نفسها طبقة قومية, و أن تتـقوَّم كأمّة, فإنّها ما تزال وطنية, لكن ليس قطعا بالمعنى البرجوازي للكلمة.
فمع نمو البرجوازية, مع حرية التجارة, مع السوق العالمية, مع التماثل في الإنتاج الصناعي و الأوضاع الحياتية الملائمة لذلك, تزول الفواصل القوميّة و التناقضات بين الشعوب, أكثر فأكثر.
و سيطرة البروليتاريا ستُـزيلها أكثر فأكثر. و عمل البروليتاريا الموحّد, في البلدان المتحضّرة على الأقل, هو أحد الشروط الأولية لتحررها.
و بقدر ما يُقضي على استغلال الفرد للفرد يُقضى على استغلال أُمّة لأمّة أخرى.
و مع زوال التناحر بين الطبقات داخل الأمّة يزول موقف العَدَاء من الأمم.
و التهم الموجّهة إلى الشيوعية, من وُجُهات نظر دينية فلسفية إيديولوجية, عموما, لا تستحق نقاشا أكثر تفصيلا.
و هل من حاجة إلى نظر ثاقب لإدراك أنه مع تغير أوضاع الناس المعيشية و علاقاتهم المجتمعية, و حياتهم الإجتماعية, تتغير أيضا تصوراتهم و معتقداتهم و مفاهيمهم, و بكلمة: وعيهم؟
و هل يُبرهن تاريخ الأفكار على شيء سوى أنّ الإنتاج الفكري يتحوّل بتحوّل الإنتاج المادي؟ فالأفكار التي سادت عصرا من العصور, لم تكن قطّ إلاّ افكار الطبقة السائدة.
فعندما يجري الحديث عن أفكار تُـثـوِّر مجتمعا بأسره, يُعبَّر فحسب عن واقع, و هو أنّ عناصر مجتَمع جديد قد تكونت في عقر المجتمع القديم, و أنّ انحلال الأوضاع المعيشية القديمة يواكبه انحلال الأفكار القديمة.
فحينما كان العالم القديم يتهاوى انتصر الدين المسيحي على الأديان القديمة, و حينما غُلبت الأفكار المسيحية على أمرها, في القرن الثامن عشر أمام أفكار التنوير, كان المجتمع الإقطاعي يلفظ أنفاسه الأخيرة في صراعه مع البرجوازية, الثوريّة آنـئـذٍ. و لم تكن أفكار حرية المعتقد و الحرية الدينية إلاّ تعبيرا عن نظام المزاحمة الحرة في مجال المعرفة.
و قد يُقال: "إن الأفكار الدينية و الأخلاقية و الفلسفية و السياسية و الحقوقية" إلخ.. قد تعدّلت بلا شك في مجرى التطور التاريخي, لكن الدين و الأخلاق و الفلسفة و السياسة و الحقوق ظلّت قائمة وسط هذا التحوّل.
"و فوق ذلك هناك حقائق ثابتة مثل الحريّة و العدالة إلخ.. هي واحدة في جميع الأوضاع المجتمعية.
و الحال أنّ الشيوعية تلغي الحقائق الثابتة, تلغي الأديان و الأخلاق بدلا من تجديد تشكيلهما, فهي تـناقض, إذن, التطورات التاريخية السابقة كلّها". فإلام تؤول هذه التهمة؟ إنّ تاريخ كل مجتمع, حتى الآن, كان يتحرك في تناحرات طبقية, إتخذت أشكالا مختلفة حسب العهود المختلفة.
و لكن مهما كان الشكل الذي اتخذته هذه التناحرات على الدوام, فإنّ استغلال قسم من المجتمع للقسم الآخر هو واقع واحد لجميع العصور السالفة. و لا عجب إذن إن كان الوعي المجتمعي, في كل العصور, يتحرك, رغم التنوع و التباين, في أشكال مشتَركة (واحدة) معينة, في أشكال من الوعي لا تنحلّ تماما إلاّ بزوال التـناحر الطبقي كليا.
فالثورة الشيوعية, هي القطيعة الأكثر جذرية مع علاقات الملكية المُتوارثَة, و لا غرابة في أن تقطع في مجرى نموها, بجذرية أشدّ, صلتها بالأفكار المتوارثة.
و لكن, دعونا من اعتراضات البرجوازية على الشيوعية.
فقبلا رأينا أنّ الخطوة الأولى في ثورة العمّال هي ترفيع البروليتاريا إلى طبقة سائدة و الفوز بالديمقراطية.
فالبروليتاريا ستستخدم سلطتها السياسية لتَنتَزع من البرجوازية تدريجيا, رأس المال كله, و لِـتُمركز أدوات الإنتاج كلّها في أيدي الدولة, أي في أيدي البروليتاريا المنظَّمة في طبقة سائدة, و لتزيد حجم القوى المنتجة بأقصى سرعة ممكنة.
و في البداية, لا يمكن حدوث ذلك طبعا, إلاّ بالانتهاك الاستبدادي لحقّ الملكية و لعلاقات الإنتاج البرجوازية, أي بتدابير تبدو, إقتصاديا ناقصة و غير مأمونة البقاء, لكنّها تتجاوز نفسها في مجرى الحركة, و هي لا غنى عنها كوسيلة لقلب نمط الإنتاج بأسره.
و طبعا تختلف هذه التدابير تبعا لاختلاف البلدان.
غير أنّ تطبيق التدابير الآتية ممكن, بصورة عامة تقريبا, بالنسبة إلى البلدان الأكثر تقدما:
1- نزع الملكية العقارية و تخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة.
2- (فرض) ضريبة تصاعدية مرتفعة.
3- إلغاء قانون الوراثة.
4- مصادرة ملكية جميع المهاجرين و العُصاة.
5- مركزة التسليف في أيدي الدولة بواسطة مصرف وطني رأسماله للدولة و الإحتكار له وحده.
6- مركزة وسائل النقل في أيدي الدولة.
7- تكثير الفبارك الوطنية و أدوات الإنتاج, و استصلاح الأراضي الموات و تحسين الأراضي المزروعة, و فق تخطيط عام.
8- عمل إلزامي متكافئ للجميع, و تنظيم جيوش صناعية, لا سيما للزراعة.
9- التوفيق بين العمل الزراعي و الصناعي, و العمل تدريجيا على إزالة الفارق بين المدينة و الريف.
10- تربية عامة و مجانية لجميع الأطفال, و إلغاء عمل الأولاد في الفبارك بشكله الراهن, و التوفيق بين التربية و الإنتاج المادي, إلخ..
و ما أن تختفي, في سياق التطور, الفوارق الطبقية, و ما أن يتجمع الإنتاج كلّه في أيدي الأفراد المتشاركين, حتى تفقد السلطة العامة طابعها السياسي. فالسلطة العامة طابعها السياسي. فالسلطة السياسية, بمعناها الحقيقي, هي العنف المنظَّم لطبقة في سبيل قمع طبقة أخرى.
فعندما تتوحد البروليتاريا وجوباً في طبقة إبّان كفاحها ضد البرجوازية, و عندما تـنصّب نفسها بثورة طبقة سائدة, و تلغي علاقات الإنتاج القديمة بالعنف, بصفتها طبقة سائدة, فإنها تلغي أسباب وجود التناحر الطبقي و تلغي بالتالي الطبقات عامة, تلغي سيطرتها الخاصة كطبقة.
و محل المجتمع البرجوازي القديم, بطبقاته و تناحراته الطبقية, يحلّ تجمُّع تشارُكيّ, يكون فيه التبسُّط الحر لكل فرد شرطا للتبسُّط الحر للجميع.
الأدب الاشتراكي و الشيوعي
موقف الشيوعيين من مختلف أحزاب المعارضة
*********************************************
الفصل الثالث
الأدب الاشتراكي و الشيوعي
1 - الإشتراكية الرجعية
أ - الإشتراكية الإقطاعية
وَجدت الأرستقراطية الفرنسية و الإنكليزية نفسها مدعوّة, بحكم موقعها التاريخي, إلى كتابة قطع هجائية ضدّ المجتمع البرجوازي الحديث. ففي ثورة تموز (يوليو) الفرنسية عام 1830, و في حركة الإصلاح الإنكليزية, كانت قد انهزمت مرة أخرى, أمام هذا الوصوليّ المقيت, فلم يعد ممكنا الحيث عن نضال سياسي جديّ. لقد بقي لها النضال الأدبي فقط. و لكن التشدقات الكلامية القديمة, عهد إعادة المَلَكية (1) , غدت في ميدان الأدب أيضا مستحيلة. و لتستدرَّ العطف اضطرت الأرستقراطية إلى التظاهر بالتخلّي عن مصالحها, و إلى وضع قرارها الإتهامي ضد البرجوازية لمصلحة الطبقة العاملة المستَغلَّة فقط. و على هذا الوجه وفرت لنفسها لذة هجاء سيّدها الجديد بواسطة الأغاني, و الغمغمة في أذنه بتنبؤات مشحونة بفيض من النذر.
و هكذا نشأت الإشتراكية الإقطاعية مزيجا من نحيب و هجاء من صدى الماضي و وعيد المستقبل, مصيبة أحيانا البرجوازية في الصميم بحُكم قاس ثاقب, و مُثيرة السخرية باستمرار لعجزها التام عن إدراك مسيرة التاريخ الحديث.
فعوضا عن التلويح بالرّاية لوَّح الأرستقراطيون بمخلاة التسوّل البروليتارية, ليحشروا الشعب خلفهم, لكنه ما أن تبعهم حتى لمح على عجيزتهم شارات النَّسَب الإقطاعية القديمة, فانفضَّ عنهم بقهقهات وقحة مستخفة.
و قد أجاد في تمثيل هذا المشهد قسم من الشرعيين الفرنسيين و من إنكلترا الفتاة.
و عندما يبرهن الإقطاعيون على أنّ نمط استغلالهم كان يختلف عن نمط الإستغلال البرجوازي, ينسَون فقط أنهم كانوا يستغلون في أوضاع و شروط مختلفة كليا ولّى اليوم عهدها. و عندما يُثبتون أنّ البروليتاريا الحديثة لم تكن موجودة في ظل سيطرتهم, ينسَون فقط أنّ البرجوازية الحديثة كانت, ضبطا, وليدا واجب الوجود لنظامهم المجتمعي.
و زد على ذلك أنهم قلّما يُخفون الطابع الرجعي لانتقادهم, إذ أنّ مأخذهم الرئيسي على البرجوازية يَكمُن, ضبطا, في القول إنّ الطبقة التي تتبسط في ظلّ نظامها, ستنسف التظام المجتمعي القديم برُمّته.
و هم لا يلومون البرجوازية, أكثر ما يلومونها, لأنها أنجبت البروليتاريا بشكل عام, بل لأنها أنجبت البروليتاريا الثورية.
و لذا فإنهم في الممارسة السياسية يشتركون في جميع التدابير القمعية ضد الطبقة العاملة, و رغما عن تشدقاتهم الجوفاء فإنهم في حياتهم الإعتيادية يَرتضون التقاط التفاحات الذهبية, و مقايضة الوفاء و الحب و الكرامة بالمتاجرة بالصوف و الشمندر و العرق (2).
و مثلما سار الكاهن و الإقطاعي دوما يدا بيد تَسير الإشتراكية الكهنوتية و الإشتراكية الإقطاعية.
فلا شيء أسهل من إضفاء صبغة الإشتراكية على التنسّك المسيحي. ألم تُـلغِ المسيحية أيضا الملكية الخاصة و الزواج و الدولة؟ و بدلا منها ألم تعظ بالصدقة و التسول و التبتل و أمانة الجسد, و الحياة الرهبانية و الكنسية؟ فالإشتراكية المسيحية ليست إلاّ الماء المقدّس الذي يكرِّس به الكاهن حقد الأرستقراطي.
ب - الإشتراكية البرجوازية الصغيرة
الأرستقراطية الإقطاعية ليست الطبقة الوحيدة التي أطاحتها البرجوازية, و التي ذبُـلت شروط حياتها و هلكت في المجتمع البرجوازي الحديث. فإنّ برجوازيي المدن و فئة الفلاحين الصغار في القرون الوسطى كانوا طلائع البرجوازية الحديثة.
و هذه الطبقة لا تزال, في البلدان الأقل تطورا صناعيا و تجاريا, تعيش حياة خاملة إلى جانب البرجوازية الصاعدة.
و في البلدان, التي نمت فيها الحضارة الحديثة, تكونت برجوازية صغيرة جديدة تتأرجح بين البروليتاريا و البرجوازية. و هي كجزء مكمل للمجتمع البرجوازي لا تفتأ تعيد تشكيل نفسها؛ و من جرّاء المزاحمة ينحدر أفرادها باستمرار إلى (صفوف) البروليتاريا؛ بالإضافة إلى ذلك يرون, مع نمو الصناعة الكبيرة, اقتراب الساعة التي سيضمحلّون فيها كليّا, بوصفهم قسما مستقلا عن المجتمع الحديث, ليحُلّ محلهم, في التجارة و المانيفاتورة و الزراعة, نُظّار العمل و المستخدمين.
و كان طبيعيا, في بلدان مثل فرنسا, حيث تُشكّل طبقة الفلاحين أكثر من نصف السكان, أن يَعمد الكُـتّاب, الذين يناصرون البروليتاريا ضد البرجوازية, إلى استخدام معيار برجوازي صغير و فلاحي صغير في نقدهم النظام البرجوازي, و أن ينحازوا إلى العمال من وجهة نظر البرجوازية الصغيرة. و على هذا الوجه تكونت الإشتراكية البرجوازية الصغيرة.
و سيسموندي هو زعيم هذا الأدب لا في فرنسا فحسب بل في إنكلترا أيضا.
فهذه الإشتراكية حلّلت, بكثير من الفطنة, التناقضات في علاقات الإنتاح الحديثة, و فضحت تبريرات الإقتصاديين المنافقة, و أثبتت, بشكل لا يُدحض, التأثيرات المدمِّرة للمكننة, و تقسيم العمل, و حصر رؤوس الأموال و الملكية العقارية, و الإنتاج الزائد, و الأزمات و الإنحلال المحتم للبرجوازيين الصغار و الفلاحين الصغار, و بؤس البروليتاريا, و الفوضى في الإنتاج, و التفاوت الصارخ في توزيع الثروة, و الحرب الصناعية الماحقة بين الأمم و انحلال العادات القديمة, و العلاقات العائلية القديمة, و القوميات القديمة.
و هذه الإشتراكية, بحسب مضمونها الوضعي, تريد إمّا إعادة وسائل الإنتاج و التبادل القديمة, و بذلك تعيد علاقات الملكية القديمة و المجتمع القديم, و إمّا حصر وسائل الإنتاج و التبادل الحديثة بالقوة في إطار علاقات الملكية القديمة الذي نَسفته, و الذي لا بدّ من نسفه. و هي في كلتا الحالتين رجعيّة و طوباوية في آن واحد.
النظام الحرفي في المانيفاتورة, و الإقتصاد البطريركي في الريف: تلك هي كلمتها الأخيرة, و هذا الإتجاه إنتهى, في تطوره اللاحق, إلى مُواءٍ جبان.
ج - الإشتراكية الألمانية أو الإشتراكية "الصحيحة"
إنّ الأدب الإشتراكي و الشيوعي في فرنسا, الذي نشأ تحت ضغط برجوازية مسيطرة, تعبيرا أدبيا عن النضال ضد هذه السيطرة, أُدخِل إلى ألمانيا في وقت كانت البرجوازية (الألمانية) تستهلّ نضالها ضد الإقطاعية الإستبدادية.
و بشراهة تخاطف الفلاسفة, و أدعياء الفلسفة, و الأدباتية الألمان, هذا الأدب. و لكنهم نسوا أنّ نزوح تلك الكتابات, من فرنسا إلى ألمانيا, لم يرافقه في الوقت نفسه نزوح أوضاع الحياة الفرنسية. فـفقد الأدب الفرنسي, في الأوضاع الألمانية, كل أهمية عملية مباشرة و اتخذ وجها أدبيا بحتا. و من ثم كان لا بد من أن يبدو كتأمل لا نفع فيه حول تحقيق الجوهر الإنساني. و هكذا, لم تكن مطالب الثورة الفرنسية الأولى, في نظر الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر, سوى مطالب "العقل المعياري" بصورة عامة, و تجليات إرادة البرجوازية الثورية الفرنسية, لم تكن تعني في نظرهم, سوى قوانين الإرادة البحتة, الإرادة كما ينبغي أن تكون, الإرادة الإنسانية الحقة.
و العمل الوحيد للأدباء الألمان كان ينحصر في التوفيق بين الأفكار الفرنسية الجديدة و وجدانهم الفلسفي القديم, أو بالأحرى في انتحال الأفكار الفرنسية انطلاقا من آرائهم الفلسفية؛ و هذا الإنتحال تم بالطريقة نفسها التي يتعلم بها المرء عادة لغة أجنبية, أي بواسطة الترجمة.
و معروف كيف استبدل الرهبان عناوين المخطوطات, المنطوية على الأعمال الكلاسيكية للعهد الوثني القديم, بعناوين حكايات سمجة لقدّيسين كاثوليك. أمّا الأدباء الألمان فقد تصرفوا حيال الأدب الفرنسي الدنيوي على عكس ذلك, لقد ذيَّلوا الأصل الفرنسي بهرائهم الفلسفي, فكتبوا, مثلا تحت النقد الفرنسي للعلاقات المالية: "تجريد الكائن البشري", و تحت النقد الفرنسي للدولة البرجوازية: "إلغاء سيطرة الكلّي المجرَّد" إلخ..
إن دسّ هذه العبارات الفلسفية الجوفاء, تحت التطويرات الفرنسية, عمَّدوه بأسماء, مثل "فلسفة الفعل", و "الإشتراكية الحقّة", و "علم الإشتراكية الألمانية", و "التعليل الفلسفي للإشتراكية", إلخ..
و بهذه الطريقة خُصي الأدب الإشتراكي-الشيوعي الفرنسي خصيا واضحا. و بما أن هذا الأدب كفَّ في أيدي الألمان, عن التعبير عن نضال طبقة ضد أخرى, تصوّر الألمان أنهم تجاوزوا "المحدودية الفرنسية", و أنّهم دافعوا لا عن الحاجات الحقيقية, بل عن الحاجة إلى الحقيقة, و لا عن مصالح البروليتاري, بل عن مصالح الكائن البشري, مصالح الإنسان على العموم, الإنسان الذي لا ينتمي إلى أي طبقة, و لا إلى الواقع إطلاقا, بل ينتمي فحسب إلى سماء الخيال الفلسفي المضبَّبة.
و هذه الإشتراكية الألمانية, التي حملت تمارينها المدرسية الحمقاء على محمل الجد و المهابة الكبيرين, و زمَّرت لها و طبّلت بمثل هذا الزعيق, فقدت شيئا فشيئا براءتها الدعية.
فإنّ نضال البرجوازية الألمانية لا سيّما البرجوازية البروسية, و بكلمة نضال الحركة الليبيرالية ضد الإقطاعيين و الملكية المطلقة, أصبح أكثر جديّة.
و بهذا الشكل أتيحت للإشتراكية "الحقّة" الفرصة المنشودة لمواجهة الحركية السياسية بالمطالب الإشتراكية, و لصبّ اللعنات التقليدية على الليبرالية, و النظام التمثيلي, و المزاحمة البرجوازية, و حرية الصحافة البرجوازية, و القانون البرجوازي, و الحرية و المساواة البرجوازيتين, و لتحذير الجماهير من أنها لا تكسب شيئا من هذه الحركة البرجوازية, بل بالعكس ستخسر فيها كل شيء فـسَها عن الإشتراكية الألمانية, ضبطا, أنّ النقد الفرنسي الذي كانت هي صداه البليد يستلزم وُجود المجتمع البرجوازي الحديث مع الشروط الحياتية المادية المُطابقة له, و مع الدستور السياسي المُناسب, تلك المستلزمات التي كان العمل يجري في ألمانيا لتحقيقها
فالإشتراكية خَدمت الحكومات الألمانية المُطلقة و حاشيتها, من كهنة و علماء تربية و إقطاعيين بُلداء و بيروقراطيين, كفزّاعة منشودة ضد وعيد البرجوازية المتصاعد.
و الإشتراكية شكّلت التكملة المتكلفة الحلاوة, لمرارة لذع السياط و طلقات البنادق, التي تصدَّت بها الحكومات نفسها للإنتفاضات العمّالية الألمانية.
و إن كانت الإشتراكية "الحقّة" قد غدت, بهذه الصورة, سلاحا في أيدي الحكومات ضد البرجوازية الألمانية, فإنّها كانت تُمثّل مباشرة مصلحة رجعية, مصلحة البرجوازية الألمانية الصغيرة و (هذه) البرجوازية الصغيرة, التي خلّفها القرن السادس عشر و التي ما انفكت تظهر بأشكال مختلفة, تشكل في ألمانيا الأساس المجتمعي الفعليّ للأوضاع القائمة.
فالحفاظ عليها هو الحفاظ على الأوضاع الألمانية القائمة. و هي تخاف من الهلاك المبين أمام السيطرة الصناعية و السياسية للبرجوازية, نتيجة لتمركز رأس المال من ناحية, و لبروز بروليتاريا ثورية من ناحية أخرى؛ و قد تراءى لها أنّ الإشتراكية "الحقّة" قادرة على إصابة عصفورين بحجر واحد. فـتـفشّت (الإشتراكية) تفشّي الوباء.
و الحُـلّة المصنوعة من شفافية النظريات التجريدية, و المطرَّزة بمحسِّنات لفظيّة, و المسبقة بندى الوجد الدافئ - هذه الحُـلّة, التي غلَّف بها الإشتراكيون الألمان بِضْعا من "حقائقهم الخالدة" (الثابتة) الهزيلة, لم تَزد إلاّ في رواج بضاعتهم لدى الجمهور.
و أكثر فأكثر أدركت الإشتراكية الألمانية من جهتها, أن مهمتها هي أن تكون المثل الطنّان لهذه البرجوازية الصغيرة.
فأعلنت أنّ الأمة الألمانية هي الأمة السوية, و أنّ البرجوازي الألماني الصغير هو الإنسان السوي. و أضفت على نذالته كلها معنى غامضا ساميا و اشتراكيا, جعلها تدل على عكس واقعها. و آل بها المطاف إلى التصدي مباشرة للإتجاه الشيوعي "الهدّام الفظّ", و أعلنت أنها تحلّـق بتجرّد فوق كل الصراعات الطبقية. و عدا استثناءات قليلة جدا فإنّ كل الكتابات الإشتراكية و الشيوعية المزعومة, المتداولة في ألمانيا, تنتمي إلى قطاع هذا الأدب القذر المثير للأعصاب(3).
2 - الإشتراكية المحافظة أو الإشتراكية البرجوازية
يرغب قسم من البرجوازية في معالجة الأوضاع المجتمعية السيئة لضمان بقاء المجتمع البرجوازي.
و يندرج في هذا القسم: إقتصاديون و خيِّرون و إنسانيون و محسّنو وضع الطبقات الكادحة, و منظِّموا أعمال البر و الإحسان و جمعيات الرفق بالحيوان, و جمعيات الإعتدال و القناعة, و مصلحون ضيقو الأفق من كل الأصناف. و اشتراكية البرجوازيين هذه صيغت في مذاهب كاملة.
و نورد, مثالا على ذلك, "فلسفة البؤس" لبرودون.
فالبرجوازيون الإشتراكيون يريدون شروط حياة المجتمع الحديث, (لكن) بدون النضالات و الأخطار الناجمة عنها بالضرورة. إنّهم يريدون المجتمع القائم منقى من العناصر التي تثوِّره و تهدمه. إنّهم يريدون البرجوازية بدون البروليتاريا. و بالطبع تتصور البرجوازية العالم الذي تسود فيه كأفضل العوالم. و اشتراكية البرجوازيين تصوغ من هذا التصوّر المعزّي نصف مذهب أو مذهبا كاملا. و هي, بدعوتها البروليتاريا إلى تحقيق مذاهبها و الدخول إلى أورشليم الجديدة, تطالب في الحقيقة فقط بأن تتشبّث (البروليتاريا) بالمجتمع الراهن, على أن تنفض عنها تصورات كراهيتها لهذا المجتمع.
و هناك شكل آخر لهذه الإشتراكية, عمليا أكثر و أقل تمذهبا, سعى إلى جعل الطبقة العاملة تنفر من كل حركة ثورية, بالبرهنة على أنّ ما يسعه أن يُفيدها, ليس هذا التغيير السياسي أو ذاك, و إنّما فقط تغيير أوضاع الحياة المادية, أي الأوضاع الإقتصادية. و هذه الإشتراكية لا تفهم إطلاقا أنّ تغيير أوضاع الحياة المادية يقتضي إلغاء علاقات الإنتاج البرجوازية, الذي لا يتمّ إلاّ بالطريق الثوري, بل تعني إصلاحات إدارية تستند إلى أساس علاقات الإنتاج هذه, أي أنها لا تغير شيئا في العلاقة بين رأس المال و العمل المأجور, بل تـقلل, في أفضل الأحوال, نفقات سيطرة البرجوازية و تخفف ميزانية الدولة.
فاشتراكية البرجوازيين لا تبلغ تعبيرها المُلائم إلاّ عندما تسمي مجرد تعبير بياني. فحرية التجارة, لمصلحة الطبقة العاملة, و الحماية الجمركية, لمصلحة الطبقة العاملة, و السجون الإنفرادية, لمصلحة الطبقة العاملة: هذه هي الكلمة الأخيرة و الوحيدة الجادة, التي تقصدها اشتراكية البرجوازيين.
فاشتراكية البرجوازية لا تكمن إلاّ في الإدعاء القائل إنّ البرجوازيين هم برجوازيون - لمصلحة الطبقة العاملة.
3 - الإشتراكية و الشيوعية النقديتان الطوباويتان
و هنا لا نتحدث عن الأدب الذي أعرب, في كل الثورات الكبرى الحديثة, عن مطالب البروليتاريا (كتابات بابوف, إلخ..)
فالمحاولات الأولى للبروليتاريا, لتغليب مصالحها الطبقية مباشرة في زمن غليان عام عهد انهار المجتمع الإقطاعي, أخفقت بالضرورة نظرا إلى جنينية البروليتاريا نفسها, و إلى فقدان الشروط المادية لتحرّرها, التي هي, قبل كل شيء, حصيلة العصر البرجوازي. و الأدب الثوري, الذي كان يرافق هذه الحركات الأولى للبروليتاريا, هو بالضرورة رجعي المحتوى. فهو يدعو إلى تقشف عام, إلى مساواتية فجة.
و في الحقيقة فإنّ المذاهب الإشتراكية و الشيوعية, مذاهب سان سيمون, و فورييه, و أوين, إلخ.. ظهرت في الحقبة الأولى الجنينية من الصراع بين البروليتاريا و البرجوازية, أي في الحقبة التي ذكرناها آنفا (راجع: برجوازية و بروليتاريا).
إنّ مبتدعي هذه المذاهب يستبينون حقا التناحر بين الطبقات, مثلما يستبينون تأثير العناصر الهدّامة في المجتمع السائد نفسه, لكنهم لا يتبيَّـنون في إتّجاه البروليتاريا أيّ فعل تاريخي تلقائي, أو أيّة حركة سياسية خاصة بها.
و لما كان نمو التناحر الطبقي يواكب نمو الصناعة, فإنّهم كذلك لا يعثرون على الشروط المادية لتحرّر البروليتاريا, و يأخذون في البحث عن علم مجتمعي, عن قوانين مجتمعية, لخلق هذه الشروط.
فعن النشاط المجتمعي يستعيضون بنشاط حذاقتهم الشخصية, و عن الشروط التاريخية للتحرر (يستعيضون) بشروط كيفية, و عن تنظيم البروليتاريا في طبقة تنظيما تدريجيا متصاعدا (يستعيضون) بتنظيم للمجتمع يختلقونه. و في نظرهم, فإنّ تاريخ العالم المقبل ينحلّ في الدعاية و في التنفيذ العملي لتصاميمهم المجتمعية.
و لكنهم يعون أنّهم بتصاميمهم يُدافعون بالدرجة الأولى عن مصالح الطبقة العاملة, بوصفها الطبقة الأكثر معاناة. فالبروليتاريا بالنسبة إليهم لا تكون إلا بهيئة الطبقة الأكثر معاناة.
و عن الشكل الأوَّلي للصراع الطبقي, و كذلك عن وضعهم المعيشي, ينتج اعتقادهم بأنهم فوق كل تناحر طبقي. فهم يريدون أن يُحسِّنوا الوضع الحياتي لكل أعضاء المجتمع, حتى لأكثرهم يسرا. و لذا يتوجهون باستمرار إلى المجتمع بأسره بدون تمييز, بل (يتوجهون) بالأحرى إلى الطبقة السائدة. فحَسْب المرء أن يفهم مذهبهم كي يعترف بأنّه أفضل خطة ممكنة لأفضل مجتمع ممكن.
فهم إذن, ينبذون كل نشاط سياسي, و خصوصا كل نشاط ثوري, و يريدون بلوغ هدفهم بطريقة سلمية, و يحاولون أن يشقوا الطريق للإنجيل المجتمعي الجديد بتجارب صغيرة فاشلة بالطبع و بقوة المثال.
و هذا الوصف الخياليّ للمجتمع المقبل, في ومن ما زالت فيه البروليتاريا, الضعيفة النمو إلى حدّ بعيد تَنظر في وضعها بكيفية هي ذاتها خياليّة, ينبثق من اندفاعاتها السليقية الأولى نحو تحويل المجتمع تحويلا شاملا.
بَيْد أنّ الكتابات الإشتراكية و الشيوعية تشتمل أيضا على عناصر نقدية. فهي تهاجم المجتمع القائم بكل أسسه. و من ثم فإنّها تُـقدِّم مادة قيّمة جدا لتنوير العمال. فإنّ موضوعاتها الإيجابية عن مجتمع المستقبل, مثل إزالة التناقض بين المدينة و الريف, و إلغاء العائلة, و الربح الخاص, و العمل المأجور, و المناداة بالإنسجام المجتمعي, و بتحويل الدولة إلى مجرّد إدارة للإنتاج, هذه الموضوعات كلُّها لا تعبّر إلاّ عن إلغاء التناحر الطبقي الذي ابتدأ ينمو, و الذي لا تعرف هذه الكتابات إلاّ شكله الأوّلي المبهم غير المحدد - و لذا ليس لهذه الموضوعات حتى الآن سوى معنى طوباوي صرف.
فأهمية الإشتراكية و الشيوعية النقديتين - الطوباويتين تتناسب عكسا و التطور التاريخي. فبقدر ما ينمو الصراع الطبقي و يتجسم, يفقد هذا الترفُّع الخيالي عن هذا الصراع, و (تفقد) مكافحته المتخيلة, كل قيمة عملية, و كل تبرير نظري. و لهذا, إذا كان واضعوا هذه المذاهب ثوريين في كثير من النواحي, فإنّ مريديهم يؤلفون في كل حين شيعا رجعية. فهم يتشبّثون بآراء أساتذتهم القديمة تجاه التطور التاريخي المطّرد للبروليتاريا. و لذا يسعَون بإصرار إلى إخماد الصراع الطبقي الجديد, و إلى التوفيق بين التناقضات. فهم لا يزالون يحلمون بأن يحققوا تجريبيا طوباوياتهم المجتمعية - إقامة الفالانستيرات (4) المعزولة, و تأسيس مستوطنات داخلية (5), و تأسيس إيكارية (6) صغيرة - طبعة مُصغَّرة عن أورشليم الجديدة - و لبناء هذه القصور كلها على الرمال توجب عليهم أن يُناشدوا رأفة القلوب و الجيوب البرجوازية. و شيئا فشيئا ينحدرون إلى مصاف فصيلة الإشتراكيين الرجعيين أو المحافظين الذين جرى وصفهم آنفا, و هم لا يختلفون عنهم إلاّ بحذلقة أكثر منهجية, و باعتقاد خرافيّ متعصّب بالمفعول العجائبي لعملهم المجتمعي.
و لذا يتصدّون بضراوة لكل حركة سياسية عُمّالية, إذ لا يُمكن أن تصدر إلاّ عن كفر أعمى بالإنجيل الجديد.
الأوينيون في إنكلترا, و الفورييويون في فرنسا, يقاومون هناك الشارتيين و هنا الإصلاحيين.
__________________________
(1) المقصود هنا, ليس إعادة المَلَكية في إنكلترا 1660 - 1689 , بل في فرنسا 1814 - 1830. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888)
(2) هذا ينطبق بالدرجة الأولى على ألمانيا, حيث الأرستقراطيون الزراعيون و كبار أصحاب الأراضي الألمان, يشرفون على إدارة الشؤون الاقتصادية في القسم الأكبر من أراضيهم, على حسابهم الخاص بواسطة الوكلاء, و حيث يملكون علاوة على ذلك معامل كبير للسكر و العرق. أمّا أغنى الأرستقراطيين الإنكليز فلم تبلغ بهم الحال بعد هذه الدرجة, إلاّ أنهم يعرفون هم أيضا كيف يُعوّضون عن هبوط الريع بإعطاء أسمائهم لمؤسسي شركات مساهمة, مشكوك فيها إلى هذا الحد أو ذاك. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888)
(3) عاصفة ثورة عام 1848 كنست هذا الإتجاه الرث كله, و أفقدت داعامة الرغبة في مواصلة الانشغال بالاشتراكية. و المثل الرئيسي, بل النمط الكلاسيكي لهذا الإتجاه, هو السيد كارل غرون (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
(4) فلانستير, إسم القصور الإجتماعية التي تخيّلها فورييه. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
(5) المستوطنات الداخلية Home - Colonies. هكذا سمى أوين مجتمعاته الشيوعية النموذجية. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
(6) إيكارية Icarie . إسم أطلقه كابه على بلد تخيّله, ثم على مستعمرة شيوعية, أنشأها في أمريكا. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888) أسم بلد خيالي طوباوي وصف به كابه مؤسساته الشيوعية. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانية 1890)
الفصل الرابع
وفقا للفصل الثاني يتضح بالبداهة موقف الشيوعيين من الأحزاب العمالية القائمة, و بالتالي موقفهم من الشارتيين في إنكلترا, و الإصلاحيين الزراعيين في أمريكا الشمالية.
فهم (الشيوعيون) يناضلون لتحقيق الأهداف و المصالح المباشرة للطبقة العاملة, لكنهم في الوقت نفسه يمثلون, في الحركة الراهنة, مستقبل الحركة. ففي فرنسا ينضم الشيوعيون إلى الحزب الإشتراكي - الديمقراطي (1) ضدّ البرجوازية المحافظة و الراديكالية, بدون أن يتخلوا عن حق اتّخاذ موقف نقدي من الجُمل الرنانة و الأوهام التي خلفها التقليد الثوري.
و في سويسرا, يساندون الراديكاليين, بدون أن يَغيب عن بالهم أنّ هذا الحزب يتكوّن من عناصر متناقضة, متَّسم (مُؤلَّف) من إشتراكيين و ديمقراطيين بالمفهوم الفرنسي للكلمة, و قسم من برجوازيين راديكاليين.
و في بولونيا (بولندا) يساند الشيوعيون الحزب الذي يجعل من الثورة الزراعية شرطا للتحرر الوطني, أي ذلك الحزب الذي بثّ الحياة في انتفاضة كراكاو عام 1846.
و في ألمانيا يُناضل الحزب الشيوعي مع البرجوازية كلما قاومت البرجوازية مقاومة ثورية, النظام الملكي المطلق, و الملكية العقارية الإقطاعية, و البرجوازية الصغيرة الضيقة الأفق.
بيد أنّه لا يتغافل لحظة عن خلق وعي, واضح قدر الإمكان, لدى العمال حول التناقض العدائي بين البرجوازية و البروليتاريا, حتى يستطيع العمال الألمان أن يوجّهوا فورا الشروط المجتمعية و السياسية التي توجدها البرجوازية و سلطتها, كأسلحة عديدة, ضد البرجوازية, كي يبدأ النضال ضد البرجوازية نفسها فور إسقاط الطبقات الرجعية في ألمانيا.
فإلى ألمانيا يُوجِّه الشيوعيون اهتمامهم الرئيسي, لأنّ ألمانيا على أعتاب ثورة برجوازية, لأنّها ستـنجز هذا التحول في شروط الحضارة الأوروبية الأكثر تقدما, و مع بروليتاريا نامية للغاية, أكثر منها في إنكلترا في القرن السابع عشر, و في فرنسا في القرن الثامن عشر, لأنّ الثورة البرجوازية الألمانية بالتالي لا يمكنها إلاّ أن تكون استهلالا مباشرا لثورة بروليتارية.
و باختصار يُساند الشيوعيون, في كل مكان, كل حركة ثورية ضد الأوضاع المجتمعية و السياسية القائمة.
و في كل هذه الحركات يُبرزون مسألة الملكية, مهما كانت درجة تطور الشكل الذي تتخذه, المسألة الأساسية للحركة.
و أخيرا يعمل الشيوعيون, في كل مكان, على إقامة العلاقات, و على تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
و يأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم و مقاصدهم, و يُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلاّ بإسقاط النظام المجتمعي القائم, بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم و أمامهم عالما يكسبونه. أيّها البروليتاريون, في جميع البلدان, إتحدوا(2).
_______________________
(1) هذا الحزب كان يمثّله في البرلمان حينئذ ليدرو رولان, و في الأدب لوي بلان, و في الصحافة اليومية جريدة "لا ريفورم" (الإصلاح). و كانوا يشيرون بالإشتراكي الديمقراطي, هذا الإسم الذي اخترعه, إلى هذا القسم من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري الذي كان يتصف, إلى هذه الدرجة أو تلك, باللون الإشتراكي (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكليزية 1888). ما كان يُسمَّى حينئذ في فرنسا بالحزب الإشتراكي الديمقراطي, كان يُمثـله في السياسة ليدرو رولان, و في الأدب لوي بلان, و بالتالي كان بعيدا جدا عن الإشتراكية الديمقراطية الألمانية الحالية (ملاحظة إنجلس للطبعة الألمانية 1890).
(2) هذا النداء درج على ترجمته بـ "يا عمّال العالم, إتحدوا".
كارل ماركس و فريدريك انجلس / الصفحة الرئيسية
Inscription à :
Articles (Atom)